كروبوتكين .. وأفكاره الفدرالية (3)


محمد عبد القادر الفار
2008 / 4 / 11 - 10:53     

للمفكر الأناركي الإيطالي : بيرنيري كاميلو Camillo Berneri
نشرت لأول مرة سنة 1922

(ترجمها للعربية محمد عبد القادر الفار)
عندما قام كروبوتكين بدراسة النظريات الاشتراكية المتنوعة، تبنى موقفاً سلبياً من أتباع "سان سيمون" ومن يسمون "باليوتوبيين"، وبالتحديد "كابييه"، لأنهم أسسوا أنظمتهم على تراتبية إدراية، لكنه في المقابل أظهر حماسة كبيرة لنظريات "تشارلز فوريير" الكوميونالية المشاعية (انظر في Modern Science and Anarchism).
وكان كروبوتكين معارضاً لقيام الدولة بالتأميم، لأن ذلك – ورغم أنه بلا شك تعديل للنظام الرأسمالي- فإنه "لا يلغي نظام الأجور"، لأن "الدولة، أو الحكومة التمثيلية، وطنية كانت أو شيوعية، تضع نفسها في موقع الحاكم" حتى يتسنى لممثليها وبيروقراطييها أن يمتصوا فائض القيمة في الإنتاج ويجعلوا ذلك ضرورة.
( انظر، "Conquest of Bread" and "Modern Science and Anarchism")

الملاحظة التالية له أيضاً صادقة في ما يخص الدولة الاشتراكية : "ما مقدار العمل الذي ننتجه للدولة؟ لم يسبق لأي اقتصادي أن حاول حساب أيام العمل التي يعطيها العامل في الحقل أو المصنع لذلك المعبود الوثني (الدولة). وعبثا يظل بحث المرء في كتب الاقتصاد السياسي للوصول إلى تقدير تقريبي لما يعطيه الإنسان -الذي هو منتج كل الثروات- من عمله للدولة.

"" إن تقديراً بسيطاً مبنياً على ميزانية الدولة، لشعب ما، للأقاليم والكوميونات (التي تساهم في زيادة نفقات الدولة) لن تكون له أهمية، لأن ما ينبغي حسابه ليس ما يذهب إلى صندوق الخزينة كل سنة، بل ما يمثله كل "شلنغ" يدفع إلى الخزينة كقيمة حقيقية بالنسبة لدافع الضرائب. كل ما يمكننا أن نقوله هو أن مقدار العمل الذي يعطيه المنتج للدولة كل سنة ضخم بالتأكيد. لا بد أنه يصل -وبالنسبة لطبقات معينة يتجاوز- الثلاثة أيام عمل في الأسبوع التي كان العبد يعطيها لمولاه """ ("Modern Science and Anarchism") .

حتى الدولة الاشتراكية ستحاول أن تزيد قيمة هذه الأتاوات لأن "كل فريق سياسي في السلطة مجبر على إيجاد وظائف جديد لمناصريه"، وهي لن تكتفي بإثقال كاهل الحياة الاقتصادية للبلاد بالمصاريف الإدارية، بل ستنصب أوليغاركية (حكم قلة) للقلة التي لا تتحلى بالكفاءة . "" وما نحتاجه في المقابل هو تلك الروح الجماعية للطبقات العاملة التي تشتغل بشؤون الكونكريت (الباطون)"".

و "الروح الجماعية" هو اصطلاح عام أصبح في كتابه "الاستيلاء على الخبز" يشير إلى "الشعب"، و"الكوميون"، و"المجتمع" .. إلخ الذي يدير القضاء، وينظم كل شيء، ويحل أكثر المشاكل تعقيداً. فهذه "الروح الجماعية" هي نوع من الألوهية وصفه "فرانشسكو سافيريو ميرلينو" Saverio Merlino (أناركي إيطالي، المترجم) بسخرية كورس في تراجيديا يونانية (في التراجيديا اليونانية، كان الكورس يتكون من شخصيات مجهولة ومسنة تمثل القدر، تعلق على ما يخوضه بطل التراجيديا ويعانيه بسخرية وتهكم، توضيح من المترجم).

