جيفارا والحلم الغامض


عبد الحسين شعبان
2008 / 7 / 4 - 10:35     

بعد أربعة عقود ونيف من الزمان على اغتيال تشي جيفارا الطبيب الأرجنتيني والثوري الأمريكي اللاتيني، الذي رافق كاسترو في مسيرة جبال السيرامايسترا الشهيرة وصولاً الى العاصمة هافانا وانتصار الثورة على الديكتاتور باتيستا، والوزير الذي ترك وراءه الوزارة والوجاهة والأبهة، لينتقل الى الأحراش والغابات ويعيش بين الفلاحين، ليستشهد في بوليفيا، أقول بعد هذا الفارق الزمني وغياب جيفارا المادي عن الوجود، يعود اسمه يتردد وكأنه يعيش بيننا ونكاد نعرفه ونلتقي به، في الأسواق والحانات والساحات والجامعات، بين جوقة الاساتذة وعلماء السياسة ونخبة المثقفين والشحاذين وأطفال الملاجئ والشوارع وضحايا الحروب والنزاعات والجوع.

مثل الكثير من القضايا كان الانقسام قائماً بشأن بعض توجهات جيفارا، الفريق الاول تبنّى أطروحاته بالكامل وحاول تقليدها أو اقتفاء أثرها، حتى أن شباناً يافعين بعمر الورد شدّتهم حماستهم ونبلهم الإنساني إلى حتفهم وكان من بينهم صديقاي أزهر الجعفري وسامر مهدي وآخرون، فراحوا ضحية عدم تقدير الظروف في ظل اختلافات وعدم توازن قوى واختلالات، وكان هذا الفريق يمجّد حركة جيفارا ويؤيد مواقفه بشأن فكرة “البؤر الثورية” و”دور الفلاحين” في الثورة وإنضاج “العامل الذاتي”.

أما الفريق الثاني فكان ينتقد الأداء وحرق المراحل، لاسيما إهمال دور الحزب والمبالغة في دور العمل المسلح للبؤر الثورية، طالما لم تنضج الظروف الموضوعية والذاتية، ناهيكم عن اختلافات تتعلق بالموقف من المركز الأممي (موسكو). لكن هذا الفريق كان يبدي اعجابه به، وربما كان هناك فريق ثالث (حشد من الفريقين) رغم بعض تحفظاته، إلا أنه كان يعبّر عن إعجابه الشديد بحركة جيفارا لاسيما وهي تخوض الكفاح في الميدان، غاضاً النظر أحياناً عن بعض السجالات النظرية وإن كان لا يهملها.

ويوم جاءنا خبر اغتياله أقمنا احتفالاً كبيراً في كلية التربية، وعلقنا اللافتات والصور ووقفنا دقيقة صمت حداداً على روح جيفارا، فقد اختلطت لدينا رمزية التضحية مع تضحية الرمز، حيث كان جيفارا حسب قول مكسيم غوركي بشأن أحد الثوريين الكبار، بأن نصف عقله يعيش في المستقبل، الأمر الذي جعله ينتقل من المكاتب الوثيرة الى سوح الكفاح في الكونغو وبوليفيا وكان يخطط لتأسيس البؤر الثورية في بلدان أخرى.

كان ذلك اليوم الخريفي المشرق الجميل، كأنه يوم إلغاء الخلافات، فقد وحّدنا مقتل جيفارا، لاسيما وأن مأساة ذلك الشاب الذي لم يبلغ الأربعين (39 عاماً) الوسيم، الشجاع، محبوب النساء، الحالم، كانت عاصفة، حيث بلغنا يومها أن جثته تم إخفاؤها ولم يعثر عليها إلاّ بعد نحو ثلاثين عاماً (1997) فنقلت إلى كوبا مع رفات رفاقه، وترقد اليوم في ضريح مهيب في مدينة سانتا كلارا المدينة التي قاد عملية تحريرها من سلطات باتيسيتا في 30 ديسمبر/ كانون الأول 1958 أي عشية الثورة التي انتصرت في 1 يناير/ كانون الثاني 1959.

صورة جيفارا الشهيرة التي التقطها المصور كوردا تجوب العالم اليوم، وهي تعود مثل طائر العنقاء تحط على الصور والقمصان والمحفظات وعلب الموسيقا وتتصدر منشورات العروض المسرحية والأفلام وقصائد الشعر والروايات والمنحوتات والدراسات والأبحاث. إن صورة جيفارا اليوم تزيّن البيوت والمكاتب والقاعات والساحات والأهم من ذلك أنها تسكن في قلوب النساء والرجال ولاسيما الشباب منهم من ألوان وأجناس وأمم وشعوب وقوميات ولغات وأديان شتى.

الصورة ليست للتسويق أو الماركتينغ كما يتم التداول، بل تختزل كل الأشياء الآن، فهي لرمز صنع نفسه وصنعته الأحداث، لبطولة ورومانسية ومثالية نادرة، لذلك الحلم الغامض الذي ظل يلفّ كل عقله فترك الوزارة وكان يردد ما كان انجلز يكتبه: “السعادة في النضال والتعاسة في الخنوع”. إن صورة جيفارا ليست مدفوعة الثمن، انها ملك مشاع لكل من يرغب للتمثل به أو إحياء ذكراه.

