الماركسية اللينينية الماوية ... منطلقات النقاش 1- في المنهج


خالد المهدي
2008 / 7 / 30 - 07:48     


كان من المفترض أن ينشر هذا المقال منذ مدة، لكن نظرا لعدة ظروف و لتعدد الانشغالات لم نتمكن من نشره حينها. إن هذه الدراسة التي بين يدي القارئ هي محاولة للدفاع عن الماركسية اللينينية الماوية بوصفها إيديولوجية الطبقة العاملة و أعلى ما وصله التفكير العلمي لحد الآن.

تنقسم هذه الدراسة إلى عدة فصول و أقسام، الفصل الأول يتناول بالنقد و التحليل الحجج التي يقدمها بعض الرفاق لرفض الماوية – طبعا نحن لن نتناول سوى حجج من يتعاطى بشكل جدي و مبدئي مع المسألة تاركين من لا يملك سوى المشاحنات الحقيرة مستمرين في نباحهم - و يقدم في نفس الوقت المنهج العلمي للتعاطي مع نظرية البروليتاريا و القوانين المحددة لتطورها و نموها، و انتقالها من مرحلة إلى مرحلة أعلى.

الفصل الثاني من الدراسة يحاول ان يوضح كيف طور ماو الأقسام الثلاثة للماركسية، أي الفلسفة و الاقتصاد السياسي و الاشتراكية. و كيف نقل تبعا لذلك نظرية البروليتاريا إلى مرحلة أعلى عارضا في نفس الوقت الاشكالات الموضوعية و الذاتية التي انبثقت في صيرورة تطور الثورة العالمية و نمو الصراع الطبقي على المستوى المحلي و العالمي، و كيف فرضت هذه الإشكالات ضرورة تطوير نظرية البروليتاريا.

الماركسية اللينينية الماوية ... منطلقات النقاش 1- في المنهج

1 - تقديم

تعرف الحركة الشيوعية بالمغرب (الحشم) في الآونة الأخيرة مخاضا فكريا كبيرا أنعشته في المقام الأول مختلف الصراعات التي يشهدها الصراع الطبقي بالمغرب وعلى النطاق العالمي، وكذا انخراط العديد من المناضلات والمناضلين في معمعان الصراع الفكري الذي يستهدف تقديم التفسير العلمي والإجابات السديدة حول الواقع العام للثورة المغربية. وفي خضم هذا الصراع تبلورت العديد من الأفكار والتصورات حول العديد من المسائل والقضايا التي أثارها الصراع بين الطبقات واتجاهات تطوره، إلى أن وصلت إلى طرح قضايا الخط الفكري للحركة الشيوعية للنقاش بين الشيوعيين والشيوعيات سواء داخل المغرب أو داخل الدول الناطقة باللغة العربية، وهو ما افرزه السؤال حول نظرية البروليتاريا هل هي ماركسية أم ماركسية لينينية أم ماركسية لينينية ماوية؟.

إن أهمية هذا السؤال تنبع من كونه يحدد هوية الحركة ككل، وبالتالي يحدد مضمونها الطبقي وأهدافها السياسية. لذلك كانت معالجة هذا السؤال وما يرتبط به من إشكالات فكرية وسياسية ذات أهمية قصوى، وهو ما سنحاول عرضه في هذا العمل.

2- أهمية المسألة.



إن أهمية المسألة الفكرية وحاجيتنا كشيوعيين(ات) إلى النظرية تكمن أساسا في استحالة قيام ممارسة ثورية منسجمة بدون الاستناد إلى النظرية الثورية. إن هذه الحقيقة التي أكد عليها كل المعلمون الكبار وأثبتتها كل التجارب الثورية العالمية هي أهم ما يستوجب استحضاره اليوم في قلب الحركة الشيوعية العالمية بشكل عام وبالمغرب بشكل خاص، فإيديولوجية البروليتاريا بوصفها موجها للممارسة الثورية هي الإيديولوجية الوحيدة ( التي لا غنى عنها) لتقديم تفسير علمي وصحيح للظواهر الاجتماعية والسياسية والفكرية، وهي هنا علم دراسة المجتمعات ، أي أنها العلم الذي يكشف عن القوانين الموضوعية التي تتحكم في تطور المجتمعات. إلا أن نظرية البروليتاريا لا تقف عند حدود تفسير الظواهر بل تفتح أفاقا ابعد من ذلك بكثير، فهدفها النهائي كما صاغه ماركس ليس هو تفسير العالم، وإنما تغييره. إن هذه الموضوعة التي صاغها ماركس في نقده لفيورباخ هي أعمق من أن نحددها في ثنائية متتالية تفسير العالم ثم بعد ذلك تغييره.

وإذا أردنا المزيد من التدقيق في هذه المسألة يمكن أن نطرح السؤال التالي: هل يمكن تقديم تفسير علمي لواقع ما دون الاستناد إلى الممارسة الهادفة إلى تغييره؟ إن الماركسية تجيب بالنفي على هذا السؤال، فتفسير العالم تفسيرا علميا مرتبط بشكل كلي ولازم بالممارسة الهادفة إلى تغييره، فعلى هذه الأخيرة يتوقف كل شيء تقريبا. ولهذا فتفسير واقع ما يمر عبر الممارسة الهادفة إلى تغييره، وهذه الأخيرة هي بدورها محكومة بالتصور الذي نحمله حول ذلك الواقع. إن هذه العلاقة الجدلية بين النظرية والممارسة هي من أهم ما أسست له الماركسية نظريا. فالقوانين الموضوعية التي اكتشفتها الماركسية في هذه المرحلة أو تلك هي مرتبطة بالممارسة الاجتماعية العامة ( الصراع الطبقي، الإنتاج، العلم...) التي عرفتها تلك المرحلة.

إن النظرية الماركسية هي ذاتها تتطور وتغتني مع تطور الواقع وتطور الممارسة العلمية، لكنها أيضا تفعل في هذه الممارسة وتحدد حتى مضامينها واتجاهاتها وأشكالها. فما اكتشفه ماركس وانجلز من قوانين موضوعية قد ارتبط بالممارسة التي عايشاها من ممارسة الصراع الطبقي وممارسة الإنتاج وتطوير العلم. إن اكتشافهما لتلك القوانين الموضوعية لم يكن دفعة واحدة، بل إن كل اكتشاف وكل موضوعة نظرية صاغاها كانت لها شروطها المادية التي توجد أساسا في الممارسة الاجتماعية العامة. فتطويرهما للنظرية الثورية قد ارتبط اشد الارتباط بالاتجاهات الفكرية التي ناضلا ضدها، تلك الاتجاهات التي كانت بمثابة التعبير الفكري ( والسياسي) عن حاجات ومصالح فئات وطبقات اجتماعية معينة. نفس الشيء يمكن قوله عن اللينينية وعن الماوية، فتطويرهما للنظرية الماركسية كان أيضا مرتبط بما حمله الواقع من جديد وما شهدته الممارسة الاجتماعية العامة من تغيرات وتبدلات وقفزات. ومع ظهور الجديد كانت تفرز دائما الحاجة والضرورة إلى التعبير عنه نظريا حتى لا تبقى الحركة الثورية و البروليتاريا أساسا متخلفة عن الواقع، وهكذا فما عبر عنه لينين إنما شكل قفزة في صيرورة تطور إيديولوجية البروليتاريا وأعطانا اللينينية التي بدونها يكون الحديث عن الماركسية تحريفية. لماذا إذن؟ لأن الماركسية هي مرشد للتغيير وليس شيئا آخر غير ذلك، والتغيير يمر بكل تأكيد عبر الاستيعاب الواعي لصيرورة تطور الواقع، فاستيعابنا لهذه الصيرورة أي استيعابنا لمجمل القوانين التي تتحكم في نمو وتطور الشيء هو الذي يوجهنا في عملية التغيير. من هنا نفهم أهمية عنصر الوعي وضرورته في صيرورة الثورة*

لذلك يكون الاستناد إلى الماركسية دون اللينينية هو استناد إلى موضوعات وإلى وعي غير قادر لوحده على تفسير الواقع المراد تغييره، وهو ما يعني بلورة وعي ناقص يترجم في الواقع عبر ممارسة انتهازية إن لم تكن رجعية صرفة. نفس الشيء يمكن قوله عن الماوية التي أنتجت في مرحلة تاريخية أشد تعقيدا من المرحلة التي أُنتجت فيها اللينينية وهو ما يعني أن الاستناد إلى الماركسية اللينينية دون الماوية اليوم هو استناد إلى موضوعات نظرية وسياسية وتنظيمية غير قادرة لوحدها على الاستجابة للحاجات الجديدة التي ظهرت عبر تطور الواقع الموضوعي، وتطور الممارسة الاجتماعية العامة. وهو ما يعني بلورة وعي ناقص غير قادر على تقديم الإجابات السديدة وبالتالي غير قادر على تغيير ثوري للواقع.

