آليات السيطرة والضبط الاجتماعي في الدولة الاستبدادية


لطفي حاتم
2008 / 2 / 20 - 11:49     


في لقاء جمعني والأخ الصديق الدكتور الفاضل إبراهيم اسماعيل الذي أدين له بالكثير من الرؤى الفكرية والسياسية فاجأني كعادته بسؤال نم عن دراية علمية تلخص مضمونه في ـ ( هل يمكن اعتبار الأجهزة القمعية للسلطة الديكتاتورية جزء من قاعدتها الاجتماعية ) ؟ .
ورغم الدروب الشائكة للسؤال المثار إلا أنه حفزني للبحث عن أشكال ومضامين آليات الضبط السياسي / الاجتماعي في الدول الوطنية بشكل عام والدولة العراقية في حقبتها الديكتاتورية بشكل خاص، لهذا حاولت التقرب من هذه الإشكالية المثيرة للفكر السياسي / القانوني بشئ من الحذر عبر المفاصل التالية: ـ
المفصل الأول: ـ آليات الضبط السياسي / الاجتماعي في المرحلة الأولى من تأسيس الدولة العراقية.
المفصل الثاني: آليات الهيمنة السياسية /الاجتماعية في مرحلة الشرعية الانقلابية.
المفصل الثالث : ــ آليات الضبط الاجتماعي في البنية الطائفية .
قبل ولوجنا في تأشير سمات المفاصل الأساسية في هذه الدراسة المكثفة لابد من التوقف عند بعض الأسئلة النظرية : هل تعتبر آليات السيطرة والتحكم جزء من طبيعة الدولة وسلطتها السياسية ؟ ما هي أدوات الضبط والتحكم في المؤسسات الأهلية ــ العشيرة والطائفة ـــ ناهيك عن منظمات المجتمع المدني الأخرى ؟ وقبل هذا وذاك ماذا نعني بآليات الهيمنة والسيطرة.؟
للتقرب من طبيعة الأسئلة المثارة لابد لنا من تأشير ملاحظة مفادها أن الموضوع وبسبب حيويته قابل للاجتهاد والتطوير لذا فإن ما أطرحه في هذا الشأن يمكن حصره في الرؤية الشخصية للكاتب قابلة للاغناء والنقد وطرح الرؤية البديلة.
على أساس تلك الرؤية النقدية أحاول التركيز على بعض الموضوعات بهدف التقرب من مضامين الأسئلة المثارة.
أولاً: ـ يكتنف تعريف آليات السيطرة بشكلها العام الكثير من الإشكالات النظرية والسياسية خاصة إنها تشمل الدولة وسلطتها السياسية والمؤسسات الأهلية فضلاً عن منظمات المجتمع المدني، ورغم ذلك الإشكال يمكن تعريف آليات الضبط والتحكم في الدولة بأنها مجموع الوسائل المادية، الفكرية والسياسية الضامنة لإدامة هيمنتها ـ الدولة ـ المرتكزة على التمايزات الطبقية ومنعها ـ التمايزات ــ من التحول إلى حالة من الصراع الاجتماعي المستند على العنف السافر.
ثانيا: ـ إن آليات الضبط الاجتماعي والسياسي آليات تاريخية بمعنى إنها تنمو وتتطور تبعاً لتطور الدولة وسلطتها السياسية وطبيعة تناقضات تشكيلتها الاجتماعية.
ثالثاً: ـ إن آليات الضبط والسيطرة تكون متلازمة ومتكيفة مع طبيعة الدولة وشكل نظامها السياسي.
رابعاً: ـ تختلف آليات الضبط في المؤسسات الأهلية ومنظمات المجتمع المدني عن آليا ت الضبط المتحكمة في الدولة وسلطتها السياسية كونها ذات سمة تطوعية تنبثق من سيادة الأعراف والتقاليد بالنسبة للعشيرة والطائفة والأنظمة الداخلية وسيادة الايدولوجيا بالنسبة للأحزاب السياسية. ( 1 )
على أساس تلك المنهجية أسعى لتحليل إشكاليات الضبط والتحكم في مسار التطور التاريخي للدولة العراقية في موضوعات مكثفة أملاً إغناءها في تفاصيل لاحقة
المفصل الأول: ـ آليات الضبط السياسي / الاجتماعي في الطور الأول من تأسيس الدولة العراقية.
