أين ألتقي وأين أختلف مع الأستاذ الدكتور سيَّار الجميل ؟لتتسع جادة الحوار الديمقراطي ... ليتسع صدر الإنسان لسماع الرأي الآخر.(.3&4)


كاظم حبيب
2008 / 2 / 3 - 11:48     

الفرد والمجتمع في ظل الرأسمالية
سأناقش في هذه الحلقة فكرة أساسية واحدة وردت في أول حلقة من الحلقات العشر التي ناقش فيها المفكر العراقي والعربي المتميز الأستاذ سيّار الجميل ما طرحته في الحلقات السابقة من حواراتنا المشتركة , وهي : هل يمكن تخفيف الاستغلال في ظل الرأسمالية عموماً , وفي نظم ما تزال تزحف بين علاقات تعود لما قبل الرأسمالية والرأسمالية ؟ وكيف؟ , إذ أني ناقشت بعض الأفكار الأخرى في الحلقات السابقة , وسأناقش أفكاراً أخرى كثيرة واردة هنا في الحلقات القادمة.
ليس لدي مقدار ذرة من الشك في أن مهمة النضال ضد بشاعة استغلال الإنسان للإنسان صعبة جداً وقاسية ومليئة بالمخاطر الجسيمة , إذ أن الرأسماليين ومن يقف على رأس السلطة لحماية تلك العلاقات الإنتاجية وإدامة ذلك الاستغلال سيبذلون جهوداً كبيرة جداً ويمارسون ما هو مشروع وغير مشروع من الأساليب والأدوات لضمان استمرار الاستغلال الذي يتعرض له المنتجون في الصناعة والزراعة والتجارة وفي بقية القطاعات والفروع الاقتصادية الإنتاجية والخدمية , بمن فيهم شغيلة الفكر ومنتجو الثقافة والإبداع الفني بمختلف مجالاته. ولا شك أيضاً في أن المنتجين من عمال وفلاحين وكسبة ومثقفين ومبدعي الثقافة سيناضلون بعناد من أجل تخفيف الاستغلال عنهم في ظل العلاقات الإنتاجية الاستغلالية في مسيرة النضال من أجل إقامة نظام اجتماعي أكثر عدلاً وإنصافاً , وفي سبيل إقامة علاقات إنتاجية تحّرم استغلال الإنسان للإنسان وتضع قيوداً قانونية على ما يجري الآن في ظل النظم الرأسمالية المتقدمة أو النظم الأخرى التي لا تزال بعيدة عن المراكز الرأسمالية. كما أني لست ممن يعتقد بوجود إمكانية تحقيق عدالة مطلقة في المجتمع البشري لأسباب ترتبط بعدد غير قليل من العوامل التي لست بمعرض مناقشتها الآن , فالعدالة تبقى نسبية. ولكن يمكنني الادعاء بأن الطبقة العاملة في القطاع الصناعي والعمال الزراعيين في الريف والفلاحين وجمهرة المثقفين والمتعلمين العاملين في القطاعات الإنتاجية والخدمية الحديثة وبقية شغيلة الفكر واليد قادرون على النضال , سواء أكان ذلك في ظل النظم الرأسمالية المتقدمة , أم في ظل الدول التي لا تزال تتحرك بين علاقات ما قبل الرأسمالية والعلاقات الرأسمالية وتلك التي تقف على عتبة الانتقال إلى العلاقات الإنتاجية الرأسمالية. ربما كانت العبارات التي وردت في مناقشتي السابقة غير واضحة أو غير موفقة في التعبير عن الأفكار التي أردت إيرادها في مناقشتي. إذ أن الأخ الكريم الأستاذ سيّار الجميل يقول في مناقشته لي ما يلي:
"يا صديقي إن هذه " الشروط " التي فرضتها العولمة الجديدة والقوى الكابيتالية الجديدة لا تتفق والمبادئ الماركسية أبدا ! إن هذه الشروط هي وليدة انهيار المنظومة الاشتراكية التي حاربتها القوى الإمبريالية على امتداد خمسين سنة من الحرب الباردة ! يا صديقي متى عرفت الدول النامية الديمقراطية ؟ ومتى ستعرفها ؟ هل عندما كانت عرضة للمساومات في سوق نخاسة الحرب الباردة بين المعسكرين ؟ أم أنها كانت في ظل أنظمة الانقلابات العسكرية لهذا الطرف أم ذاك ؟ أم غدت اليوم أداة عطف اكتشفتها الولايات المتحدة الأمريكية فجأة ، لنرى تجاربها الديمقراطية كيف هي الآن في أماكن معينة دون أخرى ؟ وإذا كانت علاقات الإنتاج الرأسمالية استغلالية ، فكيف يمكن العمل على تخفيف ذلك الاستغلال؟ وبأية وسائل ؟ وكيف نضمن تحقيق أشكال مناسبة من العدالة الاجتماعية التي تعتمد على موازين القوى السياسية والطبقية ؟؟ لماذا لا توافقني الرؤية التي طرحتها حول انعدام علاقات الإنتاج الحقيقية في مجتمعاتنا التي باتت مستهلكة بالدرجة الأساس ؟ أين هي العلاقات شبه الإقطاعية اليوم ؟ إذا كانت بلداننا تصدر الحبوب من قمح وشعير وذرة وشوفان ورز .. إلى العالم أيام هيمنة الإقطاع مستخدمة وسائل الإنتاج القديمة قبل خمسين سنة .. فما الذي تنتجه اليوم مجتمعاتنا التي ليس باستطاعتها البقاء على قيد الحياة من دون المستهلكات والحبوب الأمريكية ؟ وكل من وادي النيل ووادي بلاد الرافدين شاهدان على ما أقول ! وأخيرا : إدانة الاستغلال واحدة بين الأمس واليوم". (نص من الحلقة الأولى من الحلقات العشر الأخيرة للدكتور الجميل).
في هذا المقطع ترد الكثير من الأفكار المتداخلة والمتناقضة أحياناً التي اتفق مع بعضها وأختلف مع البعض الآخر ولا بد من التفريق بينها لمناقشتها.
لا شك في أن كارل ماركس كان يرفض الاستغلال . وكذلك كل الذين تبنوا طريقته في التحليل وتعرفوا على القوانين الاقتصادية الموضوعية التي اكتشفها أو التي ساهم في التعريف بها أو قوانين التطور الاجتماعية , يرفضون الاستغلال أيضاً , والعولمة هي رأسمالية وتجلب الاستغلال , وبالتالي فالاستغلال العولمي مرفوض أيضاً. كما أن هناك من هو غير ماركسي , ومنهم الأستاذ الجميل نفسه , ولكنه يرفض الاستغلال. ولكن رفض الاستغلال شيء , ووجوده على أرض الواقع شيء آخر. والاعتراف بوجوده في ظل العولمة شيء , والنضال من أجل الخلاص منه أو تخفيفه في ظل الظروف التي تسببت في وجوده شيء آخر أيضاً. النضال ليس ضد العولمة , بل ضد استغلالها. لا يكفي يا صديقي العزيز أن أرفض الاستغلال لكي أستطيع التخلص منه. ولكن من الضروري أن أعي وجود الاستغلال وأدرك أسبابه لأستطيع التفكير والتعامل مع هذا الواقع وإيجاد السبل أو توفير مستلزمات النضال في سبيل التخفيف منه ومن ثم الخلاص منه. هنا يمكن أن يبرز الاختلاف في الرؤية والموقف. في الوقت الذي يرفض الماركسيون الاستغلال في كل النظم الاجتماعية , يقره اللبراليون , منذ أن برزت الأيديولوجية اللبرالية فكراً وسياسة , إذ أن اللبرالية , كفكر وكممارسة , لا تقتصر على الاعتراف بحرية الرأي والعقيدة وحقوق الإنسان العامة , بل هي تمتد لتشمل الملكية , أي الملكية الفردية لوسائل الإنتاج , وتعترف بحرية الفرد على بيع قوة عمله لقاء أجر , وكلاهما يشكلان القاعدة الأساسية لنشوء الاستغلال في المجتمع الرأسمالي , من خلال إنتاج الدخل القومي الذي يتضمن فائض القيمة المنتج من قبل شغيلة اليد والفكر , حيث يتم توزيع هذا الدخل وفق أسس رأسمالية بين مالك وسائل الإنتاج ومالك قوة العمل في غير صالح الأخير؟ وهي النظرية المعروفة بتوزيع الدخل على عوامل الإنتاج الأربعة : رأس المال وقوة العمل والتنظيم والأرض. وإذ كان هناك لبراليون يرفضون الاستغلال جملة وتفصيلاً فهو أمر جيد ولم التق بأحد منهم حتى الآن , في ما عدا ما يتحدث به الزميل الجميل , فأهلاً به في رحاب رفض الاستغلال , ما دام قد تبنى اللبرالية السياسية وليس اللبرالية الاقتصادية مثلاً. اللبرالية موقف فكري , كما هي الماركسية , والاختلاف بينهما معروف للجميع. واللبرالية تمتد من الفكر إلى السياسة ومنها إلى الاقتصاد و أو العكس , ومنهما إلى المجتمع وإلى جميع مجالات الحياة الأخرى. والماركسيون من أمثالي (وهو تعبير مجازي) , يتعاملون مع الواقع القائم لا من خلال الموافقة على ما يجري فيه , بل من خلال فهم هذا الواقع وتحليله وطرح الممكن لتغييره لا من خلال نشاطهم كأفراد , بل من خلال الحركة الشعبية حين يبدأ المزيد من البشر في هذا البلد أو ذاك التفكير المعمق بالواقع والعمل من أجل الخلاص من ذلك الواقع الذي يعيشون فيه.
لا شك في أن وجود الاتحاد السوفييتي وبقية بلدان المنظومة الاشتراكية , بالرغم من كل معرفتنا بما كان يجري فيها ومشكلاتها وبغض النظر عن طبيعة تلك النظم الاشتراكية ورأينا فيها , قد أسهم في تصعيد نضال الشغيلة في الدول الرأسمالية والدول النامية , كما أسهم في تمكينها من انتزاع الكثير من المكاسب العادلة من الرأسماليين , وهو ما نعنيه بتخفيف الاستغلال على الطبقات والفئات المنتجة للدخل القومي من خلال تحسين الأجور وتقليص ساعات العمل وتحسين ظروف العمل والأجازات السنوية والعناية الطبية والتقاعد ... الخ. وحين سقط الاتحاد السوفييتي وسقطت دول المنظومة , تنمر الرأسماليون مجدداً وبدأوا ينتزعون تلك المكاسب الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. ويمكن أن نلاحظ ذلك لا في الولايات المتحدة وحدها , بل في جميع دول الاتحاد الأوروبي مثلاً , وبدأ الرأسماليون يرفضون المساومة ويشددون باتجاه رفع ساعات العمل وتقليص المكاسب والحقوق التي تحققت قبل ذاك. ومن هنا بدأت عملية نضال قاسية ومريرة بين الرأسماليين وبين المنتجين , وليست الإضرابات العمالية سوى أحد أسلحة انتزاع الحقوق وتخفيف الاستغلال. لا يحقق رفض الاستغلال للجماهير المنتجة والكادحة , وهو قائم , أي شيء , بل ما يحقق لهم بعض النتائج الإيجابية يكمن في القدرة على تعبئة المنتجين والكادحين وشغيلة الفكر والثقافة لتأمين الحقوق وتقليص درجة الاستغلال , فهي الطريقة الوحيدة التي تساعد هؤلاء الكادحين المنتجين فكراً وسلعاً وخدمات على تحسين ظروف عملهم , لا يحق لنا أن نقول لهم انتظروا حتى ننهي الاستغلال , بل يفترض أن نناضل من اجل تقليصه وصولاً إلى إلغائه عبر العملية السياسية.