وحتى نوضح هذه المسألة سوف نحاول تناولها من زاوية أخرى. إن ماو قد علمنا بأن الماركسية هي علم ولذلك يجب أن تعامل كعلم، فكيف إذن يتم التعامل مع العلوم من وجهة نظر علمية لا ميتافيزيائية.

إن الماركسية نظرية كونية بمعنى أنها صالحة لكل المجتمعات ، فهي تقدم الإجابات العلمية العامة لتغيير العلم. وهذه الإجابات تطبق في كل مجتمع حسب واقعه الخاص. إنها تمثل الدواء الذي يقدم للداء. فلكل مرض معين دواء خاص به وليس هناك دواء خاص بالمغاربة وآخر خاص للعراقيين وآخر للفرنسيين أو الهنود، أو غيرهم، غير أن هذا الدواء الذي يستهدف معالجة داء معين قد يصبح مع مرور الزمن غير قادر على معالجة ذاك الداء والسبب في ذلك يمكن أن نرجعه إلى:

1. تطور الداء و تكيفه مع الدواء القديم بالشكل الذي يبطل مفعول هذا الأخير.

2. أو أن الجسم البشري ذاته قد خضع للتطور بالشكل الذي أصبح معه الدواء القديم غير مجدي.

3. أو أن الدواء له عوارض جانبية لم تظهر إلا مع التطبيق.

وفي كل الحالات يكون الإصرار على تناول ذات الدواء دون تطويره وفقا لما ظهر من نتائج هو بمثابة الإصرار على السماح بانتشار الداء أو في أحسن الأحوال السماح ببقائه داخل الجسم.

إن رفض اللينينية أو الماوية يعني السماح ببقاء الاستغلال والاضطهاد، ويعني من وجهة النظر هذه تحريف الوعي والممارسة. وإذا أخذنا نموذجا آخر من الحقول العلمية، الفيزياء مثلا، فإننا نجد بأن هذه الأخيرة قد عرفت كباقي العلوم، تطورات كبيرة ربما كان أبرزها مع نيوتن وظهور ما نصطلح عليه بالفيزياء الميكانيكية. لقد استطاعت هذه الأخيرة من تقديم الأجوبة الصحيحة على العديد من الظواهر الطبيعية التي كانت حتى ذلك الزمن غير مفهومة علميا، وساهمت بذلك في تقديم القوانين التي اعتمدت في تطوير الإنتاج والزيادة من سيطرة الإنسان على الطبيعة، غير أن تطور الحاجات الاجتماعية للإنسان واقتحام العلم لمجالات جديدة قد جعل من الفيزياء الميكانيكية عاجزة عن تقديم الأجوبة الصحيحة حول تلك الحاجات والظواهر، منها مثلا الظواهر الضوئية التي تقف أمامها الفيزياء الميكانيكية عاجزة تماما. وهكذا فالتشبث بالفيزياء الميكانيكية لتفسير الظواهر الضوئية هي نظرة غير مكتملة وغير مجدية، كما أن محاولة الاعتماد عليها لتغيير اليورانيوم إلى طاقة نووية بالإضافة إلى كونه سذاجة فهو من باب الاستحالة التامة. وهكذا فعدم الأخذ بعين الاعتبار ما صاغه اينشتاين وغيره من علماء الفيزياء والتقدم في التطبيق يجعل الإنسان عاجزا عن التغبير وعن رفع سيطرته على الطبيعة.

إن هذه المسائل التي تبدو واضحة للبعض فيما يخص علم الفيزياء أو البيولوجيا أو غيرها من مجالات العلوم نجدها مرفوضة من قبلهم للتعاطي مع نظرية البروليتاريا والسبب في ذلك هو عدم قدرتهم لاستيعاب الماركسية كعلم وبالتالي عدم قدرتهم للتعاطي معها كعلم.

إن الوقوف عند الماركسية في حدود ما أنتجه ماركس وانجلز، و ما أنتج من أفكار وموضوعات في المرحلة التي عايشاها يعني نفس ما يعنيه الوقوف في حدود الفزياء الميكانيكية، أي العجز عن تقديم الممارسة الثورية نحو الأمام لتغيير العالم، وهذا هو كنه المسألة وهنا تتجلى خطورتها البالغة على مستقبل الثورة ومستقبل الإنسانية ككل، ومنه يكون الحديث عن الماركسية بدون اللينينية وبدون الماوية هو إعاقة للممارسة الثورية.

لكن هذا الكلام يبقى صحيحا إذا كانت اللينينية و الماوية هما بالفعل تطوير للماركسية بوصفها إيديولوجية البروليتاريا . ومنه فمن الواجب تقديم الدلائل على كونها كذلك، ونحن هنا لن نتناول اللينينية لأنها قد ترسخت في قلب الحركة الشيوعية، -بالرغم من الهجمات التي لا زالت تتعرض لها- بفضل عمل أجيال كثيرة من الشيوعيين(ات) وعلى رأسهم الرفيق ستالين وماو تسي تونغ، وسوف نعرض الحجج فيما يخص الماوية فقط.

إذن لماذا الماوية؟ وهل نحن الشيوعيين والشيوعيات بالفعل في حاجة إلى الماوية؟ و ما هي إذن الإضافات الشيوعية للماوية، أي ما هي المجالات والظواهر لتي لا يمكن تفسيرها تفسيرا علميا ولا يمكن تغييرها بدون الاستناد إلى الماوية؟

إن الإجابة على هذه التساؤلات يعني تقديم الدلائل على كون الماوية هي بالفعل مرحلة متطورة من صيرورة تطور إيديولوجية البروليتاريا. فهل الماوية هي تطوير للماركسية اللينينية؟ وأين يتجلى ذلك؟

إن الإجابة على هذا السؤال تستوجب أولا وقبل كل شيء طرح المسألة بشكل سليم وصحيح، فعندما لا تطرح المسائل بشكل سليم لا يمكن حلها بشكل صحيح. وهو ما يعني ضرورة تناول المسألة من جانبها المنهجي أولا ثم بعد ذلك إبراز ورصد عناصر تطوير الماوية للماركسية اللينينية.

3 -على المستوى المنهجي.



كيف إذن يجب طرح المسألة أي ما هي محددات الانتقال من مرحلة إلى مرحلة أعلى في فكر الطبقة العاملة؟

للإجابة على هذا السؤال سوف نتناول في هذا المحور كيفية طرح بعض الرفاق لمسألة الماوية، بل كيفية تعاطيهم مع الماركسية اللينينية ومع فكر الطبقة العاملة ككل. فكيف إذن طرح بعض الرفاق المسألة وأين يكمن الخلل في مقاربتهم لها؟

3.1 المنهج المادي الجدلي في مواجهة المنهج "السقراطي"



إن الزاوية الوحيدة – على الأقل لحد الآن- التي يحاول من خلالها بعض الرفاق تبرير رفضهم الاعتراف بالماوية بوصفها تطوير خلاق للماركسية اللينينية ومرحلة أعلى من تطور نظرية البروليتاريا، إنما هي كون "الماركسية اللينينية هي ماركسية العصر الامبريالي" ومادامت المرحلة الحالية من تطور الرأسمالية هي الإمبريالية – وهذا التحديد صحيح- فإنه لا مجال للحديث سوى عن الماركسية اللينينية !! وأن أية إضافة لمفكرين ثوريين تدخل بالضرورة تحت لواء الماركسية اللينينية. وهكذا نجد الرفيق أيمن في تقديمه لمقتطف من الجزء الأول للحوار الذي أجراه الرفيق غونزالوا سنة 1988 يطرح تساؤلا استنكاريا صاغه على النحو التالي:" هل هناك فعل مرحلة ثالثة !، كلنا يعلم ان اللينينية هي ماركسية مرحلة الامبريالية، فهل انتهت هاته المرحلة؟ "[1]

وعلى ذات المنحى نجد أيضا الرفيق قوجمان في مقاله " الماركسية اللينينية والماوية"** يقدم ذات الفكرة وإن بتحليل أكثر تقدما من الأسئلة الاستنكارية. إن هؤلاء الرفاق يحاولون إقامة ترابط كلي بين مراحل تطور الرأسمالية ومراحل تطور الماركسية !! فحسب الرفيق قوجمان تطور فكر الطبقة العاملة وانتقاله من مرحلة إلى مرحلة أخرى هو رهين بتطور الرأسمالية وانتقالها من مرحلة إلى أخرى ومادامت المرحلة الراهنة من تطور الرأسمالية هي الامبريالية فــ"اللينينية هي ماركسية المرحلة الامبريالية وتبقى ما دامت الامبريالية قائمة"***

إن هذا المنطق الذي يتناول به بعض الرفاق مسألة الماوية ويقدمون به أفكارهم بالإضافة إلى كونه منطق غير سليم هو منطق سخيف، فالرابط الفكري الذي يقيمه هؤلاء الرفاق بين مراحل تطور الرأسمالية ومراحل تطور فكر الطبقة العاملة يفتقد إلى الأسس النظرية ويدخل في خانة مرددي المقولات، أي الدغمائية.

