راهنية الإشتراكية

عادل سمارة
2008 / 5 / 2 - 12:05     


لا يحتاج الحديث عن ضرورة الإشتراكية الرجوع إلى المناخات الإجتماعية الإقتصادية في العالم التي تولد معها البحث عن خيار بديل لأنماط الإنتاج السائدة في تلكم الأزمان بما في ذلك راسمالية القرن التاسع عشر، ومن بينها بشكل خاص تولد الإشتراكية بمضمونها العلمي مجسدة في تحليلات ماركس لنمط الإنتاج الراسمالي والطبيعة الإستغلالية لعلاقات الإنتاج الإجتماعية المتولدة عنه.
من يقرأ واقع المجتمع البشري في هذه الحقبة، يمكنه أن يصل إلى وجوب تغيير النظام الإقتصادي الإجتماعي الراسمالي القائم، بغض النظر عن تسمية النظام المطلوب، ( إشتراكي، تنمية بالحماية الشعبية، تعاوني، الإشتراكية التشاركية، ما بعد راسمالي، اشتراكية القرن الواحد والعشرين ... أو غير ذلك). فما هو قائم يوجب التغيير دفاعاً عن الحياة اليومية للناس وعن استمرار النوع البشري، ناهيك عن كرامة الإنسان نفسه.
ألا يحتاج النظام الراسمالي المهيمن على العالم اليوم إلى تغيير ومئات ملايين العاطلين عن العمل والأميين، والذين يعيشون فقراً تحت خط الفقر، والذين يُقتلون بأعداد مرعبة يومياً في مختلف بقاع العالم، علماً بأن المصالح الطبقية للتحالف الطبقي التراتبي الحاكم هي الكامنة وراء كل هذا ووراء تزايده الملحوظ.
لا يندرج هذا الحديث، او على الأقل ليس هذا ما أرمي إليه، في سياق الدعاوى الخيرية، ومناشدة أهل الخير أن يلطفوا بأهل الجوع، بل هو حديث يشير بوضوح إلى أن ما يكمن وراء هذا الخلل الهائل في البنية البشرية للنظام العالمي، خلل يتجلى في القفزات التكنولوجية الهائلة، عصر المعلومات، والإنترنيت، والإلكترونيات، والإنسان الآلي، والمتاجرة الألكترونية...الخ إلى جانب الجوع، ووحشية القتل الرسمي بقرارات دول أو حتى الأمم المتحدة، إن ما يكمن وراء هذا كله هو المبنى الطبقي لراس المال. بكلمة أخرى، فإن الراهن العالمي موجب للتغيير بنظام لا طبقي.
الحرب هي المنافسة المسلحة. هي الإحتكام بالسلاح عند الفشل في تقاسم السوق حينما لا تعود القوة الإقتصادية هي الفيصل في حسم الأمور. فالحرب هي صناعة راس المال هي مكون اساسي في النظام الرأسمالي. الحرب مشروع رأسمالي منذ بدء الإستعمار وصولا إلى العولمة. لقد عبَّر جوزيف شومبيتر عن ديناميك النظام الرأسمالي وخاصة فيما يتعلق بالتكنولوجيا المتقدمة والسلطة المحلية، ب "التدمير الخلاق"، بمعنى ان البنى القديمة للأعمال تتدمر على يد التطور وتطبيق تكنولوجيات جديدة، في بحثها عن "احتكارية جديدة" رغم انها مؤقتة. تخيل مؤيدو شومبيتر أن نبوئته قد تحققت بالإقتصاد الجديد اي بعد نصف قرن، حيث تمكنت القفزات التكنولوجية الكمبيوترية والإلكترونية والإتصالات (تكنولوجيا المعلومات) من تثوير بنى الأعمال على صعيد العالم. فالشركات الجديدة للتكنولوجيا المتقدمة برزت لتتحدى عمالقة "الإقتصاد القديم" وأدت المنافسة إلى تقويض التواطؤ القائم ففقدت الحكومات سريعا مستوياتها الأمرية متبنية للتقدم التكنولوجي وللمستهلك ذي القوة الهائلة. لكن حقيقة الأمر كانت مختلفة على المستوى الإجتماعي الطبقي وبنية الشركة، فما زالت الشركة الكبرى متحكمة، ومهمينة، بل تمخض مع الإقتصاد الجديد تكوين شبكة شركاتية عالمية أوسع وأكثر تواصلا وتماسكاً وتم تسخير الدولة لحماية ذلك والحرب من أجله، وهو ما نسمية "القطاع العام الدولاني الراسمالي المعولم". لقد تحكم الإنسان بالآلة والتكنولوجيا والعلم، فهو خالقها، وبما اننا في حقبة الرأسمالية، فقد جعل منها شياطيناً. وهنا الجانب الذي تحقق من أطروحة شومبيتر، حيث تولدت في الولايات المتحدة المحافظية الجديدة neo-conservatism التي استخدمت شيطان التكنولوجيا "والتدمير الخلاق" بصيغة جديدة حملتها كونداليزا رايس إلى الوطن العربي لتدمير وتفكيك البنى السياسية رافعة سياسة "فرق- تسد" إلى تركيز المركز وتفكيك/تذرير المحيط".

