من يمتلك الحقيقة؟


حسقيل قوجمان
2008 / 2 / 23 - 11:26     

بعد انهيار الاتحاد السوفييتي كثر النقاش بين الشيوعيين والماركسيين حول هذا الانهيار واسبابه وتأثيره على الحركة الشيوعية والماركسية وعن كيفية اعادة وحدة الحركة الشيوعية العالمية. ومن اشيع الانتقادات الموجهة للماركسيين او الشيوعيين هي انهم يعتقدون انهم يمتلكون الحقيقة كلها ولا يقبلون الراي الاخر. والنصيحة الهامة التي يقدمها منتقدو الشيوعية للماركسيين هي ان يتواضعوا ويعترفوا بالراي والراي الاخر.
ولكي نستطيع بحث هذا الموضوع علينا اولا ان نضع تعريفا للحقيقة. اذ منذ نشوء الانسان على الكرة الارضية وحتى الان لم يكن هناك اتفاق شامل على تعريف الحقيقة. فقد كان طيلة حياة المجتمع البشري صراع بين المادية والمثالية حول معنى الحقيقة. فالمثالية تعتبر الحقيقة هي الفكر وان الواقع الموضوعي هو انعكاس هذه الحقيقة بينما تعتبر المادية ان الواقع الموضوعي الخارج عن فكر الانسان هو الحقيقة وان الفكر ما هو الا انعكاس هذه الحقيقة في دماغ الانسان وفقا لمستواه الفكري. وكلما اتسعت معرفة الانسان للطبيعة عن طريق التقدم العلمي اخذت كفة المادية ترجح على المثالية ولكن ذلك لم يقض بعد على المثالية.
الا ان النقاش حول الشيوعية لا يجري بين المثاليين والماديين وانما يجري بين ماديين مؤمنين بالمادية وحتى ماديين ديالكتيكيين ماركسيين شيوعيين. وعلى هذا الاساس فان الحقيقة الوحيدة يجب ان تكون لدى جميع اطراف النقاش هي الوجود المادي خارج فكر الانسان وليست افكارنا سوى انعكاس لهذه الحقيقة.
من هذا المنطلق لا يمكن اعتبار الحقيقة سلعة يمتلكها الانسان او يمتلك نصفها او ربعها او عشرها وان ما يمتلكه الانسان هو انعكاس هذه الحقيقة في دماغه والخلاف بين هذا الانسان او ذاك هو في كيفية انعكاس هذه الحقيقة الواحدة في دماغه.
في فترة نشوء الاديان السماوية التوحيدية الثلاثة التي نشات في منطقتنا لم تكن معرفة الانسان قد توصلت الى معرفة حقيقة الارض. فكان يشاهد شروق الشمس وحركتها خلال النهار وبلوغها المغرب واختفاءها كل يوم. وكان من الطبيعي ان يفكر ان الشمس هي التي تتحرك وان الارض ثابتة. وقد استنتج من ذلك ان الارض جسم مسطح ثابت وان الشمس هي جسم متحرك يظهر من الشرق ويتحرك ليغرب في الغرب. وهذه كانت الفكرة التي انعكست في عقل الانسان وفقا لمستوى معرفته العلمية عن الحقيقة في ذلك العهد. فكل الاديان السماوية تعتبر الارض مسطحة والشمس تشرق على الارض وتغيب عنها كل يوم.
وتوصل غاليليو الى ان الارض ليست مسطحة وانما هي كروية فكان ذلك كفرا وهرطقة في عرف الاوساط الدينية لانه يخالف الفكر المألوف والمتفق عليه انذاك. فحكموا عليه بالاعدام جزاء كفره. ولكن ذلك لم يغير الحقيقة في شيء. والحقيقة في هذا الموضوع هي شكل الارض الحقيقي. فليس الانسان هو الذي يقرر الحقيقة وانما الحقيقة هي التي تنعكس باشكال مختلفة في دماغ الانسان. فالارض كانت كروية تدور حول نفسها وحول الشمس وبقيت كذلك رغم اختلاف راي الانسان في شكلها وفي حركتها. فهل كان غاليليو يمتلك الحقيقة؟ كيف كان على غاليليو ان يتصرف للاعتراف بالراي الاخر؟ وكيف كان على رؤساء الدين ان يعترفوا بالراي الاخر؟ فالارض اما مسطحة واما كروية وهو يعتقد انها كروية بينما كل الديانات تعتبرها مسطحة. وفي هذه الحال لا يمكن الاعتراف بالراي الاخر. هل يقال ان نصفها مسطح ونصفها كروي اعترافا بالراي والراي الاخر؟ كان من الممكن الاعتراف بالراي الاخر لو ان النقاش كان يدور حول ما اذا كانت الارض كروية ام بيضوية مثلا. وهذا يمكن ان يكون موضع نقاش الى حين توصل الانسان الى معرفة الشكل الدقيق لكروية الارض وضبط مقاييسه. ولكن غاليليو لم يكن باستطاعته الاعتراف بالراي الاخر القائل بان الارض مسطحة كما ان الاوساط الدينية لم يكن بمقدورها او توفق بين راي غاليليو بان الارض كروية وبين راي الديانات بان الارض مسطحة.
