-العولمة- أو الامبريالية في ثوب جديد


حزب العمال التونسي
2008 / 9 / 18 - 09:46     

منذ مطلع التسعينات من القرن الماضي أصبحت كلمة "العولمة" على كافة الألسن. ولكن هذه الكلمة ظلت بالنسبة إلى عموم الناس مبهمة أو بالأحرى مستعملة في سياقها البورجوازي الذي يحاول أن ينزع عنها طبيعتها الطبقية. فالعولمة الحالية هي في الحقيقة عولمة ذات طابع رأسمالي-امبريالي أي أنها تعني سيطرة الطغم المالية المتكونة من أكبر مالكي الشركات والمؤسسات والاتحادات الصناعية والتجارية والمصرفية في العالم والتي تسيطر على اقتصاديات البلدان التي تنتمي إليها أي البلدان الرأسمالية المتقدمة وكذلك على اقتصاديات بلدان العالم التابعة.

وحتى نلمّ بهذا الطور الأخير من تطور النظام الرأسمالي العالمي الذي سمّي في البداية "النظام العالمي الجديد" ثم "العولمة" (وهي ترجمة لكلمة Globalisation أو Mondialisation)، لا بد من الرجوع إلى تعريف الامبريالية كما حددها لينين [1]، وهي:

1 – تمركز الإنتاج الرأسمالي تمركزا بلغ في تطوره حدّا من العلو أدى إلى نشوء الاحتكارات التي تلعب الدور الفاصل في الحياة الاقتصادية

2 – اندماج الرأسمال البنكي في الرأسمال الصناعي ونشوء الطغمة المالية على أساس "الرأسمال المالي" هذا.

3 – تصدير الرأسمال

4 – تشكل اتحادات رأسماليين احتكارية عالمية تقتسم العالم.

5 – انتهاء اقتسام العالم إقليميا فيما بين كبريات الدول الرأسمالية

هذه هي خصائص الامبريالية أعلى مراحل الرأسمالية التي تكثفت ضمن نظامها مجمل تناقضات النظام الرأسمالي وعلى رأسها التناقض بين الرأسمال والعمل الذي أدى إلى تضاعف سيطرة الاحتكارات محليا ودوليا، فالاحتكار كما قال لينين "هو أعمق أساس اقتصادي للامبريالية" [2]. هذه المرحلة الاحتكارية محكومة في سيرورتها بتناقضات أساسية هي: التناقض بين العمل ورأس المال، والتناقض بين مختلف الاحتكارات (مؤسسات ودول) بعضها مع بعض من أجل الأسواق ومصادر الإنتاج والثروة وهو ما يؤدي في كثير من الأحيان إلى اشتعال الحروب "لأنها الوسيلة الوحيدة للقيام بتقسيم جديد للعالم" [3]، كما يشتد في هذه المرحلة التناقض بين الامبريالية والشعوب والأمم المضطهدة التي تتعرض أكثر فأكثر للتفقير والنهب. أما التناقض الأخير بين النظام الاشتراكي والنظام الرأسمالي، فقد انزاح من على المسرح الدولي في بعده الواقعي بعد انهيار المعسكر الشرقي، وهو تناقض يتخذ اليوم بعدا إيديولوجيا لأن الاشتراكية تبقى الأفق المستقبلي للنضالات الطبقية والشعبية على المستوى الوطني والعالمي.

إن السمات المذكورة آنفا والتناقضات التي تشق النظام الرأسمالي العالمي والتي تحدّث عنها لينين في بداية القرن 20 مازالت في جوهرها هي التي تحكم تطور الأوضاع عالميا رغم حجم التغيرات التي جدت في العالم خاصة في العقود الأخيرة من القرن المنقضي ومنذ تحول العالم من نظام القطبين إلى نظام القطب الواحد بعد انهيار المعسكر الشرقي إثر فترة من الصراع بين القوتين العظميين على السيطرة على العالم ، حيث ولد "النظام العالمي الجديد" الذي سرعان ما تبلور كنمط جديد للسيطرة على العالم. وقد انفردت القوة الأمريكية بهذه السيطرة على حساب بقية الأقطاب الامبريالية، الصاعدة منها (ألمانيا، اليابان...) والتقليدية (فرنسا، بريطانيا...) وتميز هذا النظام الجديد: نظام القطب الواحد بتطور الإمكانيات المادية والتكنولوجية والعسكرية والديبلوماسية والإيديولوجية، تطورا هائلا لا سابق له مما جعل العديد يتحدث عن "العصر الأمريكي" أو "أمركة العالم" في نطاق "العولمة" في إشارة إلى هذا الطور من تطور النظام الرأسمالي العالمي أي الحقبة التي شهدت سيطرة مطلقة للقوى الاحتكارية (دولا ومؤسسات) على كل أرجاء المعمورة بما يعني ذلك من احتكار التحكم في تشكيل وإعادة تشكيل العالم على كل الأصعدة وبكل الوسائل والإمكانيات التي عرفت تطورا هائلا في جوانبها العلمية والتقنية والتكنولوجية.