إن حجة هؤلاء الرفاق- وهي حجة وحيدة لحد الآن على الأقل- هي كالآتي: مادامت اللينينية هي ماركسية عصر الامبريالية، ومادامت الامبريالية هي آخر مراحل الرأسمالية، فإن الماركسية اللينينية هي آخر مراحل تطور الفكر الماركسي في ظل الامبريالية !!! إن هذا المنطق بالقدر الذي هو بعيد عن ماركس هو قريب من سقراط القائل " مادام كل إنسان فان، سقراط إنسان إذن سقراط فان" وهكذا يتضح أن الرفاق يبتعدون حتى عن الفكر الذي يحاولون الدفاع عنه في كيفية طرح المسألة وتناولها وبالتالي تجدهم غير قادرين على الإجابة بشكل صحيح على المسائل المثارة. لكن أين هو منشأ الخطأ في تحاليل الرفاق وموقفهم من الماوية، إنه في عدم فهم مقولة الرفيق ستالين "إن الماركسية اللينينية هي ماركسية عصر الامبريالية"

3.2 كيف إذن عمق بعض الماركسيون الرفيق ستالين؟



لقد صاغ الرفيق ستالين مقولته سنة 1924 في شروط تاريخية أصيلة داخل الحركة الشيوعية العالمية، كانت إحدى ميزاتها الأساسية هي الصراع من أجل تثبيت اللينينية داخلها ( أي داخل ح ش ع )، فقد صاغ الرفيق ستالين مقولته تلك ضد أولئك الذين جعلوا من اللينينية غير صالحة سوى للبلدان "الفلاحية" وضد أولئك الذين لم يروا في اللينينية سوى بعث التعاليم الثورية في ماركسية العقد الخامس وضد التروتسكيين الذين حاولوا ( وحتى قبل وفاة لينين) عرض بضاعتهم تحت قناع اللينينية.

إن العمل الذي عرضت فيه مقولة الرفيق ستالين كان يهدف أساسا تقديم اللينينية كنظرية كونية وكمرحلة أعلى من الماركسية بوصفها نظرية البروليتاريا وفكرها الموجه. إن العمل الذي قام به الرفيق ستالين دفاعا عن اللينينية ضد التشويهات وضد الانتقاص منها كنظرية كونية قد ترك بصماته على طول تاريخ الحركة الشيوعية العالمية، ولا عجب أن نجد الانتهازيين إلى اليوم لا زالوا يصرخون بأن "الماركسية اللينينية هي بدعة ستالينية" فبالنسبة إلى الكثير منهم لا يوجد شيء اسمه الماركسية اللينينية"*

يجب على الرفاق الذين يستندون إلى هذه المقولة أن يتذكروا جيدا تلك المرحلة من تاريخ الحركة الشيوعية العالمية. إن إحدى ميزاتها كانت الصراع بين الجديد والقديم، هذا القانون الكوني تؤكد صحته أيضا تلك الفترة من تاريخ الحركة الشيوعية العالمية، فإلى جانب الثوريين الحقيقيين الذين استوعبوا الجديد ( اللينينية) ظهر أيضا الديماغوجيون الذين ينبذون كل ما هو جديد.

إن الصراع بين القديم والجديد هو أحد مظاهر المعركة التي خاضها الشيوعيون آنذاك تحت قيادة ستالين من أجل تثبيت اللينينية وكونية الماركسية اللينينية. وإذا رجعنا إلى صياغة ستالين فسوف نجدها دقيقة وتحمل هذا المضمون، يقول الرفيق ستالين: "إن اللينينية هي ماركسية عصر الاستعمار والثورة البروليتارية، وبتعبير أدق اللينينية هي نظرية و تكتيك الثورة البروليتارية بوجه عام وديكتاتورية البروليتارية بوجه خاص، فقد ناضل ماركس وانجلز في المرحلة السابقة للثورة ( يعني الثورة البروليتارية) حين لم يكن الاستعمار قد تطور بعد في مرحلة تهيئة البروليتاريا للثورة، تلك المرحلة التي لم تكن فيها الثورة البروليتارية قد غدت بعد ضرورة مباشرة عملية لا مناص منها.

أما لينين تلميذ ماركس وانجلز فقد ناضل في مرحلة الاستعمار المتطور، في مرحلة الثورة البروليتارية الآخذة في النمو في وقت انتصرت فيه الثورة البروليتارية في بلد واحد...."[2] وهكذا نجد ستالين يتحدث عن اللينينية بوصفها الماركسية المترافقة مع الفترة التي طرحت فيها الثورة البروليتارية على جدول أعمال البروليتاريا بعدما كانت الماركسية مترافقة مع مرحلة تهيئ البروليتاريا للثورة، وعندما يتحدث أيضا ستالين عن اللينينية فإنه يتحدث عن مرحلة كاملة، مرحلة من سيادة الانتهازية وسيادة فرسان الأممية الثانية، مرحلة كاملة من سيادة النضال السلمي، مرحلة كاملة من التراخي في وجه البرجوازية. إن إحدى المزايا الأساسية للينينية أنها حطمت هذه النزعة، وأعادت النضال البروليتاري الحازم في وجه البرجوازية والإقطاع، حطمت نزعة النضال السلمي وأعادت الكفاح العنيف ضد الطبقات المستغلة (بكسر الغين). فستالين عندما يتحدث عن إضافات اللينينية لا يحصرها في الاقتصاد السياسي الماركسي، بل لا يحصرها فيه أساسا. إن المعيار الأول الذي نجده لدى ستالين في تقييمه للينينية هو المرحلة التي وصلت إليها الثورة العالمية. ومع ذلك فإن ستالين لم يتحدث إطلاقا في أي من مؤلفاته عن أن اللينينية هي آخر مراحل تطور الماركسية – ولو فعل ذلك لكان مخطأ- إن الرفاق الذين أرادوا تعميق أفكار ستالين هم من يفعلون ذلك بمنطق و برؤية بعيدة عن رؤية ستالين . و إذا رجعنا إلى التاريخ قليلا ، " فالماركسية اللينينية فكر ماوتسي تونغ" قد أقرها الحزب الشيوعي الصيني إبان مؤتمره السابع سنة 1945 ، أي قبل وفاة ستالين بزمن طويل، ولم يسجل فيها أي اعتراض من طرف ستالين، فهل يعني ذلك أن ستالين قد غض النظر عن " حماقات" أولئك الشيوعيين؟ وهل يعني ذلك أن ستالين لم يكن حازما في الدفاع عن اللينينية بوصفها آخر مراحل تطور الماركسية؟ !!

إن ما تحبل به مجريات الصراع الطبقي من جديد لا يمكن لأي كان مهما كانت عظمته أن يتنبأ به كليا. إن الماركسيين مطالبون في كل زمان ومكان أن يكتشفوا القوانين الموضوعية التي تتحكم في تطور المجتمعات والظواهر (ليس الاقتصادية وحسب بل السياسية والفكرية أيضا)، إنهم مطالبون مع بروز أي جديد ومع بروز أي تناقض بين الواقع ومشاريعهم وخططهم ونظرياتهم حتى. أن يحلوا ذلك التناقض، ليس عن طريق إدانة الواقع، بل من خلال تعديل مشاريعهم وخططهم ونظرياتهم حتى تتلاءم مع الواقع المستهدف بالتغيير، فالمعيار الوحيد لصحة نظرية ما ليس هو مفكروها، بل مدى انسجامها مع الواقع، أي مدى قوتها وقدرتها في الإجابة على الأسئلة وفي توجيه الممارسة الهادفة إلى تغيير ذلك الواقع، يقول الرفيق انجلز في هذا الصدد ضد دوهرينغ:" ليست المبادئ هي نقطة انطلاق الاستقصاء، بل هي نتيجته الختامية، وهي لا تنطبق على الطبيعة والتاريخ الإنساني، بل تستخلص منهما، وليست الطبيعة وعالم الإنسانية هما اللذان يتطابقان مع هذه المبادئ بل إن المبادئ لا تكون إلا بقدر ما تتطابق مع الطبيعة والتاريخ، ذلك هو المفهوم المادي الوحيد عن الموضوع (يقصد انجلز التاريخ) ..."[3]

