ضد ماركس


سعد محمد رحيم
2008 / 4 / 4 - 12:47     

من هم ضد ماركس لا يعدّون. وهؤلاء ينتمون إلى مؤسسات متباينة في موجهاتها واتجاهاتها، وينتشرون في قارات الأرض المتمدنة كلها. لكنهم جميعاً يشتركون في نقطة واحدة وهي شعورهم ووعيهم بخطورة الفكر الماركسي على مستقبل الوضع القائم الضامن لمصالحهم ومصالح الفئات والطبقات الاجتماعية التي يتحدرون منها، وكذلك على ديمومة مؤسساتهم وأنظمتهم، أو على الأنساق الإيديولوجية التي يمثلونها.. دوافعهم تختلف، فمنهم من ينطلق من منطلق ديني، ومنهم من يكون وازعه قومياً أو فاشياً، ومنهم من يهاجم ماركس عن جهل وعماء. ولسنا بصدد مناقشة آراء وتصورات كل أولئك في هذا السياق. وأيضاً، لن نتطرق إلى نقّاد الماركسية الخارجين من تحت عباءة ماركس نفسه، والحريصين على الإبقاء على توهج فكره وتطويره. غير أن التركيز سيكون على من يعبّرون عن إيديولوجية البرجوازية ــ الطبقة التي كان همُّ ماركس الأول تدميرها ــ ومن الأخيرين من هم مفكرون كبار أثرّوا بعمق على مسارات البحوث الفكرية التي وضعت مسألة تقويض الفكر الماركسي نصب عينها. وهم، في الغالب، يمتلكون مواقع مهمة في المؤسسات الأكاديمية أو الإعلامية والثقافية، أو في مراكز البحوث الاستراتيجية. وسينصب اختيارنا على مفكرين بعينهم، أبرزهم ميشيل فوكو وجاك ديريدا وفوكوياما، الذين شغلوا الوسط الأكاديمي والثقافي والإعلامي والسياسي كثيراً، خلال العقود المنصرمة، بادئين بالمفكر الفرنسي ميشيل فوكو صاحب المنهج الأركيولوجي ومؤلف كتب شهيرة أبرزها ( الكلمات والأشياء ) و ( اركيولوجيا المعرفة ) و ( المراقبة والمعاقبة ) و ( تاريخ الجنسانية ) و ( تاريخ العيادة ).
يشبّه ميشيل فوكو، ماركس وفكره في القرن التاسع عشر بالسمكة في الماء. بمعنى، وعلى وفق تخريج فوكو؛ إن ماركس، فكراً ومنهجاً، ما هو إلا جثة هامدة في القرن العشرين، وسيبقى هكذا في القرون التالية لأنه يعجز عن التنفس بعد القرن الذي شهد ولادته ووفاته. والسبب كما يرى يكمن في جملة المتغيرات الضخمة التي طرأت على فكر البشر وأنماط حياتهم وأشكال مؤسساتهم التي لم يكن لمنهج وفكر ماركس أن يستوعبها أو يرهص لها.
سعى فوكو إلى تشكيل نظام فكر جديد ضد أو إلى جوار الماركسية التي ادّعى رفضها، وإن لم يعترف صراحة بحقيقة مسعاه ذاك.. هذا ما تؤكده فرانسوا دوس في كتابها الصغير الممتع ( عالم فوكو ). فقد عمل فوكو على تحليل أنظمة الفكر في كتابه الذائع الصيت ( الكلمات والأشياء )، داخلاً ثلاثة حقول حساسة تشكل أوجه الحياة البشرية ( اللغة والاقتصاد والبيولوجيا ). أي تلك التي تخص الإنسان في فعالياته الأساسية. وإذ ذاك كان يبحث في تلك القطيعات الابستمولوجية الحاسمة في فهمنا ورؤيتنا لتلك الحقول والفعاليات. حيث يقفز الفكر مع مفكر بعينه إلى عتبة جديدة، بأبستيمي آخر مختلف، مغيّراً من نظام الفكر كله، في مركزه وعناصره وعلاقاته. فبحسب فوكو فإن ريكاردو، لا ماركس، هو الذي أنجز القطيعة في الفكر الاقتصادي ناقلاً المركز من التبادل إلى الإنتاج. وكلاهما، إذن، ينتمي إلى الأبستيمي نفسه.