فهل مستقبل الوطن العربي هو الراسمالية؟

وكما لا تليق الحروب بالإنسانية لا يليق بهذه الإنسانية تحويل الناس إلى أفواه آكلة وحسب، وتحكم النزعات والغرائز بالعقل الجمعي للناس، وانتصار الإستهلاكية على الكفاية والإنتاجية. كما لا يليق بالبشرية سيطرة نصفه "جنس على الجنس الآخر"، احتلال الرجل للمرأة. وبغض النظر عن هفوات وكوارث البيروقراطية السوفييتية ومحيطها السابق، فإن الإشتراكيين، ومن ثم التجارب الإشتراكية هي التي بدأت إلى جانب النضال النقابي ، النضال لمساواة الجنسين، بغض النظر عن مدى النجاح في ذلك. ترتكز سيطرة الرجل على المرأة على أن الرجل هو المالك الفعلي، هو الراسمالي "كنظام وقانون سلطة". وعليه، هل لا تجد المرأة حريتها في الإشتراكية أو مدخل هذه الحرية؟
وحتى الأديان تم تطويعها لصالح رأس المال، فتمكنت الراسمالية من احتلال الدين، وتسخيره لتبرير الحروب الإستعمارية بصيغ التبشير. وحين تدنى معدل الربح واتسع جيش العمل الإحتياطي، تم تسريح النساء من العمل إلى البطالة والعمل الجزئي، واستُنطق الدين ليقول: "إن المرأة الطيبة هي المرأة الكاثوليكية التي تجلس في البيت مع الأطفال وترضعهم". وحقيقة الأمر ان العمل المنزلي، وخاصة الإنحصار مع الأطفال لأوقات طويلة، أو طوال العمر للمرأة الشرقية "غالباً" هو مصدر لاستدخال الإنسان درجة هائلة من البلاهة! فكيف لا تكون المرأة مع الإشتراكية إذن.
لم تنحصر هيمنة السلطة الراسمالية على مستوى الجنسين، بل امتدت إلى احتلال المجتمع المدني حيث اصبحت مؤسسات المجتمع المدني في حالة من التدجين بحيث تتعايش مع تغول راس المال والخضوع للإستغلال. وحتى الحزبية، اصبحت في مركز النظام العالمي مثابة عملية تبادل السيطرة والسلطة والتحكم وتثبيت وتعميم الهيمنة ليس أكثر. فتمكنت أحزاب السلطة من إغلاق الباب خلفها، بمعنى خلق بيئة لا تسمح بان ينبت فيها حراك حزبي منافس، اي مناقض للإيديوجيا السائدة. ولم يختلف الأمر في بلدان المحيط حيث هيمنت طبقة الكمبرادور وتحولت الأحزاب إلى أحزاب سلطة وليست أحزاب ثورة. وعموماً انحط النموذج الحزبي القديم، ولم يتطور أو يرتقي من حزب يحكم الطبقات الشعبية أو يحكم باسمها، إلى حزب يجب ان تقوده الطبقات الشعبية عبر برلمان شعبي يرسم الخطوط العريضة للحزب، لا يكون مجرد متلقي لأوامر الحزب من الأعلى سواء كان الحزب في السلطة أم خارجها .

في مناخ الهزيمة هذا واستدخالها على نطاق تنظيمات باسرها، تحول الكثير من الحركات الشيوعية والماركسية والإشتراكية إلى جزء من الإنسداد في العمل الثوري. وخطورة هؤلاء أنهم واعظون بلغاء ضد الإشتراكية لأنهم أتوا من معسكرها فباتوا، في ارتدادهم، كما الكرة المرتدة التي غالباً ما تسجل هدفاً. ألا يستدعي هذا حزبية جديدة؟
مرة أخرى، لماذا عالم اليوم ليس مقبولاً؟
أليست البيئة في خطر؟ ألا تقود الولايات المتحدة سياسة تخريب الطبيعة وتلويث البيئة عالمياً وترفض مجرد الشروع بضبط هذا الإنفلات الجشع؟ أليس هناك استغلالاً لعمال يعملون عشرة وحتى ست عشرة ساعة في اليوم؟ أليس هناك 800 مليون شخص تحت خط الفقر، واي خط دولار أو دولارين في اليوم! أليست هناك حروباً تفني أمماً بأكملها كما في العراق وأفغانستان؟ أليس هناك نفاقاً رسمياً على صعيد عالمي يزكي هذا العدوان ويساهم فيه لتحصل برجوازياته على فتات المساعدات الأميركية؟ أليست هناك ثقافة الإستهلاكية التي تُطعم القطط ما لا يجده الأطفال وحتى الطبقات الوسطى في المحيط؟ أليس التبادل الإقتصادي أو التجارة الدولية حرة باتجاه واحد من المركز إلى المحيط؟ ألا يغرق المئات من عمال المحيط وهم يحاولون وصول شاطىء "جنان الخلد" في أوروبا ويموتون في الصحراء بين المكسيك وأميركا رغم اتفاقية (اف تي إيه).

وباختصار، وفي الألفية الثالثة، هل يحدد الناس مصيرهم وحريتهم؟

وتكتمل الدائرة حين وصل العالم إلى خلق المؤسسات المالية الدولية التي تفرض طاعتها على مختلف بلدان العالم، كما يفعل "مطاوعة" الصلاة في السعودية، وخاصة المحيط. فالبنك والصندوق الدوليينن وضمن حملة الإجهاز على بقايا النظام الإشتراكي، يؤكدان في كل خطوة على تقديم مختلف حكومات العالم كافة التسهيلات للقطاع الخاص، وهو الإسم الملطف لقطاع الإستغلال والنهب. أما منظمة التجارة الدولية، فمن مساهماتها "حق" الملكية الفكرية، أي وجود مؤسسة تبزل الريع من المحيط إلى الأبد.

