الاتجاه الراديكالي اليساري: رؤية نقدية للتربية


أحمد جميل حمودي
2008 / 6 / 27 - 10:55     

لقد تعودنا أن نقرأ الأدب الماركسي من زاوية الفلسفة أو الفكر أو من زاوية علم الاقتصاد السياسي لكن قليلة هي البحوث التي تناولته من الزاوية التربوية,وهذا ما سنحاول إلقاء الضوء عليه في هذه المقاربة العاجلة.
لقد ظهرت عدد من المداخل والتصورات التي اتسمت بالمدخل التحليلي النقدي(الراديكالي) في علم اجتماع التربيةSociology Of Education وحاولت أن ترسم لها خطآ ثالثا بين محوري الاتجاهات النظرية-التقليدية- والتي تندرج تحت كل من البنائية الوظيفيةFunctionalist Constructivism أو الماركسية التقليديةclassical Marxist والتي يطلق عليها أحيانا المداخل الراديكالية Radical approach , والتي تسعى لإعادة تحليل الأفكار والتصورات العامة والأطر الأيديولوجية التقليدية التي سيطرت على العلوم الاجتماعية والفكر الإنساني التقليدي خلال العصر الحديث.
ويرى البعض أن معظم التيارات الراديكالية النقدية ترتبط بصورة أكثر بالمداخل الماركسية المحدثة, والتي سعت لتحديد كل من الإطار العام للماركسية التقليدية أو المحدثة بعد أن أخفقت الأخيرة نسبيا في معالجة قضايا علم اجتماع التربية ولم تعد تلاءم أفكار الماركسية التقليدية معالجة قضايا ومشكلات العصر الحديث ولاسيما بعد مضي قرن من الزمان على أفكار مؤسس هذه النظرية كارل ماركس .
فبعد هيمنة البنائية الوظيفية على حركة علم الاجتماع Sociology عموما وعلم اجتماع التربية خصوصا والتي انطلقت من رؤى وتصورات النظرية الوضعية والتي تميل إلى اعتبار علم الاجتماع أداة للمحافظة على النظام القائم كما يقول أوجست كونت- مؤسس علم الاجتماع الحديث- : " انك تدرس كي تضبط" ومن هنا فقد أبدع كونت مصطلح الاستاتيكا الاجتماعية Social static s ويعنى به دراسة المجتمعات الإنسانية في حالة استقرارها وباعتبارها ثابتة في فترة معينة من تاريخها.
ولعلنا نلمس هذا التوجه في الاستقرار الاجتماعي والمحافظة على الوضع القائم من مصطلح الوضعيةPositivism التي تعني الوقوف إيجابا من النظام الاجتماعي القائم والمحافظة عليه, وجاء من بعد كونت خلفه دور كايم ليرى أيضا - حسب كتاباته- أن علم الاجتماع يجب أن يكون له فوائد عملية والتي احدها علاج المشكلات الاجتماعية القائمة التي تحافظ في النهاية على النظام الاجتماعي القائم وتوازنه واستقراره. وحدد دور كايم احد سمات الظاهرة الاجتماعية بأنها جبرية! فليس الفرد حرا في إتباع النظام الاجتماعي القائم أو الخروج عليه. هذه هي فحوى الفلسفة الوضعية التي تنظر إلى جميع الظاهرات على أنها خاضعة لقوانين طبيعية لا تتغير. وجاءت من بعدها البنائية الوظيفية لترسي دعائم هذا الفكر وتصوراته , فهذه المدرسة تستخدم مفهوم البناءStructure والوظيفةFunction في فهم المجتمع وتحليله من خلال مقارنته وتشبيهه بالكائن العضوي فالبناء – حسب تالكوت بارسونز ابرز رواد هذه المدرسة- "هو مجموعة من العلاقات الثابتة نسبيا بين الأفراد" والوظيفة الاجتماعية هي الدور الذي يسهم به الجزء في الكل اذآ الثبات لا الحراك والاستقرار لا التغير والعلاقات الاجتماعية علاقات عضوية وظيفية وهي كما نرى محاكاة لقوانين الطبيعة.
من هنا جاء الفكر المناهض لهذه الوضعية مبكرا على يد كارل ماركس الذي أكد على مفهوم الطبقة الاجتماعية كمفهوم أساسي ومقولة تحليلية ورأى أن حركة المجتمع يحكمها قانون الصراع والتناقضاتContradictions ورأى في التغير الاجتماعي social change حتمية تاريخية " لقد درس الناس العالم على أنحاء عدة غير أن المهم هو تغييره". اذآ نحن أمام صراع وتجاذب بين أيدلوجيتين ideology مازالت تدور رحى هذا الصراع بينهما في أنحاء عدة من دول العالم أولاها الرأسمالية الصناعيةcapitalism وفي مقابلها الاشتراكية socialism .