ولا تتكشف ضدية فوكو لماركس مثلما تتكشف في معاداة الأول للتاريخ.. التاريخ بعدّه استمرارية. ففوكو منذ البدء حاول أن يكسر الاستمراريات والتواصلات وأن يطيح بالنزعة التطورية المتدرجة باحثاً عن الطفرات والانقطاعات والانزياحات الحادة. إن عمل فوكو، ومن بعده أعمال ما بعد الحداثيين ما هو إلا محاولة للإطاحة بالمفهوم الماركسي للتاريخ، إذ يصبح التاريخ محض سرد في رؤية بول فيني، وبرؤية فوكو يغدو سياقاً وحقل تجريب للمعرفة العقلية الصرف، وليس حقلاً ينتظر من يكشف عن آلياته وقوانين تطوره كما كان الأمر مع ماركس. ولذا علّق سارتر على كتاب فوكو ( الكلمات والأشياء ) قائلاً؛ "إن الشيء المستهدف فيما وراء التاريخ هو بالطبع الماركسية.. إن فوكو يريد أن يشكل إيديولوجيا جديدة تكون بمثابة آخر حاجز تقيمه البرجوازية ضد ماركس".
وعلى الرغم من منهجه الاركيولوجي الذي يبحث في المناطق والطبقات الغائرة من الفكر، إلا أنه وفيما يخص ماركس يبدو أن تفسيرات وتمثيلات معينة لماركس هي التي كانت حاضرة أمام ذهنه وهو ينتقد أولئك المثقفين الذين يلبسون جبة الحكماء والأنبياء ويتموضعون في أبراج عاجية، يعتقدون أنها من صنع ماركس أو أن هذا ما كان يريده ماركس. فكان ينتقد بلا هوادة من يظن أنه يمتلك الحقيقة، ويدّعي تحرره من تأثيرات السلطة. وكان "ينصح المثقفين بالإقلاع عن التنبؤي والشمولي، ويحضهم على التخلي عن مواقف كبار العرافين، وبخاصة عن دور المشرّع الذي يطالبون به" على وفق تعبير أوبير دريفوس وبول رابينوف في كتابهما ( ميشيل فوكو: مسيرة فلسفية ).
إن الممارسات الثقافية بحسب فوكو هي التي تحدد ما نكون عليه، وهنا، مثلما يظهر، يفترق فوكو عن ماركس كثيراً، بيد أنه وهو يسبر في جوهر تلك العلاقة الإشكالية بين المعرفة والسلطة، يجد نفسه في قلب التاريخ. فالعلوم الاجتماعية من وجهة نظره تكونت أولاً داخل مؤسسات سلطوية معينة ( المستشفيات، السجون، الإدارات ) لتؤدي وظيفة معارف تخصصية، غير أنها نتاج أفعال في التاريخ. وهو إذ يحاول التبرؤ من فكرة أن تكون تلك العلوم الاجتماعية انعكاساً مباشراً لفاعلية المؤسسات يرى أنها "تطورت في الإطار التاريخي نفسه، وإنها لم تنفصل عن تكنولوجيات السلطة ــ المعرفة التي استثمرت ( المؤسسة ) ( وبالتالي فإن ) فاعل المعرفة، بدلاً من أن يضع نفسه خارج كل سياق، هو بالعكس من نتاجات الممارسات التي يحللها".