كلنا يعرف بأن بلدان العالم الثالث أو الدول النامية متباينة في مستويات تطورها , بعضها نمت وتقدمت فيه علاقات الإنتاج الرأسمالية نسبياً , وبعضها الآخر لا يزال يزحف على أبواب العلاقات الإنتاجية الرأسمالية ويسعى إلى بناء الرأسمالية وبعضها الثالث يعمل من أجل تحقيق التراكم البدائي لرأس المال وتنشيط العملية الاقتصادية وتغيير البنية الاجتماعية , وبعضها يعيش في ظل علاقات إنتاجية شبه إقطاعية متداخلة مع علاقات عشائرية وأبوية. ليس هناك بلد بدون علاقات إنتاجية , ولكن علينا تحديد نوعية تلك العلاقات وطبيعتها واتجاهات تطورها. وهو ما سأبحث فيه لاحقاً.
وإذا افترضنا بأن علاقات الإنتاج الرأسمالية قد نشأت في بلد نامي في قطاع الصناعة والزراعة والتجارة وكذلك في المصارف والخدمات , وأن هذه العلاقات , كما نعرف تقوم على أساس قوانين اقتصادية موضوعية يتحقق في إطارها استغلال الرأسماليين للعمال المنتجين في الصناعة والزراعة والتجارة وكذلك في القطاع المصرفي وفي غيرها من القطاعات الاقتصادية الإنتاجية والخدمية , بغض النظر عن مستوى تطور تلك العلاقات أو نضوجها , فهل يمكن النضال من أجل تخفيف هذا الاستغلال على العمال والفلاحين والعاملين في قطاع الخدمات وفي القطاع الفكري والبحث العلمي والثقافي , أم أن هذا من صنع الخيال؟ لا يمكن خوض النضال في سبيل ذلك في مثل هذه الدول حسب , بل ضروري أيضاً وفي كل الدول التي تسود فيها علاقات استغلالية , بما فيها أكثر الدول الرأسمالية تطوراً وتقدماً وقوة , رغم كل مصاعب ذلك النضال. المشكلة هنا لا ترتبط بمدى تعارض الماركسية مع الاستغلال الطبقي , إذ أن الماركسية كفكر والماركسيين كمفكرين وسياسيين يرفضون الاستغلال الطبقي , بل المسالة تكمن في الواقع القائم وكيف يمكن مواجهة هذا الواقع وتطوير العملية الاقتصادية وتغيير البنية الاجتماعية مع تخفيف الاستغلال المسلط على الشغيلة إلى حين التخلص منه. الماركسيون لا يستطيعون إلغاء الاستغلال برغباتهم الخاصة وإرادتهم الذاتية , بل ينطلقون في نضالهم من الواقع القائم ويتعاملون مع القوانين الاقتصادية الفاعلة ومع قدرة المجتمع على النضال في سبيل تخفيف أو إلغاء الاستغلال. ما لا يدرك كله في مرحلة معينة لا يجوز أن يترك جله أو حتى بعضه. من هنا جاء قولي بأن القدرة على تخفيف الاستغلال تعتمد على ميزان القوى الطبقية أو الاجتماعية والسياسية في كل بلد من البلدان. إن وعي هذه المسألة من جانب القوى الاجتماعية المختلفة التي تتعرض إلى الاستغلال ووعي دورها يدفع بها إلى تنظيم صفوفها بثلاثة اتجاهات , وهي:

• في أحزاب وتنظيمات سياسية , سواء أكان في أحزاب وتنظيمات سياسية تعبر عن مصالح العمال والفلاحين , أم عن مصالح البرجوازية الصغيرة في المدينة وعن جمهرة كبيرة من شغيلة الفكر ومبدعي الثقافة أو غيرهم ؛
• في نقابات عمالية ومهنية وجمعيات فلاحية يفترض فيها أن تلتزم مصالح أعضائها والعاملين في مجالات نشاطها في مختلف فروع وقطاعات الاقتصاد الوطني الإنتاجي والخدمي والبحث العلمي وغيره ؛
• في تنظيمات أخرى يقرها المجتمع المدني وتأخذ على عاتقها الدفاع عن مصالح أعضاء تلك الجماعات أو الفئات الاجتماعية وفق مجال عمل تلك المنظمات.