لقد تمت في حقبة العولمة تصفية القطاع العام من معظم البلدان التي أنشأت هذا القطاع بما هو حلقة وسطى بين هيمنة القطاع الخاص وبين سياسات التأميم الحقيقية. وبالتالي، اصبحت البطالة الموسعة ظاهرة عادية، وهي نصيب غير "المحظوظين" أو "الكسالى". وعليهم الرضى بذلك.
رغم المحاولات الحثيثة للعديد من بلدان المحيط اللحاق راسمالياً، إلا أن الإستقطاب حال دون ذلك. فلا يمكن للراسمالية المتقدمة في المركز أن تتخلى عن الإستقطاب، الأمر الذي جعل من "القرية العالمية" مجرد نفاق وتلاعب. فهذه القرية طبقاً لحقبة العولمة مقسمة إلى "حي الأغنياء وحي الفقراء" ولا سبيل للفقراء أن يصلوا حي الأغنياء.
يُعطي الإستقطاب للشعار التلاعبي "تحرير التجارة الدولية" معناه الحقيقي. فالإستقطاب هو الذي يسمح بتدفق سلع وراسمال وخدمات وحتى عمال المركز إلى المحيط (الخبراء ذوي الأجور الفلكية مثلا 1000 دولار يومياً). في حين يسمح للمحيط بتصدير ما لا ينتجه ولا يملكه إلى المركز أي السلع والخدمات ورأس المال. لكنه يمنع عمال المحيط من التدفق إلى المركز فلا يصلون في غالب الأحيان إلا جثثاً.

فهل ألإشتراكية في غير صالح المحيط؟

بغض النظر عن الإختلاف في توصيف العولمة، حقبة أم امتداداً لحقبة العولمة، فإن بنية طبقية عالمية هي قيد التكوين. بنية ذات مراتبية طبقية/دولانية في نفس الوقت. تقف على قمة الهرم الطبقة/السلطة في الولايات المتحدة، وتتمفصل منها الطبقة/السلطة في الثلاثي الإمبريالي اي الإتحاد ألأوروبي واليابان، ومنها تتمفصل الطبقة/السلطة في مختلف بلدان المحيط. وفي المعسكر الآخر، يجري تفكيك المبنى الطبقي للطبقات الشعبية على صعيد عالمي. فالطبقة العاملة في الولايات المتحدة تنقسم إلى ثلاثة "أجزاء" متباعدة عن بعضها البعض:
طبقة عمال الإقتصاد الجديد
طبقة عمال الصناعات التقليدية
طبقة عمال قطاع الخدمات المتضخم.
ولا يختلف الأمر كثيراً في اوربا واليابان.

أما في بلدان المحيط، فيتم الإنقسام نسبياً إلى طبقتين:
ـ طبقة العاملين في الشركات الأجنبية التي جلبتها التسهيلات وجلبت معها الإستثمار الأجنبي المباشر
ـ وطبقة العمال المحليين.
الأمر اللافت ان الطبقات الشعبية على صعيد عالمي ليست لها أمميتها ولا حركتها العمالية، في حين لراس المال تحالفه الطبقي الواضح على صعيد عالمي والمكون من تحالف راسمالية المركز وكمبرادور المحيط مما ولَّد "القطاع العام الدولاني المعولم" الأمر الذي تقدم بسلخ القيمة الزائدة على صعيد عالمي وليس قومي كما هو معروف كلاسيكياًً. وهذا يطرح بإلحاح ضرورة الخروج على النظام الراسمالي بغض النظر عن طبيعة المشروع الذي قد يتم اختياره هنا أو هناك.
لم يعد كافياً وصف الراسمالية بفوضى الإنتاج. فالراسماليون يعلمون أن ما يقومون يه يؤدي إلى فوضى الإنتاج. ولكن الرسماليين أنفسهم مقودون بحافز الربح الأقصى ، لذا فهم يعلمون ما يفعلون.