إن هذا الجوهر هو بالضبط ما جعل وتيرة هجوم رأس المال الاحتكاري العالمي (الرأسمال المعولم كما يسميه البعض) على شعوب الأرض وأممها وخاصة الفقيرة والضعيفة، تتكثـّّف أكثر فأكثر، فبعد أن هيمن التناقض مع الاشتراكية على الوضع الدولي طيلة عقود، ها هو "قطب الصراع" يتحول إلى العالم المتخلف الذي هو في الأصل مصدر كبير للإنتاج والثروة وهو كذلك سوق استهلاكية ضخمة وواسعة، ويأخذ هذا الهجوم أشكالا متنوعة بما فيها التدخل العسكري لضمان وضع اليد على هذه المصادر وهذه الأسواق وهو ما فعلته الامبريالية الأمريكية حين تدخلت في أفغانستان والعراق من أجل إحكام السيطرة على المقدرات والثروات الباطنية التي تحويها هذه البلدان والمنطقة عموما (البترول، الغاز الطبيعي...). كما تدخلت الامبريالية الفرنسية في الكوت ديفوار وتهدد الامبرياليات الأخرى بما فيها الناشئة كالصين بالتدخل في السودان لنفس الأغراض وبنفس الأساليب، وهو ما يؤكد أن هذه الحقبة التي حاول العديد من الببغاءات في العالم المفقر تسويقها تحت أقنعة "إنسانية"، ما هي إلا طور جديد في تطور النظام الرأسمالي العالمي في حقبته الاحتكارية، وهي منظومة عالمية أتت لمزيد إخضاع الشعوب ومزيد نهب خيراتها وحرمانها من أي إمكانية للتحرر والاستفادة من مقدراتها، لذلك يعدّ الاضطهاد الوطني والقومي من أبرز ما يميز هذه الحقبة، وهو أمر تؤكده هبّة عديد الشعوب للنضال ضد النير الامبريالي، هذه الهبّة التي اكتسبت شكل المنتديات المضادة للعولمة، وشكل النضالات الطبقية الأخرى نقابية وسياسية وكذلك شكل مقاومات عسكرية في البلدان المحتلة، فضلا عن رفض "العولمة الثقافية" من خلال الدفاع عن الثقافة الوطنية والذاتية الحضارية في وجه المسخ والتقزيم والمحو.

العولمة اضطهاد شعوب وأمم العالم التابعة

إذن يمكن الجزم بأن هذه الحقبة من تطور النظام الرأسمالي العالمي، حافظت عموما على السمات الجوهرية لهذا الأخير. لقد حوصل لينين أهم التناقضات التي تشق الرأسمالية العالمية في طورها الاحتكاري، وهي 4 تناقضات أساسية يمكن تقسيمها إلى نوعين أو مستويين، المستوى الأول نجد فيه التناقض بين رأس المال والعمل داخل الدول الرأسمالية، والتناقض الذي يقابل الدول والمؤسسات الاحتكارية بعضها ببعض والمستوى الثاني هو الذي فيه التناقضات ذات الطابع العالمي (دون نفي هذا الجانب عن المستوى الأول) وهي أساسا التناقض الذي يقابل الدول والمؤسسات الاحتكارية بشعوب وأمم العالم المضطهدة والتناقض الذي يقابل رأس المال بالعمل والذي اتخذ شكل التناقض بين النظام الرأسمالي والنظام الاشتراكي، وإذا كان هذا التناقض الأخير هو الذي وسم العالم منذ انتصار ثورة أكتوبر 1917 إلى حدود الثمانينات من القرن الماضي فإن التناقض الذي يقابل بين الاحتكارات العالمية بشعوب وأمم العالم المضطهدة يمكن أن نعتبره اليوم "الأبرز" على المستوى العالمي، إذ أن الدول والمؤسسات الاحتكارية العالمية، وبعد أن تخلصت نهائيا من "غريمها" الشرقي ممثلا في دول الكتلة الشرقية بزعامة الاتحاد السوفياتي السابق، استفردت بباقي دول العالم وهي أساسا دول ما يسمى بالعالم الثالث أو الدول النامية أو دول الجنوب، التي لم تعرف مثل دول "المركز" تطورا طبيعيا وخاصا، بل إنها تعرضت إلى تشويه وإعاقة في مسار تطورها، ففضلا على التشوهات السابقة للعصر والتي عرفتها مجتمعات الشرق الآسيوي ومجتمعات أمريكا الجنوبية لأسباب مختلفة ليس هنا مجال الحديث عنها، فإنها كانت تنوء مجتمعة [4] في تلك الحقبة من تطور النظام الرأسمالي في أوروبا أساسا، تحت كلاكل الإقطاع وأساليب الإنتاج السابقة عنه من عبودية إلى مشاعية بما يستتبع ذلك من تخلف حضاري وثقافي واجتماعي، أو بلغة أخرى كانت الظروف "ملائمة" كي تتدخل الاحتكارات العالمية في هذه الدول وتربطها بماكينة الرأسمال العالمي إمكانيات تطورها الخاصة عبر نسف حتمية أسلوب الإنتاج الرأسمالي من رحم هذه المجتمعات ذاتها، وبذلك وقعت الاستعاضة عن هذه الإمكانيات بتدخل استعماري ربط هذه المجتمعات بمصالح الرأسمال العالمي الذي نوّع أشكال الإلحاق القسري لهذه البلدان بتكثيف أشكال الاستغلال والربط عبر الاتفاقيات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. هذه الاتفاقيات المفروضة اكتسبت شكلا استعماريا/كولونياليا مباشرا أو أشكالا غير مباشرة تجلت في منظومات الاستعمار الجديد خاصة منذ أواسط القرن المنقضي فقد تمكنت أغلب البلدان المستعمرة بفعل نضالها وبفعل المساندة المادية والسياسية التي لقيتها من دول المعسكر الاشتراكي، وكذلك بفعل تداعيات نتائج الحرب العالمية الثانية واستعاضة بعض الدول الاستعمارية عن الشكل الاستعماري المباشر بآخر غير مباشر اقتصادي ومالي وثقافي... إن هذا الوضع العالمي خلق ثنائية قطبية تبلورت بصفة نهائية منذ انهيار المعسكر الشرقي، وتتشكل من الدول الامبريالية السائدة بنمط إنتاجها وثقافتها وحضارتها البورجوازية من جهة، ودول تابعة مرتبطة عضويا بماكينة الاحتكار العالمي وسلم قيمها من جهة أخرى.