وحتى أعمق المنظرين الأناركيين بعيدون جداً عن عبادة تلك الألوهية. لكن إذا كانت فدرالية كروبوتكين تفتقر إلى الدقة وتضع أملاً زائداً في طاقة الشعب السياسية، فإنها مع ذلك جديرة بالملاحظة نظراً لاتساع رؤيتها. فلا يمكن لأي فدرالية أن تصبح راسخة إذا لم تكن كاملة، ويمكنها أن تكون كذلك فقط إذا كانت اشتراكية وثورية.
إن الطبيعة التكاملية لأفكار كروبوتكين الفدرالية يمكن إثباتها من خلال مقتطفات كثيرة من كتاباته. والتصريحات التالية له هي الأكثر صراحة:
"" "الفدرالية" و "الحكم الذاتي" لا يكفيان. فهما مجرد كلمات تتطرق لسلطة الدولة المركزية.""

""اليوم، نجحت الدولة في التحكم بكل جانب في حياتنا. من المهد إلى اللحد تمسكنا في قبضتها بإحكام، أحياناً في صورة الدولة المركزية، وأحياناً أخرى كحكومة ريفية محلية أو إقليمية، وأحياناً ككوميون تابع للدولة، تتتبع كل خطواتنا، تظهر عند زاوية الشارع، تحملنا وتعذبنا"".
"الكوميون الحر" بالنسبة لكروبوتكين هو "الشكل السياسي الذي يجب أن تأخذه الثورة".
فهو يمجد كوميونة باريس لأن استقلالها الكوميوني كان وسيلة، فيما كانت الثورة الاجتماعية هي الهدف.

كوميونة القرن العشرين لن تكون فقط كوميونالية Communal (الكوميونالية عند موري بوكين Murray Bookchin هي "البعد الديمقراطي للأناركية"، توضيح من المترجم)، بل ستكون شيوعية communist ! ستكون ثورية في السياسة، وكذلك في حقل الإنتاج والتبادل. فإما أن تصبح الكوميونة وبشكل مطلق "حرة لتقيم لنفسها المؤسسات التي تريدها، وتنجز كل الإصلاحات والثورات التي تجدها ضرورية"، أو أنها "ستبقى مجرد فرع للدولة، معرقلـَة في كل أعمالها، دائماً على حافة الصراع مع الدولة، في نضال ستهزم فيه الكوميونة بالتأكيد". وبالتالي، كانت الكوميونات الحرة بالنسبة لكروبوتكين هي القنوات الضرورية التي من خلالها تستطيع الثورة أن تصل إلى الحد الأقصى من التنمية.

ففدراليته تطمح إلى "" الاستقلال الكامل للكوميونات، والفدرالية بين الكوميونات الحرة، والثورة الاجتماعية داخل الكوميونات، بمعنى تكوين مجموعات إنتاجية متحدة لتحل مكان تنظيم الدولة"".

قال كروبوتكين للفلاحين : "" في وقت من الأوقات، كانت الأرض تعود للكوميون الذي يتكون من أولئك الذين يزرعون الأرض بأيديهم " ولكن بفضل الاحتيال، والتحرش، والعنف، أصبحت أراضي الكوميونات ملكية خاصة, ولذلك فعلى الفلاحين أن ينظموا أنفسهم في الكوميونات ويسترجعوا تلك الأراضي من أجل وضعها تحت تصرف أولئك الذين يريدون العمل فيها".

"" ومرة أخرى، هل تحتاجون إلى إنشاء طريق؟ إذاً فإن سكان الكوميونات المتجاورة يمكنهم أن يصلوا إلى اتفاق بينهم ويقوموا بإنشاق طريق أفضل من ذلك الذي قد يقيمه لهم وزير الأشغال العامة.
هل تحتاجون إلى سكة حديدية؟ إذاً فإن الكوميونات المعنية في كل المنطقة ستقيم واحدة أفضل من المقاولين الذين يحصدون الملايين لقاء بناء سكك حديدية سيئة.
ستحتاجون إلى مدارس؟ يمكنكم إنشاؤها بأنفسكم وعلى نحو أفضل مما يقوم به رجال باريس المحترمون. فالدولة لا علاقة لها بكل ذلك؛ فالمدارس، والطرق، والقنوات يمكن بناؤها بشكل أفضل بأيديكم، وبكلفة أقل.""