إن الرفاق الذين حاولوا تعميق ستالين بالقول إن اللينينية هي ماركسية المرحلة الامبريالية وتبقى مادامت هذه المرحلة قائمة "إنما يخلون بقولهم هذا بأسس الماركسية ويرتكبون خطأ كبيرا و يتشبثون بالجانب المحافظ من الفلسفة الديالكتيكية نظرا لعدم تقديرهم للأهمية المطلقة للجانب المادي في فلسفة ماركس. وإذا رجعنا مرة أخرى إلى الرفيق انجلز نجده يقول حول الفلسفة الديالكيتيكية: " ليس هناك بالنسبة لهذه الفلسفة شيء نهائي، مطلق مقدس، إنها ترى حتمية الانهيار في كل شيء، ولا يوجد شيء يستطيع الصمود في وجهها إلا المجرى المستمر للنشوء والزوال، للصعود اللامتناهي من أدنى إلى أعلى... ولها أيضا جانبها المحافظ فهي تبرر كل مرحلة معينة من مراحل تطور المعرفة والعلاقات الاجتماعية في زمانها ومكانها لا أكثر. فالصفة المحافظة لهذه الطريقة في الفهم نسبية وطابعها الثوري هو مطلق، وهذا هو الشيء الوحيد المطلق الذي تقبله الفلسفة الدياليكتيكية"[4]

وهكذا يظهر على أن حجة الرفاق ورؤيتهم للينينية هي متخلفة حتى على فلسفة هيغل. لكن تبقى هنا مسألة ضرورية يجب معالجتها في هذا الموضوع، أي مسألة الارتباط بين الواقع والمعرفة، ففلسفة ماركس بوصفها فلسفة مادية تعتبر أن المعرفة تبقى محددة في آخر المطاف بالظروف والشروط المادية التي تعبر عن ذاتها في الوعي، وفي الممارسة السياسية، فهل هذا يعني استحالة الانتقال من مرحلة إلى مرحلة أعلى في فكر الطبقة العاملة في ظل شروط سيطرة الامبريالية؟

4 المادية الجدلية في مواجهة المادية الميكانيكية



إن الفكر البشري بشكل عام وفكر الطبقة العاملة بشكل خاص في أية مرحلة من مراحل تطوره يبقى محكوما في آخر المطاف بالشروط المادية التي أنتج داخلها، لكن غالبا ما يأخذ بعض الرفاق هذا الكلام الصحيح كحجة للدفاع عن الفكرة الخاطئة القائلة باستحالة التطور النوعي في فكر الطبقة العاملة في ظل شروط الامبريالية. فماذا يعني أن الفكر محكوم في آخر المطاف بالشروط المادية التي أنتجته؟

إنه يعني أساسا أن الفكر لا يستطيع ولا يمكنه تقديم الإجابات سوى على الضرورات والحاجات التي تفرزها هذه الشروط المادية، فالفكر بشكل عام هو تعبير عن حركة الواقع بشكل عام، وفكر الطبقة العاملة بشكل خاص هو تعبير عن حركة هذه الطبقة بشكل خاص، أي انه يحاول تقديم الإجابات حول كل الإشكالات التي يفرزها الواقع، وتوجيه الممارسة لما فيه خدمة هذه الطبقة، أي وفقا لمصالحها الآنية والإستراتيجية. لكن تبقى دائما قدرة هذا الفكر ودقته على تقديم الإجابات مرتبطة أيضا بدرجة تطور الفكر السابق عليه الذي بدوره يعتبر نتاج للشروط التي انبثق وتطور فيها. فتطور الواقع وتطور الممارسة الاجتماعية العامة تفرز ضرورة الإجابة عن الإشكالات التي تفرزها هذه الممارسة، وليس هذا المفكر أو ذاك سوى صدفة، هذه الصدفة التي تشكل شرط تحقق الضرورة كما عبر عن ذلك انجلز. إذن، هل يمكن أن يتطور الفكر وينتقل من مرحلة إلى مرحلة أعلى في إطار نفس المرحلة من التطور الاقتصادي والاجتماعي؟ و بصيغة أدق هل يمكن أن يتطور فكر الطبقة العاملة بوصفه علما وينتقل من مرحلة إلى مرحلة أعلى في ظل نفس الشروط العامة للحياة الاجتماعية المادية، أي في ظل نفس المرحلة المحددة تاريخيا من مراحل التطور الاجتماعي؟

إن القول بأن "اللينينية هي ماركسية العصر الإمبريالي وستبقى ما دامت الامبريالية قائمة" (وبغض النظر عن هذه الصيغة غير الموفقة)* إنما يقدم جوابا ضمنيا بالنفي عن هذا السؤال، في حين أن علم المادية التاريخية وتاريخ تطور المعرفة البشرية يقدم لنا جوابا آخر مناقض لهذا الجواب، أي أنه يقدم جوابا بالإيجاب عن هذا السؤال ( المرجو العودة إلى كتاب لينين القيم: الدفاتر الفلسفية) فحسب تحديد هؤلاء الرفاق فإن الفكر البرجوازي هو أيضا مر بمرحلة واحدة في ظل سيطرة الإقطاع!! وبشكل أدق: مادمنا نقر جميعا بان الماركسية هي علم ويجب أن تعامل كعلم، فإن منطق هؤلاء الرفاق يقودنا إلى القول والتأكيد أن علم البيولوجيا مثلا لم يتطور إلا مع تطور التكوين الجيني للكائنات وانتقاله لمرحلة أعلى، وأن علم الجيولوجيا( علم طبقات الأرض) لم يتطور وينتقل لمرحلة أعلى إلا مع تطور وانتقال التكوينات الأرضية من مرحلة إلى مرحلة أعلى وهذا من باب الخطأ.

إن التطور النوعي والانتقال من مرحلة إلى مرحلة أعلى في الفكر البشري بشكل عام وفي العلوم بشكل خاص له جذوره المادية بكل تأكيد لكنه لا يتطور بشكل ميكانيكي تبعا لتطور هذه الشروط. والفكرة القائلة بأن اللينينية هي آخر مراحل تطور الماركسية في ظل شروط سيطرة الامبريالية وسوف "تبقى كذلك ما دامت الامبريالية قائمة" إذا ما نقلناها إلى المستوى النظري وليس اللغوي فإنما تعبر عن المادية الأحادية الجانب، مادية القرن الثامن عشر: المادية الميكانيكية التي تبتعد عن المادية الجدلية ليس بقرنين من الزمن بل بمراحل طويلة من الممارسة الاجتماعية ومن نضالات الشعوب والطبقات المستغلة ( بفتح الغين) ومراحل طويلة من تطور الفكر البشري الذي مر عبر فيورباخ وهيغل وماركس وانجلز. ففي ذات الشروط المادية يستطيع الفكر عندما تمتلكه الجماهير من تغيير هذه الشروط وخلق حاجات جديدة وواقع جديد يفرز بالضرورة الحاجة إلى تطوره. لكن ليس هذا كل ما تحمله مقولة "اللينينية هي آخر مراحل تطور فكر الطبقة العاملة في ظل الامبريالية وسوف تبقى مادامت الامبريالية قائمة" إن الخطير في هذه المقولة أنها تسقط من اعتبار أصحابها مرحلة أعلى من الامبريالية، مرحلة من أعظم واعقد مراحل تطور المجتمعات البشرية. إن هذه المقولة تغض النظر بشكل مؤسف على مرحلة كاملة من تطور المجتمع البشري ألا وهي مرحلة ديكتاتورية البروليتاريا.

إن هؤلاء الماركسيين اللينينيين الذين يرفضون الماوية باعتبارها تطويرا ومرحلة متقدمة من تطور الفكر البشري بشكل عام وفكر البروليتاريا بشكل خاص ويقدمون حجة لذلك كون الامبريالية هي آخر مراحل تطور الرأسمالية وأن اللينينية هي ماركسية هذه المرحلة، وتبقى مادامت هذه المرحلة قائمة " لا يرون في تطور المجتمع الإنساني إلى اليوم سوى الامبريالية، لا يرون التجربة العظيمة والغنية لمرحلة أعلى من الامبريالية مرحلة ديكتاتورية البروليتاريا والبناء الاشتراكي.

