في أصول نظام الاستثناء السوري: محاولة ماركسية


ياسين الحاج صالح
2008 / 3 / 10 - 10:53     

تواجه حالة الاستثناء في سورية التي حلت يوم أمس (8 آذار) ذكراها الخامسة والأربعين بضربين من الانتقادات. في المقام الأول يأخذ عليها حقوقيون تغطية إلغاء حياة قانونية سوية وتحكيم أجهزة أمنية تميل غريزيا إلى رؤية العالم كمنبع أخطار في الحياة السياسية للبلاد. وفي مقام آخر يأخذ معارضون سياسيون على حالة الطوارئ المقيمة تلك أنها لم تثبت نجاعتها في أي يوم في الرد على العدوانية الإسرائيلية، أو في تأهيل البلاد لطوارئ البيئة الإقليمية ومخاطرها على الأمن الوطني.
كلا الانتقادين صحيح، ويسهل إثباتهما بعدد وفير من الأمثلة. بيد أن ذلك لا يقول شيئا عن تفضيل السلطات دوام حالة الاستثناء. وحتى القول إن تعليق القوانين العادية وفرض شروط استثنائية يتيح عسكرة الحياة العامة في البلاد وتوفر البيئة الأمثل، سياسيا وإيديولوجيا ونفسيا، لاحتكار السلطة، وهو قول صحيح بدوره، لا يستنفد في نظرنا شرح الحرص البالغ من قبل السلطات على أحكام الاستثناء وقوانينه وإيديولوجيته وأجهزته الضاربة، أي نظام الاستثناء. ثمة عنصر آخر قلما يتنبه إليه نقاد النظام، يتمثل في أن النظام هذا هو الأنسب لإدامة ما يسمى في التحليل الماركسي "التراكم الأولي"، أي جمع ثروات كبرى بوسائل تجمع بين القسر والاستيلاء والإكراه والأساليب المافيوزية. فليس أنسب من تعليق القوانين والأعراف المستقرة لتسهيل أمر عمليات إثراء مهولة، لا تصلح عبارات من نوع "كسب غير مشروع" و"فساد" للإحاطة بها. وليس أنسب حجابا للعمليات نفسها من الإيديولوجية الوطنية التي لا تسير حالة الطوارئ دون جرعات عالية على الدوام منها. وإذا كانت حملات مكافحة الفساد والكسب غير المشروع تفشل نسقيا فلأنها لا تمس أبدا الأساس الذي يرعى موازين القوى الاجتماعية المناسبة لها، نظام الاستثناء نفسه. فليس "الفساد" انتهاكا لقواعد عمل النظام الذي يقيد قدرة المجتمع على المطالبة والاحتجاج ويمنع الطبقات الأضعف من التنظيم والتضامن دفاعا عن نفسها، بل هو ابنه الشرعي وثمرته الطبيعية. وهو ما يحكم بالتهافت على كل كلام على "مكافحة الفساد" لا يندرج في سياق العمل على إلغاء حالة الاستثناء.
ولا نجد تفسيرا أفضل لواقعة أن نظام الاستثناء لا يلتزم بقوانينه ذاتها، حتى لو سنها لتوه، من أن التراكم الأولي يقوم على القوة العارية أو الخام الممتنعة على أي انضباط، والمتعارضة ماهويا مع فكرة القانون ومبدئه. ولعله ما من تعبير يتكثف فيها منطق التراكم الأولي أفضل من كلمة "سلبطة" الدارجة في سورية، والتي تلتقي فيها مدركات السلب والتسلط واللبط (اللغوي العربي القديم أحمد بن فارس يرى أن الأفعال الرباعية تتحصل من دمج فعلين ثلاثيين؛ لدينا هنا ثلاثة أفعال دالة، منمدجة في فعل "سلبط").
في مرجعه الماركسي يحاول مفهوم التراكم الأولي الإجابة على سؤال عن المصدر الأول لرأسمال الرأسماليين. قال ماركس إنه النهب والسلب والقرصنة والاستعمار.. لكن رأسمالية القرن التاسع عشر التي حللها المفكر الألماني في "الرأسمال" كانت تجاوزت طور التراكم الأولي، وأخذ سليلو القراصنة يشكلون طبقة اجتماعية مستقلة تعتمد في تعظيم ثرواتها على الربح المجني من استغلال الطبقة العاملة.