بات معروفاً أن الدولة العراقية نشأت في مرحلة التنافس الرأسمالي في مطلع القرن المنصرم حيث استطاعت الدول الكبرى المتصارعة في الحرب العالمية الأولى تقسيم العالم بينها جغرافياً وسياسياً. وبهدف الحفاظ على مصالح الرأسمال الوافد اتخذت الدول الرأسمالية إجراءات سياسية / اقتصادية من شأنها إدامة هذا التواجد عبر إنشاء دول ( وطنية ) بعد أن أحاطتها بسيادة شكلية. بكلام آخر قامت الدولة العراقية كما الدول العربية الأخرى بمساعدة خارجية وذلك بالتحالف مع قوى اجتماعية كمبورادورية منتفعة من التواجد الكولونيالي.
لقد أعارت السلطة الجديدة ومنذ تأسيسها اهتماماً كبيراً لشد البنية الاجتماعية المتشظية إلى مؤسسات أهلية وسلطات روحية / طائفية والعمل على ضبطها في إطار تشكيلة اجتماعية موحدة ضمن إطار الدولة العراقية الناهضة.
في حال تحرينا عن أدوات الضبط والسيطرة في تلك الفترة بعد تخطينا الإجراءات الاجتماعية السياسية التي حاول الوافد الخارجي القيام بها والمتضمنة تأسيس أجهزة الدولة الأساسية ــ التنفيذية / التشريعية / القضائية ــ وكذلك السعي ( لخلق ) بعض الطبقات والشرائح الاجتماعية المباركة للوجود الأجنبي والمعارضة له ( طبقة الإقطاعيين ، العاملة ، وشرائح من الطبقة الوسطى ) ألا أن الدولة الجديدة وبسبب اغترابها عن مكوناتها الاجتماعية واجهتها مهمة ضبط البنية الاجتماعية الجديدة عبر استخدام العنف المشروع من خلال تشكيل المؤسسة العسكرية والأجهزة الأمنية التي جرى استخدامها في تطويع وإخضاع المؤسسات الأهلية الرافضة للسلطة والتواجد الأجنبي.
إن تشكيل المؤسسة العسكرية والأجهزة القمعية للدولة الوليدة أنتج جملة من المعطيات منها: ـ
ــ أصبح الجيش العراقي التشكيل المسلح والمنضبط الوحيد القادر على إحداث تغيرات أساسية في التشكيلة العراقية الجديدة.
ــ اعتبار العنف الوسيلة الأساسية القادرة على تطويع المؤسسات الاجتماعية النابذة لبناء الدولة العراقية. بمعنى آخر أصبح العنف المشروع قادراً على ترويض آليات الضبط العشائري وإضعافها بالتزامن مع سيادة القانون وخلق قوى جديدة داخلها ـ العشيرة ـ ساندة لتوجهاتها المستقبلية. ( 2 )
ــ بسبب غياب الأحزاب الطبقية وانعدام الأيدولوجيا الضامنة للتوجهات الجديدة سعت الدولة الناهضة إلى( خلق ) ورعاية طبقات اجتماعية تشكل قاعدة اجتماعية لها رغم أن القوى الجديدة لم تكن قادرة على خلق أيديولوجيا بهدف تحويلها إلى أداة ضبط طبقية.
ــ تشضي الأيدولوجيا الوطنية القادرة على تطوير التغيرات الجديدة لخدمة المصالح الوطنية ولذلك لتوزع قواها الاجتماعية على طوائف دينية وأخرى عشائرية لا تملك الأفق الفكري القادر على بناء الدولة الوطنية.
أن تلك المؤشرات الساندة والنابذة للتواجد الأجنبي ولبناء الدولة العراقية جعل من المؤسسة العسكرية والأجهزة الأمنية الضامن الأساسي لاستمرار سلطة ازدواجية الهيمنة وذلك بسبب قدرتها على تطويع وضبط البنية الاجتماعية العراقية في تلك الحقبة عبر استخدامها العنف المشرع قانوناً. (3)
إن تحليلنا لطبيعة المرحلة الأولى من بناء الدولة العراقية المحصورة بين الفترة 1921 الى1958 لا يعني أن أدوات الضبط ( العنف ) كانت شاملة على امتداد تلك الفترة الزمنية بل أن السلطة السياسية حاولت الاعتماد في فترات لاحقة وعلى أساس تطور النزاع الاجتماعي على أدوات ضبط أخرى منها الأحزاب السياسية المعبرة عن المصالح الاجتماعية الناهضة وكذا البنى العشائرية التي تميزت في تلك الحقبة بضعف بنائها بعد تعزز السلطة المركزية واحتدام النزاعات الاجتماعية الأمر الذي جعل المؤسسة العسكرية والأجهزة القمعية الأخرى الضامن الوحيد للسلطة السياسية رغم نمو وتطور النزعة الانقلابية عند طاقمها القيادي. ( 4 )