إن الامبريالية سواء كحالة استعمارية مباشرة أو غير مباشرة هي تكثيف للاستغلال والاضطهاد ووضع اليد على مقدرات الشعوب وثرواتها وطمس لخصوصياتها الثقافية والحضارية وانتهاك لحقوقها وتطلعاتها في الاستقلال والتقدم. وهي بذلك لا تحتكم لأي قانون أو عقل أو منطق سوى منطق مصالحها الأنانية، المباشرة والاستراتيجية. ومن أجل تحقيق تلك المصالح تشن الحرب والعدوان والمؤامرات وتحوك الدسائس وتتدخل في كل نقطة من العالم وفي أي وقت تحتمه المصالح، وهي من أجل ذلك تمارس أقذر الأدوار مثل اغتيال الخصوم والاعتداء وصرف المليارات من أجل العمليات الاستخبارية التي لا هدف لها سوى تأبيد ارتباط شعوب العالم وأممه الضعيفة والتابعة والمضطهدة، بمصالح الرأسمال الاحتكاري العالمي. إن الامبريالية وقد حولت العالم إلى قرية/مستثمرة واحدة لتسهيل تحكّمها فيه، تتدخل في كل نقطة من نقاط الكرة الأرضية لتأكيد سيطرتها ونفوذها وسيادتها. إن الامبريالية في طورها الجديد المسمى "العولمة" وقد تخلصت من نقيضها الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والحضاري الموازي ومن غريمها الامبريالي الاشتراكي، استفردت بالعالم، فإذا كان التناقض مع الدول الاشتراكية قد أنهك النظام الرأسمالي لعدة عقود بما يفترض تنظيم الصراع الاقتصادي والعسكري والديبلوماسي والعلمي والإيديولوجي في مجهودات كبيرة، فإن النظام الرأسمالي الغربي وقد تخلص من هذا العبء. تفرّغ للسيطرة العمودية على العالم، فقبل العقد الأخير من القرن المنقضي كانت الدول والمؤسسات الامبريالية تنظم نشاطها على واجهات متعددة، واجهة المعسكر الشرقي، وواجهة العالم التابع، وواجهة الصراع البيني داخل المعسكر الامبريالي، أما اليوم فلم يبق من هذه الواجهات سوى الواجهتين الأخيرتين. ومع ذلك يمكن الإقرار بأن التناقض بين المراكز الامبريالية (دولا ومؤسسات) وشعوب وأمم العالم المضطهدة هو سمة عصرنا، عصر العولمة/النظام العالمي الجديد، عصر الامبريالية وما بعد الحرب الباردة. فالتناقض بين المراكز الامبريالية على ضراوته وعلى بروزه خاصة في السنوات الأخيرة بين القطب الأمريكي والقطب الأروبي والياباني... فإنه يبقى "ثانويا" من الناحية الكمية والنوعية مقارنة بالتناقض "العمودي" علما أن محور الصراع بين المراكز الامبريالية يجرى حول إحكام السيطرة على العالم، على شعوب العالم وأممه الفقيرة، على الأسواق وعلى مصادر الإنتاج والثروة. إضافة إلى ذلك لا بد من القول أن الصراع مع المعسكر الشرقي وبعد انحراف دوله الأساسية (الاتحاد السوفياتي) تحوّل إلى صراع حول السيطرة على العالم، وبسط النفوذ على المناطق الاستراتيجية اقتساما وإعادة اقتسام.

إن الضحية الأولى للسيطرة الامبريالية اليوم هي الشعوب والأمم المضطهدة، فهذه الشعوب لم تعد اليوم أكثر من أي وقت مضى في مأمن من التدخل والإلحاق القسري والإكراه. لقد بلغ التعنت الامبريالي وخاصة مع الامبريالية الأمريكية التي تستفرد اليوم بتزعم الامبريالية العالمية حدّا لم يبلغه من قبل، فمقولة "شرطي العالم" تتجسد اليوم بأفظع أشكال العنف رغما عن "القانون الدولي" و"الشرعية الدولية" و"المنتظم الأممي". فتحت عنوان "مكافحة الإرهاب" التعلة القديمة/الجديدة، تتدخل الإدارة الأمريكة لحمل أي موقوف في أي نقطة من العالم إلى معتقلاتها ومحتشداتها المزروعة في كل مناطق العالم (غوانتنامو مثلا) وغير الخاضعة لأي معايير دولية أو إنسانية، وهي التي تتدخل لإسقاط أنظمة حكم قائمة وتنصيب أخرى بدلا عنها ورغما عن إرادة الشعوب (العراق، أفغانستان...) وهي التي تسوّق أطروحاتها وتفرض على حكام العالم وشعوبه الإذعان لها وتطبيقها، وإلا فإنها تجازى بالحصار والعدوان والإسقاط. هذا هو الوجه السياسي للامبريالية في طورها الجديد الذي هو طور الحروب القذرة والتدخلات العنيفة دون أي أغطية ولو صورية (الأمم المتحدة) وذلك تكريسا لطبيعتها العدوانية التي قال عنها ستالين: "الامبريالية بحاجة إلى الحرب لأنها الوسيلة الوحيدة الكفيلة بتقسيم جديد للعالم: تقسيم جديد للأسواق ومصادر المواد الأولية ومناطق استثمار رأس المال، [5]. إن هذه الطبيعة العدوانية المتزايدة للامبريالية إنما هدفها حماية المصالح الاقتصادية للاحتكارات. حدد ستالين القانون الاقتصادي الأساسي للامبريالية بقوله: "تحقيق الربح الرأسمالي الأقصى عن طريق استغلال أغلبية السكان في البلد المعيّن وتدميرها وتفقيرها وعن طريق الاستعباد والنهب المطلق لشعوب البلدان الأخرى وخاصة المتخلفة، وأخيرا عن طريق الحروب وعسكرة الاقتصاد الوطني المستعملة لغرض تحقيق الأرباح الأكثر ارتفاعا" [6].

