المجتمع المدني - عودة المفهوم


نايف سلوم
2003 / 12 / 29 - 04:27     

I
يشهد القارئ العربي في السنوات العشر الأخيرة بروز ثلاثــة مفاهيم هي: نهاية التاريخ والإديولوجيات [نهاية البراكسيس، أو فلسفة التغيير]، ومفهوم صدام الحضارات عوضاً عن صراع الطبقات، ومفهوم "المجتمع المدني" بدلاً من المجتمع البورجوازي.
سوف نرصد أولياً هذه العودة لمفهوم "المجتمع المدني". العودة الأولى كانت مع بوادر هزيمة الثورة الاشتراكية في أوربا الغربية أواخر العشرينات ومع ظهور مؤشرات على أزمة الديمقراطية السوفيتية بفعل من انفجار الصراع الاجتماعي بين السلطة السوفيتية والفلاحين الأغنياء[الكولاك] حيث لاحظ غرامشي بذور هذا الصراع عبر رسالته المؤرخة في 14 تشرين الأول 1926 إلى قادة الحزب الشيوعي للاتحاد السوفييتي جاء فيها: "أيها الرفاق، خلال هذه السنوات التسع من تاريخ العالم، كنتم أنتم العنصر المنظم والمحرك للقوى الثورية في كافة البلدان. وليس هناك في تاريخ البشرية سابقة بمثل هدف وتعقيدات عملكم. ولكنكم اليوم تقومون بتدمير ما فعلتم. إنكم تحطون منزلة الوظيفة القيادية التي احتلها الحزب الشيوعي لاتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفييتية من خلال عمل لينين، وتكادون تواجهون خطر إلغاء هذه الوظيفة ". ويعلق جون كاميت على هذه الرسالة بالقول: "لم يدافع غرامشي عن تروتسكي ورفاقه، بل وصف معارضتهم بأنها هجـوم على "الهيمنة البروليتارية " في روسيا " [ص242 غرامشي، حياته وأعماله]. وهذا تلميح إلى خطة اليسار البلشفي بقيادة تروتسكي[قبيل منتصف العشرينات من القرن العشرين] بخصوص التصنيع السريع، وما قد يجره من نسف للتحالف مع الفلاحين.

ظهر  تنظير غرامشي بخصوص "المجتمع المدني" إثر تلك الهزيمة للثورة الاجتماعية في الغرب، حيث تم لديه نقل المفهوم إلى حقل البنيـة الفوقيـة، ومماثلته بالحقل الإديولوجي، والسياسي، ودعوته للماركسيين في أوربا الغربية للعمل على إنجاز هيمنة في الأجهزة الإديولوجية والتربوية والاقتصادية للدولة الرأسمالية الاحتكارية على أرضية ظهور بوادر استقرار الهيمنة الاقتصادية والسياسية للبورجوازية الاحتكارية في أوربا الغربية  والولايات المتحدة مدرعة بالفاشية كحل استثنائي للأزمة الإمبريالية العامة. يقول غرامشي: "ينبغي الانتباه إلى أن في مفهوم الدولة العام عناصر ينبغي ردّها إلى المجتمع المدني إذ تعني الدولة: المجتمع السياسي + المجتمع المدنــي ، أي الهيمنة المدرعة بالعنف " [ص137 الأمير الحديث]. ويضيف "لا ينبغي أن يفهم بكلمة "دولة" جهاز الحكم فحسب، بل جهاز الهيمنة "الخاص" أو المجتمع المدني." [ص135 الأمير الحديث] . الدولة حسب غرامشي هي المجتمع السياسي [سلطة الدولة] بالإضافة إلى المجتمع المدني الذي يشمل المؤسسات الإعلامية، التربوية والاقتصادية للدولة البورجوازية الحديثة في المراكز والأطراف الرأسمالية. وهذا لا يجيز لنا عزل أجهزة الدولة الإديولوجية، الاقتصادية والتربوية كلحظات للدولة الحديثة عن السلطة السياسية للبورجوازية. فأجهزة الدولة الحديثة هي الأذرع الضاربة لهذه السلطة ومنفذة هيمنتها ومكرّسة سيطرتها على الطبقات التابعة أو الهامشية، وهذا لا يعني بالمقابل  إهمال الصراع في الحقل "المدني"، أي الصراع الاجتماعي ضمن أجهزة الهيمنة، مع التنبه الشديد إلى خطر الفاشية كرد فعل للبورجوازية المهددة بفقدان الهيمنة على المجتمع الذي تحكمه .  

