كروبوتكين .. وأفكاره الفدرالية (4)


محمد عبد القادر الفار
2008 / 4 / 15 - 10:58     

للمفكر الأناركي الإيطالي : كاميلو بيرنيري Camillo Berneri
نشرت لأول مرة سنة 1922

(ترجمها للعربية محمد عبد القادر الفار)

(الجزء الرابع والأخير)
ماذا كان موقف كروبوتكين من الحرب الأوروبية (الحرب العالمية الأولى، المترجم) والثورة الروسية؟ أعتقد أنه من المفيد أن نأخذه بعين الاعتبار لأن فكره الفدرالي ساهم في تكوين موقفه.

كتب كروبوتكين في "مذكراته" : ""الصراع بين الماركسيين والباكونيين لم يكن شخصياً. لقد كان الصراعَ الحتمي بين مبدأ الفدرالية، ومبدأ المركزية؛ بين الكوميونات الحرة، وحكومة من قبل الدولة؛ بين الفعل الحر لجماهير الشعب الدافع باتجاه تحررهم، والملاءمة القانونية للرأسمالية الحالية؛ صراع بين الروح اللاتينية والروح الألمانية"". فعند نشوب الحرب، اعتبر كروبوتكين فرنسا مودع الروح اللاتينية أو الثورية، فيما اعتبر ألمانيا نموذجاً على انتصار عبادة الدولة أو على الرجعية. كان موقفه موقف "المدافعين عن الديمقراطية".
وفي البداية انضم إلى الشوفينيين من الحلفاء واقعاً مثل "جيمس غيلوم" في المبالغة.

ولكن المرء يرى في موقفه المنحاز رسوخاً لعقيدته الفدرالية. فقد عارض ألمانيا لأنه رأى فيها تهديداً للإدارة الذاتية للناس ولمبادئ اللامركزية. وفي رسالته إلى البروفيسور السويدي ج. ستيفان ( Freedom, October 1914 ) أعلن :

"" بالنسبة لدول أوروبا الشرقية، وخصوصاً روسيا، كانت ألمانيا الداعم والحامي الأساسي للرجعية. التسلط العسكري البروسي، المؤسسة المصطنعة للتمثيل الشعبي الممنوح من قبل الرايخستاغ الألماني، البرلمانات الإقطاعية للأجزاء المتباعدة من الإمبراطورية الألمانية، والمعاملة السيئة للقوميات المقهورة في "الألساس"، وخصوصاً بولندا البروسية، حيث كان البولنديون يعاملون بنفس السوء الذي كانوا يعاملون به في روسيا –دون احتجاج من الأحزاب السياسية التقدمية – تلك الثمار للإمبريالية الألمانية كانت الدروس التي علمتها ألمانيا الحديثة – ألمانيا بسمارك – لجيرانها، وأهمها الحكم المطلق الروسي. هل كان ذلك الحكم المطلق الاستبدادي قادراً على أن يحافظ على نفسه كل تلك المدة في روسيا، أو هل كان سيجرؤ أصلاً على تلك المعاملة السيئة التي كان يعامل بها البولنديين والفنلنديين، لو لم يستطع أن ينتج نموذج "ألمانيا المتحضرة" وإذا لم يكن واثقاً من حماية ألمانيا ؟""

واستبق كروبوتكين الانتقاد التالي : "وهل نسيت الأوتوقراطية الروسية؟" (أي كيف تقف مع النظام المستبد في روسيا في الحرب، توضيح من المترجم) بقوله :

"" لا أحد يتصور أنه بعد الحرب القائمة، التي اجتمعت فيها كل الأحزاب الروسية ضد العدو المشترك، سيكون من الممكن العودة مرة أخرى إلى الأوتوقراطية السابقة، ذلك مستحيل طبيعياً. الذين قاموا بدراسة جدية على الحركة الثورية في روسيا سنة 1905 يعرفون ماذا كانت الأفكار المهيمنة خلال مجلسي الدوما الأول والثاني اللذين تم انتخابهما في أوضاع حرة نسبياً. وهم يعلمون بالتأكيد أن الحكم الذاتي لجميع القطاعات التي تشكل الإمبراطورية كان السياسة الجوهرية لكل الأحزاب الليبرالية والراديكالية. ولكن يوجد ما هو أكثر من ذلك، فقد حققت فنلندا ثورتها في شكل حكم ذاتي ديمقراطي، وقام مجلس الدوما بالمصادقة عليه.