إن هذا يؤكد الطبيعة الاستغلالية والعدوانية ونزعة الفشستة المتصاعدة التي أصبحت من ثوابت النظم السياسية الرأسمالية وعند توابعها في العالم. فإذا جعل النظام العالمي الجديد من مقولات "الديمقراطية وحقوق الإنسان" و"الشرعية الدولية"... شعارات مركزية لتسويق خطاب أراد به "الدخول في مرحلة جديدة" مختلفة عن مرحلة الحرب الباردة، فإنه في الواقع لم يمارس إلا النقيض وذلك بتوجه الدولة الديمقراطية الكلاسيكية في الغرب وُجهة فاشية متزايدة وخاصة منذ أحداث 11 سبتمبر 2001 التي ضخمت المقولات الأمنية وكانت مرتكزا لتراجعات كبيرة في فلسفة القانون والحق البرجوازي، وفي مستوى السياسة الخارجية للامبرياليات ظلت الشعارات المرفوعة مجرد يافطات للتخويف والترهيب وضمان الاصطفاف الكلي والمطلق لكل الأنظمة السياسية في العالم وهو ما يؤكد سياسة المكيالين الامبريالية وهي سياسة قديمة/جديدة.

لقد حوصل لينين السمات العامة للامبريالية في كتابه "الامبريالية أعلى مراحل الرأسمالية" بقوله: "الامبريالية هي طور الرأسمال المالي والاحتكارات التي تحمل في كل مكان النزعة إلى السيطرة لا إلى الحرية. ونتائج هذه النزعة هي الرجعية على طول الخط في جميع النظم السياسية وتفاقم التناقضات لأقصى حد. وفي هذا الحقل يشتد كذلك وبوجه خاص الظلم القومي والميل إلى الإلحاق أي الاعتداء على الاستقلال الوطني وذلك لأن الإلحاق ليس إلا اعتداء على حق الأمم في تقرير مصائرها".

نضال الشعوب المضطهدة ضد العولمة نضال وطني

مقابل الظلم والقهر الذي تمارسه الامبريالية ضد شعوب العالم وأممه الفقيرة، هبّت هذه الشعوب ضد الغطرسة والعدوان والاستعمار فنظمت المقاومة المسلحة ضد الاستعمار العسكري والمباشر، كما نظمت أشكالا أخرى من المقاومة ضد الاستعمار الجديد وكل أساليب الإلحاق والتدخل. إن بلدان العالم المفقر هي بلدان لم تتح لها إمكانية التطور الخاص بها، هي بلدان لم تتم بها التحولات البرجوازية كما تمت في الدول الغربية، بل بعثت فيها الرأسمالية من الخارج، فوجدت كطبقة وكأسلوب إنتاج، غريبة عن هذه المجتمعات ولم تكن خارجة من رحمها ومن حركتها الاجتماعية الخاصة، فولدت مشوهة ولقيطة. ولا زال الوضع في أغلب أقطار هذا العالم، وبعد أكثر من قرن على ظهور الحركة الاستعمارية المعاصرة، متواصلا بفعل السيطرة والتبعية فهذه البلدان المولى عليها لم تعرف إلى الآن تطورا طبيعيا ولا مطردا ولم تشهد بناها الفوقية تغييرات نوعية أو ذات بال، والسبب في ذلك هو كون الامبريالية العالمية وحليفتها الطبقات المحلية التابعة والعميلة، تقفان حجر عثرة أمام أي إمكانية لتحرر هذه البلدان ولانعتاق شعوبها مما "بعثر" خريطة التناقضات التي تشق هذه المجتمعات وجعل التناقض بين هذه الشعوب المضطهدة من جهة والامبريالية والبرجوازية العميلة من جهة أخرى هو التناقض الرئيسي، وهذا منطقي جدا بحكم ما ذكرناه عن عدم "نقاوة الصراع الطبقي" في هذه البلدان، لذلك لا يطرح أمام عمال هذه الشعوب والأمم إنجاز المهمات الاشتراكية بل المطروح، وبحكم السيطرة الامبريالية، هو إنجاز المهمات الوطنية أولا، التي ظلت معلقة لم تنجز بعد في الأغلبية الساحقة من "بلدان الجنوب"، أي التابعة. فالبرجوازية بحكم ظروف نشأتها في هذه البلدان لم تكن مؤهلة –موضوعيا وتاريخيا- لإنجاز هذه المهام التقدمية، وذلك فضلا عن كون البرجوازية –على المستوى العالمي- كفت عن أن تكون تقدمية منذ بلوغها مرحلة الاحتكار.

