إلى البروليتاريا الفلسطينية . حماقة النخب لن تأتى لكم بالعدالة


سامح سعيد عبود
2008 / 2 / 26 - 10:46     

السر فى هذا العنوان الذى قد يبدو غريبا، أنى أريد التاكيد على أن الفلسطينى المجرد من ظروفه الاجتماعية كائن خيالى، فليس أهم ما يميز الإنسان فى الواقع هو جنسيته أو قوميته أو ديانته أو لغته، بل أن أهم ما يحدد انتماءه هو ظروفه الواقعية التى يعايشها يوميا، من جوع وشبع، من خوف وأمن، من قهر و حرية، و ما يميزه هو مقدار ما يمتلكه من ثروة وعنف ومعرفة، ومقدار حرمانه من الثروة والعنف والمعرفة، فهذا هو ما يحدد فى النهاية مصالحه الحقيقية لا المفترضه، و لأن هذا الفلسطينى المجرد عن تلك الظروف الواقعية وعن الانتماء الطبقى كائن افتراضى غير موجود فى الواقع المعاش، وإن كان ينتمى لعالم الأفكار فإنه لا يجوز توجيه الخطاب إليه، ونحن بصدد مناقشة أمور الواقع المحسوس، فلا شىء يجمع الفلسطينى المقيم بالخليج والفلسطينى فى مخيمات اللاجئين ، سوى هوية جماعية مفترضة لا علاقة لها بما يعايشه كل منهما من تفاصيل يومية للحياة .
كنا كمناصرين لقضية الشعب الفلسطينى نواجه دائما من قبل غير المناصرين بأن الفلسطينيين باعوا أرضهم، وهذه الجملة التى لن أناقش مدى صحتها من عدمها، لأنها ليست موضوعنا، تتحدث عن القلة من ملاك الأرض الفلسطينيين التى كانت تملك الأرض أو حق التصرف فيها قبل أن يسرقها منهم الصهاينة، إذ تعتبرهم هم كل الفلسطينيين، متناسية أن الغالبية من الفلسطينيين لم تملك يوما الأرض أو حق التصرف فيها، وهؤلاء هم من نسميهم البروليتاريا الفلسطينية، كتعبير عن المجردين من السلطة ومصادرها المادية أى الثروة والعنف والمعرفة.
السبب الثانى الذى دفعنى لهذا العنوان، هو إدراكى أن معظم النخب السياسية الفلسطينية، شاركت فى صنع مأساة تلك البروليتاريا الفلسطينية ، بما أرتكبته من حماقات، ولذلك وجب التمييز بين الفلسطينى العادى، ساكن المخيمات، والواقف على المعابر من أجل فرصة للعمل فى إسرائيل أو من أجل الطعام والدواء فى مصر، وبين تلك النخب الفاسدة أو المترفة أو الغبية أو المتاجرة بمأساة هذا الفلسطينى العادى المجرد من السلطة ومصادرها و المحروم من حقوقه الإنسانية.
لا شك عندى فى مدى عدالة قضية هذا الفلسطينى العادى الذى يمثل الغالبية الساحقة من الفلسطينيين، ولكن بقراءة التاريخ ، لابد وأن نوقن أن عدالة القضية لا تكفى وحدها لأن تحدث النهاية السعيدة بأن ينتصر الخير على الشر، فهذا لا يحدث إلا فى الأفلام والمسلسلات الدرامية، لأن هذا هو ما يريده المخرج، وتتلهف علي مشاهدته الجماهير، أما التاريخ المكتوب للبشر فملىء بملايين الصفحات من الظلم، مقابل وريقات نادرة من العدل ، والفلسطينيون ليسوا أول أو آخر من انتهكت حقوقهم وحرياتهم، و عاشوا وماتوا دون أن يعرفوا مذاق العدل أو القصاص من جلاديهم وظالميهم أو استرجاع حقوقهم.