قانون القيمة وخطف لقمة العيش!
عالم اليوم محكوم بقانون القيمة على صعيد عالمي. وقانون القيمة قانون راسمالي يُحدد في السوق العالمي. والسوق العالمي ليس سوى حالة مفترضة. أما من يحدد قانون القيمة فهم من يملكون أدوات الإنتاج. وليست اية أدوات إنتاج، بل أدوات الإنتاج التي يشُغلها ويشتغل لها عمال ينتجون سلعا مطلوبة أو الأكثر طلباً في السوق العالمي (سمير أمين). فالتبادل على صعيد عالمي يتحدد بسعر منتجات المركز الراسمالي المعولم.
قد يشكل النفط اليوم مدخلا مناسباً لقراءة هذه المسألة. ما العوامل الكامنة وراء ارتفاع سعر برميل النفط، ومن المُصاب من هذا السعر الإنفجاري، وهل هذه هي السلعة الوحيدة التي تُعذب الفقراء في العالم؟
إن ما رفع سعر برميل النفط هو طلب السوق العالمي عليه، ومرونة هذ السلعة بمعنى قدرة المضاربين الدوليين على تحويلها من منطقة إلى منطقة بحثاً عن السعر الأعلى مما يدفع سعر البرميل في كل أنحاء العالم ليلحق بآخر سعر تم تسجيله في سنغافورة او شنجهاي أو طوكيو...الخ. اساس الأمر هو ارتفاع الطلب، تزايده سواء للتزايد الطبيعي لسكان العالم، أو بسبب النمو العالي في الصين والهند اللتين يشكل عدد سكانهما قرابة ثلث البشرية، إضافة إلى مناطق أخرى في العالم. وحتى نمو كل هذه البلدان، ما زال أمراً محمولاً طالما مستوى الحياة، وهنا بمعنى القدرة والشره الإستهلاكيين لم يصل بعد ما هو عليه في أميركا، ملاذ الإستهلاك الأخير الذي يُزعم أنه بنشاطه الإستهلاكي يجر معه نمواً للإقتصاد المالي. وإذا لم يُسقَط النظام الراسمالي قبل وصول الشره والإستهلاكية إلى هذه الأعداد الهائلة من البشر فستكون القيامة بالطبع. وبمعزل عن الحديث عن ارتفاع سعر برميل النفط نظراً لتدهور سعر صرف الدولار بما هو العملة التي يباع بها النفط ويُشرى، فإن سعر النفط هو فوق طاقة الأكثرية الشعبية على صعيد عالمي. فهل هو سعر حدده مصطلح مجرد هو قانون القيمة العالمي؟ هل هي اليد الخفية أو كما يزعمون اليوم قيام السوق بتصحيح نفسه؟ من اين للسوق بهذه القدرة العجيبة على إشفاء مرضه؟ أم أن وراء هذا كله، الناس، الطبقات؟
والسؤال هو ما الذي لحق بالآخر، سعر برميل النفط أم منتجات المركز الراسمالي المعولم؟ بل ما الذي اشعل التسابق واللحاق المتبادل بين الطرفين؟
قبل سنوات قليلة، كان امتلاك جهاز الكمبيوتر الفردي امتيازاً للنخبة الأكثر ثراءً، واصبح بإمكان الطبقة الوسطى وحتى شرائح أدنى إمكانات منها امتلاكه، بعد ان تناقص سعر الجهاز ربما إلى قرابة 20 بالمئة من سعره السابق، ومع ذلك ما زال مربحاً جداً للمنتجين! ما أقصده أن اسعار منتجات الدول المتقدمة، هي عالية جداً، بل احتكارية جداً، قبل ارتفاع سعر برميل النفط، وكل ما يفعله أهل النفط، إن كان رفع سعره دائما من قبلهم، هو تعديل اسعار نفطهم في محاولة للحاق بقانون القيمة الذي يحكم مختلف السلع القيادية في السوق الدولي.
ولكن، اللحاق المتبادل بين سعر النفط ومنتجات المركز، والبعض منه منتج للنفط، تجاوز السلع الصناعية المعمرة ليصل إلى قوت الإنسان وهو ما يشهده العالم خلال فترة قاربت السنة!. على أن السر السحري وراء هذا، هو أخطر مما نتصور. فمنذ سبعينات القرن الماضي، تمكنت الدول المتقدمة من الإنتصار حتى زراعياً على الدول المتخلفة. وبالتالي سحبت منها ميزة مقارنة كانت تعوض بعض عجزها التجاري، والأهم كانت على الأقل تعيل او تساهم في إعالة مواطنيها بتواضع وتقشف، وكان الفلاحون ينتجون بأفق الخبرة الطبيعية ما يحتاجون أو جزءاً منه، وحتى كان بوسع بعض البلدان دفع اثمان وارداتها من ماكينات استخدمتها لبناء استراتيجية إحلال الواردات. أما الثورة الخضراء، فقد جعلت من بلدان المحيط صحارى دون تصحر ودون نفط. فلم تعد منتجاتها الزراعية قادرة على منافسة اسعار السلع الزراعية والمواد الغذائية المتدفقة من بلدان المركز بغزارة. وبالتالي تمكنت دول المركز من احتكار الإنتاجين الزراعي والصناعي معاً. وبالتفوق الزراعي للمركز، تم قهر الفلاحين الذين يشكلون اكثرية سكان العالم، فهم إما فقدو الأرض أو لم تعد زراعتها مجدية ففاض منهم من فاض إلى مدن الصفيح.
في السباق بين سعر النفط وسعر منتجات المركز، أو في تعاونهما على زيادة الأسعار، وجدت الطبقات الشعبية على صعيد عالمي نفسها تعاني من أزمة غلاء شاملة. زاد منها اعتداء الدول الصناعية على الحبوب لاستخراج الوقود الحيوي منها. وهكذا، بدل أن يأكل الناس والثروة الحيوانية، التهمت المحركات قوتهم. ووقع من لا يملكون في براثن من يملكون.