لكن الماركسية التقليدية Marxist - كما اشرنا آنفا- لم تعد موائمة لأوضاع القرن العشرين ومنه ظهرت الاتجاهات الراديكالية- ممثلة في رواد مدرسة فرانكفورتFrankfurt school - في ألمانيا- نتيجة للظروف السياسية والأيديولوجية والفكرية والثقافية وظروف العصر المجتمعية عامة التي كانت موجودة خلال النصف الأول من القرن العشرين. فخلال فترة مابين الحربين العالمية الأولى والثانية ظهرت مجموعة من الشبان الباحثين في ألمانيا متأثرة بأفكار ماركس وكانت ولا تزال تعمل هذه الجماعة في معهد البحث الاجتماعي Institute of Research بمدينة فرانكفورت والتي سعت بصفة عامة لإعادة تقييم الفكر الماركسي وتحاول أن تخرج من هذا الفكر بتصور جديد يتماشى مع التيارات الفكرية الأخرى التي ظهرت في العالم الغربي الرأسمالي.
ومن أهم رواد هذه المدرسة ماركوزMarcuse واد ورنوAdorno وهركهايمرHorkheimer وفروم Fromm بالإضافة إلى هابرماس
Habermas الذي يعتبر الوريث الرئيسي المعاصر لتركة مدرسة فرانكفورت كما يعبر عن ذلك ايان كريب. ويرى ماركوز انه لم تعد الطبقة العاملة قادرة على قيادة عملية التغيير- ما دام النظام قد اشترى ولاءها أو استوعبها في إطاره- فان جماعات أخرى ...يمكن أن تكون الشرارة التي توقظ الآخرين كالمثقفين والطلاب والأقليات وأقطار العالم الثالث. وهذا ما يفسر شعبية ماركوز في الستينات فقد كانت حرب فيتنام وحركة الحقوق المدنية وثورة الطلاب كلها تثبت نظريته. لكنه لم تنطلق الانتقادات العامة لمدرسة فرانكفورت إلى الماركسية فقط بقدر ما ركزت هذه المدرسة على دراسة ونقد الرأسمالية بصورة مكثفة وهذا ما ظهر خاصة خلال فترة وجود رواد هذه المدرسة وإقامتهم في المنفى بالولايات المتحدة منذ عام 1933. فلقد سعوا لدراسة الواقع الرأسمالي بصورة عملية وواقعية والتعرف عن قرب على مشكلات الرأسمالية التي حددها ماركس منذ أكثر من نصف قرن قبل وفاته عام1883, وكذلك محاولتهم التمييز والتعرف على جميع مكونات مشكلات المجتمع الرأسمالي و توجيه الكثير من الانتقادات الجديدة إلى هذا المجتمع. ولا سيما عند دراسة الظروف التكنولوجية والثقافية والاقتصادية والأخلاقية والتنموية إلى حد أن تصوروا المجتمع الرأسمالي بأنه الطفل الغني الذي لا يمكن أن يكبر. لكن أهم ما ركزت عليه هذه المدرسة تحليلها لنسق العلاقات الاجتماعية ونوعية المؤسسات التربوية وعمليات التغير الثقافي وأنماط الحياة الاقتصادية والإنتاج الثقافي والاستهلاكي وأيضا دور النظام التربوي وعلاقته بالنظم الاجتماعية الأخرى. فلقد ركزت تصورات آراء هذه المدرسة على تحليل العملية الديمقراطية التي توجد في الولايات المتحدة بأنها ديمقراطية محدودة جدا هذا بالرغم من وضع هذا المجتمع واعتقاد أفراده وطبقاته الاجتماعية بأنهم يعيشون بالفعل في مجتمع ديمقراطي. ولقد ظهر هذا الاعتقاد نتيجة لدور المؤسسات التربوية والنظام التعليمي الذي كرس أساسا لإنتاج نوع من الشخصية الفرديةType of personality التي تشعر بالسيطرةDomination أو التبعية والخضوع subordination أكثر من شعورها بأنها تتمتع بخاصية الاستقلالية أو المساواة. في نفس الوقت يلعب النظام التربوي والمؤسسات التعليمية بخلق نوع من أنماط التفاعل التي تمجد بصورة عامة نوعية العلاقات الاجتماعية التي تأخذ طابع السيطرة والاحتكار من قبل مجموعة من الأفراد أو الجماعات على الأغلبية العظمى من أفراد الطبقات الاجتماعية.