إن الهزيمة التي تلقتها البروليتاريا العالمية وإعادة الرأسمالية بالاتحاد السوفياتي والصين وباقي البلدان الاشتراكي الأخرى قد كان تأثيرها عميقا جدا إلى درجة أن هناك ماركسيين لينينيين لم يصبحوا قادرين سوى على رؤية مرحلة الامبريالية في تطور المجتمعات البشرية، ولم يستطيعوا بعد إدراك أن الإنسانية قد تجاوزت مرحلة الامبريالية ودخلت مرحلة أعلى بالرغم من فشلها المؤقت، ففي فشلها دروس وعبر لا يمكن لأي ماركسي أن يغفل عنها أبدا.

لا أيها الرفاق ليست الامبريالية هي آخر المراحل التي عرفها تطور المجتمع البشري، بل إنها ديكتاتورية البروليتاريا، وبهذا يكون القول بان " اللينينية تبقى ما دامت الامبريالية باقية" كحجة لرفض الماوية باعتبارها تطوير خلاق ورقي في الماركسية اللينينية هي" حجة" لا مبرر لها إذن.

إن هؤلاء الرفاق الذين يعتقدون أنهم ينطلقون من ستالين إنما هم أبعد من أن يكونوا كذلك. فستالين نفسه نجده يتحدث عن مرحلة جديدة من تطور المجتمعات البشرية وبالتالي فهذه المرحلة المهمة بل الأكثر أهمية وحدها كافية، حسب حتى منطق هؤلاء الرفاق لجعل تطوير الماركسية اللينينية ونقلها لمرحلة أعلى ضرورة تاريخية. و بالتالي فهذا وحده كاف لنسف كل أسس تحليلات هؤلاء الرفاق وحجتهم حول علاقة تطور الماركسية بتطور مراحل الرأسمالية.

إن نسيان هذه المرحلة العظيمة من تطور المجتمعات البشرية هو كاف لأن يجعل المرء غير قادر على استيعاب دروسها وخبراتها. إن تجربة ديكتاتورية البروليتاريا والبناء الاشتراكي وما أفرزته من حاجات وإشكالات وقضايا، خصوصا بعد الهزيمة المؤلمة التي تلقتها البروليتاريا بعد إعادة الرأسمالية بالدول الاشتراكية إنما توجد في قلب الماوية ( وهو ما سوف نعود إليه بالتفصيل لاحقا). إذ يكفي طرح السؤال عن سبب فشل تلك التجربة وتلك الانتكاسة حتى نكون قد دخلنا بالفعل في نقاش العديد من الأسس النظرية والسياسية للماوية، طبعا إذا ما نحن تركنا جانبا الفكرة المثالية الساذجة التي تسخر من تلك التجربة وترجع أسباب الفشل إلى حفنة من " المندسين" داخل الحزب الشيوعي، وتقدمنا في طرح السؤال حول الشروط المادية والموضوعية والأسس النظرية التي ساهمت في هزيمة البروليتاريا.

إذن، نكون هنا قد وصلنا إلى إتمام نقد الحجة التي يقدمها بعض الرفاق لرفض الماوية كتطوير للماركسية اللينينية وكمرحلة أعلى من نظرية البروليتاريا، ويبقى السؤال المطروح الآن هو تبيان كيفية الانتقال من مرحلة إلى مرحلة أعلى في فكر الطبقة العاملة، أو بتعبير أدق ما هي القوانين المتحكمة في نقل الماركسية من مرحلة إلى مرحلة أعلى وكيف تتم هذه العملية؟

5 وجهة نظر الماركسية حول نظرية المعرفة



إن الملاحظات الانتقادية التي سجلناها سابقا حول رؤية بعض الرفاق لفكر الطبقة العاملة وإن كانت ضرورية في سياق هذا النقاش فإنها تظل عاجزة عن الرقي به إلى مستوى الصراع الإيديولوجي الايجابي القادر على ضمان تطوير سليم وصلب للخط الفكري للحركة الشيوعية لذلك نرى من واجبنا أن نبرز أسس تطور الماركسية. لقد سبق وان أبرزنا أن تطور الماركسية ليس بالضرورة رهين بتطور الرأسمالية وحاولنا نقد الفكرة القائلة بترابط تطور الماركسية وانتقالها من مرحلة إلى مرحلة أعلى. إذن كيف تنتقل الماركسية وتتطور من مرحلة إلى مرحلة أعلى؟ أو بصيغة أدق: ما هي القوانين التي تتحكم في تطور المعرفة العلمية؟ فالنقاش حول تطور الفكر الماركسي بوصفه فكرا علميا يدخل في دائرة نقاش نظرية المعرفة.

إن أقل ما يمكن أن يقال عن تحليل الرفاق الذين يربطون الماركسية وانتقالها من مرحلة إلى مرحلة أعلى بانتقال الرأسمالية من مرحلة إلى مرحلة أخرى هو انه تحليل يفتقد للعلمية والدقة كما وضحنا ذلك سابقا، ويبتعد في مضمونه عن التحليل الماركسي الأصيل الذي يربط تطور الفكر البشري ككل بالممارسة الاجتماعية وبالضرورات التاريخية والحاجات التي تتولد عبر الممارسة العملية، فتاريخيا ظهرت الماركسية باعتبارها قفزة نوعية في تطور فكر الطبقة العاملة، بعدما حققت هذه الأخيرة من التراكم الكمي ما يسمح بالطفرة النوعية، فنضال العمال ضد الاستغلال والاضطهاد هو ما شكل الأرضية الأساسية ( وليست الوحيدة، لأن هنا يجب استحضار تطور العلوم وتطور الإنتاج أيضا) لتبلور الفكر الماركسي بعدما أثبتت تجربة العمال أنفسهم قصور باقي النظريات والتصورات الاشتراكية على تقديم تفسير علمي لأوضاعهم وصياغة الإجابات الصحيحة لتغيير واقعهم. وهكذا ففكر الطبقة العاملة سوف يتطور بترابط تام مع النضال الطبقي الذي كانت تخوضه هذه الأخيرة ضد الرأسماليين وبقايا الإقطاع، فبعد أن كان فكرا طوباويا سوف يصبح على يد ماركس وانجلز فكرا علميا يقدم لها التفسير الصحيح لأوضاعها ويحدد لها الشعارات الرئيسية والسديدة لنضالها من أجل التحرر من الاستغلال. إن الفكر الماركسي هو القفزة التي تحققت في الفكر البشري في إطار التناقض بين الممارسة والنظرية. فالتناقض له صفة الشمولية وهو الذي يحكم كل صيرورة تطور سواء كانت طبيعية، اجتماعية أو صيرورة وعي. إن هذا القانون العام مطبق على نظرية المعرفة هو بالمناسبة من الإضافات الماوية، يقول ماو في هذا الصدد: "إن تطور العملية الموضوعية هو تطور مليء بالتناقضات والصراعات وكذلك شأن تطور حركة المعرفة البشرية، وإن جميع الحركات الدياليكتيكية في العالم الموضوعي يمكن أن ينعكس عاجلا أم آجلا في المعرفة البشرية. و نظرا لأن عملية النشوء والفناء في الممارسة العملية الاجتماعية هي عملية لا منتهية، فإن عملية النشوء والتطور والفناء في المعرفة البشرية هي كذلك أيضا. وبما أن الممارسة العملية التي يقوم بها الناس لتغيير الواقع الموضوعي وفقا لأفكار ونظريات وخطط ومشاريع معينة في تقدم مستمر، فإن معرفتهم بالواقع الموضوعي تتعمق أكثر فأكثر، ونظرا لأن حركة الواقع التغيير في عالم الواقع الموضوعي لا تنتهي أبدا فإن المعرفة التي يكتسبها الناس عن الحقيقة خلال ممارستهم العملية لا تنتهي أبدا كذلك"[5]

إن فكر ماكس وانجلز هو ذاته محكوم بهذا القانون العام، أي أن تطوره ورقيه كان مرتبطا بتطور الممارسة الاجتماعية، وفي مقدمتها الصراع الطبقي*

إن الممارسة العملية الاجتماعية وفي مقدمتها الصراع الطبقي هي التي تشكل الأساس المادي الذي يتطور على أرضيته أي فكر بشري بما في ذلك الماركسية ذاتها، ففي إطار الوحدة والتناقض بين ما هو ذاتي وما هو موضوعي، بين النظرية والممارسة، بين المعرفة والعمل يتطور الفكر.