التدجين والإحباط يقوضان الحلم
لم يقتصر تفوق راس المال على العمل على صعيد عالمي على هيمنة قانون القيمة، بل تجلى في هزيمة العديد من الحركات السياسية الإشتراكية والشيوعية والماركسية، هزيمة في المعتقد. لم يتمكن معتنقي هذه الأفكار من إدراك أن النظام الراسمالي العالمي هيمن نتيجة قدرته على استغلال الطبقات الشعبية في المركز والمحيط على حد سواء. فلم يعد سلخ الفائض في نطاق قومي، ولم يعد معنى للقول بأن فائض القيمة لا يتحصل إلا على صعيد الإستغلال الطبقي في المجتمع الواحد. لم يهيمن نمط الإنتاج الراسمالي ويصمد لأنه خيار الإنسانية، بل لأن لديه القوة المالية البوليسية والدولانية والهيمنة الإيديولوجية عامة كي يفرض سيطرته و/أو هيمنته. وليس هذا لتبرير او التغطية على إخفاقات بلدان الإشتراكية المحققة بالطبع.
بمعنى آخر، فقد تمكنت إيديولوجيا اللبرالية واللبرالية الجديدة من تدجين قطاعات واسعة من المثقفين الذين لعبوا بدورهم دور قوة إحباط هائلة في أوساط الطبقات الشعبية بما يقودها إلى حالة من الياس من تغيير النظام الرأسمالي، وبالتالي قيام كل فرد بمفرده بمحاولة التكيف مع هيمنة راس المال. ونتيجة لذلك تجري محاولات استبدال الحلم والمقاومة بالإحباط والإستسلام، اي بالعبودية.
إن الإحباط حالة من تفكك الذات داخلياً. إنه كالدودة الشريطية التي تقوم بتلقيح نفسها ذاتياً ومن ثم تتكاثر. هو الحالة الفضلى لانهيار عزيمة المقاومة ولارتماء الفقراء تحت أقدام رأس المال. وليس هناك من خدمة تُقدم لصالح الإستغلال والقهر أكثر مما تقدمه حالات الإحباط، ومع ذلك يشعر المحبَطون أنهم "يقاومون" بدورهم السلبي هذا. وفي الحقيقة، لا تريد الراسمالية منهم أكثر من هذا الدور السلبي، لأن الخيار الآخر هو المقاومة. ومن هنا كان ذلك المفعول السحري ل "تينا" (There is no alternative TINA ت، ي، ن،ا)، ولنهاية التاريخ. فمن جهتها، توصلت العديد من كوادر اليسار سابقاً، أن قوة الرأسمالية هائلة إلى درجة الإطلاق، وبالتالي، وهم قد تعودوا التذيل للإتحاد السوفييتي السابق، فطبيعة التبعية لا تطيق الفراغ، فكان لا بد أن ينتهوا في أحضان الإمبريالية! وبالطبع تمكنوا من تشويه وإحباط وعي ومقاومة الطبقات الشعبية في المحيط.
أما في المركز، فقد تم تدجين الطبقات الشعبية، في القرن العشرين خاصة عبر آليتين:
ـ في النصف الأول من ذلك القرن، تم التلاعب بوعي الطبقات الشعبية لتقف وراء أنظمتها الحاكمة في حروب إمبريالية دامية، أدت شدتها من جهة وضحالة الإلتزام العقيدي للأحزاب الشيوعية والعمالية في تلكم البلدان من جهة ثانية إلى تمييع الصراع الطبقي لصالح "حماية الوطن والأمة"، الذي لم يكن مهدداً بالطبع، وإنما كانت مصالح الطبقات الحاكمة/المالكة هي المهددة باعتراض إمبرياليات أخرى تريد اقتسام وإعادة اقتسام العالم!
ـ أما الربع الثالث من القرن العشرين فشهد فيه المركز الإمبريالي طفرة من الإزدهار، إزدهار ما بعد الحرب، أو ما بعد "التدمير الخلاق!". وخلال هذه الفترة تمكنت دولة الرفاه من فسح المجال لمعارضة ناعمة باسم "المجتمع المدني" وحقوق الإنسان، وهي جميعاً آليات لاحتواء الصراع الطبقي عبر تخدير الطبقات الشعبية بهيمنة نمط الإنتاج السائد وثقافته.
وفي حين عاد النظام الرأسمالي إلى مأزقه الممثل في فوضى الإنتاج، والأزمة في جانب العرض، وتدني معدل الربح، عاد ثانية للهجوم على مكتسبات الطبقات الشعبية فيه، وعلى الإعداد للهجوم ثانية على المستعمرات. اي عاد لاغتصاب مكاسب المجتمع المدني فيه، ولاغتصاب اسواق المحيط.
على أن ما سمح للمركز الإمبريالي بكل هذا الهجوم والإستمرار فيه هو تفكك الإتحاد السوفييتي مما أدى إلى إحباط هائل في قوى اليسار العالمي التي لم تتخلص بعد من "خبرة أو تراث" الإتكاء على دولة عظمى وليس على قوة مثال فكرية طبقية ونظرية. وعليه، تمكنت الراسمالية من الإنتقال بالعالم من الحرب الباردة إلى الحرب الساخنة على جبهتين:
ـ الجبهة الأولى داخلية، وهي الإعتداء على حقوق الطبقات الشعبية في المركز وخاصة النساء لتعويض التدني في معدل الربح.
ـ والجبهة الثانية، وهي العودة للهجوم على بلدان المحيط بالإحتلال والتدمير واغتصاب الثروات والأرض معاً. وباحتلال بلدان في العالم الثالث والعودة إلى الشكل القديم من الإستعمار، فإن الأنظمة/الطبقات الحاكمة المالكة في المحيط قد جرَّت المجتمع المدني ورائها، في الهجوم على أمم المحيط كما كان كل مركز إمبريالي قد فعل في النصف الأول من القرن العشرين حيث جر الطبقات الشعبية للإحتراب لصالح راس المال .

