انهيار المعسكر الاشتراكي الأسباب والتصورات/5


محمد علي محيي الدين
2008 / 2 / 13 - 10:54     

أن هذا الانهيار السريع جعل الامبريالية سيدة العالم،والقطب الوحيد القادر على التأثير في الأحداث الدولية المختلفة،مما أثر بشكل مباشر على مجمل التحولات في العالم وجعلها في صراع غير متكافئ لافتقارها للقدرة على المواجهة لعدم امتلاكها القدرات التي تؤهلها للوقوف بوجه التيارات التي أفرزها التحول الكارثي،وقد صور فقدان التوازن أن النظام الرأسمالي هو النظرية المثلى لبناء المجتمعات،والأفضل في النظم الاقتصادية لقدرته على البقاء وانحسار التوجهات الأخرى وانكفائها،في الوقت الذي كان لتربية غورباتشوف أثرها في هذا الانهيار السريع فقد تربى في أحضان البيروقراطية التي استشرت في الدولة السوفيتية والحزب الشيوعي،وبالتالي كان الغرس النابت في الأرض الهشة الذي لم تغرس جذورها فيها،فتهاوى عندما واجهه الريح،وبسبب ضعف شخصيته وهوانه لم يتمكن من تنفيذ ما وعد من أصلاح وتغيير يقود البلاد نحو الأحسن ويوصلها إلى بر الأمان،ولم يتمكن من تطبيق القوانين التي سنها فأنهصرت قناته في أول مواجهة في محاولة الإصلاح،،وكان تخذيه أمام القوى الأخرى وضعفه السبب في انهيار ذلك البناء الشامخ الذي نهشته البيروقراطية والترهل الذي أطاح بالبنى التحتية للنظام السوفيتي،والتطبيق السيئ لقوانين سليمة صالحة في كل زمان ومكان،ونظرية كاملة لبناء مجتمع خال من التمايز الطبقي والتباين الاجتماعي،يتساوى فيه الجميع بالحقوق والواجبات ومستويات المعيشة ومتطلبات الحياة.
أن انتكاس الشيوعية لا يعني نهاية المطاف أو فشلها في معالجة أدواء المجتمع والقضاء على التمايز بين الطبقات،ولا يعني انتصار الرأسمالية وإنها الأفضل والأرقى في التنظيم الاقتصادي وبناء المجتمع المتكامل،فالرأسمالية تحمل في طياتها بذور فنائها،ومسببات فشلها،ولابد لها عاجلا أم آجلا أن تتهاوى بفعل المطارق الشعبية للطبقات المضطهدة،وتغدوا أثرا بعد عين،ولابد للاشتراكية والشيوعية أن تجد طريقها للأخذ بقياد المجتمعات نحو الغد الموعود،لأنها الحتمية التاريخية،ولابد لمفكريها من استخلاص الدروس والعبر من هذا الانكسار المؤقت،،وإيجاد الأرضية السليمة لبناء المجتمع الاشتراكي،وكما مرت الرأسمالية العالمية بأزمات متعددة وانكسارات كثيرة،وما فتئت تواجه الكثير من المصاعب والتحديات والتعقيدات،وظلت تواجه الكثير من الأسئلة التي يصعب الإجابة عليها،وعجزها عن مواجهة الكثير من المشاكل المعقدة،رغم مضي قرون على ظهورها كنظرية يدعي أصحابها كمالها وخلوها من كل ما يشين.
فليس من الغريب أن تواجه الماركسية كنظرية بعض المشاكل والعقبات التي تؤدي إلى تراجعها أو نكوصها وعرقلة مسيرتها وهي فتية طرية العود لم تستقم تجربتها،فإذا خسرت الماركسية هذه المعركة فأمامها الكثير من المعارك التي ستواجهها بأسلحتها الكفيلة بإحراز النصر،وديناميكيتها العالية في التجديد والتقدم ووضع العلاج المناسب لما يواجهها من تطورات،وهي قدر الإنسانية ولابد لها أن تنتصر مهما طال الزمن وبعدت المسافات.