علاوة على ذلك، فإن الذين يعرفون روسيا والنزعات الأخيرة هناك يفهمون بالتأكيد أنّ "الأوتوقراطية القديمة لن يعاد تأسيسها بنفس شكل ما قبل 1905، وأن الدستور الروسي لن يكون قادراً أبداً على أخذ شكل إمبريالي وانتحال نفس روح النظام البرلماني الألماني". وفي رأينا، وحسب معرفتنا بروسيا، فإننا مقتنعون أن روسيا لن تصبح أبداً عدوانية ومحبة للحروب مثل ألمانيا. ليس فقط لأن التاريخ الروسي بأكمله يظهر ذلك، ولكن الأسلوب الذي تشكل به الاتحاد الروسي يحول دون تطور الروح الحربية في المستقبل القريب جداً.""

بالنسبة لكروبوتكين، كانت روسيا بلاد "المير"، البلاد التي أتاحت له ميداناً واسعاً لملاحظة نتائج واحتمالات "المبادرة الفردية" على جزء من الناس.

الحرب الأوروبية سحبته بعيداً عن عائلته السياسية؛ الحركة الأناركية. وأعادته إليها مرة أخرى ثورة أكتوبر في روسيا.

حارب كروبوتكين –حتى في كتاباته المبكرة- ضد التوهم بأن المجتمعات الثورية السرية قادرة – حالما يتم القضاء على الطغيان القيصري- على أن تستبدل بالجهاز البيرواقراطي المهزوم إدارةً جديدةً تتكون من الثوريين النزيهين والمبدئيين؛ "" آخرون .. أولئك الحريصون على صنع أسام ٍ لهم بينما يعمل الثوريون في الظلام أو يهلكون في سيبيريا؛ آخرون .. المخادعون، الديماغوجيون، المحامون، أهل الكلام، الذين نادراً ما ذرفوا دمعة سريعة الجفاف عند ضريح الأبطال، ويبدون كأصدقاء للشعب... هؤلاء هم الذين سيحتلون المقاعد الخالية في الحكومة، وسيصرخون "تراجعوا!" على الأشخاص المغمورين الذين جاؤوا بالثورة"".

نبوءة كروبوتكين تلك هي ما عاناه الناس بالفعل في روسيا وبشكل كبير، وقد كان صاحبنا في المعارضة، وهي معارضة كان من الممكن أن تكون لها أصداء مهمة لو لم يفسد دعمه المفرط للحرب هيبته السياسية.

في مقابلة أجراها معه أوغسطين ساوتشي Augustin Souchy (أناركي ألماني، المترجم) نشرتها الجريدة الأسبوعية الأناركية Erkenntnis Befreiung في فيينا، قال كروبوتكين: ""يجب أن تكون لدينا مجالس كوميونية.وعليها أن تعمل باستقلالية. عليها، على سبيل المثال، أن تضمن أنه في حالة الحصاد ضعيف، لا يفتقد الناس ضروريات الحياة الأساسية. الحكومة المركزية، في هذه الحالة، هي جهاز ثقيل ومرهق بشدة، بينما في المقابل، قد يشكل اتحاد لهذه المجالس مركزاً مهماً"".

وفي مقابلته مع أرماندو بورغي Armando Borghi (أناركي إيطالي، المترجم) شدد كروبوتكين على الدور الكبير للنقابات كخلايا للثورة الاجتماعية ذاتية الحكم والمضادة للسلطات. وفي بعض رسائله (23 ديسمبر 1920) الموهجة إلى الأناركي الهولندي De Rejger، والتي نشرت في نشرة Vrije Socialist، كتب كروبوتكين : "إن الثورة الاجتماعية في روسيا أخذت للأسف طابعاً مركزيا سلطوياً".

آراء كروبوتكين في الثورة الروسية تظهر في رسالته إلى العمال الغربيين، التي أعطيت للآنسة بونفيلد Miss Bonfield في 10 حزيران، 1920 عندما جاءت مع مندوبين آخرين عن حزب العمال لزيارته في مأواه في ديميتروف. هذه الرسالة وثيقة بارزة في تاريخ الثورة الروسية.

أشار كروبوتكين إلى أنه إذا اعترف المرء بأن محاولات إقامة مجتمع جديد من خلال دكتاتورية البروليتاريا محكومة بالفشل، فإنه لا يستطيع أن ينكر مع ذلك أن الثورة قدمت تصورات جديدة إلى الحياة الروسية عن الوظائف الاجتماعية وعن حقوق العامل، وكذلك عن واجبات المواطن كفرد، وعبر عن فكرته بانتقاد واضح ومبدئي للبلشفية كدكتاتورية حزبية وحكومة مركزية.