يعطي غرامشي أهمية أساسية للمستوى الإديولوجي في البنية الاجتماعية الاقتصادية في ظروف أوربا الغربية بفعل ابتعاد أفق الثورة الاجتماعية "فقد اعتقد غرامشي أن المشكلات "الثقافية" هي مشكلات ذات أهمية خاصة في مراحل تتلو النشاط الثوري، كما في أوربا1815 ثم ثانية بعد 1921. ويقول غرامشي: إنه في مثل هذه الأوقات لا تكون هنالك معارك مباشرة بين الطبقات، ويتحول الصراع الطبقي إلى "حرب مواقع" ، وتصبح "الجبهة الثقافية" هي الميدان الرئيسي للنزاع [غرامشي، حياته وأعماله ص 253]. ربما أحدث هذا التعميم التباساً ذا نتائج مؤسفة. لأنه لا يميز بين وضعيتين تاريخيتين مختلفتين: أوربا الغربية ذات النظام البورجوازي، وروسيا السوفييتية بعد ثورة 1917 الاجتماعية. فبعد انتصار ثورة اجتماعية، وقيام سلطة بروليتارية يغدو الحديث عن "الجبهة الثقافية" أمراً أساسياً. أي يغدو مطلوباً من البروليتاريا تعزيز هيمنتها تعزيزاً عقلانياً عبر تمثل البرامج الديمقراطية للبورجوازية الصاعدة (1500- 1850)، وعبر برامج اقتصادية عقلانية ومنصفة للطبقات الثانوية [التابعة أو الهامشية خاصة الفلاحين]. يكتب جون كاميت: "وحتى في دولة اشتراكية، يبقى تعبير "الهيمنة" مفيداً للإشارة إلى صيغة اجتماعيـــة (أو مدنية) من دولة العمال القائمة على الموافقة، خلافاً لـ"دكتاتورية البروليتاريا" القائمة على القوة، التي تكون هي الشكل السياسي للدولة "  [غرامشي.. ص271 ] . جون كاميت الدارس الجيد لـ غرامشي يقدم فهماً ملتبساً بخصوص "ديكتاتورية البروليتاريا" حيث يتم لديه مماثلتها بالاستبداد السياسي ، لهذا يفترض كاميت وجود دولة قائمة على الموافقة الكلية، وهي الديمقراطية ، وأخرى قائمة على الاستبداد الكلي وهي الديكتاتورية . بينما حقيقة الديكتاتورية هي تنظيم الطبقة (أي طبقة) لسيطرتها وهيمنتها. حتى الديمقراطية هي دكتاتورية . الشكل الفاشي يشير إلى فقدان البورجوازية لهيمنتها على المجتمع بسبب أزمة عامة وبفعل المد الاشتراكي . بينما تشير البيروقراطية السوفييتية إلى أزمة هيمنة لدى البروليتاريا تجاه الفلاحين  بحكم عزلة الثورة الروسية ودمار الكوادر الممتازة للطبقة العاملة الروسية بفعل الحرب الأهلية.

