الرأسمالية وتلفيقة الدولة المستمرة


جمال محمد تقي
2008 / 8 / 8 - 11:00     

حدد ابن خلدون لقيام الدول شروط وعصبيات ولزوالها ايضا شروط وعصبيات ، واستطرد مسجلا : ان الدول دورات متعانقة من الصعود والهبوط من الضروريات الى الكماليات من الطفولة الى الشيخوخة من الحاجة الى الترف وما بينهما من صراع اشكال المعاش من بداوة وزراعة وحضر ،، بعيده بقليل كشف ميكافيللي مايلزم لامتطاء الدولة والسلطة معا ويذهب بعيدا وبعبقرية ملؤها الرصد والاندياح الى روح وسر حياة السلطة التي تروض الدولة وتجعلها خاتما يبصم به اميرها الذي لا يتجدد فيه شيء غير معالم هندسة الحفاظ على حكمه ، بوصفها مؤامرة مشرعة الابواب لا تحضر على نفسها المحرمات وانما تجعل محرمها الوحيد هو التمنع عن ممارسة محرم ما يطيل من عمرها وقوتها ، انه يفضح في "أميره" كنه القبض على روح مراكز القوة والقبض عليها وامتصاصها ، هو يرسم ملك الارواح المقبوضة ، الامير هو وليس غيره قباض الارواح ، لابد ان يكون مزدوجا انسان ومارد ، انسان ليس ككل الناس انه اكثرهم قدرة على التآمر ، حواسه تعمل بالغرائز ، اميره نصفه انسان والاخر حيوان !
" ليست كل غايات ميكافيللي تم استيفاء وسائلها ، فبعض الوسائل لا تدركها غايات " .

الماركسية خلاصة النزعات المعرفية في المادية الجدلية عبر تاريخ الفكر البشري التي بلورت منهجا متقدما استلهم الموروث الفكري والفلسفي في اعمق مفرداته المجردة والملموسة من الاسطورة الى الدين الى الفلسفة وبالعكس ، الى الاقتصاد والسياسة التي تعرف بانها تعبير مكثف للعلاقات الاقتصادية الى الحروب التي تعرف بانها سياسة بوسائل عنيفة الى تاريخ تطور المجتمعات وانظمتها الاقتصادية الاجتماعية الى دراسة ظاهرة الدولة واشكلها وموقعها بالنسبة للبناء الاقتصادي الاجتماعي ، وهذا ما سنركز عليه في طرحنا هنا لصلته الوثقى بموضوعنا وكمدخل اساسي في مقدمتنا الاستهلالية هذه ، ان موديل التشكيلة ـ الاجتماعية الاقتصادية ـ الذي منهجته الماركسية في تناولها لتاريخ تطور المجتمعات البشرية حدد انماط واضحة المعالم حيث مرحلتها منذ ظهور معالم الانسنة الاجتماعية وحتى الافاق المتوقعة لما بعد الراسمالية والتي لمح اليها الفكر الماركسي بل صاغ جزءا من مكوناته النظرية "الحركة الشيوعية" لتكون مرشد عمل يستقطب كل المتطلعين لتغيير واقع الاستلاب الانساني المركز تمركزا في الراسمالية ومراحلها العليا ـ الامبريالية وعولمتها ـ حتى انه راح يتفائل تفاؤلا ثوريا معززا بالاطر العلمية والمعرفية بكون نهاية حقبة الراسمالية ستكون بداية حقيقية للتأريخ الانساني وهي بذلك تسير على طرفي نقيض مع الفكر البرجوازي مجسدا بالليبرالية الجديدة التي تقدس الراسمالية وتعتبرها القمة التي ليس بعدها قمة حتى ان بعضهم راح يروج الى مقولة ان الراسمالية هي ـ نهاية التاريخ ـ كما فعل فاكوياما ،،