تفريغ طاقة الإعتراض!
قد تبدو مفردة قطيع نزقة وثقيلة على السمع، وهي كذلك حقاً. ولكن سواد الهيمنة لا تجعل الطبقات الشعبية في وضع افضل باي حال من الأحوال. والهيمنة ليست مجرد التثقيف، أو التلاعب بالتثقيف في ما يسمى الحرية، الذات، الأنا...الخ، إنما هي تُترجم إلى قتال الفرد مع الفرد الآخر على موقع العمل. اقتتال المتنافسين على خدمة السيد. اقتتال الأفراد مع بعضهم ولكن ضمن علاقة قطيع يعمل لصالح السيد. صراع فردي متواصل وعام، بالتوازي مع تصالح تام مع السيد عبر تنفيذ مصالحه والشغل لأجلة.
ماذا نسمي منافسة قاتلة في أوساط العمل المأجور غير علاقات قطيعية كلما اشتدت دون وعي كلما ارتفع السيد فوقها درجات أعلى؟ ماذا يعني تحويل جيش العمل الإحتياطي وهو يتزايد إلى منافس لجيش العمل العامل؟
طبعاً لا تنحصر المنافسة بين العمال ، في أوساط الطبقات الشعبية، فهي ايضاً بين ضواري راس المال. والمنافسة بينهم ايضاً قاتلة، بل أن المنافسة القاتلة وثقافتها تبدأ من هناك.
بيت القصيد هنا، أن المنافسة، ثقافة المنافسة تخصي وتقزم الصراع الطبقي وتحصره داخل الطبقة الواحدة، مما يشوه الصراع الطبقي ضد الإستغلال الراسمالي. لا علاقة للتنافس داخل الطبقة العاملة باي مستوى، ولو متواضع، من الصراع الطبقي، ولا النضال النقابي، ولا النضال العمالي بالطبع.
من هنا تبرز أهمية الوعي الذي في حده الإدنى يؤصَّل القناعة بأن التناقض هو خارج الطبقة وليس داخلها فيما يخص الطبقات الشعبية. أما التباينات داخل الطبقات الشعبية فلا تتفاقم إلى صراع طبقي.

من الحلم إلى الوعي
إذا كانت الإشتراكية ضرورة كمتطلب تفرضه الإنسانية، بما هي اي الإشتراكية حرية الحياة والتفكير والعمل، وحتمية التناقض على مر التاريخ ولا سيما الراهن، فإن تحرير التفكير الإشتراكي من عبىء أخطاء التطبيق والتجارب السابقة أمر لا بد منه. ولا يمكن للإشتراكيين ان يتنصلوا من الأخطاء بالفصل التعسفي بين النظرية ومن طبقوا، بغض النظر عن تفاوتات التطبيق. فالتجارب إرث لا بد من نقده، طالما أن "سلاح النقد لا يغني عن نقد السلاح".
لقد انحصر كثير من الإشتراكيين في مهارة التثقيف بنقد الراسمالية، وربما نقدها سياسياً أكثر من نقد النظام العالمي نفسه. وكانت قلة محدودة هي التي نقدت التجارب الإشتراكية، وكأنها إما غير قائمة أو كأنها مكتملة. وبالتالي كان النقد نصفياً لا أكثر، وهو نقد مثابة استمرار أو تكرار لمشروع ماركس نفسه، وهو المشروع المكرس لنقد الراسمالية. لكن ماركس نفسه لم تكن لديه تجارب إشتراكية كي يمارس نقد السلاح عليها. ومع ذلك لم يكن راضٍ عن كيمونة باريس، وكان يتوقع مصيرها، لكن حينما كانت أمراً واقعاً لم يتوان عن التعاطف معها.
إذا كانت الإشتراكية هي الإنتقال من "ملكوت الضرورة إلى ملكوت الحرية" فإن الحرية والوعي والنقد هي مادة نجاحها الأساسي، إنما دون انحصارها في النخبة. فلم يعد الحزب التقليدي ممثلاً في مجموعة محدودة من القيادات "ربما الواعية جميعاً" أو التي لديها فرص استقاء المعلومات والثقافة، ولبقية الحزب أن تسمع وربما أن تطيع!
كما لم يعد الإلتزام الحديدي ممكناً في عصر المعلومات الفائضة عن قدرة الإنسان على الإحاطة بها. لذلك، أصبح "التربي الذاتي" من المكانة بحيث يوازي "التربية" طالما هناك حرية وتوفير ثقافي. وعليه، يصبح الوعي الحر حاسماً في تحديد القناعات الإشتراكية وهو الذي يولد الإلتزام الطوعي الواعي وهو الأكثر ديمومة من الإلتزام الحديدي. وليس غريباً أن نجد في العقدين الأخيرين، أن من حافظوا على كرامتهم الإشتراكية والشيوعية والماركسية هم الأكثر وعياً. بينما ذهب مثقفي الشعارات السياسية ووعي "نصف كُمْ" إلى مواقع الثورة المضادة وبحماسة ايضاً.
هل عملت التجارب البيروقراطية للإشتراكية على اختصار الوعي الحزبي والجماهيري لتمكين نفسها في نظام ربما ادركت أن ديمومته ليست ابعد من عمرها؟ ربما، وإن كان هذا ليس مكان التفصيل في هذا الأمر. إنما المهم أنها بلا شك أخذت "سلاح النقد" وحده، وشطبت "نقد السلاح"، فحفظت نفسها من النقد الداخلي، لتكتشف أن نقد سلاحها من خارجه، من المعسكر الراسمالي كان قوياً بحيث سحب الطبقات الشعبية "المجهَّلة" من تحت من أُسمي نظامها، أو "دولتها". فكان ما كان.
من هنا، فالإشتراكية عملية تربية وتربي، وليست مجرد امتطاء غضبة أو انتفاضة شعبية والوصول بها إلى السلطة، والتفرد بالسلطة بناء على "بَيْعةٍ" حصلت في مناخ الإنتفاضة. فهذا وحده لا يكفي وهو خطير لأنه أودى بأفضل النوايا والأحلام الإنسانية إلى نظم بيروقراطية ساعدت بدورها على خصي وعي الطبقات الشعبية في المركز الراسمالي مما أطال عمره. وقد تكون البداية من جديد وهي لا بد منها، قد تكون عودة الوعي وإعادته.