ما كان لفوكو أن يفكر بإقامة صرح فكره من غير التنكر لنسبه الماركسي. فمعاداة ماركس، في هذا الإطار، يمكن أن تُقرأ باستعارة المنظور الفرويدي كونها نوعاً من محاولة قتل الأب.. لم يكن لفوكو أن يرسخ نظريته من غير ماركس حتى وإن كان هذا يعني إبعاد ماركس وقتله. وها هي فرانسوا دوس على الرغم من تقريظها الحيوي والمتوهج لفوكو في كتابها الآنف الذكر فإنها تلمّح إلى نسب ماركس في عمل فوكو حيث تجد أن ( أركيولوجيا المعرفة ) كتاب فوكو الشهير هو الأكثر قرباً من غيره من كتبه، من المادية التاريخية. لكن، وكما تقول؛ فإن "الشيء الأساسي الذي يميز فوكو عن المادية التاريخية يتمثل في رفضه لإقامة علاقة تمفصلية بين الخطاب والواقع المادي، أو بين الممارسات الفكرية الاستدلالية والحقل التاريخي ضمن شموليته الكلية" وتضيف دوس؛ "إن هذا الرفض يحد من أهمية فوكو الخصب والعميق. إن وضعيته تمنعه من النفاذ إلى ما وراء الشيء الظاهري أو السطحي وتجعل منهجيته في معظم الأحيان تتموضع تحت مستوى البنى التي ليست ظاهرة على السطح بالضرورة. إن اركيولوجيته لا تعرض نفسها بمثابة المنهجية العلمية". ثم تستشهد بمقولة لفوكو يعترف فيها بأنه؛ "لصحيح إنني لم أقدم مطلقاً اركيولوجيا المعرفة بمثابة العلم".
من جانب آخر يحاول جاك ديريدا في كتابه ( أطياف ماركس )، ومن خلال منهجه التفكيكي أن يقودنا إلى نتيجة أن كتاب ( رأس المال ) لكارل ماركس يعد "كتاباً مدمراً في جوهره غير أنه أدنى من ذلك، والسبب لأنه لا يقود عبر طرق الموضوعية العلمية، إلى النتيجة الضرورية للثورة إلا لأنه يدخل طريقة من طرق التفكير النظري، من غير أن يصوغها كثيراً، والتي تقلب فكرة العلم نفسها. فلا العلم ولا الفكر يخرجان سالمين في الواقع من كتاب ماركس". إلا أن ديريدا لا يثبت لنا كيف ذلك. فقراءته التي تشبه الاسترسال السوفسطائي تمارس التدمير من غير أن تهتم فيما إذا كان بالإمكان بعد ذلك أن نعيد البناء بشكل آخر.
إن فكرة ( لا العلم ولا الفكر يخرجان سالمين من كتاب ما ) تنطبق على كتب ديريدا أكثر من انطباقها على أي كتاب آخر. إن ما لا يخرج سالماً من كتاب ماركس هو نمط محدد من العلم والفكر البرجوازيين، ذلك الذي دأب بوعي على تقويضه، وليس العلم والفكر إطلاقاً.
يستأنف ديريدا كلامه ليبين مقصده: "وذلك بمقدار ما يشير العلم إلى نفسه بوصفه تحولاً جذرياً لنفسه وقطيعة تكون دائماً موضع رهان في الممارسة، كما تكون في هذه الممارسة قطيعة نظرية دائماً".
يقترب ديريدا، في هذه الفقرة، مما يأخذه فوكو على ماركس، على فكره الذي يعتقد ديريدا، مثلما يبدو، أنه لم يتضمن ابستيماً مختلفاً، ولم يُحدث قطيعة، أي انتقالة في العمق وتبدلاً في خريطة المعرفة بالاستناد إلى بؤرة وعناصر وعلاقات جديدة؛ أي خريطة معرفية جديدة. وبحسب فوكو فإن آدم سمث وريكاردو قد أنجزا المهمة قبل ماركس، وهما يضعان قواعد الفكر الاقتصادي الكلاسيكي مع توطد أركان الرأسمالية، ونهاية الإقطاع والمرحلة المركنتينية ( التجارية ). ولكن؛ ألم يدخل ماركس نفسه مجموعة من المفاهيم الجديدة، كاشفاً عن علاقات مختلفة وآليات لم يقع عليها أحد قبله بدءاً من التفرقة بين رأس المال الثابت ورأس المال المتغير وحتى الوصول إلى قانون القيمة المضافة الذي يعد بحق جوهر النظرية الماركسية، والأداة المنهجية التي فضحت المنحى الاستغلالي المقيت للرأسمالية، ومن منظور لا شك في علميته.