على أساس التقديرات المشار إليها نحاول الانتقال إلى سمات الضبط الاجتماعي في المرحلة الثانية من بناء الدولة العراقية.

المفصل الثاني : ـ آليات الهيمنة والضبط الاجتماعي لسلطة الشرعية الانقلابية.

قبل الحديث عن سمات الضبط الاجتماعي / السياسي للمرحلة الثانية من بناء الدولة العراقية لابد من التوقف عند سمات الضبط الاجتماعي في المرحلة الأولى من العهد الجمهوري حيث أحدثت ثورة 14 تموز الوطنية حراكاً اجتماعياً / سياسياً هائلاً تميز بتنامي الروح الوطنية المنبثقة من قيام السلطة الجديدة بإجراءات اجتماعية / سياسية خلقت توازناً اجتماعياً داخل التشكيلة العراقية و ما نتج عن ذلك من بروز الأيديولوجية الوطنية الدافعة لسير التطور الذي عاشته البلاد في فترة السنوات الخمس من عمرها وبهذا المسار نستطيع القول أن الروح الوطني المستند إلى قوى اجتماعية منتفعة من الانقلاب الثوري شكل الضابط الأساس في الشد الاجتماعي للتشكيلة العراقية حيث تراجع العنف إلى مستويات غير مسبوقة.
إن انهيار حكم الثورة الوطنية عام 1963 نقل الدولة العراقية وتشكيلتها الاجتماعية إلى طور جديد اتسم بتعدد أنماط الضبط الاجتماعي / السياسي، لهذا لابد لنا من التوقف عند أشكال ذلك الضبط محاولين رصد طبيعة القوى الأساسية المحركة له في مراحل مختلفة.
الحديث عن حقبة الشرعية الانقلابية وآليات ضبطها الاجتماعي / السياسي يدفعنا إلى إبداء بعض الملاحظات التي أراها مهمة لضبط التحليل في إطاره الفكري / المنهجي: ـ
الملاحظة الأولى: ـ من الصعوبة بمكان التفريق بين الدولة والسلطة السياسية في الدول الاستبدادية حيث يتشابك المفهومان وتتداخل المهام بسبب حيازة القوى الحاكمة على مقاليد الدولة والسلطة في أن.
الملاحظة الثانية: ـ تستند الشرعية الانقلابية في سيطرتها على سلطة الدولة السياسية انطلاقاً من ادعاء تمثيلها مصالح الأمة بشكل عام الأمر الذي يفسر غياب القوى الطبقية الساندة للطغمة الانقلابية وما يعنيه ذلك من أن القوى الانقلابية وقواها المنتفعة تحاول الاحتفاظ بسلطة الدولة السياسية عبر أدوات أيديولوجية.
الموضوعة الثالثة: ـ إن القاعدة الاجتماعية الساندة لسلطة الدولة الاستبدادية تتمثل بخليط من الشرائح الاجتماعية والأجهزة البيروقراطية / القمعية المتواجدة في السلطة والمؤسسات الأهلية.