 الدكتاتورية هي دكتاتورية طبقة كمحتوى يأخذ أشكالاُ متنوعة كالديمقراطية البرلمانية والفاشية والبونابرتية بالنسبة لحكم البورجوازية ، وهذا يقع على البورجوازية وعلى البروليتاريا من حيث أن لكل دكتاتورية محتواها الخاص التاريخي وأشكالها المرتبطة بهذا المحتوى . إنّ دكتاتورية الطبقة هي تنظيم السيطرة بفعل سلطة الدولة عبر أجهزة الإكراه الملحقة بها ، وتنظيم الهيمنة بواسطة الأجهزة الإديولوجية ، التربوية والاقتصادية . بهذا المعنى يكون كاميت غير محق في مقابلته بين الموافقة الكلية من جهة والديكتاتورية من الجهة الأخرى. و لذلك تتوجب الإشارة إلى أن كل صراع طبقي هو صراع سياسي مدعم بتوجيه محدّد للعملية الاقتصادية وبسيطرة على الأجهزة الإديولوجية لإدامة سيطرة الطبقة السائدة وتأبيدها. هذه الهيمنة للمستوى السياسي في البنية الاجتماعية وواجب استحضارها الدائم من قبل البروليتاريا يمكن أن يقارب مفهوم السيطرة اللينيني [راجع الفصل الرابع من "مقدمات نظرية" لـ مهدي عامل]، و التي تمكن مقاربتها أيضاً عبر مناقشة  بورديغا الذكية مع غرامشي  يقول بورديغا: "..إن فكرة المجالس ، باعتبار هذه المجالس أدوات اقتصادية- تقنية للسيطرة على الإنتاج ، كانت فكرة إصلاحية بحتة . والخطأ هو القول بأنه يمكن للبروليتاريا أن تعتق نفسها بكسب الأرض في العلاقات الاقتصادية في حين ما زالت الرأسمالية تمسك بزمام السلطة السياسية من خلال الدولة " [ص128 غرامشي..]. وبعد أشهر قليلة،  أصر بورديغا على أنه " لا يمكن تحقيق السيطرة على الإنتاج إلا عندما تكون السلطة [السياسية] قد انتقلت إلى أيدي البروليتاريا " [غرامشي..ص128 ] . بالمقابل ، يؤكد غرامشي على الهيمنة ؛ كحالة وعي سياسي للبروليتاري؛ وعي يتجاوز الوعي النقابي، أو الوعي الأناني المطلبي.  غرامشي على هذا الأساس ، يسلّم القيادة للوعي السياسي مهمشاً قضايا التنظيم ، ففي رأي غرامشي أن "الـحزب فوق كل شيء أداة للتثقيف والتحضير" [ص258 غرامشي..].  بينما الهيمنة أو القيادة عند لينين هي للتنظيم وقضاياه، مع النظر إلى أن التنظيم هو أرفع شكل للعلم السياسي والتاريخي وخلاصتهما . يكتب جون كاميت: " كان البرنامج التثقيفي يتعلق بشكل مباشر بمهمة أخرى لمفوضي مجالس المصانع ، ألا وهي الاستعداد للاستيلاء على السلطة ...وبهذه الطريقة سيكون على العامل ألا يفكر بنفسه ككاسب للأجر بل كمنتج، مع الوعي الكامل بمكانه الدقيق في عملية الإنتاج " بكل مستوياتها من المصنع إلى الأمة ، إلى العالم". وكان غرامشي يعتقد أن هذه النظرة الموسعة هي أفضل ضمانة للتغيير الكامل للنظام الرأسمالي القائم". [غرامشي ..ص117 ] . الحزب عند غرامشي جهاز إيديولوجي؛ جهاز تثقيف أو توعية ؛ إنه المثقف الجماعي حسب عبارة لـ تولياتي، إنه جهاز هيمنة (جهاز دعاية وإقناع) . بينما هو، حسب فكرة السيطرة اللينينية ، جهاز سيطرة سياسية ومُثقّف جماعي ، أي هو جهاز سيطرة وهيمنة . " في عام 1919 اعتقد غرامشي بأنه يمكن تجديد الحزب من القاعدة وذلك بإقامة المجالس ، ولكنَّ الأحداث الكارثيّة لـ عام 1920 أقنعته أن إعادة التنظيم الشاملة للحزب هي الوسيلة الوحيدة لضمان نجاح المجالس." [غرامشي..ص124 ]. وقد أعاد غرامشي النظر في موقفه هذا وبشكل جذري، إذ كتب في 18 أيار 1923 يقول:

"إن تجربة ثلاث سنوات جعلتنا نعرف مدى عمق التقاليد الاشتراكية الديمقراطية ومدى صعوبة تدمير بقايا الماضي بالجدل الإديولوجي فقط، وهذا لا ينطبق على إيطاليا وحدها . ولابد من القيام بعمل سياسي واسع ومفصل لتفكيك هذه التقاليد من خلال تفكيك الأجهزة التي تجسدها". [ص224 غرامشي..] . ربما نستطيع تفسير انشغال غرامشي بـ ميكيافللي بسبب من انشغال هذا الأخير بـ مسألة الهيمنة . يقول كاميت: "كان مكيافللي يعرف أن القوة وحدها لن تضمن نجاح برنامجه السياسي. وفي النهاية "كان الحصن الفصل [للأمير] هو محبة شعبه، لأنه وإن كان للإنسان أن يمتلك الحصون، فإن هذه لن تنقذه إذا ما كرهه الشعب ". وكان هذا إيذاناً مبكّراً بالأهمية الكبرى للقيادة "الروحيــة"- أي  الهيمنة- في الصراع الــسياسي " [ غرامشي ص279-280 ]    