كل ذلك لا يتم دون عملية نضالية فعلية , ولكن يمكن أن يتم بأساليب مختلفة , كان في السابق يتم عبر الثورات والانتفاضات , ولا زال الكثير يؤمن بهذا الأسلوب , وربما يمكن اليوم أن يتم اختيار أسلوب النضال السلمي لتحقيق التغيير , وهو أصعب بكثير من الأساليب الأخرى , ولكن إذا ما تحقق سيكون أكثر ثباتاً واستقراراً وأمناً.
في كل هذه المجالات يمكن أن ينهض نضال عمالي , أو بتعبير أدق شعبي ومن فئات مختلفة , وفي مقدمتهم الجماعات المثقفة الواعية , متباين في قوته وفي المصاعب التي يواجهها , يمكن أن يعبئ حوله أوساطاً واسعة من السكان تناضل في سبيل إصدار تشريعات قانونية تفرض على الدولة والمؤسسات القائمة , سواء أكانت تلك الدول تستند إلى حياة دستورية أم غير دستورية , لضمان بعض الجوانب الإيجابية , رغم احتمال عدم الوصول إلى نتائج إيجابية , وخاصة في المجتمعات الاستبدادية الحزبية أو الفردية أو الدكتاتورية العسكرية. والتجارب كثيرة في هذا المجال , سواء تلك الناجحة منها أم التي فشلت في تحقيق ما تصبو إليه.

يمكن أن يتخذ النضال في عدد غير قليل من البلدان النامية , ومنها العراق الاتجاه التالي اشير في أدناه إلى بعض جوانبه:
1. إقرار مبدأ اقتصاد السوق الاجتماعي الذي يفترض تدخل الدولة في ضمان جملة من الحقوق للعاملين وضمان علاقة عقلانية نسبية بين توزيع الدخل القومي بين التراكم والاستهلاك , وبين مكونات هذين المؤشرين. هذا يعني أني أدعو على مثل هذا السوق الاجتماعي في هذه المرحلة لأننا بعيدين بعد السماء عن الأرض بالنسبة لتحقيق العدالة الاجتماعية التي تدور في ذهني والتي أطلق عليها الاشتراكية , ولكن ليست تلك التي سادت في الدول الاشتراكية بأي حال. بل تلك التي تربط بين العدالة الاجتماعية والحرية السياسية والاجتماعية والحياة الدستورية الديمقراطية...الخ.
2. إصدار قوانين تنظم العلاقات بين مالكي وسائل الإنتاج , سواء أكانت أرضاً أم رأسمالاً , وسواء أكان عائداً للقطاع الخاص أمن الدولة , وبين القوى العاملة , كما تنظم الأجر والحدود الدنيا وتحديد ساعات العمل والإجازات السنوية وظروف العمل والحماية الصناعية والضمانات الصحية وضمانات العجز والشيخوخة ...الخ , أي أن تنشأ لدينا وفي هذه المرحلة بالذات دولة الرعاية الاجتماعية للمواطنات والمواطنين.
3. إصدار تشريعات تفسح في المجال للعمل النقابي المهني الحر والمستقل الذي يعمل من أجل تحقيق مصالح المنتسبين إليها والعاملين في مجالات نشاطها.
4. تأمين فرض ضرائب تصاعدية على الأرباح التي تتحقق لمالكي وسائل الإنتاج والشركات الرأسمالية الخاصة المحلية والأجنبية العاملة في العراق بما يسهم في زيادة ميزانية الدولة لتوضع في خدمة إعادة توزيع الدخل القومي , أي التوزيع الثاني للدخل.
5. تكريس مبدأ حل النزاعات التي تحصل مع ملاك الأراضي وأصحاب رؤوس الأموال بصورة سلمية وبآليات ديمقراطية عبر لجان مشتركة حيادية أو القضاء الخاص بالعمل والعمال , ومشاركة المنتجين من عمال ومستخدمين وموظفين في الرقابة على ظروف العمل والإنتاج والخدمات.