تلك المقتطفات من كتابه "ملاحظات ثائر" "Paroles d un revolté" " تجعل من الواضح أنه في تلك المواقع من كتابه "الاستيلاء على الخبز" "Conquest of Bread" التي قال فيها أن الكوميونات ستوزع البضائع، وكذلك حصص المؤن والحطب، وتنظم المراعي، وتقسم الأراضي، .. إلخ لم يقصد الكوميونات "كفرع من الدولة"، بل كان يقصد الاتحاد الحر للأعضاء المعنيين، والذي قد يكون إما جمعية تعاونية، أو هيئة ً مشتركة، أو ببساطة اتحاداً مؤقتاً لمجموعة من الناس الذين تجمع بينهم حاجة مشتركة.

كروبوتكين ليس قلقاً كثيراً بشأن المخاطر الملازمة للحكم الذاتي للمجموعات الصغيرة، مع أنه يدرك جديتها. وهناك فقرة مميزة له على الموضوع : "" حتى في وقتنا الحاضر، فإن المشاعر الأبراشية (نسبة إلى الابراشية التي كانت مناطق نفوذ رجال الكنيسة والمقصود هنا : النظرة الضيقة أو المحدودة ، توضيح من المترجم) قد تولد الكثير من الغيرة والحسد بين كوميونتين متجاورتين، وتمنع اتحادهما المباشر، بل قد تؤدي إلى النزاعات بينهما. ولكن حتى لو استطاعت تلك الغيرة أن تمنع وبقوة قيام اتحاد فدرالي مباشر بين كوميونتين متجاورتين، فإنه عن طريق المراكز المشتركة الكبيرة، سترسخ تلك الفدرالية نفسها. إن قصبتين (القصبة : وحدة إدارية، توضيح من المترجم) صغيرتين جداً ومتجاورتين اليوم لا يوجد ما يجمعهما بشكل مباشر، والعلاقات القليلة بينهما من الأرجح أن تؤدي إلى الصراع بدلاً من أن تزيد روابط التماسك والتضامن بينهما. لكنهما أصلاً تمتلكان مركزاً مشتركاً بينهما تبقيان من خلاله دائماً على اتصال مباشر، وبدون ذلك المركز لم يكن من الممكن وجودهما أصلاً؛ وبالرغم من كل ذلك الحسد والغيرة الأبراشية ستكونان دائماً مجبرتين على الاتحاد عن طريق المدينة الكبيرة، حيث تتزود كل منهما بالمؤونة وحيث تأخذ كل منهما منتجاتها، فكل منهما ستضطر لتشترك في الاتحاد نفسه -من أجل الحفاظ على علاقاتها مع ذلك المركز التنظيمي- والاتحاد مع غيرها في داخله"".

وهنا نجد مرة أخرى تبسيطاً للمشكلة الفدرالية. ولكن لنحكم على كروبوتكين بعدل، يجب ألا نأخذ في اعتبارنا فقط ما كتبه، بل أيضاً ما لم يكن بإمكانه كتابته. بعض الجمل المتعجلة، وبعض الفجوات، بعض "التبسيط" الزائد للمشاكل المعقدة (وردت في الترجمة الإنجليزية بمعنى "التضخيم" ولكن أعتقد أن هناك خطأ ً لأن الأقرب للمنطق هنا هو أن المراد هو "التبسيط"، المترجم)، كل ذلك لا يعود فقط لطبيعة تفكيره، بل أيضاً للاستحالة الأساسية لتطوير وجهة نظره. فقد كان كروبوتكين يكتب دائماً تقريباً لجرائد مخصصة لقراءة العمال. ولأنه كان ديمقراطياً بعمق، فقد كان دائماً يتطوع للتخلي عن غطاء أو قشرة النظرية، وذلك ليشمر عن ساعديه.