وإذا ما نظرنا إلى مرحلة ماركس- إنجلز فإننا سوف نجد – رغم أنها مرحلة محددة من تطور الرأسمالية، أي مرحلة المنافسة الحرة- أن الماركسية قد اغتنت وتطورت بفعل النضالات العظيمة التي خاضتها الطبقة العاملة، فماركسية العقد الخامس من القرن التاسع عشر ليست هي ذاتها ماركسية العقد الثامن والتاسع، لقد عرفت نموا هائلا وعظيما من الناحية النظرية الإيديولوجية ومن الناحية السياسية، ولعل أهم محطة يمكن أن نسوقها هنا هي كمونة باريس وكيف ساهمت في بلورت مفهوم ديكتاتورية البروليتاريا (الذي يعتبر المفهوم السياسي المركزي في الماركسية) بشكل واضح وملموس. ولنأخذ أيضا مسألة الفلاحين، فرؤية الماركسية في سنوات الخمسينات لهذه المسألة، خصوصا إبان هزيمة ثورة 1848 قد أعيد تركيبها بشكل جذري خلال سنوات التسعينات خصوصا على يد إنجلز** بعد استيعاب الدروس من خبرات التجارب الماضية. وهكذا نجد أن الماركسية في عهد ماركس انجلز نفسها كانت تتطور وفقا لمجريات الصراع الطبقي بشكل خاص ووفقا للممارسة العملية الاجتماعية بشكل عام. فمع كل انتصار، ومع كل هزيمة ومع كل عقبة ومع كل انجاز في مجال الإنتاج والعلوم كانت البروليتاريا تنضج فكريا وينمو فكرها أكثر فأكثر ويتقدم إلى الأمام عبر العديد من الانعطافات و القفزات.

صحيح أن الماركسية في عهد ماركس انجلز كانت مترافقة مع مرحلة معينة من تطور الرأسمالية -أي مرحلة المنافسة الحرة- وبالتالي فهي كانت تستهدف الإجابة على الإشكالات التي يفرزها الواقع المحدد بشروط تلك المرحلة والكشف عن القوانين المتحكمة في تطورها وتوجيه البروليتاريا لتغيير واقعها، إلا أننا مع ذلك لا يجب أن نختزل في أي حال من الأحوال الماركسية في الاقتصاد السياسي الماركسي فهي أكثر اتساعا وشمولا من ذلك.

"إن الصراع الطبقي هو محرك التاريخ" هذا القانون العام الذي كشفه ماركس هو قانون ليس صالحا للرأسمالية التنافسية بل لكل المجتمعات الطبقية بما فيها تلك التي قبل الرأسمالية أو المجتمع الاشتراكي***

إن الفضل يعود إلى ماركس في الكشف عن جوهر النظام الرأسمالي، وعن مجمل القوانين التي تتحكم في تطور الرأسمالية، وله الفضل هو ورفيقه انجلز في صياغة الشعارات الإستراتيجية لنضال البروليتاريا، ولهما الفضل أيضا في إرساء دعائم المنهج المادي الجدلي. إن هذه الترسانة الفكرية والسياسية التي خلفها هذان العظيمان وأغناها أيضا العديد من الشيوعيين قد كانت تعبيرا وتحققا للضرورات التاريخية التي أفرزتها الممارية الاجتماعية العامة.

إن هذان الماديان(ماركس و انجلز) لم ينفصلا في يوم من الأيام عن رؤية الجديد الذي ينبثق بشكل مستمر من خلال الممارسة الاجتماعية العامة ولم يكلا من توصيه الشيوعيين على تطوير النظرية التي قال عنها تلميذهما لينين أنها رمادية اللون في حين أن شجرة الواقع خضراء. لنتذكر تقييمات الثمانينات حول الحركة الشيوعية العالمية وبروز الارستقراطية العمالية وما أنتج من مفاهيم سياسية ومتطلبات نظرية وشعارات.

إن الرفاق الذين يؤكدون على أن "اللينينية هي ماركسية المرحلة الامبريالية وتبقى مادامت المرحلة الامبريالية قائمة" إنما يقفون ضد وصية ماركس، انجلز، لينين، ستالين و ماو ويبتعدون عن التحليل الملموس للواقع الملموس ويقفون موقفا أحادي الجانب من مسألة المادية ويبتعدون عن أحد الموضوعات الأكثر أهمية في الماركسية، أي وحدة الممارسة والنظرية التي تشكل مركز نظرية المعرفة في الماركسية كما أسس لها ماركس، لينين وطورها ماو قائلا: " اكتشاف الحقيقة عن طريق الممارسة العملية، وإثبات الحقيقة عن طريق الممارسة العلمية مرة ثانية. الانطلاق من المعرفة الحسية وتطويرها بصورة فعالة إلى المعرفة العقلية ثم الانطلاق من المعرفة العقلية لتوجيه الممارسة العملية الثورية بصورة فعالة في سبيل تغيير العالم الذاتي والعالم الموضوعي والعودة إلى سبيل الممارسة العملية ثانية ثم المعرفة أيضا، وهكذا تتكرر العملية إلى ما لا نهاية له، ومع كل دورة يرتفع مضمون الممارسة العملية والمعرفة إلى مستوى أعلى، هذه هي النظرية المادية الدياليكتيكية عن المعرفة، هذه هي النظرية المادية الدياليكتيكية عن وحدة المعرفة والعمل"[6]

إن الوحدة والتناقض بين الممارسة والنظرية، بين المعرفة والعمل هو القانون العام الموضوعي الذي يتحكم في التطور الدياليكتيكي للمعرفة العلمية بشكل عام وللماركسية بشكل خاص، ففي إطار هذه الوحدة والتناقض ينتقل الفكر عبر القفزات إلى مراحل أعلى ويتطور كميا بالإسهامات والإضافات.

إن مفهوم القفزة النوعية هو مفهوم مركزي وحيوي وجوهري. ففي كل "وحدة وتناقض" تحدث القفزات عندما يصل التراكم الكمي إلى مستوى معين. والقول بأن اللينينية هي آخر مراحل تطور الماركسية في عصر الامبريالية يعني ضمنيا نفي القفزات داخل التناقض وهو ما يعني الإخلال بأحد الأسس الجوهرية لنظرية ماركس.

فمع دخول الرأسمالية مرحلة جديدة هي المرحلة الامبريالية، ومع تطور الممارسة الاجتماعية العامة (الصراع الطبقي، الإنتاج، العلم) ظهرت العديد من الظواهر الاقتصادية والسياسية والفكرية لم تكن معها آنذاك الموضوعات التي صاغها ماركس وانجلز قادرة على الإجابة عنها، هنا جاء دور لينين بوصفه صدفة تحقق الضرورة التي أفرزتها الممارسة الاجتماعية العامة. "إن الماركسية هي التعبير النظري عن الحركة العمالية" (انجلز) وليس عن الرأسمالية التنافسية، و اللينينية هي أيضا كذلك، لكن في شروط أكثر تعقيدا وأكثر نضجا.إلا أن التطور الذي شهدته الماركسية على يد لينين لا يمكن اختزاله في كشف وعرض القوانين الاقتصادية التي تتحكم في تطور الامبريالية، فلا يمكن في أي حال من الأحوال اختزال اللينينية في الاقتصاد السياسي الماركسي، فإسهامات لينين في رفع وعي الطبقة العاملة هي أكبر من ذلك بكثير. إن إضافاته نجدها أيضا في إبراز أهمية الوعي ودوره في عملية التغيير ونبذ العفوية، ونجدها في بناء حزب من طراز جديد، نجدها في الصراع ضد الانتهازية ونجدها في المسألة القومية ونجدها في تحديد اللبنات الأولى لقوانين تطور المجتمع الاشتراكي وغيرها من المسائل. ويمكن القول أن اللينينية قد بدأت تتبلور مع أطروحات لينين حول الحزب سنوات 1901- 1904، حيث كانت سمات الامبريالية لم تكشف بعد ولم يتم التعبير عنها نظريا بعد، ولم يظهر تأثيرها بشكل سافر على حلبة الصراع الطبقي. وبدون إضافات لينين حول الحزب ( التي صيغت في تلك المرحلة) لا يمكن الحديث مطلقا عن الماركسية اليوم. ويمكن أن نسوق في هذا الصدد أطروحاته حول مراحل الثورة وتعاقب الثورة البرجوازية والثورة البروليتارية، تلك الموضوعات التي عرضها أيضا في مرحلة 1905- 1906، أي قبل اكتشافه للقوانين الاقتصادية للامبريالية (1914- 1916).