والحال، قد تكون الحصيلة الصافية لحالة الاستثناء السورية تشكل طبقة من رأسماليي السلطة حلت محل طبقة الأعيان القديمة المكونة من ملاك أراض كبار ومن تجار وصناعيين، والمتحكمة في السلطة السياسية. لكن ما من مؤشر في الأفق على أن البرجوازية الجديدة هذه، التي تزداد ظهورا في السنوات الأخيرة التالية للانسحاب السوري من لبنان، في وارد الاستغناء عن نظام الاستثناء، الأمر الذي يحيل إلى ضعف تشكلها الاجتماعي والسياسي، وعجزها عن التحول إلى طبقة رأسماليين مستقلة. وإنما لذلك على الأرجح تمزج التشكيلة السورية الراهنة بين نظام اقتصادي يزداد انفتاحا ونظام سياسي محافظ على تسلطيته واستثنائيته. ولعله لذلك أيضا تعرض لبرلة الاقتصاد البازغة ملامح احتكارية منذ الآن، وتكاد تقتصر على تنامي وزن المشاريع الخاصة في الاقتصاد المحلي، دون اقتصاد سوق تنافسي حقيقي، ودون أن تطور البرجوازية هذه خصائص سياسية وثقافية مميزة لها. فهي في المحصلة لا تستطيع قطع حبلها السري عن السلطة الإكراهية ونمط التراكم الأولي المزدهر في ظلها.
وسواء كانت التشكيلة هذه (تراكم أولي ونظام استثناء ورأسمالية سلطة..) مرحلية، على ما قد يتصور الماركسيون الأرثوذكسيون والليبراليون، أم دائمة على ما يظن اللينينيون وأنصار نظرية التبعية، فإن الصيغة الحالية من تطور الرأسمالية في سورية تحول دون عقلنة السياسة والنظام الاجتماعي والثقافة. وقد أسهمت أوضاع الاستثناء، التي نحرز أفضل فهم لها إن اعتبرناها الأطر الحقوقية الأنسب لنمط التراكم الرأسمالي الجاري، في تقويض العالم الأهلي القديم ومراتبه الاجتماعية الموروثة، لكن دون نشوء نظام قانوني أكثر عقلانية. بل إن مقتضيات إدامة نمط التراكم الأولي وإضعاف مجتمع العمل تدفع نحو تنشيط الأهلي، الانقسامي بطبيعته، وربطه بنظام الاستثناء. وهذا هو مصدر التطييف العام الذي يعوق تشكل الأمة وولادة القيم الجمهورية (حرية، مساواة، إخاء..) والمواطنة. وبهذا يفاقم نمط التراكم الجاري من العناصر اللاعقلانية الموروثة في هياكلنا الاجتماعية والثقافية والدينية. لذلك لا نرى فرصا للعقلنة ونشوء الأمة دون تجاوز نمط التراكم الأولي ونظام الاستثناء.
بل إن حالة الاستثناء وبدرجة تتناسب مع إزمانها أخذت تنتج "ثقافة"، أو في اللغة الماركسية "إيديولوجية"، تقوم على الاستثناء، ضرب من الاستثنائية أو الخصوصية السورية، وتتمرد على أية قواعد مطردة تدرج البلاد في قوانين تعمها مع غيرها. وتعثر الاستثنائية هذه على سند إيجابي لها في العروبة أو الإسلام أو المقاومة أو الممانعة. ومعلوم أن الممانعة والمقاومة والصمود والثبات ونظائر لها، وبالخصوص شخصنة السلطة التي هي أعلى مراحل الاستثنائية، هي مدركات أساسية في الاستثنائية السورية. فإن كان هذا التحليل قريبا من الصحة، على ما نفترض، كان أجدى بالأذهان الناقدة أن تبحث عن أسرار "الممانعة" و"المواقف المبدئية والثابتة" في أنماط التراكم المادية. وفي الآونة الراهنة يحصل أن نسمع خطاب الاستثنائية هذه على ألسنة بعض كبار البرجوازيين الجدد أو رأسماليي السلطة، وأن يكون "الإعلام الخاص" هو المجلى الأكثر صراحة في دفع الاستثنائية هذه نحو أقاص انعزالية قلما يطل عليها الإعلام الحكومي.
والغرض أن نقول إن الاستثنائية القانونية والسياسية ليست نتاجا لاستثنائية أو خصوصية سورية أصلية، بالعكس إن الاستثنائية هذه نتاج لنظام استثناء قانوني وسياسي استدام حتى غدا "هوية" البلاد وشخصيتها. أما المحرك المادي للخصوصية فهو نمط تراكم لا يطيق قاعدة مطردة ولا يتحمل قانونا مستقرا. وإنما تستحضر عناصر موروث قديم، ثقافي وديني، لأن الموروث يضفي شرعية أكبر على الاستثنائية والانفصال عن العالم و..التراكم الأولي. ولعل العناصر هذه ضرورية أيضا لتوسيع قاعدة نظام الاستثناء بأن تجلب له ولاء أصناف من "المثقفين"، يزودون أهل التراكم الأولي بالمعاني القومية والدينية و..الماركسية، الاستثنائية والممانعة للعام بدورها، والتي يعجز هؤلاء عن تزويد أنفسهم بها.