"إيريكو مالاتيستا"، والذي كان أيضاً في الأصل منظـّـراً و ومثقفاً، فعل الشيء نفسه. حتى كتيباته لا تمثل تعبيراً كاملاً عن أفكاره، أو شرحاً وافياً لأبحاثه. وهو نفسه يشرح السبب في "مذكراته" : "" كان عليّ أن أوضّح طرازاً جديداً كلياً في تلك الكتيبات. أعترف أنني كنت غالباً أحسد أولئك الكتاب الذيت يمتلكون العدد الذي يريدونه من الصفحات تحت تصرفهم من أجل تنمية أفكارهم، وأولئك الذين كان باستطاعتهم أن يستخدموا عذر " تاليراند " (أمير الدبلوماسيين الفرنسي، المترجم) : " لم يكن لدي وقت لأكون مختصراً " . في الوقت الذي كان علي أن أكثف فيه عمل عدة شهورعن أصل القانون –على سبيل المثال- لإعداد كراسة صغيرة لا بد من إنهائها، كنت أحتاج وقتاً كثيراً للاختصار"".

واجه كروبوتكين تلك المصاعب الأساسية حتى عام 1884 فقط. أما بعد ذلك، ولمدة ثلاثين سنة تقريباًً، فقد كان قادراً على كتابة كتب مهمة. ولكن في تلك الفترة الأخيرة، كان منظـّراً أكثر من كونه داعية، وكان فكره منشغلاً بشكل أكبر بالأبحاث التاريخية والدراسات العلمية، لذا فإن كتابه "ملاحظات ثائر" يبقى أفضل أعماله الأناركية لحيويته في التعبير، وتماسكه الإديولوجي.

فكّر البعض في قياس موقف كروبوتكين سنة 1914 (المؤيد للحرب ضد الألمان باعتبارها حرباً ضد الدولة، توضيح من المترجم) على موقف باكونين سنة 1871(والمؤيد بشدة لكوميونة باريس، توضيح من المترجم)، فباكونين كان مؤيداً للدفاع الثوري عن فرنسا بعد أن هزمت ثورة باريس الملكية، وكروبوتكين كان أيضاً معارضاً للحكومة الجمهورية في باريس وكان يحث على العصيان المسلح ضدها من أجل الوقوف في وجه الجيش الألماني فقط بثورة الشعب.

وبموقفه المؤيد للحرب، فصل كروبوتكين نفسه عن الأناركية، بل إنه ذهب بعيداً حتى التوقيع على "بيان ال16" Manifesto of the Sixteen، وهو وثيقة تعتبر النقطة المحددة للتفكك في الأناركيين المؤيدين للحلفاء في الحرب العالمية الأولى؛ وكذلك أيد "كيرنسكي" في روسيا في موضوع مواصلة الحرب.

رأى كروبوتكين المشكلة الفدرالية مشكلة فنية، وفي كتابه "العلم الحديث والأناركية" Modern Science and Anarchism يصرح أن الإنسان سيكون مجبراً على إيجاد أشكال جديدة من التنظيم للمهام الاجتماعية التي تنجزها الدولة من خلال البيروقراطية وأنه "طالما لم يتم فعل هذا، لن يتم فعل أي شيء".

ولكنه في حياته –حيث كان مغامراً أحياناً، وعلمياً بصرامة أحياناً أخرى- لم يكن بوسعه أن يطور نظرته الفدرالية بشكل منظم، وتصوره الخاص للأناركية، حيث تكون الروح الحيوية للشعوب جوهر التطور، كان متعارضاً مع تطور أفكاره الفدرالية للمستقبل.

يتبع

الموقع الأصلي للترجمة الإنجليزية التي أترجم عنها
http://dwardmac.pitzer.edu/Anarchist_Archives/coldoffthepresses/bernerikropotkin.html
موقع المترجم
http://1ofamany.wordpress.com