يحدد الادب الماركسي انماط المجتمعات بحسب طبيعة اسلوب الانتاج السائد فمن تشكيلةالمشاعية البدائية ـ التي تعتمد على اقتصاديات الصيد وجني الثمار والتدجين ، هذه المجتمعات البكرية التي تخلو من لوثات الملكية الخاصة والطبقات والدولة واستغلال قوة عمل الغير والتي لم يكن قد انفصل فيها العمل الذهني عن العمل العضلي ولم تظهر بها السلطة الابوية بعد حيث كانت المرأة تحتل المكانة المركزية في المجموعة ، الى التشكيلة العبودية ـ القنانة التي ظهرت فيها الملكية الخاصة وتجسدت فيها ولاول مرة التمايزات الطبقية وصاحبها ظهور الدولة ، الى التشكيلة الاقطاعية ، فالتشكيلة الراسمالية التي تعتبر تتويج لتطور المجتمعات الطبقية والتي تعتمد على نظام الانتاج الاجتماعي الكبير والمتشعب والمتخصص والتي يتضاعف فيها نوعيا حجم الاستغلال والاستلاب والاضطهاد حتى يصل اعلى مستويات الابادة الجماعية كونيا ـ ماديا وروحيا ـ في مرحلة الاحتكار الراسمالي والحروب الكونية الاولى والثانية وما قبلها وبعدها من مواجهات محدودة خير شاهد لقد تعززت الحريات الفردية لاعلى مستوياتها في التشكيلة الراسمالية بالتزامن مع اعظم تكريس للاطر الاجتماعية الاقتصادية التي تجعل من البشر عبيد للثروة وليس العكس ، الراسمالية الاحتكارية تمارس اكبر جريمة بحق البشرية عندما تغامر بالحياة ذاتها من خلال عبثها بتوازنات الطبيعة لحساب مضاعفة ثرواتها ، الانسان مجرد رقم تستنفذ طاقاته بالهرولة الاستهلاكية والتخويف من اعداء مختلقين ، ليكون وقودا طيعا للتيار السائد مما يجعل الفرد فيها تابعا ذيليا للدولة وسيطرتها المرئية وغير المرئية سياسيا ومدنيا !
البناء التحتي ـ الهياكل الارتكازية ـ لاي تشكيلة اجتماعية اقتصادية تعتمد على نوع نظام الملكية واتساع او ضيق الدورة الانتاجية فيه وعليه فان مستوى الانتاج المرتبط بنوع تلك الملكية تحدده عوامل تراكمية في تطور عملية الانتاج ذاتها التي تخضع لمحددات مستوى تطورعلاقات وادوات ومواضيع الانتاج ، حتى نصل الى بلورة شقين اساسين في البناء التحتي لاي مجتمع كان الشق الاقتصادي المتعلق بالانتاج وعوامله وبالتالي التوزيع والاستهلاك ثم الشق الاجتماعي المتعلق بالطبقات الاجتماعية المالكة والمنتجة السائدة والمسودة .
اما البناء الفوقي فهو كل الريع الذي يفرضه نوع البنى التحتية بعلاقات حركية تجافي حد القطيعة الشكل الميكانيكي لها انها علاقة متطورة متغيرة باستمرار واتجاهها يخضع بالضرورة لاتجاهات وتراكمات البنى التحتية ذاتها ، ان فيزياء وكيمياء وبيلوجيا واجتماع وتموجات حركة المحيط بطفراته تكون كلها متجسدة بجدل العلاقة بين القاعدة وافرازاتها التي هي بدورها قابلة للتاثير العكسي عموديا وافقيا في تراكيب البنية التحتية ذاتها ، وتتجسد مفردات البناء الفوقي بجملة من ظواهر الريع ذات الماهيات المختلفة وبنفس الوقت المتفاعلة مع بعضها البعض وهي الريع الثقافي ـ الفن الادب الذوق الدين الفلسفة العلوم ـ الريع القانوني والاخلاقي والجمالي ، الريع الاقتصادي المواريث وتداول الثروة ، الريع السياسي الاجتماعي وهو بمستويين ، مستوى السلطة المباشرة ، والمستوى المدني من السلطة اما الدولة كمنظومة متكاملة وتحتوي في تجلياتها كل مظاهر الريع فهي تقف وقفة مفصلية بين الطابقين التحتي والفوقي وبمستويات متحركة بجدل لا يتهندس هندسيا فالاستواء نسبي والتجسيم نسبي والمعرفة نسبية ، جدل فيه نسبة من الحرية تعادل ما توفره علاقات الصدفة بالضرورة !