كانت البنيوية بتفرعاتها كلها وتخريجاتها كلها ما هي إلا ضد ماركسية، لأنها تطرد ما عوّل عليه ماركس ( الذات الإنسانية والتاريخ )، وهذان المفهومان إلى جانب مفهوم العقلانية هي مقولات عصر التنوير الكبرى ( ومرتكزات الحداثة فيما بعد )، التي تمثلها ماركس وطرح رؤية متجاوزة لها، أخرجتها من ردائها البرجوازي وأعطتها بعداً إنسانياً واجتماعياً أعمق وأشمل. غير أن مفكراً ماركسياً شهيراً هو لوي ألتوسير حاول أن يقارب بين الماركسية والبنيوية في كتابه الشهير _( دفاعاً عن ماركس ) وقد انجر مع المعادين للنزعة الإنسانية، عادّاً الأخيرة مفهوماً إيديولوجياً في مقابل الاشتراكية التي هي مفهوم علمي، حيث حاول ماركسيون فرنسيون مثل روجيه غارودي إيجاد مقاربة بين ماركس وتلك النزعة. فسعى ألتوسير لتأكيد أنه في الماركسية لا وجود للإنسان وإنما للعلاقات الاجتماعية، ولا للذات أو الفاعل التاريخي وإنما للبنيات الموضوعية، ولا للتقدم بالمعنى الإنساني وإنما لتعاقب التشكيلات الاجتماعية، كما يصفها ( د. عبد الرزاق عيد ) في كتابه (موت الإنسان في الخطاب الفلسفي المعاصر ). وعلى وفق هذه الأطروحة "لم يكن بإمكان المادية التاريخية أن تتكون كعلم، إلا بشرط التخلي عن جميع الادعاءات من ذلك القبيل؛ أي عن جميع مزاعم النزعة الإنسانية". فتعاطى مع مفاهيم ( نمط الإنتاج وقوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج والبنية الفوقية والصراع الطبقي، وغيرها ) بشكل يقرّبه من البنيوية. وها هو ( ألتوسير ) يصرّح أن "ليس للتاريخ ذات، بل محرك هو الصراع الطبقي" كما لو أنه ينتزع من الإنسان ونشاطه بُعد الإرادة و"كذات مالكة لرغباتها وأفكارها وأفعالها" ليركن إلى نوع من الحتمية الميكانيكية، ففرّق بين ماركس الشاب ( الإيديولوجي المثالي، والمتأثر بالفلسفة الألمانية ) وماركس العلمي في ( رأس المال ). وقد حاول ألتوسير تفكيك الخطاب الماركسي وقراءة لا وعيه أي البياضات والفراغات فيه، وعلى حد تعبيره "في صمته وتناقضاته" وبالركون إلى السياقات المنهجية للبنيوية حاول إثبات أن الماركسية ما هي إلا نزعة مضادة للإنسان والتاريخ، بمفهومهما المثالي الذي قالت به النزعة الإنسانية منذ عصر التنوير، بعدما أحدث ماركس قطيعة معها في مرحلة نضجه، فرأى أن البشر ما هم إلاّ حوامل لعلاقات الإنتاج. وبذا فالتاريخ يتحقق، هنا، على وفق هذا المنطق، خارج إرادة الكائن الإنساني. ويلاحظ د. عيد في كتابه المذكور أعلاه، في أثناء قراءته لنظرية ألتوسير "التواقت الملفت للنظر، بل صلة القرابة النظرية المتينة التي تربطها بفلسفة ( موت الإنسان ) و ( تهافت التاريخ ) التي هيمنت بشكل عام على الثقافة الفرنسية في الستينيات، خلال العصر الذهبي للبنيوية".