كان الانسان يرى ان الشمس تشرق كل يوم من الشرق وتغيب في الغرب. ولذلك نشأ مصطلح ان الشمس تشرق على الارض وتغيب عنها. ولكن تقدم العلم اثبت ان الارض هي التي تشرق على الشمس صباح كل يوم وانها هي التي تغيب عن الشمس كل يوم. فان نقطة وجودنا على الارض تصل اثناء دوران الارض حول نفسها الى حيث تستطيع اشعة الشمس ان تخترق عيوننا وتصل مساء الى نقطة لا تستطيع منها اشعة الشمس اختراق عيوننا. ولكن مع ذلك بقينا نقول جزافا ان الشمس تشرق صباحا وتغيب مساء لان الاصطلاح لا يغير من الحقيقة شيئا ولا يشكل ضررا على الانسان والمجتمع.
حين توصل باستور الى اكتشافه بوجود الميكروبات وتاثيرها هاج ضده القطاع الطبي كله. اتهموه بالشعوذة واعتبروه متطفلا على الطب لانه لم يكن طبيبا. ولكن الحقيقة لم تكن في فكر باستور ولا في فكر القطاع الطبي. كانت الحقيقة في الطبيعة اي وجود الميكروبات. ولم يمتلك باستور الحقيقة او جزءا منها بل كان انعكاس الحقيقة في دماغه استنادا الى ما شاهده في المجهر مخالفا لانعكاسها في ادمغة الاطباء في المستوى العلمي الذي بلغوه. فكيف كان بامكان باستور ان يعترف بالراي الاخر؟ هل يقول ان الميكروبات موجودة وان راي الاطباء بعدم وجودها صحيح ايضا؟ ان الاعتراف بالراي الاخر ممكن حين يكون انعكاس الحقيقة على الادمغة المختلفة مختلفا وليس متناقضا تناقضا تاما. فلا يمكن الاعتراف بالراي الاخر اذا كان مناقضا تماما للراي. فلا الاطباء يمكن ان يعترفوا براي باستور والاحتفاظ برايهم بعدم وجود الميكروبات ولا باستور يستطيع ان يعترف براي الاطباء مع الاحتفاظ برايه بوجود الميكروبات. والنقاش هنا لا يدور حول الحقيقة ولكنه يدور فقط حول كيفية انعكاس الحقيقة في ادمغة مختلفة.
في الثلاثينات من القرن الماضي كانت تدور قصة عن اينشتاين لا اعرف ان كانت حقيقة ام مجرد نكتة. قيل ان اينشتاين كان راكبا في قطار فسأل الشخص الجالس الى جواره هل تمر محطة يوستن من هذا القطار؟ هذه القصة سواء اكانت واقعية ام مجرد نكتة تدل على ظاهرة غاية في الاهمية. فالقطار في نظرنا يتحرك للوصول الى المحطة المنشودة بينما هو في راي اينشتاين عكس ذلك لان الارض، محطة يوستن في هذه الحالة، هي التي تتحرك وان حركة القطار ما هي الا مقاومة حركة الارض ومحاولة البقاء في المكان رغم حركة الارض. فمحطة يوستن في عرف اينشتاين هي التي تمر بالقطار وليس القطار هو الذي يمر في محطة يوستن.