وهذا بالفعل ما يسعى إليه طبيعة النظام التربوي في تشكيل وتحديد سلوكيات الشخصية الفردية بصورة مستمرة والتي تجعلهم (الأفراد) قدوة للانقياد السريع وسهولة السيطرة وتبعيتهم لنوعية النظام الاقتصادي والثقافي.
ولست هنا في معرض التأريخ النقدي للاتجاهات الراديكالية في علم اجتماع التربية فهو ليس مقامنا هنا إنما سأحاول عرض الأفكار الراديكالية المتصلة بالدور الاجتماعي للتربية مبتعدا عن التقسيم لأكاديمي الدقيق لهذا الاتجاه. فمع بداية السبعينات وفي بيئة الأزمة الشاملة التي أحاطت بالمجتمع الرأسمالي بكافة مؤسساته وقوضت كافة الآمال التي عقدت على إصلاح أحوال التعليم من اجل تحقيق العدالة الاجتماعية, بدأ انحسار هيمنة النزعة الوظيفية في مجال علم اجتماع التربية, وظهرت موجة من البحوث والدراسات النقدية التي وجه أصحابها معظم اهتماماتهم من خلال نظرة شاملة وعريضة إلى قضايا التعليم الكبرى باعتبارها جزءا من نظام اجتماعي واقتصادي اشمل, ومن ثم شهد علم اجتماع التربية خلال هذه الفترة سيلا من البحوث والدراسات التي عنيت بالأبعاد الاجتماعية والاقتصادية للتربية الرسمية التي تتولاها الدولة وترعى شؤونها.
من هذه الدراسات على سبيل المثال دراسات كل من مايكل يونج, بازل برنستين ,صمويل بولز ,هربرت جنتز, راشيل شارب, اندرو جرينو مايكل ابل, وهنري جيرو وغيرهم؛ (Michel Young:1971Basil Bernstein1977Samuel Bowles Hebert Gintis1976 Rachel Sharp and Andrew Green19975 Michel Apple1979 and Henry Giroux1983).
وكان من الطبيعي أن يبدأ الباحثون في إطار الاتجاه النقدي الجديد توجيه نقد عنيف لأصحاب الاتجاه الوظيفي وفكرة التعليم كآلية لتحقيق المساواة والحراك الاجتماعي, ونادوا بأن المدارس
ليست مواقع "بريئة" Innocent لنقل الثقافة اواماكن لتلقين القيم الاجتماعية التي يتفق عليها المجتمع كما لايمكن النظر إليها على أنها آلية التكافؤ العظيمة التي تعمل كنقطة انطلاق لتحقيق فكرة الجدارة والحراك الاجتماعيSocial Mobility. المدرسة على النقيض من كل ذلك- حسب أصحاب الاتجاه النقدي الجديد- تحافظ بطريقة مباشرة على الأوضاع الاجتماعية القائمة والراهنة للنظام الرأسمالي وتعيد إنتاجه ومن ثم تؤدي دورا أساسيا- بل سياسيا- في ترسيخ وتدعيم التفاوت الطبقي الاجتماعي في المجتمعات الرأسمالية.
ومع بداية نشاط البحوث النقدية باتت مفاهيم الطبقة الاجتماعية Social Class والايدولوجياIdeology والضبط الاجتماعيSocial Control والسيطرةDomination وإعادة الإنتاج Reproduction مفاهيم محورية في هذا الاتجاه النقدي الجديد.
ووجه الباحثون النقديون أهمية أساسية للسؤال المتعلق بإعادة الإنتاج : كيف تقوم المدرسة وعملياتها التعليمية بوظيفة إعادة إنتاج ومساندة علاقات السيطرة والقهر وعدم المساواة بين الطبقات في الأنظمة الرأسمالية المعاصرة؟ ..ومن المحاولات المبكرة والرائدة للإجابة عن هذا السؤال والتي أثرت تأثيرا بالغا في تغذية الاتجاه النقدي الناشئ بأفكار جديدة..محاولة الثوسيير. يجيب الثوسيير من منظور ماركسي بنيوي بأن ضمان إعادة إنتاج العلاقات الاجتماعية للإنتاج في المجتمع الرأسمالي هو وظيفة الجهاز الأيديولوجي للدولة الذي يمثل البنية العليا للشرعية السياسية والعقائدية. فأيديولوجيا الطبقة الحاكمة لا تصير ايديولوجيا مسيطرة بطريقة عفوية او حتى بفضل إحكام الطبقة الحاكمة قبضتها على زمام السلطة في الدولة ولاعن طريق استخدام جهاز العنف(الجيش,الشرطة...) لفرض سلطة الدولة وإنما عن طريق تلقين الأطفال منذ نعومة أظفارهم الأفكار وأصول السلوك المفضل وفقا للايدولوجيا المهيمنة.