كانت كبرى حماقات النخب السياسية الفلسطينية، أنهم طرحوا قضيتهم إنطلاقا من منطق قريب من منطق الصهاينة، المعتمدين فى تبرير لصوصيتهم على أسطورة الهوية الجماعية لليهود، فأسس الساسة الفلسطينيين نضالهم هم أيضا على أساس خرافة الهوية الجماعية . فكانت القضية الفلسطينية بالنسبة لهم، قومية عربية أحيانا، ودينية إسلامية أحيانا أخرى، و قد أدت هذه الحماقة لسلسلة من الحماقات، أخطرها أنهم سمحوا للدول العربية والإسلامية أن تدس أنفها فى قلب القضية، وأن تتاجر بها لصالح استمرار هذه النخب الحاكمة فى قهر واستغلال البروليتاريا من مواطنيها ورعاياها، و أنهم سمحوا لتلك النخب الحاكمة بأن تتدخل بأموالها وأجهزة مخابراتها لإفساد النخب الفلسطينية نفسها، حتى تحولت بعض أجنحتها المسلحة إلى بنادق للإيجار فى صراعات تلك النخب العربية والإسلامية فيما بينها على النفوذ الإقليمى، والتى أدت كثيرا لأن يتعرض الفلسطينيون للذبح بالأيدى العربية والإسلامية، وأن يراق الدم الفلسطينى بالسلاح الفلسطينى.
أدى الاستناد على خرافة الهوية الجماعية بالنخب الفلسطينية لإتجاهين غير واقعيين أولهما متهم بالتطرف حيث يطرح إنهاء الوجود اليهودى من فلسطين التاريخية لتعود فلسطين عربية خالصة أو إسلامية نقية، واتجاه يدعى الواقعية والقبول بالأمر الواقع، يقبل بحل دولتين لهويتين قوميتين على أرض فلسطين التاريخية، وفى إطار هذا الحل سوف تصبح الدويلة الفلسطينية المأمولة تابعة تماما للدولة الإسرائيلية ومجرد حديقة خلفية لها. و مع الزمن تم التخلى عن الحل القائم على أساس دولة علمانية ديمقراطية على كامل فلسطين التاريخية، تتجاوز مفهوم الهوية الجماعية، و تضمن كل الحقوق والحريات الإنسانية لكل مواطنيها على اختلاف أديانهم ولغاتهم وقومياتهم.
هذا الطرح المرفوض من معظم النخب السياسية الفلسطينية والإسرائيلية هو الوحيد الذى يهبط بالقضية لمستوى الحل الواقعى، بعيدا عن خيالية حل الدولتين و و حل إنهاء الوجود اليهودى فى فلسطين ، ذلك أنه يستند على تحقيق ما يهم الفلسطينى واليهودى البروليتاريين عندما يتحرران من الهيمنة الفكرية للنخب المسيطرة عليهما، فما يهمهما واقعيا هى حقوقهم وحرياتهم الإنسانية التى يتم انتهاكها وتقييدها من قبل السلطة الفلسطينية، فتحاوية أو حمساوية، ومن قبل السلطات الإسرائيلية بجانب السلطات فى الدول العربية المختلفة، ما يحتاجه هذا البروليتارى فى جوهره، وما يدور فى أعماقه، و قد لا يدركه نتيجة ما يمارس عليه من تضليل، وقد يخشى التصريح به غالبا حتى لنفسه، هى تلك الحقوق الإنسانية التى تضمن له الأمن والشبع والحرية والمساواة، المشكلة أن هؤلاء العاديون من الناس يتم جرهم غالبا قهرا أو تضليلا فى حروب وصراعات لا تخصهم، فهم الوقود الرخيص فى حروب النخب المتصارعة التى تتاجر بهم ، وهم غالبا مغسولى العقول بدعاياتها الغوغائية التى تقودهم مخدرين إلى المذابح.
و بناء على هذا المنطق فإن التركيز فى النضال لابد و أن يكون على المطالبة بالحقوق الإنسانية للفلسطينيين، وهذا فى الصلب منه حق عودة الفلسطينيين لديارهم وتمتعهم بسائر الحقوق والحريات التى يتمتع بها اليهود على قدم المساواة فى كامل فلسطين التاريخية، وانهاء كل وضع تمييزى قائم على أساس الهوية الجماعية قومية كانت أو دينية، ومن ضمن هذا قانون العودة الإسرائيلى.