مهما يكن، فإنه مع فشل الثورة في أوربا الغربية دعا غرامشي الماركسيين الأوربيين كي يلعبوا دور معارضة مدنية [إديولوجية] لسلطة الرأسمالية الاحتكارية، بالتالي دعاهم للهيمنة المدنية بسبب بعد الأفق فيما يخصّ تحطيم آلة الدولة البورجوازية وبناء سلطة بروليتارية جديدة. وهذا ما أشار إليه انجلز في تقديمه لكتاب ماركس "الصراعات الطبقية في فرنسا" بالقول: "لقد اتضح أن مؤسسات الدولة، هذه المؤسسات التي هي شكل حكم البورجوازية، توفر للطبقة العاملة مزيداً من الفرص من أجل محاربة هذه المؤســسات الخاصة بالدولة نفسها.. [العمال] ينازعون البورجوازية على كل مركز يملك قسم كاف من البروليتاريا كلمته بشأن الشخص الذي سيشغله" [ص18]  

يعطي غر امشي الحقل الإديولوجي [حقل الوعي] قيمة محورية في البنية الاجتماعية ، بمعنى آخر ينظر إلى الحقل الإديولوجي كوسيط أساســي بين البنية الاقتصادية القائمة [علاقــــات التبادل والتداول + علاقات الملكية الخاصة] من جهة واحدة، وبين الحقل السياسي كأفق لبناء دولة من طراز جديد [دولة بروليتارية محتملة] من الجهة الثانية، بالتالي يأخذ الجانب الإيجابي والفعال من هذا الحقل [الوعي العلمي التاريخي بالبنية البورجوازية]. وعلى اعتبار أن الحزب السياسي هو هذا الوسيط الإديولوجي بين بنية اجتماعية- اقتصادية قائمة بالفعل وبين بنية سياسية محتملة جديدة. يكون "الحزب هو الجهاز الثقافي الأمثل ، الجهاز الذي يجسّد عينياً معنى مفهوم المُثقَّف: الحزب هو المثقف الجماعي" ["فكر غرا مشي السياسي" ص63] . ويقـــول غرا مشي في الأمير الحديث:  " لقد قلت بعدم إمكانية كون الداعي للأمير الحديث في العصور الحاضرة بطلاً فرداً. إنه حزب سياسي، أي ذلك الحزب الذي يهدف (والذي قد أسّس تاريخياً وعقلانياً لهذا الهدف) لتأسيس نوع من الدولة جديد، في أوقات مختلفة وضمن العلاقات الداخلية المختلفة لأمم مختلفة.[ الأمير الحديث ص43 ] . الدولة عند غرامشي مكونة من سلطة الدولة (برلمان، قضاء، حكومة)  وأجهزة الدولة، وهذه الأخيرة مكونة من أجهزة هيمنة (مجتمع مدني) وأجهزة سيطرة (أجهزة إكْراه). تشمل أجهزة الهيمنة الأجهزة الإديولوجية كالإعلام، والتربوية كالمدرسة والجامعة، إضافة إلى الأجهزة الاقتصادية .

أما ماركـس فيستخدم مصطلح المجتمع المدني بطريقتين: الأولى وردت في "المسألة اليهودية" على الشكل التالي، يكتب ماركس: "الدولة السياسية الكاملة هي، حسب جوهرها ، حياة الإنسان النوعية العامة بمعارضة حياته المادية[الخاصة] . كل افتراضات هذه الحياة الأنانية تواصل بقاءها في المجتمع المدني خارج دائرة الدولة، ولكن كخصائص للمجتمع البورجوازي. حيثما الدولة السياسية وصلت إلى تفتحها الحقيقي، يعيش الإنسان ، ليس فقط في الفكر، في الوعي، بل في الواقع ، في الحياة ، وجوداً مزدوجاً ، سماوياً وأرضياً ، الوجود في الجماعة السياسية أو الاشتراك السياسي، حيث يعتبر نفسه كائناً عاماً، والوجود في المجتمع المدني ، حيث يشتغل كإنسان خاص ، يرى في البشر الآخرين محض وسائل ، يخفض ذاته إلى مرتبة وســيلة محضة ، ويصير لعبة بيد قوى غريبة . الدولة السياسية هي إزاء المجتمع المدني روحــانية بقدر ما الســـماء روحانيـــــة إزاء الأرض" [حول المسألة اليهودية ص 179] .