وقد حذا باحثون آخرون حذو الثوسييرفي محاولة الإجابة عن سؤال إعادة الإنتاج ولعل من أبرزهم أصحاب مدرسة الاقتصاد السياسي إذ ذهب أصحاب نظرية الاقتصاد السياسي بداية من العمل القيم لصمويل بولز وهيربرت جينتز (1976) في تفسيرهما لعملية إعادة الإنتاج إلى أن أهمية المدرسة في عملية إعادة الإنتاج لاتكمن في مناهجهم المدرسية ولافيما تعلمه من معارف ومهارات وإنما تكمن في بنية التنظيم الاجتماعي للمدرسة نفسها 0 وفي قلب هذه التحليلات ما يطلق عليه بولز و جينتز مبدأ التناظر Correspondence principle الذي يشير إلى أن العلاقات الاجتماعية للمدرسة تعكس على نحو دقيق العلاقات الاجتماعية لمواقع العمل والمحصلة النهائية لهذا التناظر أن المدرسة تقوم بإعادة إنتاج التنظيمات الاجتماعية الطبقية المطلوبة لعمليات إنتاج رأس المال ومؤسساته وإضفاء الشرعية عليهما0
وعلى نقيض أصحاب مدرسة الاقتصاد السياسي ذهب بيير بورديو ( Pierre Bourdieu 1979) إلى أن الثقافة تمثل الوسط الرئيسي الذي يتم به ومن خلاله عملية إعادة إنتاج بنية التفاوت الطبقي الاجتماعي في المجتمعات المعاصرة فالانسقة الرمزية الثقافية هي الآليات الأساسية الفاعلة في عملية إعادة إنتاج علاقات القوى والنفوذ السائدة بين جماعات او طبقات المجتمع 0ويشير حسن البيلاوي إلى انه باكتشاف بورديو لحقيقة السيطرة الثقافية من قبل الطبقات المسيطرة اجتماعيا على النظام التربوي وبمواصلة عملية التحليل البنيوي لبنية العلاقات الثقافية داخل النظام التربوي نفسه استطاع ان يضع يده على آليات النظام التربوي التي بها ومن خلالها يقوم النظام التربوي بأداء وظيفته في المحافظة على بنية الثقافة والمجتمع القائم.
ومن أهم هذه الآليات :
أولا: بنية العلاقات الاجتماعية التي تتم من خلالها عملية الاتصال التربوي وقد أطلق عليها بورديو علاقة الاتصال البيداغوجيCommunication Pedagogical
وثانيا : السلطة التربوية Educational Authority داخل المؤسسة التعليمية بوصفها صاحبة القرار المنفذ للعنف الثقافي
ثم ثالثا: الامتحانات وعمليات تقويمEvaluation التلاميذ.
ومن هذه الأخيرة ذهب بورديو و باسرون الى انه لاشيء يخدم النظام القائم اكثر من الاختبارات التي لا يرقى اليها الشك او العيب والتي قد تدعي قياس قدرة الشخص عند نقطة معينة من الزمن على القيام بوظائف مهنية معينة, وإنما ننسى أن هذه القدرة مهما اختبرناها باكرا في حياة الفرد إن هي الا حصيلة التعليم والتعلم بأوصاف اجتماعية معينة .كما أننا نغفل أن المقاييس الأكثر قدرة على التنبؤ هي بالضبط المقاييس الأقل حيادية من الناحية الاجتماعية. والواقع أن الامتحان ليس فقط عبارة عن أوضح صيغة تتجلى فيها القيم الأكاديمية والخيارات الضمنية التي يحتويها النظام - عن طريق فرض تعريف اجتماعي للمعرفة جدير بالتقدير الاجتماعي مع تبيان كيفية إظهار تلك المعرفة- بل إن الامتحان هو إحدى الوسائل الأكثر فعالية من اجل تشريب الثقافة المسيطرة . وقد عبر ماركس عن نمطية الاختبارات بأنها( تعميد ) للمعرفة معمودية بيروقراطية والاعتراف الرسمي بنقل المعرفة المدنسة مما هي عليه وتحويلها إلى معرفة مقدسة.