السلطة جزء من الدولة وقد تبدو احيانا انها جوهر لها لكن الحقيقة غير ذلك فالدولة تتمتع بثبوت نسبي يرتبط بنمط انتاج التشكيلة السائد اما السلطة فهي متحركة بمعزل عن تغير التشكيلة من عدمه ، والدولة كظاهرة تاريخية حية تتجد وظائفها وتغتني حتى تصبح هي ذاتها البناء الفوقي برمته وهذا ما لم يتحقق بعد رغم بروز سمات تشير الى ذلك واعني الدولة في البلدان المتقدمة ـ الراسمالية التي تهيمن على العولمة ، ان نمو وتكامل وتكافوء وتوازن المستويين ، مستوى السلطة المباشرة في الدولة مع المستوى المدني منها في الريع الاجتماعي السياسي سيكون مقدمة لكسر قاعدة دوام الغلبة للسلطة المباشرة حتى يصل الامر الى اقصاه في اندثار السلطة المباشرة وذوبانها في المستوى المدني منها وهي درجة تؤشر لبدايات مرحلة زوال دولة الراسمال الاحتكاري العولمي فاسحة المجال امام بزوغ نوع جديد من النظام ـ نظام التسيير الذاتي ـ نظام المجتمع المدني المشاع الذي سيكون نمطه الانتاجي السائد يعتمد قاعدة لكل من حسب حاجته ومن كل حسب طاقته !
ان مفهوم المجتمع المدني مؤسس على هذه المقولات التي تعطي ابعادا اعمق لشكل العلاقة الجدلية بين الدولة والمجتمع ، ومن الواضح ان مجتمعات ماقبل الرأسمالية لم تنتج مجتمعات مدنية بالمعنى اعلاه وذلك لتوحد السلطة والدولة وباقتصار نظام الملكية على الخاص منها ، اما في الراسمالية فان وظائف الدولة بما فيها السلطة قد اصبحت اطارا يشرف على تنظيم وحماية التعدديات التخصصية انتاجا وتملكا وخاصة بعد انقضاء فترة المزاحمة الحرة وبروز الراسمالية الاحتكارية وهيمنتها مما عكس آية النفس التقدمي للراسمالية كتشكيلة كسرت قيود ماقبلها لتسهيل انطلاقتها هي الى تركز وتمركز الراس مال واجترار دورته الى ما وراء البحار معززة بعولمته النفاذ الى اوسع انماط الحريات الفردية التي يسبح بفائض ريعها الاستعماري والتبعي مواطني بلدان المنشأ التي لا تتضرر مدنيا بهذا الاتجاه ، فالدولة الاحتكارية مزدوجة في صيرورتها الداخلية بين النظام السياسي ومجتمعه المدني المتشعب واصبحت الراسمالية المتعولمة متضخمة بتناقضها الجديد القديم بين حرية الانسان وبين عبوديته للراس مال تصريفا ومداورة وقد تذاكت الراسمالية عندما جعلت تنوع الملكية ـ الملكية الخاصة ، ملكية الدولة ، الملكية التعاونية ، الملكية المختلطة ، حرة مدنيا ومقيدة موضوعيا بآليات الاحتكار، وهذا التناقض سيكون في مراحل متقدمة احد اسس انتهاء العمر الافتراضي لدولة الراسمالية الجديدة ـ الراسمالية الاحتكارية المتعولمة ـ
قراءات مختارة في مراجع موثوقة:
جان جاك روسو تناول اشكال الدولة في القرن الثامن عشر ورسم حدود اختلافها بزوايا اختلاف اشكال الملكية حتى ان شكل الملكية عنده اصبح معادلا لشكل الدولة : فرد يملك كل شيء = ملكية فردية ، مجموعة صغيرة تملك الكثير = حكم ارستقراطي ، الكل يملك = ديمقراطية ، وفي عقده الاجتماعي يذهب روسو الى ان حق الملكية يلغي ويسرق حق الحرية !