في هذا السياق تتولى الطبقة العاملة متحالفة مع كل فئات السكان المضطهدين، البدء بحسم المسألة الوطنية التي تتجلى في تخليص بلدانها من السيطرة الامبريالية وذلك بتكريس الإجراءات التي تكفل الاستقلال الوطني والحرية والانعتاق لهذا الشعب أو الأمة. إنه لا يمكن الحديث عن إنجاز أي مهمة من المهمات التاريخية للطبقة العاملة في البلدان المولى عليها بدون إنجاز وحسم المسألة الوطنية، فهي أم المسائل وعبرها يمكن حل بقية التناقضات في المجتمع وإنجاز كل المهام العالقة أو المطروحة للإنجاز، لهذا الاعتبار تعد حركة التحرر الوطني في العالم حركة متقدمة في النضال ضد الامبريالية والرأسمالية، بل إنها كثيرا ما تحتل مكان الصدارة على المستوى العالمي مثل ما صار بعد الحرب العالمية الثانية حين تعززت قوى التحرر الوطني وأصبحت طرفا فاعلا في هندسة السياسة العالمية، بل إن كثيرا منها أنجز مهامه بنجاح ومرّ لإنجاز بقية المهام (الصين، كمبوديا، فيتنام، أنغولا، كوبا...)، وقد عرفت حركة التحرر الوطني عنفوانها في الستينات والسبعينات مع أمجاد الثورة الفيتنامية والفلسطينية والجنوب إفريقية والأمريكية اللاتينية. كما عرفت هذه الحركة تراجعا ملموسا إثر انهيار الاتحاد السوفياتي والكتلة الشرقية وبروز النظام العالمي الجديد واستفراد الامبريالية الأمريكية بالهيمنة على العالم. فإذا كانت الحركة التحررية بجنوب إفريقيا أنجزت هدفها المتعلق بإسقاط نظام الميز العنصري، فإن حركة التحرر الوطني الفلسطينية والعربية وغيرها عموما شهدت تراجعا وانتكاسة كبيرين ارتباطا بتراجع الحركة الثورية العالمية والسيطرة الكلية لليمين الرجعي المتطرف على مستوى عالمي. ورغم ذلك، فإن المسألة الوطنية تبقى مطروحة على جدول أعمال الشعوب والأمم الملحقة والمفقرة والمضطهدة. هذا الاضطهاد الذي شهد في العقد الأخير أعلى وتائره في إطار منظومة العولمة، التي هي منظومة رأس المال المعولم/العالمي الذي لا هدف له سوى مزيد إحكام السيطرة على كل نقاط العالم وتحويلها إلى محمية تابعة للإشراف المباشر لرأس المال.

إن هذا الأمر جعل العديد من "المفكرين" و"الساسة" المحبطين يتساءلون عن مدى صحة أو نجاعة الحديث عن المسألة الوطنية التي تعني من جملة ما تعني الاستقلال عن رأس المال العالمي، وهذا بدا لهم أمرا طوباويا وغير سليم من وجهة نظر واقعية خاصة بعد انهيار المعسكر الشرقي ونهاية الحرب الباردة وبحكم استحقاقات التوازن الدولي بين القطبين، كان التدخل في كثير من الأحيان صعبا، بل هو في كل الحالات أصعب من الآن. أما في العقد الأخير، فإن الرأسمال الاحتكاري العالمي لم يعد مقيدا بأي عقال، لذلك نراه يتدخل في أفغانستان والعراق والسودان والكوت ديفوار... وهذا ما يجعل من طرح مسألة استقلال البلدان مسألة "غير عملية" و"غير ممكنة" في نظرهم، لذلك فهم يزعمون أنه لا خيار أمام شعوب الأرض وأممها سوى الانخراط في موجة العولمة ومحاولة افتكاك مكان تحت الشمس والاستفادة من التناقض بين الاحتكارات والدول الامبريالية، هذا فضلا عن إمكانية الاستفادة من نظام العولمة ذاتها خاصة من زاوية التقدم العلمي والتقني والتكنولوجي. أما الحديث عن تحرر وطني وتطور مستقل وانفصال عن الامبريالية، فهو أمر في نظرهم تجاوزه الزمن وهو من بقايا الحرب الباردة.

المسألة الوطنية مطروحة أكثر من أي وقت مضى

إن الإقرار بقوة الامبريالية وجبروتها وسطوتها صحيح، على أنه غير جديد في حد ذاته والامبريالية كانت منذ البداية كذلك، صحيح أن وسائل تحكمها في العالم تطورت، وأنها أقدر اليوم على الاستفادة من تجاربها الناجحة والفاشلة. لكن هذا لا يبرر في شيء تخلي الشعوب عن طموحاتها وآمالها. إن الامبريالية في الحقيقة لم تزد في السنوات الأخيرة سوى إلحاق عدد جديد من الشعوب والطبقات والفئات السكانية بجيوش المفقرين والمضطهدين كما حولت عددا من البلدان إلى مستعمرات مباشرة، وهذا كاف لوحده لإشعال كل مظاهر النقمة ضدها وضد جبروتها، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن نظام العولمة بقدر ما كثف وتائر الاستغلال ووضع يده على ثروات الأرض وأسواقها، وحّد ملايين المستثمَرين في كل أصقاع العالم. هذه الملايين من البشر الذين يبيعون قوة عملهم وتراكم الربح الأقصى والثروة على حسابهم، هم مضطرّون، من حيث لا يدرون أن يصطفوا في موقع واحد هو موقع المستغَلين. وهذا كاف لأنْ يحوّلهم إلى قلبٍ واحد ثم يد واحدة ثم فعل واحد.

إن النظام العالمي الجديد أعمى بصائر عديد المثقفين وأفقدهم ثقتهم في النضال الطبقي والوطني بدعوى أن السيطرة هذه المرة نهائية. وهذا في الحقيقة ليس بالأمر الجديد، فكل الطبقات الرجعية وكل الأنظمة العالمية عبر التاريخ، قدمت سلطتها وجبروتها على أنه نهائي وكلي ومن العبث مقاومته، لكن سرعان ما تتأكد البشرية أن ذلك كله وهْمُ من الطبيعي أن تحاول تلك الطبقات غرسه في وعي الكادحين. لقد حوصل المفكر الأمريكي من أصل ياباني "فوكوياما" هذه الفكرة وسوّقها في أطروحته الشهيرة "نهاية التاريخ" معلنا أن الإنسانية حققت الكمال والتمام مع النظام العالمي الجديد في نسخته الأمريكية، لذلك فإن أمركة العالم هي "غائية التاريخ". وقد نسي "فوكوياما" أو تناسى أن "معلمه" هيغل كان قد تحدث منذ النصف الأول للقرن 19 عن "نهاية التاريخ"، هذه النهاية التي يترجمها اكتمال عرش الفلسفة معه، واكتمال شرعية السياسة مع "سيّده" بسمارك واكتمال الإنسانية برمتها مع الثورة البرجوازية. فما أشبه الليلة بالبارحة وما أشبه المصالح الطبقية بعضها ببعض.