أول المشكلات العامة هي التي تتعلق بالقوميات المختلفة التي تشكل روسيا. وحول هذا الموضوع يكتب كروبوتكين:
"" إن إعادة تأسيس العلاقات بين الأمم الأمريكية والأوروبية وروسيا يجب ألا يعني قبول تفوق الأمة الروسية على الأمم التي كانت الإمبراطورية الروسية القيصرية تتكون منها.
روسيا الملكية ماتت ولن تعود إلى الحياة مجدداً. ومستقبل الأقاليم المتنوعة التي كونت الإمبراطورية سيكون موجهاً نحو اتحاد ضخم. والأقاليم الطبيعية للقطاعات المختلفة للاتحاد لا تختلف بأي حال من الأحوال عن تلك المألوفة لنا من تاريخ روسيا، في إثنوغرافيتها وحياتها الاقتصادية. كل المحاولات لجمع الأجزاء المكونة للإمبراطورية الروسية، مثل فنلندا، مقاطعات البلطيق، ليتوانيا، أوكرانيا، جورجيا، أرمينيا، سيبيريا، وغيرها، تحت سلطة مركزية محكومة بالفشل المؤكد. مستقبل ما كان في السابق الإمبراطورية الروسية سيتوجه نحو اتحاد بين وحداته المستقلة.

وبالتالي فسيكون من ضمن اهتمامات كل الشعوب الغربية ضرورة إعلان اعترافهم –قبل كل شيء- بحق كل جزء من الإمبراطورية الروسية السابقة في حكم نفسه.""

لكن فدرالية كروبوتكين تذهب إلى أبعد من اقتراحه بالحكم الذاتي الإثنوغرافي. فهو يشير إلى ضرورة أن نتوقع –وليس في المستقبل البعيد- ""وقتاً يصبح فيه كل عنصر في الاتحاد اتحاداً في حد ذاته، اتحاد حر من الكوميونات الريفية والمدن الحرة، وإنني أؤمن أيضاً أن أوروبا الغربية ستسير أيضاً في هذا الاتجاه.""

ثم يأتي تلخيص للتكتيكات الثورية للفدرالية الذاتية ونقد لعبادة الدولة المركزية عند البلاشفة :

""إن الثورة الروسية – التي هي استمرار للثورتين العظيمتين الإنجليزية والفرنسية- تكافح لتتقدم إلى ما هو أبعد من النقطة التي وقفت عندها الثورة الفرنسية عندما وصلت إلى فكرة "المساواة الحقيقية"، أو بمعنى آخر المساواة الاقتصادية.

وللأسف، فإن هذه المحاولة تتم في روسيا تحت الدكتاتورية بالغة المركزية للحزب البلشفي. المحاولة نفسها قام بها فرانسوا بابوف Babeuf وأتباعه، محاولة مركزية ومتطرفة. وينبغي أن أعترف بصراحة أن هذه المحاولة لبناء جمهورية شيوعية على أساس دولة مركزية، وتحت صرامة قوانين حزبية، تبرهن في رأيي على فشل كبير.

التجربة الروسية تعلمنا كيف أن "الشيوعية يجب ألا يتم فرضها"، حتى على الناس المرهقين من النظام السابق، والعاجزين عن تقديم أي مقاومة فعالة ضد تجربة الحكام الجدد. إن فكرة السوفييتات، أو مجالس العمال "والفلاحين" -والتي تم التبشير بها خلال تجربة 1905 الثورية وتحققت بالكامل في فبراير 1917- كانت فكرة رائعة. وحقيقة أن هذه المجالس يجب أن تسيطر على الحياة السياسية والاقتصادية للبلاد تفترض أنها يجب أن تتكون من جميع أولئك الذين يشتركون شخصياً في إنتاج الثروة الوطنية.

ولكن طالما ظلت البلاد خاضعة لدكتاتورية الحزب، فمن الواضح أن مجالس العمال والفلاحين لا بد أن تفقد كل معناها. فدورها سيختزل إلى الدور سلبي الذي كان يتمثل في الماضي بالمجلس العمومي أو البرلمان، الذي يدعى للاجتماع من قبل الملك، ويتوجب عليه أن يجاري مجلساً ملكياً كامل القوة ويواكبه.

إن مجلس العمال لا يمكن أن يكون جسماً استشارياً حراً ومؤثراً عندما يفتقر إلى حرية التعبير، وهو موقف كان سارياً في روسيا طوال السنتين الماضيتين، بحجة وجود حالة حرب. وحين تقام الانتخابات تحت الضغط الاستبدادي لحزب، فإن مجالس العمال "والفلاحين" تفقد قوتها التمثيلية. هناك محاولات لتبرير ذلك الوضع بالقول أن القانون الدكتاتوري ضروري لمحاربة النظام السابق. لكنه يشكل خطوة إلى الخلف فيما يتعلق ببناء مجتمع جديد على أسس اقتصادية جديدة. إنه بمثابة حكم بالموت على إعادة البناء.