6- إن التجربة الفتية للاشتراكية وجدت في رحم مجتمع فلاحي أقطاعي له عاداته وتقاليده التي تختلف كثيرا عن طبيعة المجتمعات الصناعية،ومن شروط الانتقال إلى الشيوعية المرور بمرحلة الرأسمالية،تلك المرحلة التي تجعل الطبقة العاملة المؤثر الوحيد في تغيير المجتمع،ومن خلال صراعها تكون التغيرات،لأنها صاحبة المصلحة الحقيقية في التغير بعكس المجتمع ألفلاحي الإقطاعي الذي يحمل في داخله الكثير من الأمراض التي لا يمكن أن تكون قادرة على التغيير المطلوب،لذلك كان ماركس يتوقع نضوج الثورة وقيامها في المجتمعات العمالية المتطورة كألمانيا وفرنسا وبريطانيا وغيرها من الدول الصناعية التي تمتلك قوى عاملة واعية قادرة على أخذ زمام الأمور والسير بالثورة قدما وإنجاحها لامتلاكها الوعي بمصالحها،ولأن هذه الدول تمتلك الشروط الذاتية والموضوعية لاستكمال أسس النجاح،لذلك كان نجاح ثورة أكتوبر لا يلاءم الأسس التي وضعت في قمة التحولات لنجاح أي ثورة،ولا يتوافق ونظرية الصراع الطبقي التي هي أساس النظرية الماركسية وعمودها الفقري.
ولكن الفكر الماركسي الخلاق قادر على التفاعل مع المتغيرات بديناميكيته العالية وقدرته على استثمار الأحداث لما يخدم مصالح الطبقة العاملة،ولأنه نظرية علمية الاسترشاد بها واتخاذها دليل عمل مرن قادر على استيعاب المستجدات،وليست قوالب جامدة لا يمكن الخروج عليها كما هو الحال في النظريات التي لا تستند إلى العلم،فكان لنظرية التطور اللارأسمالي أن تأخذ طريقها إلى حيز التطبيق،بإمكانية نجاح الثورة في المجتمعات غير الصناعية،أو غير الرأسمالية،وأدى ذلك إلى صياغة النظرية بما يتلاءم وطبيعة المجتمع السوفيتي،وأدى لظهور أفكار جديدة اعتبرت هذا التحول خروجا على النظرية الماركسية وافتئات عليها وجوبه بالكثير من الأصوات الرافضة وردود الأفعال المتشنجة ليس هنا مكان الإشارة إليها،وواجهت الثورة الكثير من الإشكالات في مجال التطبيق الاشتراكي،وسن قوانين الإصلاح الزراعي التي أدت في بدايتها إلى ردود أفعال سلبية أثرت على الإنتاج،مما دفع القيادة السوفيتية لاتخاذ اجراءت سريعة لإعادة الموازنة في الإنتاج الزراعي،وحدوث تحولات مهدت لبروز التصلب والتشدد في التعامل مع المواطن ومهد لظهور نزعات استبدادية عانى منها الشعب الروسي لعقود،ناهيك عن المصاعب التي واجهت الثورة والمقاومة الضارية لبقايا الإقطاع والتجار وأتباع القيصرية المنهارة ومن تضررت مصالحهم جراء التحولات الجذرية الطارئة على المجتمع السوفيتي.
7-وهناك أمر قد يبدوا غريبا ذلك أن الماركسية تحتاج في تطبيقها إلى أناس من طراز خاص،بعيدين عن الأنانية والأثرة وحب التملك،وهو ما يتعارض وطبيعة الإنسان والنفس البشرية المجبولة على حب الذات،لذلك يجب أن يتم بناء المجتمع على أسس بعيدة عن الاستئثار والنفعية،وهذا ما لم يحدث فقد كان المجتمع مليء بالأمراض والتشوهات التي انتقلت إلى الرجال الساعين لبناء المجتمع الجديد فكانوا يحملون في داخلهم النزعات الضارة التي أساءت إلى النظرية بما ظهر من تصرفاتها البعيدة عن الخلق الشيوعي الذي هو من طراز خاص،ولا أزعم أن المجتمع يخلوا من أناس على ذلك الطراز ولكن هؤلاء قلة لم يكن لهم القدرة على تشذيب المجتمع،لذلك يمكن أن تعزوا الخلل في البناء إلى طبيعة المجتمع،المبني على أسس مادية خاطئة خاضعة للحوافز النفعية والمنافع الذاتية،ويمكن تجاوز هذه إذا توفرت القيادة الواعية التيس تكون مثلا أعلا وهو ما لم نجده في القيادات المتأخرة بعد وفاة لينين،مما أوجد بونا واسعا بين النظرية والتطبيق.