يظهر المجتمع المدني ، هنا ، كحياة مادية خاصة مقابل الحياة العامة والمجرّدة للدولـة الحديثـة، حيث يتم التحديد ،هنا، بالتقابـل، [التعريف بالنقيض] ، والمجتمع المدني هذا هو المجتمع البورجوازي في حياته الصناعية والتجارية. أما في" الإديولوجية الألمانية " فإن ماركـس يماثل بين المجتمع المدني وبين علاقات الإنتاج التي تشمل العلاقات الاقتصادية (علاقات السوق )،  والعلاقات الاجتماعية ، أي علاقات الملكية الخاصة.  بالنظر إلى أن أنماط الإنتاج هي في جوهرها أشكال  تاريخية للملكية الخاصة  تعمل بدفع تطور القوى الإنتاجية ، فإن ماركس يعتبر علاقات الإنتاج أو المجتمع المدني،  إذا شئتم ، المسرح الفعلي للتاريخ . يكتب ماركس: "المجتمع المدني في مراحله المتنوعة على اعتباره أساس التاريخ برمته . الأمر الذي يستقيم في إظهار هذا المجتمع في عمله من حيث هو دولة ، وكذلك في تفسير جميع المنتجات [منتجاته] النظرية وأشكال الوعي المختلفة من دين وفلسفة وأخلاق. ["الإديولوجية الألمانية" ص49-50]. هكذا يتمظهر المجتمع المدني خارجياً على شكل أمة أو قومية ، وينظم ذاته داخلياً على شـكل دولة. هذا المجتمع، حســـب ماركس ، هو جماع العلاقات التجارية والصناعية لمرحلة تاريخية محددة . لكن لم يتم وعيه كصياغة نظرية إلا في القرن الثامن عــشر ، عندما تخلصت الدولة الحديثة من الامتيازات الدينية والعائلية والعسكرية.

في المؤلفات اللاحقة وخاصة "في رأس المال" يستغني ماركس عن مصطلح المجتمع المدني كبنية تحتية ويبقي على مفهوم علاقات الإنتاج الاجتماعية الاقتصادية كمسرح للتاريخ ، أي على اعتبار أن التاريخ هو أساساً الانتقال من شكل سائد للملكية الخاصة إلى شكل آخر جديد إلى أن نصل إلى الصناعة الكبيرة التي ظهرت مع صعود البورجوازية الحديثة ، حيث بات الصراع بين الملكية الخاصة من جهة ، وبين تعميم الملكية أو إلغائها ،كملكية خاصـة، من جهة أخرى أمراً راهناً . هذه التخلي عن المفهوم جاء على أرضية الإرهاصات  الثورية منتصف القرن التاسع عشـــر [ثورات 1848 الديمقراطية] ، وعلى أساس التحضير النظري لقلب سلطة البورجوازية وتحطيم دولتها ومعها مجتمعها المغترب- مجتمعها المدني- البورجوازي .

هكذا ينظر ماركس كلحظة أولى إلى المجتمع المدني كوجود قائم غير واع لذاته. ولهذا السبب يرى أن الطبقة السائدة تنظم سيطرتها في دولة، أي تقيم دكتاتوريتها عبر بناء سلطتها السياسية المكونة من البرلمان والحكومة والقضاء ، وعبر أجهزة الإكراه [أجهــزة القمـع: الجيش والبوليس] ، من جهة، وعبر الهيمنة بواسطة أجهزتها الإديولوجية والتربوية والاقتصادية النقابية من جهة أخرى. ولهذا السبب ينظر ماركس إلى الحقل الإديولوجي على أنه واسطة تزييف لحقيقة البنية الاقتصادية ولواقع ملكية ثروة المجتمع. حيث تحاول الطبقة الســائدة إقناع الطبقات الهامشية أو الفرعية بمعقولية الوضع القائم . هكذا يتوسط الحقل السياسي [سلطة الدولة] ،حسب ماركس، بين البنية الاقتصادية وبين البنية الإيديولوجية في المجتمع البورجوازي، أي يمر الفكر عبر مصفاة السلطة السياسية فتخصيه. من هنا استنتاجه بأن كل إديولوجيا هي وعي زائف . يتحدث ماركس، هنا، عن الوضع القائم كما هو قبل التفكير و الشروع بتغييره . إنه يفسر البنية القائمة كلحظة أولى . في اللحظة الثانية يتحدث ماركــس عن العلم التاريخي الذي يتوجب على البروليتاريا بناؤه ، عبر نقد الأوهام والإديولوجيـــات السائدة ، في سبيل معرفة حقيقة البنية الاجتماعية- الاقتصادية القائمة وسرّ دولتها . من هنا تبدأ حركة النقد عند ماركس بنقد الإديولوجية السائدة . لهذا يقول في "نقد فلسفة الحق عند هيغل" أن " نقد الدين هو مقدمة لكل نقد آخر".باعتبار الدين بيت الأوهام والاغتراب . من ثم يأتي نقد البنية الاجتماعية- الاقتصادية على شكل نقد الاقتصاد السياسي ، وأخيراً نقد الدولة والسياسة كديكتاتورية بورجوازية ، من حيث كونها سيطرة وهيمنة. وهذا لا ينفي تشكُّل إديولوجية عضوية قائمة على أساس نتائج العلم التاريخي ، أي نتائج العلم التاريخي وقد تشربته الجماهير، خاصة البروليتاريا [الإيمان بنتائج هذا العلم] . 