وحيث تمر اليوم الذكرى الثمانين لميلاده، فقد ولد في 14 يونيو/ حزيران 1928 (في روزاريو الأرجنتين) فإن حياته تبدو أكثر أهمية وآراءه أكثر إثارة وأحلامه أكثر طوباوية، لكنها مع كل ذلك لا تزال حيّة، تذكرنا بالمآسي التي نعيشها يومياً، وكأنها تردد “تباً لهذه الحياة التعيسة لنتحدى الموت” من أجل الحرية والكرامة والعدالة والمساواة، من أجل خير ورفاه البشرية ضد الاستبداد والاستغلال والظلم والعدوان، فليس ثمة حنين (نستالجيا) إلى الماضي، بل ان الحاضر هو أكثر بؤساً من الماضي حيث الحروب والحصارات والعدوان وهيمنة الغطرسة والاستعلاء، والانكسار والنكوص والأمل المستباح.

لقد بالغ بعض المثقفين “الثوريين” بدور جيفارا لكنهم بعد انهيار الاتحاد السوفييتي انتقلوا إلى الصف الآخر، الذي بالغ بموت الاشتراكية وحلمها الطوباوي الغامض، بل أخذ بعضهم يبشر بعصر الهيمنة الليبرالية الجديدة، والتي لا يجمعها جامع مع قيم الليبرالية الحقيقية التي تعلي من شأن الفرد ومن الحرية واحترام حقوق الإنسان، ومن دور السوق كعامل مؤثر في التطور.

وإذا كانت الاشتراكية قد سقطت أنظمة وتعرضت للاهتزاز أفكاراً، فهي بحاجة إلى مراجعة انتقادية جادة لمساراتها الفكرية والعملية، لاسيما الموقف من الدولة وتطورها وديكتاتورية البروليتاريا ودور الطليعة “الحزب” ونظرية التأميم الشامل والموقف من الحريات العامة والخاصة والتطور السلمي والتراكم والتدرّج وقناعة الرأي العام في بناء الاشتراكية، إذ لا يمكن تحقيق ذلك دون الديمقراطية، وكان لينين يردد من يعتقد أنه يمكن بناء الاشتراكية بطريق غير الديمقراطية، سيتوصل الى استنتاجات خرقاء ورجعية، كما ينبغي الاهتمام بدور الفرد والعامل النفسي، والموقف من الأقليات وحقوقها وحقوق المرأة والموقف من الدين والبعد القومي.

وإذا كان هذا أمر الاشتراكية، فالرأسمالية في وضع لا تُحسد عليه فقد دفعت أكثر من مليار و300 ألف إنسان إلى حافة الفقر حيث يعيش هؤلاء بأجور متدنية لا تزيد على دولار واحد في اليوم وهناك نحو مليار انسان يعانون من الجوع ونحو مليارين يعيشون في ظروف قاسية تقترب من خط الفقر، بل إن أسئلة كبيرة بحاجة الى إجابات وتحديد مسؤوليات عن تدهور البيئة والاحتباس الحراري وذوبان جليد سطحي القطبين الشمالي والجنوبي وتصحر الغابات، إضافة إلى شح الغذاء وارتفاع اسعاره، وتفشي الأمية والتخلف التي يعاني منها مئات الملايين، في حين يغرق بالتخمة عدد محدود من الناس على حساب الغالبية الساحقة من سكان المعمورة.

إذا كان اسم جيفارا يرتفع اليوم في سماء القارة الأمريكية الجنوبية بحلول ربيع جديد للديمقراطيات، في أعقاب الديكتاتوريات العسكرية والحكومات الموالية لواشنطن باسم الليبرالية الجديدة فإن شعوب هذه البلدان بدأت تنحاز بعد كوبا إلى فنزويلا، الأمر الذي يحتاج الى وقفة أخرى لمراجعة النواقص والثغرات الجدّية التي حملتها التجربة بما يعزز التوجه الديمقراطي والنموذج الاشتراكي القائم على الحرية والعدالة والرفاه، رغم الحصار الجائر الذي عاشته كوبا ما يزيد على أربعة عقود من الزمان.

لقد ظلّ صدى كلمات جيفارا يتردد: “لا يهمّني متى وأين سأموت، لكن يهمني أن يبقى الثوار منتصبين، يملأون الأرض ضجيجاً، كي لا ينام العالم بكل ثقله فوق أجساد البائسين والفقراء والمظلومين”.

ترافق موت جيفارا مع صعود حركة شعبية طلابية وعمالية في العراق في خريف العام 1967 لا سيما بعد عدوان يونيو/ حزيران ولعل موته كان يمثل نوعاً من أنواع الرمزية “فلن يكون لدينا ما نحيا من أجله، إن لم نكن على استعداد أن نموت من أجله”. هذه العبارات أعادتني الى أربعة عقود ونيف من الزمان، خال البعض أنها لا تعود، لكنها محفورة في الذاكرة ومنثورة في التراب وكأن اليوم متواصل مع الأمس.