هيجل يتناول نفس الموضوع من باب اخر هو اكثر تعميما وتجريدا ، فلا يستقيم موضوع عند الفيلسوف الا اذا سلط عليه ضوء التفلسف وهكذا فعل هيجل وبما ان الفلسفة هي اعم العلاقات العامة بين الاشياء فان هيجل فتح باب الدولة على مصراعيه لها : انسان واحد حر = دولة مستبدة ، بعض الناس احرار= دولة ديمقراطية العبيد ، كل الناس احرار = دولة ديمقراطية .
غرامشي يميز بين مجتمع سياسي ومجتمع مدني في اي دولة راسمالية قائمة ويعتبر النشاط الاقتصادي احد اهم وظائف المجتمع المدني ، وهو يعدد انماط الدول بحسب حضور وغياب المجتمع المدني فيها : دولة متناقضة مع المجتمع المدني ، دولة تشتمل على المجتمع المدني ، دولة تتماهى مع المجتمع المدني .
فوكو يطرح مفهوم المراقبة والمحاسبة كمنهج حتمي لمواجهة غول الدولة البيروقراطية وسلطة الاستبداد التي تتناقض مع المجتمع المدني باسم قانونها السياسي الذي يحاصر اي حركة او نشاط مدني

اشير ايضا الى انواع الدول بحسب موقعها من العولمة الاحتكارية التي تتعامل بانتقائية فضة مع مظاهر المجتمع المدني : دول المركز العولمي " الدول الامبريالية " : تعرقل بالنتيجة عولمة المجتمع المدني ووظائفه ، الدول المشاركة معها : وهي تتراوح بين حالة التوازن وفقدانه ، وبين الرضوخ لتوصيفات دول المركز في تقييم المجتمعات المدنية داخلها وخارجها ، الدول التابعة لها : وهي دول فاقدة الاصل المدني في دولها ، الدول المتمردة عليها : وهي مازالت تتلمس طريق مجتمعها المدني الذي سيكون منقذها في المواجهات التي تخوضها هذه الدول مع سياسة الهيمنة الامبريالية .
بدائل الدول الناقصة :
الدول الناقصة هي الدول التابعة تحديدا فهي لم تستكمل بعد شقها السياسي الخاص بها ناهيك عن الشق المدني في دولها ، اغلب هذا النوع من الدول يمارس سلوك معادلة النقص ومعالجته بالارتكاس الى الخلف بحثا عن معين لها في اكثر العلاقات السياسية والاجتماعية والفكرية بدائية ، فالعائلة والعشيرة والطائفة هي اعمدة الدولة ونظامها السياسي ، ومعظم هذا النوع من الدول يكون عبارة عن حارس لمصالح دول المركز ، وغالبا ما تقوم دول المركز بحث هذه الدول على استخدام انظمة من الاكسسوارات المقلدة لما يجري في المجتمعات المدنية المعروفة للظهور بمظهر مناسب يعفيها من المسائلة ، وفي ظروف اخرى تقايض دول المركز شعوب الدول الناقصة المتطلعة لبناء دولها المتكاملة بمجتمعها السياسي والمدني ، تقايض منحها حقوق الممارسة الديمقراطية السياسية بمصادرة الديمقراطية الاجتماعية والاقتصادية ، ان التشوه الاجتماعي والاقتصادي وتغييب مقومات الهوية الوطنية والتبعية السياسية والاقتصادية هي اكثر صفات الدول الناقصة شيوعا ، اما بدائل هذه الدول فهي اما زوالها وتفتتها اوانتفاض شعوبها لانجاز مقومات دولها وتحقيق ذاتها بدعم واسناد وتضامن الشعوب التي تجاوزت هذه المرحلة .