لإضفاء شرعية فكرية ساندة للموضوعات المثارة دعونا نبحث الأمر وفق سياق تاريخي مكثف.
جاء حزب البعث العربي الاشتراكي إلى سلطة الدولة العراقية عبر الشرعية الانقلابية تحت ضغط الشعارات القومية وهذا الضغط افرز منذ البدء توجها ً أيديولوجيا ينطلق من بناء الدولة العربية الواحدة وبهذا المسار حاول الحزب الحاكم بناء دولة قوية تشكل مركزاً إقليميا قادراً على جذب الدول العربية لسياسته القومية. ( 5 )
في هذا الإطار يواجهنا السؤال التالي: إذا كانت النزعة القومية هي السياسة الرسمية الناظمة لنشاط الحزب والدولة ما هي أساليب السلطة البعثية الهادفة إلى تطوير التشكيلة العراقية وشد نسجيها الاجتماعي ؟.
للاحاطة بهذا السؤال نتوقف عند أدوات الشد الاجتماعي / السياسي للسلطة البعثية عبر الدالات التالية: ـ

الدالة الأولى: آليات الضبط الاقتصادي: ـ

قامت السلطة الجديدة بانتهاج سياسة اقتصادية / اجتماعية استقطبت كثرة من الشرائح الاجتماعية المهمشة في المدينة والريف حيث جرى توظيف الكثير منها في مؤسسات الدولة المختلفة خاصة بعد اتساع ملكيتها الاقتصادية / الخدمية وهنا نشير إلى أن المؤسسة العسكرية و القوى القمعية الأخرى أصبحت أدوات أساسية في الضبط الاجتماعي/ السياسي بعد ربط الشرائح الطبقية المهمشة بالسلطة الجديدة الناهضة.
إن الخليط الطبقي المهمش والموظف في أجهزة الدولة خاصة القمعية منها شكل منذ البدء القوى الأساسية الضامنة للنظام عبر محورين الأول منهما اعتباره ـ الخليط الطبقي المشوه ـ قاعدة اجتماعية للنظام السياسي المتحول نحو الاستبداد الشامل والثاني ترابطه والأجهزة القمعية في المحافظة على الضبط الاجتماعي عبر ممارسته القمع والإرهاب السافر.
لقد ساعدت آليات الضبط الاقتصادي على توظيف أقسام من الطبقة العاملة في مؤسسات الدولة الاقتصادية / الخدمية متزامنة مع إصدار حزمة من القوانين الكابحة للنشاط النقابي الأمر الذي أدى إلى ضبط النزاعات الطبقية والحد من انفجارها. ( 6 )

الدالة الثانية: ـ دمج مؤسسات المجتمع المدني في الدولة: ـ

من الملاحظ أن المؤسسات الأهلية والسياسية التي ارتكز عليها نظام الشرعية الانقلابية في العراق تمثلت في البدء بمؤسستين أحدهما المؤسسة العشائرية الساندة للسلطة الجديدة والتي شكلت في البدء تحالفاً عشائرياً حتى وان كان غير مكتوباً لإسناد الحكم الجديدة وإدامة قيادة ما أسميته بالمدن الحاكمة سامراء، تكريت، عانه. .. الخ، وثانيهما حزب البعث ومنظماته الشعبية التي تداخلت وظائفها مع الوظائف الأمنية. في هذا السياق لابد من الإشارة إلى بعض الملاحظات الأساسية: ــ
1: ـ أن مؤسستي العشيرة والحزبية حوتا خليطاً اجتماعياً غير متجانساً بمعنى وجود انتماءات طبقية متعددة وبهذا فان الشد الاجتماعي داخلاهما سواء كان عشائرياً أم حزبياً لا يعتمد على مساند طبقية بل اعتمد على مساند أيديولوجية / عرقية.
2: ـ لترابط مصالح المؤسستين مع سلطة الشرعية الانقلابية المرتكزة على المكافئات المالية والهبات العينية ( سيارات، قطع سكنية، أراضي زراعية ). تحول الانتماء العرقي/ الأيديولوجي للحزب والعشيرة إلى ولاء سياسي للنظام القائم.

