كوريدور الماركسية- الليبرالية


محمد سيد رصاص
2008 / 3 / 5 - 11:09     

يفصل عقد من السنين بين"البيان الشيوعي"1848وكتاب جون ستيوارت ميل:"في الحرية"1859،المعلنان ولادة الماركسية والليبرالية،بعد مسار حمل مشترك،بدأ من عقلانية ديكارت وتجريبية جون لوك الحسية وصولاً إلى أفكار عصر الأنوار الفرنسي والإقتصاد السياسي لآدم سميث،ليحصل افتراق الجنينين،غير التوأمين،بين محطتي فلسفة هيجل وفلسفة أوغست كونت الوضعية،التي كانت الحاضنة الفلسفية لأفكار(ميل) الاقتصادية-الاجتماعية-السياسية.
لقد أتى العديد من قادة الحركة الماركسية من مواقع ليبرالية،مثل فرانز مهرنغ،الذي كان مع روزا لوكسمبورغ وكارل ليبكنخت،من مؤسسي (عصبة سبارتاكوس)عام1918،التي شكَلت نواة الحزب الشيوعي الألماني،بعد أن كتب ألمع سيرة لكارل ماركس،فيما ذهب الكثير من الماركسيين إلى نقطة وسط مع الليبرالية،كما فعل إدوارد برنشتين في عام1898لماأسس (التيار الإشتراكي الديموقراطي)،ليظل ماركسياً رغم ذلك وبالرغم من اتهامات روزا لوكسمبورغ ولينين له ب"التحريفية".بالمقابل،وجد الكثير من مفكري الليبرالية السياسيين والإقتصاديين،مثل جوزيف شومبيتر وجون كينز،أنفسهم في حالة انجذاب وتأثر واستعارة من الماركسية.
ظل هذا الكوريدور قائماً بين الماركسية والليبرالية،رغم وجودهما على ضفتي المواجهة في الحرب الباردة،حتى أتى ليوشتراوس(1899-1973)،فيلسوف المحافظين الجدد،الذي استطاع من خلال جلب تراث فلسفة أفلاطون السياسية في مواجهة مكيافللي،وفلسفة إدموند بيرك الناقدة لأفكار الثورة الفرنسية-أن يفصل بين الليبرالية المعاصرة وبين الفلسفة الوضعية وكل تراث ديكارت وهوبز وجون لوك وعصر الأنوار،مستبدلاً ذلك بمزج أفكار( ميل) الاقتصادية-الاجتماعية-السياسية مع نزعة ناقدة للحداثة الغربية،جلبها من عند نيتشه وهايدغر.
كان تأثير فلسفة شتراوس السياسية،عبر منبره الأكاديمي في جامعة شيكاغو،كبيراً ومتنامياً،وبدأت مفاعيله السياسية بالظهور منذ عام 1964مع حملة المرشح اليميني الجمهوري باري غولد ووتر الذي كان منافساً قوياً للرئيس جونسون بالإنتخابات،حيث كان كاتب خطبه هو(هاري جافا)،أحد تلاميذ شتراوس،ثم ليظهر ذلك بقوة في إدارة ريغان،عبر المنظِر الاقتصادي ميلتون فريدمان الذي أراد هدم كل الليبرالية الكينزية لصالح ليبرالية جديدة أثرت كثيراً أيضاً على مارغريت تاتشر،ونزع كل تدخلية الدولة الاقتصادية التي بدأت مع سياسة(نيوديل)الرئيس روزفلت بالثلاثينيات،وتتوجت بإصلاحات الرئيسين كينيدي وجونسون الاقتصادية والاجتماعية وفي مجال الحقوق المدنية.
هنا،كان عهد كلينتون ميداناً- وفاصلاً قصيراً- للمجابهة بين ليبرالية مستمدة من كينز وبين تلك المستمدة من شتراوس:كان انتصار بوش الإبن تكريساً لإنتصار الأخيرة في الفكر والسياسة،ويبدو أن فقدان المنافس الدولي الموازي،بعد انزياح السوفييت،قد جعل كل مقيدات الداخل الأميركي،والساحة الدولية،تنزاح من نظر الواصلين الجدد إلى البيت الأبيض في أوائل الألفية الثالثة،حيث أصبحت (الشتراوسية)مقرِرة للأفكار والسياسات،من خلال تلاميذ شتراوس،مثل بول وولفوفيتز،نائب وزير الدفاع،وأبرام شولسكي رئيس مكتب الخطط الخاصة في البنتاغون،وريتشارد بيرل رئيس مجلس تخطيط سياسات الدفاع في البنتاغون،وكلهم تروتسكيون سابقون،مَثلهم مثل منظر المحافظين الجدد الحالي،ويليام كريستول، حيث قام ليو شتراوس بنقلهم من أحضان ليون تروتسكي ونزعته التغييرية اليسارية الجذرية إلى شيء مشابه باليمين.
يمكن القول،عبر انتصار(الشتراوسية)وهيمنتها على الفكر الليبرالي المعاصر وهوشيء لايشمل فقط الغرب الأميركي وإنما يمتد إلى نماذج مثل بيرلسكوني وساركوزي،أن ذلك الكوريدور بين الليبرالية والماركسية قد أُغلق وانسدت منافذه،بعد قرن ونصف من التفاعل والتبادل والتأثير والصراع.
الآن في الغرب،يذهب الشيوعي المتحوِل،مثل ماسيمو داليما زعيم حزب اليسار الديموقراطي في ايطاليا،نحو موقع إدوارد برنشتين كموقع وسط بين ماركس وميل‘فيما يذهب الحزب الغريم،أي حزب إعادة التأسيس الشيوعي،إلى موقع ماركس بدون لينين،فيما نجد عندنا،عربياً،كيف يذهب معظم التلاميذ السابقين لستالين وسوسلوف وخالد بكداش (وأيضاً ياسين الحافظ ؟..)إلى موقع المراهنة على النزعة"التغييرية الديموقراطية"للإدارة الأميركية الغازية للمنطقة:هل هم في موقع الناقل للنزعة التغييرية من اليسار إلى اليمين ،مثل تروتسكيي المحافظين الجدد السابقين،أم أنهم يستمرون في وظيفيتهم السابقة،أي البحث عن دور سياسي محلي من خلال الإرتباط والمراهنة على قوة دولة عظمى،من دون أي تأسيس معرفي يذكر لاتجاههم السياسي،مثل ذاك الذي كان يُجلب آنذاك من بعض الكتب التلخيصية الضحلة للماركسية التي كانت تطبعها دار التقدم بموسكو؟...