إن ما أطرحه ليس ضمانة فعلية للحصول على الحقوق وتخفيف الاستغلال الذي يصر مالكو وسائل الإنتاج على فرضه على المنتجين , ولكنه هو الطريق الذي أرى ضرورة انتهاجه بالارتباط مع التجارب التي مرت بها البشرية حتى الآن , ولكن هذا الأمر لا يعتمد على المنتجين وحدهم في اختيار الطريق أو الأسلوب الذي يناضلون من أجل مطالبهم , بل يعتمد أيضاً على مستوى التناقض والصراع وحدته وإحباط المنتجين وعجزهم بالطرق الاعتيادية في الحصول على بعض حقوقهم المشروعة. إنها قضية معقدة جداً ولكن على كل إنسان أن يرى الطريق الذي يختاره , ولكن يفترض أن لا يخضع هذا الاختيار للمزاج والرغبة والإرادة الذاتية أو لهذا الحزب أو ذاك , بل يستند إلى الدراسة والتحليل الواقعيين للمجتمع الذي يعيش فيه الإنسان ويتقرر في ضوئه أسلوب النضال.
إن واقع العراق الراهن يحتاج على معالجة خاصة وفقرة خاصة وسأتناوله بتفصيل مناسب لاحقاً.

*****************

أين ألتقي وأين أختلف مع الأستاذ الدكتور سيَّار الجميل ؟

لتتسع جادة الحوار الديمقراطي ...
ليتسع صدر الإنسان لسماع الرأي الآخر..
(3)


كيف يفترض أن يتعامل العراق مع العولمة؟
يشخص الصديق الفاضل الأستاذ سيّار الجميل العولمة بأنها ليست سوى مرحلة من مراحل التطور التاريخي للرأسمالية على الصعيد العالمي تمارس دورها وتأثيرها على العالم كله. وهذا صحيح تماماً وأتفق به وأشرت إليه. وهي لا شك تختلف في تأثيرها على العالم باتجاهين: أحدهما يمس الدول المتقدمة والدول المتخلفة أو الدول النامية , والثانية الطبقات والفئات الاجتماعية الغنية والفئات الاجتماعية والشعوب الفقيرة في الدول المتقدمة والدول النامية في آن واحد. وإذا كانت لها أكبر الإيجابيات على الدول المتقدمة وأصحاب رؤوس الأموال والاحتكارات الرأسمالية الكبرى , إذ هي التي تجني ثمار منجزات الثورة العلمية والتقنية وثورة المعلومات , فأن الكثير من السلبيات يصيب الدول النامية بسبب عجزها عن الاستفادة القصوى من شروط وقوانين العولمة الرأسمالية وبسبب مستوى تطورها الضعيف وسياسات حكومات أغلب هذه الدول , إضافة إلى العراقيل التي تضعها الدول المتقدمة في طريق الاستفادة من جوانبها الإيجابية من قبل الدول النامية , بسبب تلك الرغبة الجامحة في السيطرة على اقتصاديات ومصائر شعوب هذه البلدان. ولكن هذه الحقيقة الناصعة لا تحرم , بهذا القدر أو ذاك , شعوب وحكومات الدول النامية من إمكانية الاستفادة من الجوانب الإيجابية في العولمة كعملية موضوعية , إذا ما توفرت القوى الحاكمة الوطنية وإذا ما انتهجت سياسات عقلانية جادة لتنمية مستديمة في هذه الدول وبذلت أقصى الجهود لتجنب العديد من السلبيات التي يمكن أن تعيق تطور اقتصاديات الدول النامية بحيوية وفعالية وديناميكية مناسبة , وإذا ما فكرت بإقامة تكتلات اقتصادية تساعد على تحقيق عملية تنسيق وتكامل اقتصادي في ما بينها , كما في حالة الدول العربية أو دول التعاون الخليج على سبيل المثال لا الحصر.