الدالة الثالثة آليات الضبط الأيديولوجي: ـ

إن سيطرة الدولة على الحياة الاقتصادية والمرافق الخدمية وفر فرصة لتطوير قاعدتها الاجتماعية خاصة في المؤسسات الرسمية وذلك من خلال منح الامتياز ات والمكافئات للطواقم القيادية والوسطية في الجهاز البيروقراطي والقمعي.
إن اتساع قاعدة النظام في المؤسسات الأمنية والبيروقراطية ترافق ونمو آليات الضبط الأيديولوجي المرتكز على خليط من الشعارات القومية (تحقيق الوحدة العربية ) و الوطنية ( بناء الدولة المقتدرة ) المحاطة بروح عشائرية بهدف توظيف الموروث القبلي / الديني في تعزيز مسار الضبط الأيديولوجي.
لقد اعتمدت آليات الضبط الأيديولوجي على كثرة من الأجهزة منها الإعلامية الصحف اليومية والقنوات التلفزيونية ومنها المؤسسات التربوية المدارس والكليات والجامعات التي حاولت ترسيخ الشعارات والأفكار (المثالية) عند الأجيال الجديدة.
أخيراً لابد من القول إن اتساع آليات الضبط الأيديولوجي في الدولة الاستبدادية مهد الطريق أمام النظام الديكتاتوري لفرض سيطرته على شريحة هامة من الطبقة الوسطى عبر توظيف أقسام منها في النسق الأيديولوجي وأجهزته الإعلامية المختلفة. ( 7 )

الدالة الرابعة: ـ آليات السيطرة الإرهابية: ـ ( 8 )

بداية نشير إلى أن آليات السيطرة السياسية / الاجتماعية في الأنظمة الاستبدادية تستبدل مواقعها تبعاً لمسار تطور سلطتها السياسية ومدى ترابطها مع تشكيلتها الوطنية بمعنى إن الحقبة الديكتاتورية شهدت تناوباً بين أشكال السيطرة والهيمنة ورغم تلك التبدلات إلا أن الأجهزة القمعية شكلت الحارس الضامن للنظام الاستبدادي وكانت بمثابة القاعدة الاجتماعية المسلحة والمنضبطة المترابطة مصيرياً مع السلطة السياسية. وبهذا المعنى نستطيع القول أن تحطيم الأنظمة الاستبدادية وأجهزتها الإرهابية القمعية في الدول الوطنية لا يمكن إنجازه إلا عبر طريقين الأول منهما هو الثورة الشعبية التي مثلتها الثورة الإيرانية الإسلامية بعدما فككت الأجهزة القمعية عبر خلخلة ولاءها للنظام الاستبدادي الأمر الذي جعل الكثير من منتسبيها ينحاز إلى شعارات الثورة. والثاني منهما هو التدخل العسكري الخارجي الذي أفضى إلى تحطيم وانهيار الدولة العراقية.
خلاصة القول أن القاعدة الاجتماعية للأنظمة الديكتاتورية وبسبب حيازة الأخيرة على ثروات البلاد الوطنية تتكون من خليط اجتماعي متنافر تتشكل ركائزه من الهيكل البيروقراطي / القمعي المتمثل بالجهاز الإداري المتشابك والمؤسسة الحزبية و العسكرية مضافاً إليه أجهزة الأمن، المخابرات والشرطة السرية.