وقد تتابعت الرؤى النقدية "الراديكالية" للتربية تترى, فظهرت نظرية الحرمان الثقافي Theory of Cultural Deprivation والتي ركزت في تصوراتها على دراسة الثقافة الفرعية Sub-Culture للطبقات العاملة. إن نظرية الحرمان الثقافي بدأت مع فهم أن الطبقة العاملة لها ثقافة مختلفة عن الطبقة المتوسطة ومن ثم لوحظ أن الطبقة العاملة يحصّلون جودة اقل في التعليم .
وهذا ما جعل نظرية الحرمان الثقافي تقدم على تحليل الدور الوظيفي للمؤسسات التربوية ومخرجات العملية التعليمية وذلك عن طريق استخدام المداخل الراديكالية لتحليل هذه الأدوار والمخرجات وانعكاسها العام على الثقافة العامة في المجتمع الحديث. وتنسب نظرية الحرمان الثقافي الأسباب الأولى للفشل التعليمي educational fail إلى كل من الطفل وأسرته وجيرانه وبيئته المحلية والثقافة الفرعية التي تنتمي إليها جماعته الاجتماعية! وهذا مايمكن أن يطلق عليه الطفل المحروم ثقافيا culturally deprived child وذلك نتيجة لنقص عمليات تعليمه المهارات اللازمة واكتسابه القيم والاتجاهات التي تعتبر ذات قيمة هامة في عمليات الالتحاق التعليمي فالبيئة المحيطة بالطفل لايمكن أن يطلق عليها بأنها بيئة فقيرة فقط من الناحية الاقتصادية ولكن يطلق عليها بالبيئة الفقيرة ثقافيا والتي تشمل أنماطا متعددة من الفقر والحرمان والذي يتمثل في الحرمان اللغويDeprivation linguistic والخبرةExperience والمعرفةKnowledge والشخصية Personality ومجموعة السلوكBehavior والقيم Values والاتجاهاتAttitudes والمعاييرCriteria . ومن منظور نقدي ركز أصحاب نظرية الحرمان الثقافي على تفنيد الآراء المثالية الليبرالية المرتبطة بفكرة المساواة في فرص التعليم والتي تنطلق من أن عملية إعطاء الفرص المتساوية لجميع التلاميذ والطلاب سوف تتيح لهم فرص عادلة تسمح عموما بتنمية مهاراتهم وقدراتهم وحصولهم على الفوائد الاجتماعية والثقافية الناتجة عن حصولهم على الشهادات بعد تخرجهم من مؤسساتهم التعليمية. لكن أصحاب نظرية الحرمان يرون نقيض ذلك حيث لم ينجح النظام الثانوي في الولايات المتحدة وبريطانية - على سبيل المثال- من تقديم فرص المساواة التعليمية لجميع الطلاب ولاسيما أن هذا النظام نفسه يعكس نوعا من الحرمان الثقافي الذي يمنع الطلاب من الالتحاق به ولا يحقق أهدافه الأساسية ألا وهي المساواة للجميع في فرص التعليم . وهذا ما يجب تغييره وتحديثه بصورة سريعة وطبقا لذلك رأت تصورات نظرية الحرمان الثقافي أن عملية المساواة للفرص التعليمية تكون واقعية عندما يتم تعويض Compensating الحرمان الثقافي والنقص التعليمي لدى الطبقات الفقيرة أو قليلة الدخل ومن ثم يجب إعطاء فرص لأبناء هذه الطبقات والتحاقهم بالمراحل التعليمية المختلفة حتى تصبح هذه الفرص متاحة للجميع من أبناء الطبقات الاجتماعية دون استثنائها وتحديدها على الطبقات الغنية والمقتدرة اقتصاديا. وهذا ما جعل أنصار نظرية الحرمان الثقافي تستخدم مفهوم التعليم التعويضي Compensating Education والذي يشير الى أنواع إضافية من التعليم التي يجب ان تقدم للتلاميذ المحرومين ثقافيا .