انطلاقاً من هذا، فإن التفكير الإشتراكي، والتثقيف والتربية بالإشتراكية هو حلم إنساني ومشروع مقاومة يتوجب على الأكثرية الشعبية في عالم اليوم أن تقوم بها في مواجهة كل ما ليس ومن ليس إشتراكياً، وهو بالضرورة رأسمالياً، سواء كان ممثلاً في إدارات الشركات عابرة القوميات، أو في أنظمة الحكم أو في رجال الدين أو النخب الثقافية والأكاديمية التي تمثل حواضن تفريخ المحافظية الجديدة والسلفية وشعار There is no alternative TINA ت، ي، ن،ا...الخ
وليس هذا الحلم الإنساني مجرد طوبى رفاهية لإنسان يحاول رفع سعادته درجة أخرى، بل هو حلم بتحرر البشرية من عبودية راس المال، وتحررها من الجوع ومن توالي اختراع آلات الموت. "التدمير الخلاق"!
وهو مقاومة لأن الواقع القائم وحشي إلى درجة توجب مقاومته باسلحته على الأقل. وإذا كان تغوُّل راس المال ممثلا بأهله حالة من الوحشية، فإن المقاومة حالة بل طبيعة الإنسان. ومن يقف مع وحشية الإستغلال والقتل وراس المال اليوم كمشروع دموي، ضد مقاومة هذا الوحش، إنما يختار حالة للناس في أرقى مستوياتها هي عبودية.
إن اختصار طبقات معينة نفسها في تحصيل الربح الأقصى والتراكم اللامحدود هو حالة جشع تبرر لاستمرارها ارتكاب اية جريمة، أما الإستهلاك المنفلت لدى طبقات أخرى فحالة قطيعية. وبين الجشع والقطيعية تعيش البشرية مرحلة تشوه يستوجب التغيير.

حرب المواقع
قد يصح القول أن الحرب الجبهية هي حرب قومية، دفاع عن الوطن في مواجهة هجوم على الوطن. وعندها يكون الدفاع جماعياً. أو لا بد ان يكون كذلك. وحالة الوطن العربي هنا مثالية. فهو تحت شراكات إحتلالية خارجية وكمبرادورية داخلية ناهيك عن تراكم كل انواع الإحتلالات مجتمعة على المرأة. ولذا، فالدفاع الجبهي القومي مشروع تماماً، وليست القومية هنا سلاحاً بيد البرجوازية، بل ربما هي سلاح ضد البرجوازية بما هي كمبرادورية ومتخارجة.
ولكن، حتى ضمن الحرب الجبهية على نطاق قومي هناك نواتها الحقيقية، وهي حرب المواقع بمعنى أن على الطبقات الشعبية أن تدرك بأنها هي وحدها من يداقع عن ما هو بعد طرد العدوين الأجنبي والمحلي، وأنها وحدها المطالبة بالحيلولة دون استبدال نير استغلال بآخر. هذه حرب مواقع في الوعي والحرية والنقد التي لا بد للطبقات الشعبية أن تكون مسلحة بها سلفاً كي لا تذهب التضحيات هدراً، وطالما حصل ذلك.
حرب الموقع متعددة المستويات، هي في تحرير مواقع ذهنية في التفكير والتربية والوعي، وهي حرب مواقع في المؤسسات الإجتماعية كمدخل لنقض هيمنة النظام الحاكم بوعي جديد، وهي حرب موقعية في قتال الشوارع، وحرب موقعية في قتال حرب الغوار. وتكون الحرب موقعية كلما كانت قوى الثورة اقل إمكانات، واضعف بنية، فما بالك حينما تكون قد خرجت من جولة في التاريخ، تمكن فيها راس المال من هزيمة العمل؟ في هذه الحالة ربما تكون أولوية حرب المواقع في الوعي والثقافة والتربية والتربي والوعي ونقد السلاح...الخ.
تتطلب حرب المواقع البدء من الموقع الأول، الإنسان الفرد. ولعل هذه هي المواجهة الأشد مع اللبرالية التي تجزىء المجتمع والطبقة والشريحة إلى ذرات فردية، متفرقة في مصالحها الخاصة كافرد بالمعنى الحرفي للكلمة، تاركة للنظام السياسي الإقتصادي تحريكها ككتل صماء لإنتاج الفائض وللإستهلاك اللاواعي، والأهم مُدخلٌ في روعها أنها في منتهى الحرية. هي هذه الحالة القطيعية، يشعر كل فرد انه حر تماماً بمفرده لأنه بمفرده، ولكنه حقيقة جزء من قطيع في شعور قطيعي. يواجه النظام وحده، وينتج للطبقة الحاكمة على اساس اجتماعي. بالنسبة لها، فلا أحلى! ألا يجعل هذا من الإشتراكية ضرورة؟