المفصل الثالث آليات الضبط الاجتماعي في البنية الطائفية ( 9)

أحدث الاحتلال الأمريكي للعراق فراغاً سياسياً بعد تحطيم آلة الدولة الديكتاتورية وما تبعه من تشظي التشكيلة الاجتماعية العراقية وتمركزها في كتل سكانية متنازعة.
إن غياب المرجعية الوطنية القادرة على ملئ الفراغ السياسي وتداخلات المصالح الدولية / الإقليمية أفضت إلى تبلور ملامح جديدة للتشكيلة العراقية يمكن رصدها في السمات التالية: ــ
السمة الأولى: ـ انهيار آليات الضبط الاجتماعي السياسي الدولتي وتحولها إلى وسائل للسيطرة الجزئية على البنى والمؤسسات الأهلية، الطائفية والعشائرية.
السمة الثانية. أفضى تمركز الكتل السكانية العراقية في مؤسسات أهلية إلى تنوع أشكال الضبط والسيطرة بسبب تعدد شرائحها الاجتماعية.
السمة الثالثة: ـ أفرز غياب الفكر الناقد والبرامج السياسية المتحكمة في مسار الأحزاب والكتل السياسية تراخياً في أدوات سيطرتها الحزبية.

انطلاقاً من السمات الأنفة الذكر نحاول التركيز على آليات الضبط الاجتماعي في المؤسسة الطائفية كونها المؤسسة الأكثر حضوراً في التشكيلة العراقية في الظروف التاريخية الملموسة.
إن آليات الضبط والسيطرة في المؤسسة الطائفية يمكن حصرها في المسارات التالية:ـ
المسار الأيديولوجي: ـ يهدف هذا المسار إلى ضبط التوترات الاجتماعية داخل البنية الطائفية عبرا آليات عدة معبر عنها في الفتاوى والمواعظ الدينية ذات الأهداف السياسية الرامية إلى كبح المشاركة الديمقراطية الشعبية في الحياة السياسية على أسس وطنية.
المسار السياسي: ـ الذي تتحكم فيه أحزاب طائفية معبرة عن مصالح شرائح اجتماعية سائدة في البنية الطائفية في هذا السياق نشير إلى أن أحزاب الأيديولوجية الدينية تحاول التحكم في أنشطة منظمات المجتمع المدني بعد بناءها بروح طائفيةً، حيث تنتشر هناك شبيبة إسلامية وأخرى مسيحية ونقابات لهذه الطائفة أو تلك الأمر الذي يعيق بناء الروح الديمقراطية المستقلة المدافعة عن حرية المواطن ومستقبله الديمقراطي.
ــ مسارات اقتصادية / اجتماعية تترابط وفعاليات مختلفة / مساعدات مالية / مدارس مجانية / خدمات طبية، خدمات اجتماعية متعددة تشكل رافعات أساسية في شد القوى الهامشية وضبط حركتها داخل البنية الطائفية. بكلام آخر يؤدي المستوى الاقتصادي / الاجتماعي دور الضامن الأساسي في ضبط البنية الطائفية من التفكك عند اشتداد الصراعات الاجتماعية.
إن صيانة البنية الطائفية من التفكك والانقسام يستند إلى تحالف الشرائح الاجتماعية السائدة في البنية الطائفية والمتمثلة بــــــــــ: ــ
1: ـ الشرائح المالية: ـ التي تتوزع بدورها على القطاعات المصرفية والبنوك الإسلامية المترابطة مع قوى رأس المال واحتكاراته الدولية.
2: ـ الفئات الكمبورادورية: ـ بأقسامها التقليدية المرتكزة على تصدير واستيراد السلع التراثية المرتبطة بالمزارات الدينية و الشرائح الجديدة الناهضة المترابطة والشركات الدولية عبر عقود الوكالة التجارية. وبهذا المعنى تشكل الشرائح الكمبورادورية التقليدية منها والجديدة الرافعة الأساسية لإقامة التحالفات الإقليمية/ والدولية ذات النزعة الطائفية.
3: ــ الشريحة العقارية المستندة إلى قطاعي الخدمات والسياحة المزدهرين في ظل انتعاش الشعائر الدينية