أما هيغل* الذي انشغل بالمصطلح بعد قراءة آدم سميث ودافيد ريكاردو وجان باتيست ساي اعتباراً من سنة 1805 ،  فنريد أن نشير إلى أمرين أساسيين في فهمه للمجتمع المدني:

يماثل هيغل بين مدني وبورجوازي وهــــو يستعرض المفهوم على محورين: المحور الأول تاريخي  [تعاقبي] عبر الانتقال من الأسلوب الإقطاعي للملكية الخاصة وعلاقاتها إلى الأسلوب البورجوازي أو الرأسمالي للملكية الخاصة وعلاقاتها، حيث يشير هيغل إلى الانتقال من الجماعة الطبيعية (العائلة أو الأسرة) إلى الجماعة السياسية، أي البنية الاقتصادية الاجتماعية وتنظيمها في الدولة الحديثة والنقابة)، أي الانتقال من فرد يجد نفسه في العائلة وتظهر أنا ه موسّطة بهذه الجماعة حيث نجاحه من نجاحها وفشله من فشلها إلى الفرد البورجوازي الحديث المعزول والذي يرى في جميع الأفراد الآخرين عقبة (حد) أو وسيلة لتحقيق مصالحه الفردية، هذا الفرد الذي يتماثل مع الأفراد الآخرين بأن كل الآخرين شرطه أو وسيلته [ضرورته أو حريته] ،هو الفرد البورجوازي الحديث الذي لم يعد طموحه سوى تحقيق فرديته من حيث هو فرد، وهو ما يتزامن مع تحول جميع القيم إلى قيمة واحدة عامة هي النقود [الإله المعدني]. يرافق هذا التحول تحول في الدساتير والقوانين فيظهر القانون المدني (البورجوازي) لحماية هذا الحق حق الملكية الخاصة للأفراد.

تحت عنوان الانتقال من الأسرة إلى المجتمع المدني" يكتب هيغل في " أصول فلسفة الحق" : "تتفكك الأسرة إلى أسر كثيرة ..امتداد الأسرة بانتقالها إلى مبدأ جديد ، هو في بعض الأحيان امتدادها السلمي في العالم الخارجي حتى تصير شعباً ، أعني أمة " [.ص (428-429)] وهنا أشير إلى الامتداد السّلمي للعائلة أو الأسرة في البلدان التي تعرضت للغزو الاستعماري ، بفعل التوسع الكولونيالي الأوربي أواخر القرن التاسع عشر، أي بفعل عمل لا سلْمي. هكذا يظهر المجتمع المدني الرثّ في البلدان العربية بفعل العنف الإمبريالي. وتحت تأثير هذا العنف تتحوَّر الأرستقراطية إلى بورجوازية ليبرالية طرفية رثة .  يقول جون لوك: "انبثق عن الطور الطبيعي ، أول ما انبثق المجتمع المنزلي المؤلف من أفراد الأسرة والعبيد يقوم على رأسهم الأب، ثم المجتمع السياسي أو المدني بمعناه الأصيل وهذان المجتمعان [الطبيعي والسياسي] يتميزان كل التميز أحدهما عن الآخر لاختلاف غرضهما ونوع السلطة المهيمنة عليهما ، فغرض المجتمع الأول إن هو إلا التناسل وتوفير أسباب المعاش للأولاد حتى يبلغوا أشدَّهم فهو مجتمع طبيعي أما المجتمع المدني فهو مجتمع اختياري [سياسي] غرضه المحافظة على حياة المرء وحريته الطبيعية وأملاكه ودفع عدوان الآخرين عنه" [في الحكم المدني ص (ح) ] . لاحظ الانتقال من المجتمع الطبيعي إلى المجتمع السياسي [المدني] يعني المحافظة على الحياة [حق الحياة]، وعلى الحرية الفردية [حق الحرية] وعلى الملكية [حق الملكية الخاصة] ، والحق في دفع عدوان الآخرين إذا ما حاولوا الاعتداء على هذه الحقوق . يكتب هيغل أن الأفراد في المجتمع المدني ، "الأفراد بوصفهم مواطنين (بورجوازيين) في هذه الدولة هم شخصيات خاصة غايتها نفعها الخاص" . ويمكن إجمال لحظات المجتمع المدني عند هيغل باللحظات الثلاث التالية:

1-     توسُّـط الحاجة وإشباع الفرد لها من خـلال عمله(نظام الحاجـــات) [ وهذا ما أشـير إليه لاحقاً باســـــم البنية الاقتصادية أو المستوى الاقتصادي في البنية الاجتماعية القائم على شــــكل تاريخي محدّد للمِلْكية الخاصة ] .

2-حماية الملكية [الخاصة] من خلال ممارسة العدالة ( التشريع البرلماني والهيئة القضائية ) .

3-الاحتياط ضد الجوانب العرضية ..ورعاية المصالح الجزئية الخاصة وكأنها مصلحة مشتركة عن طريق الشرطة والنقابة " [يمكن إجمال اللحظتين الثانية والثالثة بما يمكن تسميته بالجهاز الحكومي التنفيذي( القضاء والشرطة) . [راجع أصول فلسفة الحق ص /438/] وهذه اللحظات الثلاث هي خصائص أساسية للمجتمع البورجوازي الحديث.

المحور الثاني في تناول هيغل للمجتمع المدني هو المحور البنيوي [التزامنيِّ synchronous ]، أي دراسة المجتمع المدني من حيث هو المســافة الاجتماعية- الاقتصادية بين الفرد والدولة. "فالنقابة تحلّ محلّ الأسرة التي لم تعد تستطيع لعب دورها في هذا المجتمع المدني. والنقابة تصبح الوسيط الحقيقي بين الفرد والدولــة" (المصلحة مكان القرابة) [ "مدخل إلى فلسفة التاريخ عند هيغل"ص129] ، الدولة من حيث هي سلطة سياسية ولحظة إكراه. وعلى هذا فالمجتمع المدني عند هيغل يشتمل على علاقات الإنتاج الاجتماعية الاقتصادية والنقابات الحرفية والمنظمات الدينية والأهلية والنقابات العمالية والأحزاب السياسية ويشمل الأجهزة الإديولوجية والتربوية للدولة الحديثة (المدارس والجامعات والمؤسسات التربوية الأخرى) باستثناء القضاء والبرلمان والحكومة التي تشكل كأجهزة إكراه بأشكال مختلفة اللحظات الثلاث للسلطة السياسية من حيث هي سلطة. يظهر المجتمع المدني عند هيغل خليطاً من البنية التحتية والبنية الفوقية.

بالطبع حتى المؤسسات العسكرية لها جانبها الإديولوجي والتربوي وذلك لأن الجيوش الحديثة تنْحَدر في غالبيتها من أصول فلاحية أي تنحدر من طبقة تابعة أو هامشية، يتوجب إخضاع أفرادها لتربية مواتية.

 

 

ІΙ

 

العودة الثانية لمفهوم المجتمع المدني هي عودته بعد تفكُّك الدولة السوفييتية في روسيا أواخر ثمانينات القرن العشرين وتراجع موجة الثورات التي غطت القرن بكامله تقريباً . أي بعد تفكُّك هيمنة مفهوم الثورة (لاحظ عودة مفهوم النَّهضة إلى التداول الثقافي العربي). فالتحول من طرح تغيير البنية الرأسمالية القائمة إلى محاولة تفسيرها ومعارضتها ضمن حدود برلمانية بالمعنى المجازي للكلمة يدفع للعودة من مفهوم علاقات الإنتاج السائدة (علاقات السوق وعلاقات الملكية الرأسمالية الخاصة) إلى مفهوم المجتمع المدني في محاولة لتلطيف آثار اشتغال النظام الرأسمالي عبر معارضته برلمانياً ومؤسساتياً ، أي عبر الضَّغط عليه من داخل مؤسساته المدنية القائمة: المدرسة، النقابة، الجامعة، الخ.. وذلك في محاولة من الطبقات الفرعية (الهامشية) لتحسين شرطها الاقتصادي/ النقابي والسياسي                                                                                                          

وهنا نشير إلى ما قاله العظم في مقالته "ما هي العولمة" :"أقول هذا [الكلام للعظم] لأن الذين حاولوا تغيير العالم عندنا كثرة كثيرة، لكن المطلوب في هذه اللحظة على ما يبدو لي [أنا العظم] هو فهم العالم وتفسيره بشكل أفضل، وربما قبل فوات الأوان". [ "ما العولمة" ص61]

أخيراً لا بد من التمييز بين الحُكم المدني كمقابل للحكم الدِّيني ، الحكم المدني الذي يرى في الدولة ظاهرة وضْعية؛ من عمل البشر  تستمد شرعيتها من الشعب، وبين الحكم الديني الذي يرى في الدولة امتداد إلهي على الأرض، بالتالي لا يستمد الحاكم شرعيته من الشـــعب بل من الله ، أو من الله أولاً ثم من الشعب ثانياً بحيث لا يغضب الشعب إرادة الله.