تأسست الحداثة الفلسفية على مبدأ الذاتية ( الكوجيتو ) أساساً للحقيقة كما وضعه ديكارت ( 1596 ــ 1650 )، وعلى مبدأ العقلانية كما وضعه ليبنتز ( 1646 ــ 1716 ) ثم جرى وعي التاريخ "بوصفه سيرورة متماسكة مولدة للمشكلات في هذا العصر" كما يخبرنا هابرماس، والذي يؤكد "أن العتبة التاريخية التي تقع حول العام 1500 لم يتم إدراكها كتجديد إلا في القرن الثامن عشر". وهناك من المفكرين ( أدورنو مثلاً ) من رأى في فلسفة التنوير أس الفاشيات والأنظمة التوتاليتارية كلها التي انبثقت في أوروبا خلال قرن من الزمان ( العشرين ) فكان الثمن الإنساني المدفوع، سواء بتبنيها من قبل أنظمة وحركات سياسية ومقاومتها من قبل أنظمة وحركات أخرى باهظاً إلى حد مريع. فكانت ردة فعل المدارس ما بعد الحداثية على تلك المقولات شديداً. وكانت الفكرة الأولى المستهدفة في هذا المضمار هو بناء تصورات ونظريات كلية عن العالم ( الماركسية من ضمنها ) وها هو المفكر المابعد حداثي الألماني طاوبس يقول "ليس عصر ما بعد الحداثة إلا كشفاً عن استيهامية فكرتي ( الكل ) و ( الأصل ) الميتافيزيقيتين".
إن مقصد ما بعد الحداثيين هو إقصاء مفاهيم الحقيقة والأصل والكل والتاريخ، فضلاً عمّا قالت به الماركسية. ففي سبيل المثال ما يخص العلاقة بين البنية التحتية والبنية الفوقية يسفهها هؤلاء، لا بمعنى قلب العلاقة أو تصور شكل جدلي مغاير لها، وإنما بنقض وإنكار، أو في الأقل، إهمال وجود أية علاقة من هذا القبيل.
لكن مفكرين من أمثال يورجن هابرماس وألن تورين يحاولون إعادة الاعتبار لمقولات الحداثة مجدداً، ولا سيما أن كثراً من الأفكار التي قيلت عن العدمية وموت الإنسان والتشظي والشذرات، والتنكيل بمفاهيم الحقيقة والعقلانية والتاريخ وحتى الحرية، تحت يافطة ما بعد الحداثة، تجري اليوم مراجعتها ونبذها لأنها وصلت إلى طريق مسدود وباتت تهدد بانتشارها الوجود الإنساني وسلامه، وتشيع الكآبة والتشاؤم وتتحدث عن رؤية قيامية قاتمة. وفي هذا الخضم من صراعات الأفكار ما زال شبح أو طيف ماركس ماثلاً، وبتعبير ديريدا: "ففي لحظة الشفق، قبل أو بعد ليل كابوسي، وفي النهاية المفترضة للتاريخ، تقوم مطاردة مقدسة تدعمها كلاب الصيد ضد الطيف: فلقد تحالفت كل قوى أوروبا القديمة في مطاردة مقدسة تدعمها كلاب الصيد ضد هذا الطيف".
بعد انتهاء حقبة الحرب الباردة جندت الرأسمالية مؤسساتها البحثية ومثقفيها العضويين لمواصلة مواجهة وتفنيد أفكار اليسار، ولا سيما الماركسية، وربما يكون فرانسيس فوكوياما، الأميركي الجنسية من أصل ياباني، هو أبرز من حاولوا التصدي للماركسية وتكريس الفكر الليبرالي الرأسمالي في كتابه ( نهاية التاريخ والإنسان الأخير ).. يقول فوكوياما؛
"نستطيع القول أنه لو لم يكن هناك عالم ثالث لكانت الماركسية ماتت بالتأكيد بشكل أسرع في عصرنا. ولكن فقر البلدان المتخلفة المدقع قد نفخ حياة جديدة في العقيدة، عندما سمح لليسار بأن يعزو هذا الفقر أولاً للاستعمار، ثم ــ عندما لم يعد هناك استعمار ــ للاستعمار الجديد، وأخيراً لسيطرة الشركات المتعددة الجنسية. والمحاولة الراهنة لإبقاء شكل من الماركسية حياً في العالم الثالث كانت نظرية التبعية".