إن لينين قد رفع الماركسية إلى مرحلة أعلى تطورا حتى قبل أن يظهر الصراع حول تطور الرأسمالية إلى مرحلتها الامبريالية. إن انتقال الماركسية وتطورها إلى مرحلة أعلى على يد لينين كان بالفعل مترافقا مع ما ظهر من جديد ومن تغيرات في الواقع وما أفرزه ذلك من تبدلات ونتائج على ضوء الممارسة الاجتماعية العامة. نحن هنا لا نود أن نعرض إضافات لينين للماركسية كما سبق وأن أشرنا إلى ذلك، بل نود التأكيد على أن "الماركسية اللينينية لم تختم الحقيقة، إنها شقت دون توقف الطريق لمعرفة الحقيقة، خلال الممارسة العملية، والنتيجة التي استخرجناها هي الوحدة التاريخية المحددة بين ما هو ذاتي وما هو موضوعي، بين النظرية والممارسة ، بين المعرفة والعمل، وعليه فنحن نعارض كل الإيديولوجيات الخاطئة التي تنفصل عن التاريخ المحدد (يسارية) كانت أم يمينية"[7] .

إن عدم استيعاب نظرية المعرفة، أي عدم استيعاب القوانين التي تتحكم في تطور المعرفة وانتقالها من مرحلتها الحسية إلى مرحلتها العلمية، وعدم استيعاب الوحدة والتناقض بين الممارسة والنظرية وما يعنيه ذلك من ضرورات القفزات والرقي وهدم للقديم وولادة للجديد هو السبب الرئيسي الذي يجعل بعض الرفاق، في محاولة منهم لتعميق ستالين، بترديد أن اللينينية هي آخر مراحل تطور الماركسية في عصر الامبريالية، يضرون بالماركسية كلها.

إن القانون العام الذي يتحكم في تطور المعرفة إنما هو القانون المركزي للجدل الماركسي أي قانون: "وحدة وصراع الأضداد"، هذا القانون بتطبيقه على صيرورة تطور الوعي يعني الوحدة والتناقض بين الممارسة العملية والنظرية، بين المعرفة والعمل. ففي إطار هذه الوحدة وعبر الصراع بين طرفي التناقض ممارسة/نظرية تتحقق القفزات وينتقل الفكر والوعي من مرحلة إلى مرحلة أعلى. إن هذا الانتقال الدائم والمستمر من القديم إلى الجديد من هدم القديم وولادة الجديد هو الشيء الوحيد المطلق في فلسفة ماركس. والقول بأن اللينينية هي آخر مراحل تطور الماركسية في عهد الامبريالية ينزع كما أوضحنا سابقا إلى تجاوز مفهوم مركزي في فلسفة ماركس أي مفهوم القفزة.

إن هذا القانون يعلمنا كيف ننظر إلى النظرية العلمية بوصفها طرف التناقض بينها وبين الممارسة العملية، وهو ما يعني أن تطورها (أي النظرية) مرتبط بشكل كلي بالصراع بينها وبين الطرف الثاني أي الممارسة العملية. وهكذا فإن الترابط الذي يقيمه بعض الرفاق بين تطور فكر الطبقة العاملة ونظريتها، وبين مراحل تطور الرأسمالية وانتقالها من مرحلة إلى مرحلة أعلى يفتقد إلى التحليل المادي الجدلي ويسقط في خانة التحليل المادي الميكانيكي.

تبقى نقطة أخيرة قبل الانتقال إلى عرض أسس الماوية والإضافات التي جعلتها تنقل الماركسية اللينينية إلى مرحلة أعلى، ألا وهي الصيغة التي عرض بها بعض الرفاق حجتهم حول اللينينية قائلين: "إن اللينينية هي ماركسية المرحلة الامبريالية وسوف تبقى مادامت هذه المرحلة قائمة".

فهل يعني اعتبار الماوية هي تطوير خلاق للماركسية اللينينية ونقلها إلى مرحلة أعلى هو انتقاص من اللينينية ونفي لها، أو إزالتها؟ لو كان الأمر كذلك لكانت اللينينية قد أزالت الماركسية، في حين أن اللينينية قد أنعشت وأغنت الماركسية وأمدتها بالحياة والقوة لتوجيه الممارسة الهادفة إلى التغيير. إن اعتبار الماوية تطوير للينينية لا يعني أن اللينينية لن تبقى كما قد يفهم ذلك البعض، بل إن الماوية هي من حافظت على قيمة الماركسية اللينينية، وبدون الماركسية اللينينية لا يمكن الحديث عن الماوية كما العكس صحيح في يومنا هذا. إن الماوية قد أنعشت الماركسية اللينينية وأمدتها بالحياة كما فعلت اللينينية مع الماركسية في مطلع القرن 20.

تلك كانت إجمالا نظرتنا وانتقاداتنا للرؤية التي يطرح بها بعض الرفاق مسألة تطور الماركسية من ماركس إلى ماو، وسوف ننتقل الآن إلى عرض الأسس التي جعلت من الماوية مرحلة أعلى من فكر ونظرية البروليتاريا.

6 محطات من تاريخ الماركسية اللينينية الماوية.



إن الحديث عن نقل الماوية للماركسية اللينينية إلى مرحلة أعلى وأرقى قد تم بفضل إغناء الرفيق ماو للأقسام الثلاث المكونة للماركسية، أي الاقتصاد السياسي والاشتراكية والفلسفة.

وسوف نقدم موجزا بأهم الانجازات في هذه الأقسام الثلاث، لكن قبل ذلك يكون من المفيد أن نعرض أمام القارئ تاريخ تطور الصراع حول الماوية وواقعه الراهن.

يمكن القول أن الصراع من أجل إقامة فكر ماوتسي تونغ قد انطلق داخل الحزب الشيوعي الصيني منذ سنة 1935إبان الاجتماع الذي عقده المكتب السياسي للجنة المركزية للحزب الشيوعي في تسونيي الذي حسم الصراع حول الخط العسكري للحزب لصالح خط ماو ضد الخط "اليساري"[8] الذي ساد على طول مرحلة أربع سنوات والذي كان يرى في الانتفاضة المسلحة بالمدن وسيلة إنجاز الثورة وحسم السلطة .

وفي سنة 1945 سوف يتخذ المؤتمر السابع للحزب الشيوعي الصيني قرارا بتبني " الماركسية اللينينية فكر ماوتسي تونغ" باعتبارها النظرية الموجهة للحزب، غير أن صعود خط يميني إبان المؤتمر الثامن سوف يلغي فكر ماو من الخط الإيديولوجي للحزب، وخلال المؤتمر العاشر سنة 1969 إبان الثورة الثقافية البروليتاريا العظمى سوف يتقرر من جديد أن الحزب الشيوعي للصين سيصبح موجها بالماركسية- اللينينية فكر ماوتسي تونغ.

لقد اكتسب فكر ماوتسي تونغ على النطاق العالمي مكانة رائدة منذ سنوات الخمسينات خصوصا بعد المناظرات الكبرى حول ستالين، وإبان الصراع ضد التحريفيين الخروتشوفيين، لكن مع الثورة الثقافية البروليتاريا العظمى سوف يعرف فكر ماوتسي تونغ امتدادا كبيرا وسوف ترتفع رايته عاليا وأصبح ماو معترفا به كقائد للثورة العالمية، ومؤسس لمرحلة جديدة من الماركسية اللينينية، وهكذا اصطفت العديد من الأحزاب والمنظمات الثورية تحت راية "الماركسية اللينينية فكر ماوتسي تونغ" إبان الصراع الضاري الذي شهدته الحركة الشيوعية بين الخط الثوري الذي مثله الرئيس ماو والخط التحريفي للحزب الشيوعي بالاتحاد السوفياتي تحت قيادة خروتشوف. ففي البلدان الامبريالية أو في البلدان المستعمرة وشبه المستعمرة بدأت تتكون الأحزاب والمنظمات الثورية مسترشدة بخد ماوتسي تونغ ورافعة راية "الماركسية اللينينية فكر ماوتسي تونغ"، والحركة الشيوعية ببلادنا لم تكن في منآى عن هذا الصراع وعن هذه الأحداث التي هزت العالم برمته، ففي قلب الصراع ضد الخروتشوفيين بالمغرب، وضد الإصلاحية والانتهازية بكل تلاوينها سوف تتأسس 3 منظمات ثورية مع بداية السبعينات: "منظمة إلى الإمام"و "23 مارس" و"لنخدم الشعب" وسوف تعلن هذه المنظمات قطيعتها مع التحريفية العالمية والمحلية وتبنيها "الماركسية اللينينية فكر ماوتسي تونغ" كمرشد وموجه لها من أجل إنجاز مهام الثورة الوطنية الديمقراطية الشعبية عن طريق الحرب الشعبية الطويلة الأمد.