وعموما يجب أن تتم مرحلة التعويض التعليمي بدءا من مرحلة رياض الأطفال Kinder Garten. وعلى الرغم من حدوث تطورات جوهرية –منذ أواخر الستينات – في نظم التعليم في الولايات المتحدة والعديد من الدول الأوربية الرأسمالية, والتي ركزت في معظمها على وضع سياسات وبرامج تعليمية تعويضية لأبناء الطبقات الفقيرة إلا أن هذه البرامج لم تجني ثمارا كاملة وذلك لان معظم البرامج التعليمية التعويضية غابت عنها الخطط البعيدة المدى مما جعلها غير قادرة على تحقيق أهدافها بصورة مستمرة .وهذا بالفعل ما أيدته دراسات كل من مارتن دوتيسن Deutsh. M وكالدويلCaldwell ولابوف labov ومورتنMorton وواطسونwatson بالإضافة أيضا إلى برنستين Bernstein .ولقد انتقد هذا الأخير- برنستين بازل Basil Bernstein- فكرة التعليم التعويضي بطرح أن المدارس تعكس اللامساواةInequality في المجتمع. ولذا ركز على أهمية ألا يكون التعليم التعويضي سببا رئيسيا في إلقاء اللوم على الحرمان الذي افتقده التلاميذ على أسرهم او على التلاميذ أنفسهم بقدر ما يجب أن يوجه هذا النوع من التعليم إلى مضمون التعليم ذاته داخل المدرسة. ولعل هذا أهم نقد وجّه إلى سياسات التعليم التعويضي أننا نقول بان أبناء الطبقة العاملة يحصّلون جودة اقل في التعليم وبعد ذلك ننتقل للَوْم الضحايا على فشلِهم الخاصِ! بدلا من البحث عن العوامل التي أوصلتهم لهذا المستوى من التحصيل الدراسي.
وانطلاقا من مفهوم رأس المال الثقافي Capital Cultural يوضح بورديو طبيعة العلاقة بين الحصيلة السابقة على المدرسة للتلميذ المرتبطة بنوع الطبقة التي ينتسب إليها وبين عملية النجاح التي تتم في المدرسة بان ذلك يعتمد أساسا على السنوات العمرية والتأهيلية التي سبقت عملية الالتحاق بهذه المراحل, ولاسيما أن النظام التربوي في المدرسة بني على أساس هذه الفكرة, وهذا ما يجعل عملية التربية والتعليم تشكل حسب نوعية التعليم الأولى والمعرفة الأولية السابقة على دخول التلاميذ المدارس الفعلية, وهذا ما يعكس عموما عمليات التفوق الدراسي للتلاميذ من الطبقات العلية المالكة للثقافة بأنها تفسر- من خلال امتلاك طبقتهم التي ينتمون اليها- إلى رأس المال الثقافي .
وهذا ما يفسر- حسب بورديو- الأسباب التي توضح لماذا يتفوق ابناء الطبقات العليا على أبناء الطبقات المتوسطة او الطبقات الأخيرة على الطبقات العاملة .ولذلك نرى أن كارنوي يحمّل سياسات التعليم مسؤولية الإخفاق الدراسي لدى أبناء الطبقات الفقيرة فهو يرى ان سياسات التعليم موجهة لتعليم فئة محددة, وتنمي لديهم عمليات تقدير الذات والاهتمام بالتنشئة الاجتماعية والشخصية الفردية لديهم .علاوة على أن مشكلة التسرب من المدارس في الدول النامية ناتج عن العائد السلبي لهذا النظام التعليمي ، خاصة وان أبناء الطبقات الدنيا هم الأكثر رغبة في ترك المدرسية ، حيث تصل نسبة المتسربين منهم إلى 60%في العام الدراسي الثالث ، كما إن نسبة 40 %فقط من أبناء هذه الطبقات هي التي تشعر أو تتمتع بتقدير الذات والاعتماد على النفس .
وبإيجاز إن أبناء الطبقات الأغلبية الفقيرة هم الأكثر فشلا في النظام التعليمي والتمتع بفرص الحياة الاقتصادية والاجتماعية نتيجة إستراتيجية هذا النظام الموجه إلى أبناء الطبقات العليا .وهذا ما يعكس -عموما- العلاقة المتبادلة بين مشكلة التسرب ومشكلة الحراك الاجتماعيSocial Mobility حيث ان هناك علاقة سلبية بين التعليم واكتساب المهن لان الحراك يتميز بأنه حراك أفقي لارأسي بمعنى أن ينتقل ابناء الطبقات الفقيرة للحياة في المدينة بدلا من الريف ، والعمل في المصنع بدلا من الأرض دون تحقيق مكاسب اقتصادية كبيرة, نتيجة للدخول المتدنية التي يتحصل عليها هؤلاء الأفراد من مهنهم المتواضعة. وهكذا نرى أن كارنوي بشكل غير مباشر يبين العلاقة الوثيقة بين نوعية التعليم ونوعية المهن وعلاقة كل منهما بالطبقة الاجتماعية كما سنبين في بحثنا في إطار توضيح علاقة الاستبعاد الاجتماعيSocial Exclusion بنوعية التعليم .