لقد ظهر مفهوم الحكم المدني في أوربا في القرن السابع عشر في محاولة من البورجوازية الصاعدة وقتها قطع الحبل القوي الذي يحمي المَلَكِّيات المستبدة والتي تستمد شرعيتها من السـماء. كانت محاولة لمواجهة الإديولوجية الدينية السائدة التي كانت تشكِّل الثقافة العضوية لسلطة الإقطاع ووسيلة هيمنتها بالتالي يكون مفهوم الحكم المدني فكر مقاوم للإديولوجية الدينية في محاولة من البورجوازية الصاعدة  لبناء سـلطتها ودولتها الجديدة. ومن مفارقات التاريخ أنه بعد انتصار الثورة الإيرانية 1979  عاد مفهوم الدولة الدينية إلى الظهور، دولة تستمد شرعيتها من الله مباشرة [ولاية الفقيه]، حيث جاءت هذه الدولة بعد تصدع الدولة السوفييتية المصابة بالمرض البيروقراطي كنموذج بديل للدولة الرأسمالية الاحتكارية (الدولة البورجوازية)،  فكانت هذه الرِدَّة الشكلية إلى ما قبل الدولة الليبرالية. وهي شكلية لأن هذه الدولة الدينية قائمة جوهرياً على المِلْكيّة الرأسمالية الحديثة أي هي رأسمالية طرفية ذات ملمح بونابرتيّ نتيجة الضعف المتبادل للطبقات والقوى الاجتماعية الناجم عن تخلُّع البنية الاجتماعية- الاقتصادية الرأسمالية الطرفية، ومعها العقبة الإمبريالية الخارجية .

 

 

 

 

هوامش
 

1-أنطونيو غرامشي "الأمير الحديث" قضايا علم السياسة في الماركسية، ترجمة زاهي شرفان  وقيس الشامي دار الطليعة-بيروت ط1 1970

2-جان مارك بيوتي "فكر غرامشي السياسي" ترجمة جورج طرابيشي دار الطليعة ط1 1975

3-جان هيبوليت "مدخل إلى فلسفة التاريخ عند هيغل" ترجمة أنطون حمصي وزارة الثقافة 1969 دمشق

4-كارل ماركس " الإديولوجية الألمانية" ترجمة د.فؤاد أيوب دار دمشق 1976

5- باور-ماركس "حول المسألة اليهودية" ترجمة الياس مرقص دار الحقيقة من دون تاريخ

6-هيغل "أصول فلسفة الحق" ترجمة ا.د.إمام عبد الفتاح إمام مكتبة مد بولي القاهرة 1996

7- د.حسن حنفي و د.صادق جلال العظم "ما العولمة ؟" دار الفكر 1999

8- جون لوك "في الحكم المدني" ترجمة ماجد فخري اللجنة الدولية لترجمة الروائع بيروت 1959

9- ماركس- انجلز "منتخبات في15 مجلد ترجمة الياس شاهين دار التقدم 1988 المجلد 1
10- ماركس " الصراعات الطبقية في فرنسا" 1848 –1850 ترجمة د. فؤاد أيوب دار دمشق 1964 
11-جون كاميت "غرامشي ، حياته وأعماله" ترجمة عفيف الرزّاز، مؤسسة الأبحاث العربية ط1 1984 .

12- مهدي عامل "مقدمات نظرية لدراسة أثر الفكر الاشتراكي في حركة التحرر الوطني" 1-في التناقض 2- في نمط الإنتاج الكولونيالي دار الفارابي بيروت الطبعة الخامسة 1986

• هيغل المعجب بالتنظيم البيروقراطي للدولة البروسية يشير إلى أن المجتمع المدني يعيد ثانية خلق حالة نقمة تتنكر للدولة [لاحظ حالة بولونيا حيث نقابة تضامن تتنكر للنظام البيروقراطي الشيوعي]