ان الامثلة المذكورة اعلاه كلها تتعلق بحقائق طبيعية لا يؤثر الاختلاف فيها مباشرة على المجتمع ويمكن استمرار النقاش فيها الى ان يتوصل العلم الى الجواب القاطع المحقق علميا فيما يتعلق بطبيعتها. لقد توصل العلم في يومنا الى معرفة الشكل الدقيق للكرة الارضية بجميع مقاييسها ووضعت الخرائط الدقيقة بالمقاييس الدقيقة لشكلها واصبح الانسان قادرا على رؤية كرويتها وتصويرها من خارج الكرة الارضية وليس الان من يستطيع ان يناقش على موضوع كروية الارض. ليس هنا البحث عن التزمت الديني بالتمسك بما جاء في الكتب الدينية عن تسطح الارض. في احد مستشفيات اسرائيل حين كنت فيها بعد اجراء عملية جراحية كان معي في نفس الغرفة تلميذ من تلاميذ المدارس الدينية في اسرائيل ودار بيننا نقاش حول هذا الموضوع. فاكد لي هذا الطالب المسكين الذي كان على ابواب الامتحانات الثانوية ان الارض مسطحة وواقفة على قرن ثور وان الشمس هي التي تدور حولها اذ هذا هو ما تعلمه في المدرسة الدينية وهو ما يجب عليه ان يجيب به في الامتحانات الثانوية للمدارس الدينية. ولكن مثل هذه الحالة اصبحت شاذة وغير مقبولة في عصرنا بعد معرفة شكل الارض معرفة دقيقة.
ولكن الامور تصبح اكثر تعقيدا حين يصبح النقاش حول حقائق تمس حياة المجتمع الانساني لان النقاش فيها له نتائج ايجابية او سلبية على حياة الانسان، حياة المجتمع. ونقاش الشيوعيين والماركسيين احد هذه النقاشات الهائلة النتائج. فنظرية الشيوعيين والماركسيين هي لغة القوانين الديالكتيكية. وتعرف الشيوعيين على القوانين الديالكتيكية يمنحهم امكانية على رؤية الحقيقة الاجتماعية اكثر من غيرهم. واكبر دليل على ذلك ابحاث كارل ماركس التي مر عليها قرن ونصف القرن وما زلنا نراها في حياتنا الاجتماعية كما لو اجري البحث فيها في يومنا هذا. ولكن كارل ماركس لم يمتلك الحقيقة وانما تمكن من رؤية الحقيقة بصورة تختلف عن رؤية الاخرين لها فانعكست في دماغه فكرة عن الحقيقة تختلف عن فكرة الاخرين عنها. ولكن النقاش في هذه الحقائق الاجتماعية يختلف عن النقاش في الحقائق الطبيعية الخارجة عن حياة المجتمع المباشرة. فطبيعة الانسان تقررها ظروفه الاجتماعية وموقعه من المجتمع ومستواه الثقافي والفكري ومصالحه المادية المباشرة. لذلك تعددت الافكار المنعكسة في ادمغة الناس واختلفت وتصادمت ولو ان الحقيقة هي حقيقة واحدة خارجة عن ارادة وفكر جميع هؤلاء الناس. فنفس الحقيقة تنعكس في فكر الراسمالي مختلفة عن انعكاسها في فكر العامل او الفلاح او المثقف او الحرفي.
اناقش مثالا واحدا من الحياة التي يعيشها الشعب العراقي حاليا. فالحقيقة التي يراها الشعب العراقي ولا ينكرها احد هي وجود مئات الالوف من الجيوش الاميركية وجيوش مرتزقة غير عراقية في بلاده وهو ما يسمى احتلالا. ولكن انعكاس حقيقة الاحتلال يختلف في ادمغة الناس العراقيين باختلاف مصالحهم الشخصية او مصالحهم الطبقية او الوطنية ومستوياتهم الفكرية والثقافية او اوضاعهم الاجتماعية او المالية او العائلية. فهناك من تنعكس هذه الحقيقة في دماغه على انها احتلال ظالم هدفه استغلال الشعب العراقي ونهب ثرواته وتحطيم دولته وتقسيم بلاده. وهناك من تنعكس نفس الحقيقة في دماغه على ان وجود هذه القوات الاجنبية تحرير للشعب العراقي وبناء عراق ديمقراطي جديد. وتنعكس نفس الحقيقة في دماغ اخرين بان الاحتلال قد انتهى ولم يعد هناك احتلال في العراق بقرار من مجلس الامن وكأن وجود الجيوش الاجنبية بقرار مجلس الامن ليس احتلالا. ومثل هذه النقاشات تنتشر الان في العراق وتتصادم الاراء فيما بينها ويعاني منها الشعب العراقي بتضحية مئات الالوف من ابنائه وخصوصا الاطفال الذين يتشوهون ويموتون من تاثير الاشعة المنتشرة فيه جراء اليورانيوم المنضب الذي اطلقته الجيوش المحتلة من اجل "تحرير" العراق.