وقد لعبت بالفعل الثورة الثقافية البروليتاريا العظمى دورا هائلا في تعرية التحريفية العالمية، وأعادت من جديد للكفاح الثوري الجماهيري مكانته داخل الحركة الشيوعية العالمية بعدما حاولت التحريفية إقبار هذا البعد وتعويضه بـ"التعايش السلمي" وباقي البضائع الاستسلامية الرجعية التي تؤطر لعودة الرأسمالية للبلدان الاشتراكية. إن الانتكاسة التي عرفتها ديكتاتورية البروليتاريا في بلد لينين وستالين وسيطرة التحريفية قد ترك أضرارا بليغة جدا على الحركة الشيوعية العالمية وعلى الثورة العالمية. غير أن نضال الشيوعيين والشيوعيات الحقيقيين(ات) تحت قيادة الرئيس ماو قد مكن بكل تأكيد من محاصرة المد التحريفي وتعريته ، والأكثر من ذلك أنه قدم الإجابات السليمة نظريا وعمليا على حقيقة الأمور فاتحا بذلك عهدا جديدا من النمو والتطور الفكري في نظرية البروليتاريا.

لكن مع موت الرئيس ماو وصعود الخط التحريفي اليميني لقيادة الحزب الشيوعي بالصين، واعتقال " عصابة الاربع"* و إيقاف الثورة الثقافية سوف تصاب الحركة الشيوعية العالمية من جديد بضربة قاسية مرة أخرى سوف يصل تأثير هذه الانتكاسة الجديدة التي تلقتها ديكتاتورية البروليتارية والحركة الشيوعية مرة أخرى إلى العديد من البلدان والمنظمات، سوف تتخلى بعض التنظيمات عن فكر ماوتسي تونغ كما حصل لمنظمة إلى الأمام ببلادنا سنة 1979، وسوف تتخلى منظمات أخرى عن اللينينية...الخ. في هذه الشروط قررت قلة من المنظمات الماركسية اللينينية التي تسترشد بفكر ماوتسي تونغ وعلى رأسها الحزب الشيوعي بالبيرو PCP الذي أعيد تشكيله بقيادة الرفيق كونزالوا القيام بتقييم جدي و مسؤول للتجربة التاريخية للحركة الشيوعية الأممية بشكل يساعد على تحيين وإحياء المشروع الثوري عوض التنازل عن المبادئ والتخلي عن المعركة كما فعل الآخرون. إن الصراع الذي خاضته هاته المنظمات هو الذي مكن من تركيب العلم الثوري للبروليتارية الذي يسمى اليوم بـــالماويـــــــة.

وعلى هذا الأساس تشكلت منظمات ثورية جديدة وتمكنت منظمات أخرى من إعادة تنظيم ذاتها والقيام بحملات تقويم ناجحة مكنتها من إطلاق شرارة الكفاح الثوري من جديد وإعطاء دفعة جديدة للثورة ببلدانها وعلى النطاق العالمي. وفي هذه الصيرورة المعقدة والطويلة سوف تتأسس الحركة الثورية الأممية RIM سنة 1984 على أرضية الدفاع عن خط ماو، وإنجازات الثورة الثقافية البروليتاريا العظمى، لكنها بقيت إلى سنة 1993 تتحدث عن الماركسية اللينينية فكر ماوتسي تونغ، لكن ومع هذا التاريخ وبفضل نضال العديد من المنظمات الثورية خصوصا الحزب الشيوعي بالبيرو الذي أعلن تبنيه الماوية منذ نهاية السبعينات، وكذا الحزب الشيوعي الثوري الأمريكي، سوف تتبنى الحركة الثورية الأممية رسميا الماركسية اللينينية الماوية. وهذه الحركة هي تجمع أممي للعديد من الأحزاب والمنظمات الثورية لكنها لا تقدم نفسها بصفة " أممية شيوعية" بل جنينا لأممية مرتقبة، ونواة من أجل خلق هذه الأممية* لقد مكن التقييم الذي قامت به العديد من المنظمات الثورية من الدفاع عن الماوية كمرحلة أعلى من إيديولوجية البروليتاريا، وبفضل هذا العلم تمكنت العديد من هذه المنظمات من إطلاق شرارة الحرب الشعبية ببلدانها، وهكذا نجد الحزب الشيوعي بالبيرو قد طور الحرب الشعبية منذ الثمانينات إلى أن أصبحت سلطتها في بداية التسعينات تضاهي سلطة الدولة الرجعية[9]. الحزب الشيوعي بالنيبال سوف يطلق هو الآخر شرارة الحرب الشعبية سنة 1996، الحزب الشيوعي بالهند سوف يطور هو الآخر الحرب الشعبية بالهند، بالفلبين أيضا سوف يتطور أداء الحرب الشعبية على يد الحزب الشيوعي. بتركيا نفس الشيء، بالعراق سوف يتأسس تجمع الماركسيين اللينينيين الماويين الثوريين وسوف تنطلق شرارة الكفاح المسلح ضد المغتصبين من اليانكيين وعملائهم الرجعيين وفلول قوى الظلام....الخ

وهكذا ففي يومنا هذا تقود المنظمات الماوية التي تشكل العناصر الأكثر تقدما في الحركة الشيوعية النضالات الثورية المسلحة الأكثر قوة وأهمية على النطاق العالمي مسترشدة بأعلى ما وصله الفكر البشري من نضج: الماركسية اللينينية الماوية.

تلك كانت بعض اللحظات والمحطات من تاريخ الصراع حول تثبيت الماوية والاعتراف بها كتطوير للماركسية اللينينية، وسوف ننتقل الآن إلى دراسة أسس الماوية والإضافات التي قدمها ورفع بها الرفيق ماوتسي تونغ الماركسية اللينينية إلى مرحلة أعلى وأنضج، وهو ما يستدعي منا تقديم ما طوره ماوتسي تونغ في الأقسام الثلاثة المكونة للماركسية، أي : الفلسفـــة، الاقتصاد السياســــي النظري، والاشتراكيــــة العلمية.

يتبع....

* لنتذكر المكانة التي أعطاها لينين للوعي في صراعه ضد الانتهازية والتحريفية داخل الحركة الشيوعية بروسيا وداخل الأممية.

[1] . الرفيق أيمن" خطاب الحركة الماوية العالمية من خلال حوار غونزالو مع جريدة الدياريو1988 المسائل الايديولوجية الجزء الاول" الحوار المتمدن عدد 1809 - 2007 / 1 / 28

** الحوار المتمدن عدد 1794 بتاريخ 13/1/2007

*** الحوار المتمدن عدد1794 بتاريخ 13/1/2007

انظر بهذا الخصوص مثلا أعمال جورج لابيكا واتيان بليبار.*

ستاليــــــــــن أسس اللينينية.[2]

[3] انجلز :نفس المرجع السابق ص 42

[4] . فيورباخ و نهاية الفلسفة الكلاسيكية الالمانية.

تنحو هذه الصيغة الى الاعتقاد الخاطئ بأن اللينينية لن تبقى بعد تجاوز المرحلة الامبريالية. *

ما وتسي تونغ: في الممارسة العملية[5]

* طبعا دون نفي أهمية باقي المجالات في الممارسة الاجتماعية ونذكر على سبيل المثال الاكتشافات العلمية التي ساهمت في تعميق الماركسية علميا: اكتشاف الخلايا، وتحول الطاقة...إلخ

أنظر بهذا الصدد المقال الرائع لانجلز: مسالة الفلاحين في ألمانيا وفرنسا ففيه يوضح الأسباب التاريخية لتطور نظرة الماركسية لمسالة الفلاحين.**

*** سوف نعود إلى هذه النقطة بالتفصيل فيما سيأتي من هذا البحث لأنها توجد في قلب الماوية وسوف نوضح كيف أن ماو قد أكد هذا القانون وأوضح سماته داخل المجتمع الاشتراكي انطلاقا من تقييم الهزيمة التي تلقتها البروليتاريا بالاتحاد السوفيتي بعد وفاة ستالين...

ماو: في الممارسة العملية.[6]

[7] . ماو : في الممارسة العملية

[8] لقد تسببت سيادة هذا الخط الانتهازي في إبادة ما يقرب من 90بالمئة من قوى الحزب الشيوعي والجيش الأحمر ومعانات الملايين من الشعب الصيني

عصابة الأربع: أطلقت هاته الصيغة من طرف التحريفيين الصينيين على المدافعين عن خط ماو الذين كانوا يشكلون نواة الثورة الثقافية البروليتاريا العظمى*

* يوجد ايضا تجمع آخر للمنظمات الماوية: المؤتمر الأممي للأحزاب والمنظمات الماركسية اللينينية وتوجد منظمات ماوية غير منضوية في هذين التجمعين

عرفت الحرب الشعبية بالبيرو منذ 1992 تراجعا مؤقتا بعد اعتقال الرئيس كونزالوا[9


خالد المهدي
25/1/2007