خلاصة لما جرى استعراضه يمكن إدراج بعض الاستنتاجات التي أراها ضرورية.
أولا: ـ كانت الدولة وسلطتها السياسية عبر مراحل تطورها المختلفة أهم أدوات الشد الوطني لمكونات التشكيلة العراقية. وبهذا السياق فان انهيار آليات الضبط على مستوى الدولة وتحوله إلى آليات ضبط جزئية يعني تراجعاً خطيراً في مسار بناء الدولة الوطنية الديمقراطية.
ثانياً: ـ شكل العنف السلطوي المنظم العامل الأساس لسيطرة الأنظمة الاستبدادية رغم تبدل مواقع آليات الضبط والسيطرة.وبهذا المسار تعتبر الأجهزة الأمنية والعسكرية القاعدة الاجتماعية المسلحة الضامنة لسيطرة السلطة الديكتاتورية المنهارة. ( 10)
ثالثاً: ـ إن تفكك الدولة العراقية واحتماء مكوناتها الاجتماعية بمؤسسات أهلية/ طائفة / عشيرة / قومية / أصبح عاملاً أساسياً من عوامل القبول بالسيطرة العسكرية الأمريكية لغرض حفظ التوازنات الداخلية.

الهوامش

1 : ـ يلاحظ في الفترة الأخيرة أن آليات التحكم في الأحزاب الأيديولوجية قد ضعفت بسبب تدهور الضابط الأيديولوجي المتحكم في مسار الأحزاب اليسارية والقومية .
2: ـ قاد الجيش العراقي بقيادة الفريق الركن بكر صدقي المشتهر بالصرامة والقسوة المعارك ضد انتفاضة الآشوريين عام 1933 ثم ضد انتفاضة العشائر في منطقة الفرات ألأوسط عام 1935 ثم ضد انتفاضة البارزانيين.
3: ـ رغم أن أجهزة العنف كانت الضامن لسلطة ازدواجية الهيمنة إلا أن هناك تناقضات بين الأجهزة الأمنية والإستخباراتية والمؤسسة العسكرية وذلك بسبب تنامي الروح الوطنية المناهضة للتواجد الأجنبي عند الطواقم القيادية للمؤسسة العسكرية.
4 : ـ من المعروف إن أول انقلاب عسكري قاده الفريق الركن بكر صدقي عام 1936 وما نتج عنه من الإطاحة بوزارة الهاشمي وحكم البلاد حكماً عسكرياً .
5: ـ انفرد حزب البعث في العراق عن باقي الأحزاب السياسية بكونه حزباً ( عسكريا) بمعنى غلبة الروح العسكرية على منظماته الحزبية واعتماده الدائم على أجهزة سرية خاصة.
6: ـ تشير بعض الدراسات إلى أن القوى الاجتماعية التي دافعت عن النظام الاشتراكي في الاتحاد السوفيتي السابق هما الطبقة العاملة السوفيتية وكذلك الجهاز البيروقراطي للدولة رغم اختلاف المواقع الطبقية لكلا المؤسستين.
7: ـ أفضى تفكك السيطرة الأيديولوجية في الاتحاد السوفيتي إلى نزوع الطواقم القيادية في الحزب الشيوعي إلى الاحتماء بالأيدلوجية القومية ولهذا نرى أن أعضاء المكتب السياسي توزعوا لرئاسة الدول القومية بعد تفكك الدولة الفدرالية السوفيتية. أما في العراق فقد انتقل الكثير من كوادر الأحزاب السياسية إلى مواقع طائفية / قومية
8: ـ إن توصيف أجهزة القمع في الدول الاستبدادية بالأجهزة الإرهابية نابع من طبيعة الصفة البوليسية للدول الديكتاتورية وذلك لرفعها الإرهاب الشامل إلى مستوى السياسية الرسمية للدولة.
9: ـ هذه الموضوعة سبق وان تناولتها في بحث سابق تحت عنوان الاحتلال والبناء الطائفي للدولة العراقية. انظر المدى وعدة مواقع الكترونية منها الحوار المتمدن.
10: ـ تحولت أدوات العنف المنظم للدولة الديكتاتورية المنهارة ـ أجهزة أمنية، طواقم عسكرية للجيش العراقي، أقسام من المؤسسات الأهلية ــ إلى آليات ضبط عسكري للقوى المناهضة للتواجد الأمريكي بينما نظمت كوادر الجهاز البيروقراطي السابق أجهزة أيديولوجية / إعلامية في إطار البنية الطائفية .