في مثل هذه الحال تكون لانعكاسات الحقيقة في ادمغة الناس باشكال مختلفة خطورة كبيرة على حياة المجتمع وعلى ثقافته واقتصاده وحياة مواطنيه. وفي هذا المجال يجري التحدث عن امتلاك الحقيقة كلها او نصفها او اي جزء منها والدعوة الى الاعتراف بالراي الاخر. فمن يعتبر الاحتلال تحريرا يطلب ممن يعتبر الاحتلال ظالما ان يعترف برايه والرايان متناقضان تماما. فكيف يمكن ان يعترف هذان الرايان باحدهما الاخر؟ هل يمكن ان نعتبر الاحتلال نصف احتلال ونصف تحرير؟ وهل يمكن التوفيق بين راي من يريد ان يجعل يوم الاحتلال عيدا وطنيا وبين من يعتبر يوم الاحتلال اكبر نكبة تحل في تاريخ العراق؟
ان الحديث عن امتلاك الحقيقة لا يمت بصلة الى التفكير المادي. فالتفكير المادي يعتبر الحقيقة هي الواقع الخارج عن فكر الانسان ولذلك لا يمكن امتلاكها او بيعها وشراؤها والمناصفة في امتلاكها. ومجرد الحديث عن امتلاك الحقيقة شيء يختلف تماما عن التفكير المادي. فالحديث عن امتلاك الحقيقة قائم على اساس ان فكر الانسان هو الحقيقة. وعلى هذا الاساس وحده يمكن التفكير بامتلاك الحقيقة كلها او نصفها. ان المتحدثين عن امتلاك الحقيقة وعن ادعاء الشيوعيين امتلاكها كلها يتحدثون بعقلية مثالية خالصة لا علاقة لها بالمادية التي يدعونها ويلتزمون بها. فان اراءنا ليست هي الحقيقة وانما هي كيفية انعكاس الحقيقة في ادمغتنا. وهذا الانعكاس يتأثر تأثرا مباشرا بموقعنا في الاوضاع الاجتماعية وبمصالحنا الطبقية او الخاصة ولا يمكن التوفيق بين الراي والراي الاخر في الاراء المتناقضة الحاصلة في عقولنا نتيجة لهذه الاختلافات.
في ختام هذا المقال اود ان اتطرق سريعا الى حقيقة الراي والراي الاخر تاريخيا. كانت الفكرة الشيوعية منذ نشوئها وحتى يومنا هذا اقلية في جميع المجتمعات. وكانت الفكرة الشيوعية دائما محاطة باراء اخرى منها المعادية كليا ومنها المعادية جزئيا. وكان على الشيوعيين الذين يحملون الفكرة الشيوعية دائما ان يقنعوا ويجتذبوا مؤيدين لهم من ضمن هذه الاراء المختلفة. فالشيوعيون لا يستطيعون استيراد مؤيديهم من المريخ. فماذا كان موقف الراي الاخر؟ اختلف الراي الاخر من افظع انواع الدكتاتورية المستخدمة في محاربة الراي الشيوعي الى المعاداة الدينية التي كافحت الراي الشيوعي كفاحا شديدا واعتبرته كفرا والحادا ومحاولة شيوعية المراة وسلب الاطفال من ذويهم ومن مجاميع من الراي الاخر من الطبقات والمراتب الكادحة التي لم تبلغ من الثقافة العلمية والاجتماعية درجة تؤهلها الى الاقتناع بالراي الشيوعي. ففي الحقيقة ليس الشيوعيون هم الذين لم يعترفوا بالراي الاخر وانما اعداء الشيوعية هم الذين استخدموا الشرطة والجيش والسجون والقضاء والاعلام والدين وكافة انواع الاسلحة والمؤامرات ضد الراي الشيوعي الاخر ابتداءا من ماركس نفسه الذي حرم من رؤية بلده وعانى الفقر بحيث ان اطفاله ماتوا جوعا الى المشانق التي دعيت في روسيا القيصرية "ربطة ستوليبين" وليس اضطهاد الراي الشيوعي في العراق منعزلا عن كل ذلك فبالامس فقط كانت ذكرى اعدام قائد الراي الشيوعي في العراق الرفيق فهد واعتبار هذا اليوم يوم الشهيد الشيوعي الذي بلغت ضحاياه الالاف نتيجة اضطهاد الراي الاخر.