ومما يدعم رؤية أن التباين في الفرص التعليميةinequality in educational opportunity ناتج عن الخلفية الطبقية للتلاميذ ما ذهب إليه جون فيزي vazy.j من انه بعد التحاق أبناء الطبقات المحدودة الدخل والفقيرة بالمدرسة سرعان ما يبدأ استمرارهم بالمدرسة يتقلص ويقل تحصيلهم الدراسي بصورة أكثر وضوحا من تحصيل الأبناء الغنية بل وتعمل غالبية الأنظمة السائدة في المدارس على تعميق هذه الفوارق الطبقية .
وهكذا نرى انه قد تعددت المداخل الراديكالية, فلقد عبرت آراء الثوسيير عن رؤية فلسفية وضح فيها أن إعادة الإنتاج للعلاقات الاجتماعية هي الوظيفة الأيدلوجية للدولة عن طرق مايسمى بالمنهج الخفي أو المستتر, وجاءت تصورات بورديو لتتناول نظرية إعادة الإنتاج من مدخل ثقافي, وعكست تصورات كل من بولز وجينتز رؤية حديثة لأصحاب الاقتصاد السياسيPolicy Economy لقضية إعادة الإنتاج لقوة العمل, وأخيرا عبرت تحليلات كارنوي من منظور سياسي وبالتحديد من منظور العلاقات الدولية.... لكنه من المؤكد أن التوجهات الراديكالية بجميع فصائلها أكدت أن نظام التعليم ليس نظاما حياديا بالنسبة لجميع الفئات والطبقات الاجتماعية وليس هو حياديا بالنسبة لمن يلتحق به ويحظى بمنافعه او لايلحق به او يتسرب منه وليس حياديا كذلك فيما يكوّن من ولاء وانتماء وثقة بالنفس وأخيرا فانه ليس حياديا في وظيفته التوزيعية التي يتم بواسطتها أساسا توزيع الأفراد على مواقع العمل والإنتاج او على مجالات العمل اليدوي والعمل الذهني. وهذا يذكرنا بالمقولة الشهيرة للمربي باولو فريري "لا يوجد تعليم محايد فهو إما للقهر أو للتحرير"
بعد هذا العرض السريع لرؤى علماء اجتماع التربية ذوو الاتجاه الراديكالي وفي إطار سياسات إعادة الهيكلة والخصخصةSpecialization التي تبنتها الحكومات العربية في ظل سياسات العولمة نتساءل لنقول هل ما ذهب إليه أصحاب الاتجاه الراديكالي في علم اجتماع التربية تحقق ؟
التحديات الرئيسية لسياسات التعليم في إطار العولمة :
تطرح الأنماط الحالية للعولمةGlobalization إمكانيات ايجابية وسلبية على السواء لسياسات التعليم. ومن بين المسائل الرئيسية ما يلي: من الذي يحتمل أن يستفيد من الفرص الايجابية المتاحة, ومن الذي يحتمل ان يكون من الخاسرين؟ وما الذي يحتمل أن يحدث بالنسبة للفروق والفجوات الموجودة Gaps بالفعل في توصيل الخدمة التعليمية, ولا سيما بين من يملكون ومن لا يملكون؟ ما الغرض من التعليم في العصر العولمي الجديد وكيف نحكم على النجاح والفشل؟ واتصالا بهذا السؤال الأخير ما المعايير التي ستستخدم لتحديد نوعية التعليم؟
إننا نواجه خطرا وتخوفا من أن تزداد الفجوة بين الفئات المختلفة من المتعلمين بطريقة لا رجعة فيها مما يؤدي إلى شلل الفئات الأخيرة, في نفس الوقت الذي يلاحظ فيه ان فرصة الحصول على الثروة والدخل المتراكمين او الحصول على التعليم والمهارات المهنية القابلة للانتقال والتسويق هما "الفضيلتان" الوحيدتان المسلم بهما في السوق العالمية التي تزداد سيطرة وانتشارا. وفي الوضع الذي توجد فيه بالفعل فجوة واسعة يبدو انه لا سبيل الى علاجها بين من يملكون الثروة والدخل ومن لايملكونها! ويشير تقرير دايلور أن احد التوترات الرئيسية في القرن الحادي والعشرين هو التوتر بين الحاجة إلى التنافس وبين الحرص على تكافؤ الفرصopportunity equity .