إن التاريخ لم ينته ولن ينتهي أصلا. والحقبة التي تمر بها الإنسانية الآن هي طور تاريخي له سابق وله لاحق. والصراع الطبقي يبقى هو القانون النوعي الذي يحكم الظواهر الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وغيرها. وبما أن الأمر كذلك فكل سيطرة طبقية تفترض بالضرورة نضالا طبقيا عنيدا خاصة إذا تعلّق الأمر بالطبقة الأكثر ثورية في المجتمع: الطبقة العاملة ومن خلالها سائر المضطهَدين في العالم الذين وحّدهم رأس المال أكثر من أي وقت مضى، هؤلاء المضطهَدون هم حفارو قبر الرأسمالية على المستوى المحلي والعالمي. ويتخذ نضال الطبقات والشعوب المضطهدة أشكالا متعددة. فقد أفرزت العولمة في السنوات الأخيرة أساليب جديدة في النضال الطبقي والوطني مثل الحركة العارمة التي تشمل أقطارا جديدة للنضال ضد العولمة (تجربة المنتديات الاجتماعية) وكذلك التحركات الضخمة للتنديد بالعدوان على الشعوب (أفغانستان، العراق...) والدور المتعاظم لنضال الجمعيات غير الحكومية الناشطة في ميادين مختلفة وخاصة مجال حقوق الإنسان والمرأة ومجال البيئة والسكن والثقافة ومعاداة الحرب وغيرها. فهذه الأنشطة أصبحت تستقطب أعدادا جديدة وهي التي تنصبّ على مجالات تخصصية في نقد ورفض الامبريالية والأنظمة المستبدة في العالم والاحتجاج ضدها. كما اتخذ النضال من أجل الديمقراطية والحريات وحقوق الإنسان حيزا هاما في نضال الشعوب التي غالبا ما ارتبط نضالها ضد الامبريالية بالنضال من أجل الديمقراطية والحرية والعدالة. ورغم "قتامة" الوضع في أعين البعض فإن المقاومة العسكرية لازالت تحقق العديد من الانتصارات والأعمال النوعية ضد المحتلين والغزاة. وليس أدلّ على ذلك من اندحار الجيش الصهيوني عن جنوب لبنان في 2001 وفشله الذريع في غزوة صائفة 2006 للبنان على يد حزب الله وحلفائه. كذلك اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية في سبتمبر 2000. فضلا عن تعاظم المقاومة الوطنية العراقية ضد المحتل الأمريكي وكذلك المقاومة الأفغانية.

إنه لا خيار أمام الشعوب سوى تنظيم النضال الوطني ضد الامبريالية والتنظيم هو الحاسم في الانتصار عليها بعد سداد البرنامج. وكما تفرض سياسة الجبهة نفسها على صعيد البلد الواحد في مقاومة الاحتلال والتصدي للعدوان، فإنها واجبة وملحة وحيوية على صعيد عالمي من أجل فعالية أكبر في مواجهة العولمة الامبريالية. ولذا فإن كافة الرايات الفئوية والطائفية والحزبية ينبغي أن تكون ثانوية وأن تـُسحب أمام راية موحّدة هي راية حركة التحرر الوطني وجيش التحرير، والأمر يهم العراق وفلسطين وأفغانستان والصومال وكافة البلدان الشبيهة، وإلا فلا نصر في الأفق. إن الشعوب المنظمة والموحدة يمكن أن تكون هي الأقوى في المعادلات العالمية لأنها قادرة على دك مصالح رأس المال ويمكن أن تعطّل سيطرته من خلال وضع يدها على مقدراتها وثرواتها. فلا سيطرة لرأس المال بدون ثروات تلك الشعوب. لذلك فلا خيار سوى تنظيم النضال العالمي ضد السيطرة والإلحاق والاستعمار. وما على المضطهَدين إلا التعلم من التاريخ المعاصر والقديم. فكم من قوة عظمى دكها شعب "صغير".

إن النضال الوطني نضال مشروع. هو تطلع المحرومين نحو الاستقلال والحرية والتقدم لذلك يعتبره الثوريون والوطنيون عنوانا للمرحلة في نضال شعوب المستعمرات الجديدة. إنه بقدر ما تتكثف سطوة المستغلين يجب أن يتكثف نضال المستغلين.

العولمة: تدمير للذاتية القومية والحضارية للشعوب المضطهدة

لم تكتف الامبريالية بنهب خيرات الشعوب ومقدراتها، بل قامت بتدمير الذاتية الحضارية والقومية لمختلف أمم العالم الصغيرة والضعيفة، فالامبريالية ليست فقط نمطا من السيطرة الاقتصادية بل هي نسق متكامل اقتصادي واجتماعي وثقافي وإيديولوجي، وهي بذلك لا تكتفي ببسط نفوذها على الأسواق وعلى مصادر الإنتاج، بل كذلك تسوّق ثقافتها وقيمها وأخلاقها، الخ. التي تقوم مقام التأهيل والتهيئة النفسية والمعنوية لتقبّل السيطرة والعدوان والإلحاق.