إن الأساليب المستخدمة لهزيمة حكومات ضعيفة أصلاً والاستيلاء على سلطتها معروفة من التاريخ القديم والحديث. ولكن عندما يتطلب الأمر إعادة البناء انطلاقاً من تصورات جديدة للحياة، تحديداً فيما يتعلق بالإنتاج وتبادل السلع، دون وجود أية نماذج سابقة لتكون دليلاً أو مرشداً، وحين يتوجب حل كل مشكلة في وقت قصير، عندها فإن حكومة بالغة المركزية وكاملة القوة من النوع الذي يهتم بأصغر التفاصيل ستكون عاجزة عن فعل ذلك بنفسها من خلال موظفيها. ومهما كان عددهم كثيراً، سيكونون عائقاً. والنتيجة هي جهاز بيروقراطي هائل يصبح النظام الفرنسي -الذي يتطلب تدخل أربعين موظفاً لبيع شجرة عصفت بها الرياح إلى الطريق- غير جدير بالذكر إذا ما قورن به. وبالنسبة لكم، يا عمال الغرب، فإنكم تستطيعون بل يجب عليكم أن تحولوا دون حدوث ذلك بكل الوسائل المتاحة لكم، لأنكم جميعاً يجب أن تحرصوا على إنجاح الثورة الاجتماعية.

إن أعمال إعادة البناء الهائلة التي تتطلبها الثورة الاجتماعية لا يمكن تحقيقها عن طريق حكومة مركزية، حتى ولو –كموجهة لهذا العمل- كان لديها ما هو مادي وفعلي أكثر من بضع كتيبات اشتراكية وأناركية.

المطلوب هو أن تمتلك جماهير القوى المحلية المعرفة، والحنكة، وإرادة التعاون، وبذلك فقط يمكن التغلب على المصاعب الناشئة من المشاكل المحلية المختلفة.

إن وضع التعاون جانبا والتعويل على العباقرة من دكتاتوريي الحزب هو مرادف لتدمير المجموعات المستقلة مثل النقابات التي تسمى اتحادات الحرفيين في روسيا، والجمعيات التعاونية للمستهلكين المحليين، وتحويلها إلى أعضاء بيروقراطية للحزب كما يجري في الوقت الحاضر. وهذا ليس الطريق لتحقيق الثورة، بل الطريق لجعل تحقيقها مستحيلاً. ولهذا السبب، أعتبر من واجبي أن أنصحكم بعدم اتخاذ هذا الخط في العمل نهائياً.""
(انتهى كلام كروبوتكين، المترجم)

هذه هي آراء كروبوتكين في الثورة الروسية، والأسس التي انطلق منها في دعوته. وهذه هي الأفكار التي أحيت ولا تزال تلهم المعارضة الأناركية في روسيا.

توفي كروبوتكين المسن، المريض والمعدم، خلال فترة من السكون، بعد محاولته إدارة حركة فدرالية، ولكن دون أن يتمكن من تحقيق أي شيء بسبب حرمانه من الحرية، ولأن تأييده المفرط للحرب العالمية أفسد كل هيبته السياسية.

لكن المشكلة الفدرالية، في مجال القوميات وكذلك في مجال التنظيم السياسي والاقتصادي هي المشكلة الجوهرية في روسيا. عندما تتمكن التجربة والمعارضة من إبعاد الشيوعيين الروس بشكل مؤكد عن مشاريعهم النظرية، وعندما يخطو اتحاد المنظمات الروسية خطواته الأولى في طريق الثورة الجديدة، ستنهض شخصية بيتر كروبوتكين إلى قامتها الحقيقية الكاملة، وستلهم أفكاره إعادة البناء الجديدة.

في فدرالية كروبوتكين، هناك تفاؤل زائد، هناك تبسيطات وتناقضات، لكن هناك أيضاً حقيقة عظيمة : أن الحرية هي شرط للحياة والتنمية لكل الناس؛ أنه فقط حيث يحكم الشعب نفسه ولنفسه، سيكون أمانه من سوط الطغيان، وتقدمُه المؤكد.
- تم -

الموقع الأصلي للترجمة الإنجليزية التي ترجمت عنها
http://dwardmac.pitzer.edu/Anarchist_Archives/coldoffthepresses/bernerikropotkin.html

موقع المترجم
http://1ofamany.wordpress.com