والواقع انه حتى اذا كانت الأنماط والعمليات السائدة حاليا للعولمة لم تكن قد أعطت الأولوية للتعليم الثانوي والعالي, واذا كانت فكرة السلع العامة والخاصة لم تتغير هذا التغيير الهائل لصالح السلع الخاصة, فقد كان هناك بالفعل فارق هائل بين من يملكون ومن لا يملكون. وقد سبق هذا الاعتراف بهذا "التقارب في الضرر" منذ قرابة العقدين في مؤتمر جوميتين بتايلاند(1990) تحت عنوان "التعليم للجميع"Education For All فحتى في ذلك الحين كان هناك تسليم بان تعليم الأميين وأنصاف الأميين في العالم سيظل تحديا جسيما لسنوات طويلة في القرن القادم.
أما الآن وفي سياق العولمة الجارية فان التحدي المتمثل في انجاز التعليم الابتدائي للجميع أصبح اكبر مما كان وربما كان الأهم من ذلك انه حتى لو حدث ما هو مستبعد من تحقيق التعليم للجميع في الموعد المحدد وهو سنة 2015الذي اختارته " لجنة المساعدة الإنمائية التابعة لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية" فلن يكون ذلك كافيا لاحتياجات المرحلة الجديدة وذلك لان التعليم الابتدائي في حد ذاته لم يعد يكفي للحصول على عمل كريم ومحقق للاحتياجات. وهذا يعني أن التعليم غير معني بنسب الالتحاق وإنما معني في الموقف الأول بتحقيق عدالة الموقف التعليمي وضمان ان كل طفل يتاح له فرصة التعليم بالشكل الذي يلاءم قدراته وأسلوبه في التعلم. فالاهتمام بالتواصل مع الأطفال من خلال الاعتراف بالفروق الفردية والأساليب المتنوعة هو خير ضمان التعليم.
وانطلاقا من الرؤى الراديكالية النقدية نطرح التساؤلات التالية:
من المسئول عن حدوث هذا التدني في نوعية التعليم وبالتالي على مخرجاته(بالمعنى الشامل)؟ هل هو جراء ما يحدث من عمليات استقطاب اجتماعيSocial polarization متمثلة في ظاهرة الدروس الخصوصية...؟ فقد تبين أن 80% في مصر من الطلاب المنحدرين من اسر فقيرة يحصلون على درجات منخفضة في امتحان الثانوية العامة في حين ان 50 % فقط من أبناء الأسر الغنية يحصلون على درجات مرتفعة.
أم أن المسئول عن ذلك سياسات "الإصلاح" الهيكلي وعمليات الخصخصة؟ التي لهفت وراءها معظم الأنظمة العربية والتي أدت إلى انحسار دور التعليم في إحداث النقلة الاجتماعية للشرائح المحدودة الدخل, ويلاحظ أيضا أن الاتجاه نحو التعليم قد ارتبط بالتوسع الشديد في التعليم الخاص والأجنبي في ظل إعادة هيكلة الاقتصادRestructure ( في غالب الدول العربية) لصالح الرأسمالية العالمية والقوى الاجتماعية المتحالفة معها. وبشيء من اليقين إن وجود طبقات اجتماعية متباينة ذات إمكانيات اقتصادية متفاوتة قد أدى إلى ظهور مؤسسات تعليمية مختلفة سواء في تكلفتها او في جودتها, وعليه فقد أصبح كل نمط من التعليم بمؤسساته يستقطب أبناء الطبقة المقابلة, والعكس صحيح بمعنى أن كل طبقة اجتماعية خلقت لنفسها نوع التعليم الذي يتماشى مع مصالحها الاقتصادية وأوضاعها الاجتماعية.
أم أن المسئول عن ذلك تحديات العصر والتي أبرزها تكنولوجيا المعلومات؟ فينبغي ان نشير
إلى أن تمكين الشباب في مجال تكنولوجيا المعلومات والاتصالاتCommunication & Information Technology يرتبط بشدة بفرص التعليم المتاحة أمامه في التعليم الجامعي
ومعنى ذلك أن أعدادا كبيرة من الشباب الذي لم يحصل على فرصة التعليم الجامعي لا يستفيدون من هذه التكنولوجية المتقدمة والتي تعد أساسية اليوم في مجال تعليم الشباب وتنمية اتجاهاتهم نحو الاعتماد على الذات والثقة بالنفس واكتساب مهارات مناسبة للعصر الرقمي الذي نعيش فيه.
على كل حال الدراسات الامبيريقيةEmpirical والتحديات التي اشرنا إليها في إطار العولمة تؤكد ما ذهب إليه منظّري الاتجاه الراديكالي في علم اجتماع التربية.