كانت آخر تجليات الحماقة التى طالما مارستها النخب الفلسطينية، هو الصراع بين فتح القومية العربية، وحماس الدينية الإسلامية، على ما يقال عنه السلطة الوطنية الفلسطينية، واستقلال كل منهما بقطعة من تلك السلطة على قطعة من الأرض المأمول أن تنشأ عليها الدويلة الفلسطينية، وانتهت المسألة لأن يتعرض أكثر من مليون فلسطينى بغزة تحت سلطة حماس لحصار يشبه الإبادة الجماعية، فتم توجيه تلك الجموع لتقتحم الحدود المصرية بحثا عن الغذاء والدواء، و ربما الهروب من جحيم السلطة الحمساوية، وأذا كان المصريون فى غالبيتهم الساحقة يتعاطفون مع القضية الفلسطينية لأسباب دينية أو قومية أو إنسانية، فإن ما حدث استفز الكثيرون منهم ضد الفلسطينيين، فهذا التعاطف قد انتهى عندما تعارضت مصالح المصريين للضرر بخلو المحلات من السلع و ارتفاع أسعارها، وما قيل عن تسرب نقود مزيفة للسوق المصرى زادت من حدة التضخم على كاهل المستهلك المصرى البسيط، وقد كان من الممكن أن ينتهى الأمر بأن يراق الدم الفلسطينى بالأيدى المصرية كما أريق بالأيدى الأردنية واللبنانية والسورية كنتيجة لحماقات النخب الفلسطينية.
السؤال هو لماذا لم يتم توجيه تلك الجحافل من البشر العزل من السلاح إلى المعابر التى تربط غزة بإسرائيل، ما الذى كان يمكن أن تفعله القوات الإسرائيلية المدججة بالسلاح فى مواجهة مليون مدنى مجرد من السلاح أمام كاميرات العالم، ربما كان يمكن أن تطلق النار فتقتل البعض منهم، ولكنها كانت لابد وأن تتوقف فى لحظة ما قبل حدوث مذبحة لن تستطيع تحمل مسئوليتها وتبعاتها، لأنه ما كان يمكن لها أن تواجه هذا الطوفان من البشر بالعنف الدموى أمام أنظار العالم.
كان يمكن لتلك الحشود أن تعتصم على المعابر و لا تقتحمها طلبا للأحوط مكتفية بالمطالبة بحقوقها الإنسانية فى الطعام والدواء والأمن، وكان يمكن للاجئين منهم المطالبة بحق العودة لمنازلهم وقراهم التى هجروا منها قسرا، و أن لا يعودوا من اعتصامهم بالمعابر والحدود قبل حصولهم على تلك الحقوق، المشكلة أنه لسوء حظ الفلسطينيين وما سوف يعرض حقوقهم للانتهاك الأبدى، أنهم يفتقدون قيادات سياسية حكيمة ومخلصة مثل غاندى ومانديلا ومارتن لوثر كنج، فالسائد بينهم قيادات من نوع آخر تعتقد أن الطريق الوحيد للحصول على حقوقهم هو العنف المسلح، ولذلك لم أرى أى تجاوب فعلى مع ما كتبته منذ ثمانى سنوات، حين اقترحت أن يتوجه الفلسطينيون العزل من السلاح إلى الحدود مع إسرائيل فى مصر ولبنان والأردن وسوريا، و إلى الحدود ما بين إسرائيل وبين الضفة وغزة، و إلى الموانىء والمطارات فى البلاد التى تتواجد بها جاليات فلسطينية ، مطالبين فقط بحقهم المشروع فى العودة لمنازلهم وقراهم، حتى ولو لم يكونوا يريدون العودة بالفعل نظرا لاستقرار أوضاعهم فى بلاد اللجوء، تخيلوا معى لو استمر هذا الشكل الفريد من المقاومة اللا عنفية لأيام فقط من قبل مئة ألف فلسطينى معتصم ومضرب عن الطعام على الحدود، و لا أقول مئات الألوف مثل الذين اقتحموا الحدود المصرية فى الاتجاه الخطأ، لو حدث هذا فإنه سوف يشكل ضغطا رهيبا على الكيان الصهيونى أخطر ألف مرة من كل ما عرفه الصراع من عنف منذ أن بدأ وحتى الآن، ولو تكرر مثل هذا الفعل اللاعنيف و وتنوعت أشكاله ، وانضم إلي ممارسته فلسطينى 48 ليطالبوا بالمساواة الكاملة مع اليهود واسقاط قانون العودة الاسرائيلى، فهل يمكن أن يستمر المشروع الصهيونى فى الوجود، والذى ما تحقق وحقق نجاحه المدوى واستمراره إلا بحماقات ضحاياه.