التجربة
إذا حاولنا قراءة الإشتراكية في ماركس نفسه، لا بد أن نقع في إشكالية كبيرة، لأن ماركس وضع المخطط النظري لنقض النظام الراسمالي ولم يضع نظرية متكاملة في الإشتراكية، ولا حتى القومية والدين والمرأة. كما نقع في إشكالية ايضاً إذا حصرنا الإشتراكية في التجارب المحققة. في كلا الحالتين، نكون قد تبنينا مقاييس أعداء الإشتراكية .
بعد أن نضع التجربة الإشتراكية في سياق أنها انتصار للعمل في مواقع معينة من العالم وفي حقبة معينة، وأن هزيمة الإشتراكية هي في حقبة معينة ايضاً، وهي على اية حال ليست ثمانينات وتسعينات القرن العشرين بل ر بما منذ خمسينياته أو قبلها، علينا بعد ذلك مراجعة أربع مكونات في قراءة التجربة الإشتراكية:
- النظرية
- التحليل
- الإستنتاج
- والتطبيق.
وهذه الأربعة وأن كانت متواشجة إلى حد كبير، إلا انها لا تشكل حزمة واحدة تشترط الواحدة منها الأخرى ويشترط خلل إحداها خلل الأخريات.
يتساءل الكثيرون، هل كانت المحاولات الإشتراكية ضرورة تاريخية في حينها. وهل يعود القصور في التطبيق إلى كون التجربة سبقت نضوج زمانها؟ أعتقد أن هذه الأسئلة أكاديمية ومرتاحة من عناء النضال اليومي. فالتجارب الإشتراكية، ومختلف تجارب حركات التحرر الوطني، وكافة الثورات في العالم هي بنات تطورات في الصراع الطبقي في هذا المكان او ذاك. هي صراع، وحينما يشارف طرف على الإنتصار لا يمكنه التوقف عند حد معين كان قد خطط له نظرياً قبل اشتعال الصراع. ومن هنا، فإن ما يجدر نقده هو آليات العمل التطبيقي، وليس لحظة هزيمة الخصم وانتصار الثورة.
فاساس العالم والحياة هو التناقض والصراع، وعلى البشرية ممارسة دورها والإجتهاد فيه، ودفعه إلى مداه الأقصى. وإذا كان الأمر متعلق بسبق اللحظة أو التخلف عنها، فهذا يتطلب منا الرحيل إلى فنزويلا لتهدئة اندفاع شافيز نحو اشتراكية القرن الجديد. كأن الأمر انتهى إلى القول بأن لا صحة أن يتلمس العالم طريقه ما لم تكن مضاءة تماماً ومفروشة بالورود!.
وحتى لو اخذنا التجربة السوفييتية تحديداً، فلا بد أن نقرأها في سياقها الطبيعي من حيث التقصيرات الذاتية والثورة المضادة والعدوان الخارجي. إن تناول الثورات بمعايير النجاح والفشل وحسب هو ابتسار كبير للأمور. فالحرب الأهلية والغزو الأجنبي للإتحاد السوفييتي، والحصار الراسمالي الغربي، والحرب العالمية الثانية هي عوامل تدمير خارجية للدولة الإشتراكية، وهي نفسها ربما دفعت وعززت الخلل الداخلي سواء البيروقراطية واختزال الحزب، وتغييب الديمقراطية والحريات، وتحويل الثورة إلى دولة اضحى لها محيطاً تابعاً لا يختلف كثيراً عن محيط النظام الراسمالي العالمي. ورغم كل هذا تواصل هجوم المركز الراسمالي على الإتحاد السوفييتي حتى حينما اصبح "راسمالية بلا راسماليين" إلى أن اصبح براسماليين.
لقد سقط الإتحاد السوفييتي كدولة في منازلة الإمبريالية في مواقعها القوية، اي الإنفاق الهائل على اقتصاد التسليح، في حين أن الفائض المتحصل لديه لا يستطيع مباراة الفوائض التي سلختها الإمبريالية من العالم باسره. فكانت النتيجة تدهور اقتصادي انتهى بتفكيك النظام. بدأ التفكيك بفك المحيط الأبعد للإتحاد السوفييتي، (مصر غانا غينيا، العراق سوريا...الخ) ثم المحيط الأقرب (أوروبا الشرقية) لينتهي بتفكك الإتحاد السوفييتي نفسه.
هل كانت المشكلة في الإتحاد السوفييتي في تشغيل الطبقة العاملة "عند" الدولة حتى لو لفترة محدودة؟ أم كان هذا التشغيل مقبولاً طالما هو لفترة انتقالية ولكن، كان من المفترض: توسيع مشاركة الناس في الدولة عبر الحزب إلى أن يصبح المجتمع مشغلاً لنفسه عبر توسع الحزب ديمقراطياً ليصبح ممثلاً حقيقياً للمجتمع اللاطبقي؟
بعبارة أخرى، كان هناك ثلاثي يقرر مصير الدولة:
1- الدولة
2- - الحزب
3- مجتمع العمل
لكن ما حصل هو استيلاء الحزب على الدولة بدل قيام الحزب بتأميم الدولة للمجتمع العامل.
ينقلنا هذا إلى مناقشة مخطط نظري مقترح للتحول إلى الإشتراكية، اي "التنمية بالحماية الشعبية" وهذا موضوع آخر.