8-وهناك عامل آخر جعل من شعوب الاتحاد السوفيتي تتذمر من واقعها بالمقارنة مع واقع المجتمعات الرأسمالية ،فما وصلت إليه الشعوب في العالم الرأسمالي لا يمكن مقارنته بالحالة التي عليها الشعوب السوفيتية سواء في مجال حقوق الإنسان والحريات أو طبيعة الحياة،فقد انصرفت القيادة السوفيتية إلى الإنتاج الحربي لمواجهة المخاطر المحيطة بها،مما أثر سلبا على اقتصادها وابتعاده عن الإنتاج التجاري الذي يرفع المستوى المادي للمواطن،مما خلق أزمات كبيرة في مجالات الحياة المختلفة،ناهيك عن الحرب الباردة التي استمرت لعقود وما رافق الحرب العالمية الثانية من خسائر مادية جسيمة وتدمير للبنى التحتية،والصراع الذي خاضه الشعب السوفيتي في مواجهتها للحفاظ على دولته والمكاسب التي تحققت في ظلها،ولولا التضحية والصمود البطولي الذي عرفت به الشعوب السوفيتية لانهارت الدولة قبل هذا التاريخ بعقود،ولو قارنا بالحال الذي وصل إليه العامل السوفيتي وما هي عليه أحوال العمال في البلدان الرأسمالية لوجدنا البون واسعا بين الاثنين مما جعل تلك الشعوب تتململ من واقعها وتحاول الارتقاء لمستوى عمال تلك البلدان،ولم تحاول القيادة السوفيتية القيام بإصلاحات جذرية لتغيير هذا التردي ،بل اعتمدت الإصلاحات الفوقية التي لم تغير من حال المواطن شيئا،وجعلهم يقعون أسرى الدعاية الغربية التي صورت لهم الحياة في ظل اٌقتصادها بأجمل صورة.
أن هذه الإخفاقات وهذا الانهيار يجب أن لا يفت في عضد المؤمنين بالشيوعية،ودراسة التاريخ تظهر لنا بما لا يدع مجالا للشك أن الكثير من النظريات والأديان قد فشلت في التطبيق لا لخلل فيأو قصور فيها،ولكن التطبيق الخاطئ،فقد يؤمن الكثيرون ممن يجدون فيها المنقذ والمحقق لأمانيهم فيناضلون باستماتة وأيمان لتحقيق مثلها وأهدافها بعيدا عن المنفعة والمصالح الذاتية،وبعد نجاح تجربتها الأولى يتسلل إليها النفعيين وأصحاب المصالح فيكونون في مقدمة الطبالين والمزمرين لها فتكون لهم الآثار المدمرة على مستقبلها،لذلك ترى الرعيل الأول لكل حركة أو نظرية ممن دعمها وآمن بها وشارك في نضالها تقوم تلك العناصر الدخيلة بتصفيته وأزاحته وتفرض هيمنتها وتسلخه تدريجيا عن مبادئه الأصيلة وتحيله إلى آلة بيدها تحقق من خلاله مكتسباتها الخاصة وتحضي بالامتيازات مما يجعل من تلك النظرية مجرد واجهة لتحقيق فئة طفيلية هامشية لمصالحها على حساب مصلحة الجماهير.
وهذا الفشل لا يعني فشل النظرية أو قصورها،بل فشل تطبيقها،والماركسية ليست بدعا بين النظريات،فقد خالطها الكثير من الإخفاق بسبب الابتعاد عن جوهرها،والتمسك بقشورها،فهي لم تأت عن فراغ وكانت ثمرة جهود سابقة تمكن ماركس خلالها من بلورة فكر حي خلاق وأستنبط السبل الكفيلة ببناء المجتمع الخالي من الاستغلال وبناء سلطة الطبقة العاملة صاحبة المصلحة الحقيقية في التغيير القادرة على قيادة المجتمع.
أن هذا النكوص والردة المؤقتة ليست النهاية أنها البداية لإثبات صحة النظرية بالاستفادة مما لابسها من أخطاء ومحاولة الاستفادة منها وتجنبها،وستجد الشعوب التي ذاقت حلاوتها مدى الحاجة للعودة إليها بعد أن تلمست الفروق الهائلة بين ما كانت عليه تحت ظلالها وما ألت أليه بعد انحسارها،وأـوقع أن تعود الشعوب التي نعمت بها إلى المطالبة بعودتها بعد أن ترى الوجه الحقيقي للرأسمالية،وستصل الكثير من الأحزاب اليسارية والاشتراكية والشيوعية إلى السلطة عن طريق الخيار الديمقراطي بعد أن يتضح لها البون الشاسع بين النظرية الشيوعية الهادفة إلى مصلحة الشعوب،والرأسمالية بواجهتها الجديدة المبنية على الاستغلال والتسلط،ولابد أ، يأتي اليوم الذي نرى فيه الصراع قد وصل ذروته،وتحث الثورة البيضاء التي تسحق بأقدامها اللاعقين لدمائها،ولابد للطبقة العاملة وحلفائها من معرفة ماهية الصراع والسبل الكفيلة بخوضه لصالحهم،ويتحقق المجتمع المنشود بحياة خالية من الاستغلال،على أنقاض الرأسمالية التي حفرت قبرها بيدها الوالغة بدماء الشعوب.