إن الامبريالية تسوّق ثقافتها على كونها، "ثقافة إنسانية" و"ثقافة العصر" التي "أخذت من كل الثقافات والحضارات" الخ. لكن حقيقة تعاطيها مع ثقافات الشعوب والأمم الصغيرة والمضطهدة هي غير ذلك. فالامبريالية فضلا عن كونها تدمّر هذه الثقافات وتعتدي عليها، فهي تحقّر من شأنها وتزدريها وتستبعدها من إمكانية المساهمة في تطوير الثقافة والحضارة الإنسانيتين. وهذا ما يؤكد أن ثقافة العالم اليوم هي ثقافة السائد والمسيطر والمتحكم في هذا العالم وهو الامبريالية. وهذه حقيقة لا غبار عليها رغم كون منظري العولمة وأتباعهم في كل البلدان المولى عليها يحاولون ذر الرماد في العيون من خلال الترويج لكون العولمة استوعبت كل الثقافات وكل الحضارات من خلال توفير فرصة "التلاقح والنقاش والتواصل" بين مختلف شعوب الأرض وأن الثورة التكنولوجية الهائلة سهّلت هذا الأمر. وهو قول غير صحيح، الهدف منه مغالطة الشعوب والأمم المقهورة والمغلوبة على أمرها. فالسائد اليوم هو ثقافة "اليانكي" و"الكوبوي" و"الرجل الغربي الأرقى" وهي الصورة التي تروجها السينما والفنون وفروع عديدة من العلوم والآداب والفلسفة وتسوقها وسائل الإعلام وخاصة المرئية منها والتي شهدت طفرة كبيرة في أدائها وفي ترويجها للمنوال الثقافي والمحتوى الفكري المكرّس للسيطرة والتفوق والامتياز للثقافة والعادات والتقاليد الذهنية والتراث وكيفية العيش وتصريف الحياة والتعاطي مع العصر، الذي هو عصر المال و"تدبير الراس" و"تحقيق الأحلام والطموحات بكل الوسائل والأساليب"، الخ.

إن الثقافة الامبريالية والرأسمالية الغربية فيما يزعمون هي "المثال" وهي "المتفوقة" وهي "الإنسانية"، وما عاداها فهو "التخلف" و"البربرية" و"عدم مسايرة العصر"، وهذه دون شك نظرة عنصرية تحقيرية لثقافة الآخر وحضارته. هذا الآخر الذي أصبح في العرف الامبريالي في السنوات الأخيرة رديفا لـ"الإرهاب" و"الوحشية" وبالتالي فهو خطر على "الثقافة الإنسانية" وعلى "الحضارة". وقد تجلت هذه النظرة خاصة مع الفرق اليمينية المتطرفة التي وصلت إلى دفة الحكم في السنوات القليلة الماضية في الولايات المتحدة وإيطاليا واستراليا... والتي تحمل نظرة شوفينية متعالية. فهم يعتبرون العرب والمسلمين ثقافة وحضارة ودينا مولدين للإرهاب ومعادين للتقدم. ويعتبرون إفريقيا السوداء مازالت خارج العصر. وقد وظفت في ذلك بعض الدراسات الأنتروبولوجية والأثنولوجية التي مولتها الدوائر الاستعمارية كي تؤكد أن هذه الشعوب مازالت في عصر الأسطورة والديانات الطبيعية، وهي في حاجة إلى من يدخلها إلى العصر. نفس الأمر يقال عن الشعوب الآسيوية واللاتينية، باعتبارها شعوبا متخلفة "لا حضارة لها ولا علوم ولا ثقافة..". وهي تنظيرات لا نخال عاقلا يجهل مراميها وأهدافها. فكما اعتمد الاستعمار القديم في القرن 19 على مثل هذه الشعارات فتحولت مهامه من مهام استعبادية إلى "مهام حضارية تنويرية" مزعومة، ها هي الامبريالية اليوم تلوك نفس السمفونية، فهي "حاملة الحضارة والتقدم" ويجب عليها مقاومة "البربرية والوحشية" التي مازالت "معششة" عند بقية الشعوب. وقد عبّر المفكر الأمريكي "صاموئيل هنتنجتون" في عقيدته المعروفة بـ"صراع الحضارات" عن نظرة التحقير لشعوب العالم غير الغربية وهو يعتبر أن مهمة "الحضارة المتقدمة" هي محاربة الحضارات المتخلفة وإلحاق شعوبها بموكب العصر ويسمي ذلك تحديثا وهو الذي يقول في هذا السياق "تقتضي الحركة الاجتماعية تغييرات في طموحات الأفراد والجماعات والمجتمعات، وتقتضي التنمية الاقتصادية تغييرات في قدراتهم وتتطلب الحداثة كلتيهما".

وبحسب "هنتنجتون"، فالصراع الذي يشق العالم اليوم هو صراع حضاري بين "حضارة المتقدمين" وعلى رأسهم الأمريكيون و"حضارة المتخلفين" وخاصة منهم العرب والمسلمين مولدي الإرهاب والعنف.

إن تحقير الثقافات هو في جانب كبير منه نفي للذاتية القومية والحضارية، وهو ميزة من ميزات النظام الرأسمالي العالمي وخاصة في طوره الحالي إذ يعبّر غلاته عن حقيقة جوهره. فهو نظام لا يمكن أن يسود ويسيطر بدون إذكاء لوتيرة الاضطهاد القومي والاضطهاد الوطني لشعوب العالم وأممه التي تقف الامبريالية حجر عثرة أمام استقلالها الوطني وتقدمها القومي وتطورها الحضاري والثقافي.