في هذا المقطع الكثيف بأفكاره ثمة مسكوت عنه هو تبرئة لأشكال الاستعمار والتبعية من مسؤوليتها عن فقر وتخلف بلدان العالم الثالث أولاً قبل افتراض أن وجود العالم الثالث هو السبب في بقاء واستمرار الماركسية. لكن؛ أليس بمقدورنا أن نقلب هذا المنطق ونقول؛ إنه لو لم يكن هناك عالم ثالث لتفتت الرأسمالية تحت ثقل أزماتها الدورية المريعة وتناقضات نظامها الحادة والتي ذللتها فيما بعد نهب ثروات العالم الثالث، وأسواق العالم الثالث التي فتحت لتصريف الفائض من منتجات الشركات الرأسمالية، إلى جانب اليد العاملة الرخيصة التي ساهمت في تشغيل الماكنة الرأسمالية مع إنشاء مصانع ومعامل في العالم الثالث قريبة من مصادر المواد الخام والطاقة والأسواق. وقبل ذلك حادثة الملايين من الأفارقة الأرقاء الذين اختطفوا واجتثوا من أراضيهم، خلال قرنين من الزمان، ليعملوا في مزارع أميركا، ومن ثم في مصانعها، والذين بهم صارت أميركا على ما هي عليها اليوم؛ قائدة للعالم الرأسمالي، وأكبر قوة اقتصادية وعسكرية في العالم. أي لولا العالم الثالث. من يدري؛ لعل نبوءة ماركس كانت قد تحققت سريعاً في أن تهب البروليتاريا التي لم تكن تمتلك غير قيودها من أجل أن تتحرر منها وتقيم ديكتاتوريتها ونظامها الاشتراكي.
ما كانت للرأسمالية أن تستمر، وتتكيف مع أزماتها، وتحجب تناقضاتها وصراعاتها الاجتماعية الداخلية، وتكتسب هذا القدر من المرونة، لولا أنها عبرت نطاقها الجغرافي، واستعبدت واستغلت، وما تزال، ثروات ومقومات حياة الجانب الآخر من العالم.
لقد عوّضت الرأسمالية عن إخفاقها في تأمين حياة كريمة وعادلة لمجتمعاتها من خلال ما استحوذت عليه من خيرات العالم الثالث. وربما لم يفطن ماركس بما فيه الكفاية لما يستطيع الاستعمار أن يقدمه من معونة وحلول للتخفيف كثيراً من أزماتها الدورية. فلم تستوعب نبوءته هذا الجانب من الديناميكية الاقتصادية مثلما اختطت مساراتها فيما بعد، ملتفة على عمل قانون الإفقار النسبي والمطلق الذي اكتشفه ماركس في بنية النظام الماركسي. تلك المسارات التي أضفت تعقيداً على صورة العالم في القرن العشرين لم يكن بمستطاع ماركس أو أي أحد غيره من معاصريه التنبه إليها، أو التنبوء بها، على الرغم من قدرتنا بالاستناد إلى منهجه ذاته من فهمها في الوقت الراهن.
نعرف أن التفكيكيين هم أكثر من ينأون عن النبوءة.. إنهم يقوِّضون فحسب، وليكن من بعد ما يكون. غير أن قراءة تفكيكية تقتنص المسكوت عنه في كتابة ديريدا أو محاضراته عن ماركس سيقع على نبوءة من نوع ما.. نبوءة مفترضة.. أو ممكنة ومحتملة؛ "إن الشبح لا يموت أبداً" يصرّح ديريدا، ويردف؛ "إنه يبقى على الدوام مما سيأتي، وسيعاود المجيء".
هكذا يعود ماركس من الباب الخلفي ليسخر من أولئك الذين هللوا بمناسبة موته المفترض، وليتنقل طيفه في الشوارع الخلفية للقرن الواحد والعشرين قبل أن يظهر في المدن والقرى في كل مكان..يقول ديريدا؛ "فلنأخذ الحذر إذن؛ فربما لا تكون الجثة قد ماتت، قد ماتت بالبساطة التي يحاول التعزيم أن يوهم بها. فالتواري يبدو دائماً هنا، وإن ظهوره ليس عبثاً. وإنه لا يفعل عبثاً".