دور الشيوعيين أو عولمة النضال ضد عولمة الاضطهاد

إن الوجه الآخر للعولمة الامبريالية هو إلحاق ملايين جديدة من شعوب العالم وأممه المفقرة والمضطهدة إلى صف النير الامبريالي، وهو الوجه الحقيقي للامبريالية والاضطهاد والقهر الطبقي والوطني. إن نظام العولمة الذي يأخذ اليوم شكل استفراد "القوة الأعظم" بالعالم لم يجلب لهذا العالم سوى مزيد من الفقر والقهر والمجاعات والحروب غير العادلة والكوارث البيئية، أي في كلمة إنه عصر المآسي وخاصة على الشعوب المضطهدة التي تدفع فاتورة النهب المتواتر والتفقير المكثف الذي تكرسه الاتفاقية الدولية للتجارة وبرامج "الإصلاحات" الهيكلية التي تفرضها صناديق النهب المالية التي تسوس العالم، ويكرسه كذلك عدم التزام الإدارة الأمريكية بمعاهدة كيوتو الخاصة بمحاولة تخليص الكرة الأرضية من كارثة الاحتباس الحراري. إن هذا الأمر يؤكد أن الامبريالية هي عدوة الشعوب الأولى، ولا خيار لهذه الأخيرة سوى تكثيف وتائر النضال ضدها، وهو أمر حاصل لا محالة خاصة في السنوات الأخيرة. فبعد سنوات "البهتة" في بداية التسعينات من القرن المنقضي بحكم ولادة هذا الطور الجديد على أنقاض "النهاية الدرامية" للمعسكر الشرقي، ظهرت موجة جديدة من النضالات سواء ذات الطابع الطبقي أو الوطني، وتعتبر التحركات الشعبية العارمة بمناسبة اجتماعات الدول الصناعية الثمانية G8 أو اجتماعات بعض الهيئات المالية الدولية، مؤشرا هاما لامتعاض شعوب العالم وطبقاته المضطهدة ومثقفيه الثوريين من السيطرة والاضطهاد الامبرياليين. كما دلت التحركات المناهضة للعدوان على أفغانستان والعراق بما فيها في البلدان الغربية والمشاركة منها بالذات في العدوان (الولايات المتحدة، بريطانيا، إيطاليا...). إن مجمل هذه النضالات وغيرها هي نضالات ضد الامبريالية وضد الغطرسة. وهي نضالات آخذة في الاتساع والشمول والتعمّق. ودور الشيوعيين والثوريين في العالم هو إذكاء وتيرة هذه النضالات والعمل على تطويرها وإحكام تنظيمها وتسليحها بالخلفية الفكرية الثورية والعلمية، فضلا عن إشعالها في كل مكان من العالم وخاصة في أقطار العالم المفقر.

إن مستقبل الثورة العالمية مرهون إلى حد كبير بمستقبل الثورة في الدول الفقيرة. فهذه الدول بحكم موقعها في خارطة الاستثمار العالمي وبحكم حجم الاضطهاد الذي تتعرض له شعوبها وبحكم نصيبها من الأزمات الهيكلية والدورية لرأس المال العالمي، مؤهلة أكثر للانتفاض والثورة ضد عدوها الوطني والطبقي. فكما تحدّث لينين في بداية القرن 20 عن إمكانية الثورة في الحلقة الأضعف من سلسلة الامبريالية، فنحن نرى صلاحية هذه النظرية حتى الآن، وهو أمر أكدته مجمل الثورات الاشتراكية والتحررية التي اندلعت طيلة القرن 20 والتي لم تشمل قط الدول الرأسمالية الكلاسيكية، بل شملت الأقطار الأضعف والدول التابعة. إن نظرية الثورة في عصر الامبريالية كما صاغها لينين في حاجة إلى تحيين حتى تتحول إلى دليل للطبقة العاملة وعموم المضطهدين في العالم.

صحيح أن الحركة الشيوعية العالمية تضررت كثيرا، خاصة إثر انهيار المعسكر التحريفي، من النواحي الإيديولوجية والعملية، لكنها في السنوات القليلة الماضية وبمناسبة النضالات الكبيرة التي نظمتها الشغيلة العالمية في العديد من أقطار العالم، عادت نسبيا إلى التحرك بشكل أفضل وهو أمر يؤكده ما يشاهد من بعث منظمات وأحزاب شيوعية جديدة، كما يؤكده تجذر بعض النضالات الطبقية أو الوطنية التي خيضت هنا وهناك. على أن مستقبل العالم وتطور الأوضاع الاقتصادية الحالية على المستوى العالمي، لا يمكن أن يؤدي إلا إلى تقوية الحركة العمالية والاشتراكية. وينتظر هذه الحركة جهد كبير في الإجابة عن الإشكاليات المستجدة، إلى جانب حسن قيادة النضالات الطبقية والوطنية وتخليص بعضها من الأدران الفكرية والسياسية التي شابتها في العقود الأخيرة بفعل الحركات الظلامية في البلدان العربية والإسلامية وحركات أخرى فاشية في العديد من بلدان العالم. إنه ما من خيار أمام مضطهدي العالم سوى الالتحاق أكثر فأكثر بالنضال وتوحيد الجهود على المستوى العالمي في إطار الجبهة العالمية للطبقات والشعوب المضطهدة والمتضررة، كرد ضروري وحتمي على جبهة رأس المال، جبهة مصاصي الدماء. إن العمل على دعم جبهة النضال ضد الامبريالية وعولمتها الظالمة وحملتها الاستعمارية أمر في غاية الحيوية بالنسبة إلى الشيوعيين الذين يملكون قراءة علمية للتناقضات ويحشدون كافة روافد التحرر في بوتقة واحدة عارمة، ووراءهم إرث عظيم من تجربة أسلافهم.

معين صابر

[1] لينين، الامبريالية أعلى مراحل الرأسمالية - المختارات - المجلد5 - ص 524، 525

[2] نفس المرجع، ص 128

[3] ستالين، المشاكل الاقتصادية للبناء الاشتراكي في الاتحاد السوفياتي، ص 39

[4] وخاصة في غضون القرن 19 الذي شهد تحوّل المجتمع الرأسمالي الوليد من الطور التنافسي إلى الطور الاحتكاري الذي أفرز بدوره الحركة الاستعمارية المعاصرة كتعبير عن متطلبات رأس المال في طوره الجديد التي هي أساسا وضع اليد على كل منابع الإنتاج والثروة ووضع اليد على كل البقاع التي يمكن أن تكون أسواقا جديدة يصرف فيها فائض الإنتاج

[5] المشاكل الاقتصادية للاشتراكية في روسيا باللغة الفرنسية بيكين 1976

[6] نفس المصدر ص 39