لا ينفع شعوب وحكومات الدول النامية إدانة العولمة أو إنزال أللعنات بها وبمروجيها , كما لا يمكن رفضها , فهي عملية قائمة ومتطورة وهي خاضعة في تطورها لقوانين اقتصادية موضوعية , ولكن السياسات العولمية الدولية توضع وتدار وتمارس من جانب النخب الحاكمة المعبرة عن مصالح الفئات الأكثر غنى من البرجوازيات المحلية للدول المتقدمة وعلى الصعيد الدولي. ولهذا يفترض أن تفكر شعوب وحكومات الدول النامية , ومنها العراق , في سبل وعي واستيعاب فعل تلك القوانين الاقتصادية الموضوعية العامة والخاصة وحركتها والقواعد المنظمة لها وسبل التعامل معها , وأن تعي أيضاً السياسات التي تمارسها الدول الكبرى لدفع منافع العولمة صوب مصالحها. وفي مثل هذه الحالة يمكن وضع تلك السياسات التي يمكنها أن تنفع هذا البلد النامي أو ذاك وتتجنب بالقدر الممكن سلبيات السياسات العولمية التي تمارس على الصعيد العالمي. ولست ممن يعتقدون بأن المرحلة التي تمر بها الرأسمالية العالمية هي المرحلة الرابعة والأخيرة , إذ لكل مرحلة أطوارها وخصائصها والتحولات التي تجري فيها في رحم الطور والمرحلة التي سبقتها. وكل المؤشرات المتوفرة تؤكد بأن الرأسمالية لا تزال تمتلك مقومات استمرارها على الصعيد العالمي , وأن تركها لموقعها لصالح علاقات إنتاجية أرقى وأكثر تناغماً مع القوى المنتجة المتطورة باستمرار ما يزال بعيد المنال. لقد كانت الأحزاب الشيوعية وبعض قوى اليسار الأخرى , وأنا منهم , متفائلة جداً بقرب غياب الرأسمالية من على وجه الأرض وقرب انتصار الاشتراكية على الصعيد العالمي , بل بلغ الأمر ببعض المتفائلين السوفييت ممن كان في قيادة الحزب والدولة إلى التصريح بأن الاتحاد السوفييتي قاب قوسين أو دنى من ولوج مرحلة الشيوعية , في وقت كانت الدولة السوفييتية ومعها بقية المنظومة الاشتراكية تسير على خط بياني ينحدر بها سريعاً صوب الهاوية أو النهاية لهذه التجربة الغنية وذات الدروس الثمينة لكل الشعوب والتي لم تكن في كل الأحوال كما حلم بها ماركس. لقد كنا , وأنا منهم , نتحدث عن رغباتنا الإنسانية الجميلة التي كانت بعيدة عن الواقع وعن قرب المنال. ولا شك في أن بعضنا ردد ذلك بحس إنساني نبيل , رغم أنه لم يستطع التعرف على كيفية ولوج هذا المجتمع الشيوعي في وقت كانت أوضاع المجتمعات السوفييتية ومستوى حياة الناس وتطورهم بعيدة كل البعد حتى عن مستوى الدول الرأسمالية المتوسطة التطور وبعضها قريب جداً من مستوى حياة الدول النامية , وخاصة بعض الجمهوريات الآسيوية التي تسنى لي زيارتها في النصف الثاني من العقد التاسع من القرن الماضي.
من تابع الوضع في العراق على امتداد ثلاثة عقود يعرف جيداً بأن العراق قد حُرِمَ , في ظل هيمنة البعث الصدامية على الدولة والمجتمع , من الانفتاح على العالم ومن الاستفادة من التطور والتقدم العلمي والتقني ومن التفاعل والتلاقح الثقافي والفني. وقد تجسد ذلك بشكل صارخ مع بدء الحرب العراقية الإيرانية , ولكن بشكل أخص حين فُرض على المجتمع العراقي الحصار الاقتصادي الدولي الظالم والذي عانى منه المجتمع , ولكنه لم يلحق أي ضرر فعلي بالنخبة المستبدة الحاكمة , بل كان الشعب ضحية تلك السياسة البعثية وذلك الحصار الدولي. إلا أن العراق واجه سياسات العولمة الرأسمالية قبل سقوط النظام وبعده بطرق مختلفة ومن جوانب كثيرة , ومنها الحروب والحصار الدولي.
ليس هناك أمام العراق في المرحلة الراهنة وفي الظروف التي يمر بها من طريق غير ولوج العولمة. إذ ليس هناك أي مهرب منها ليس بالنسبة للعراق حسب , بل ولجميع الدول. وبتعبير أدق فأن العراق قد دخل العولمة من أوسع أبوابها , شاء ذلك أم أبى, وهو يعيشها يومياً كما يعيش بها العالم كله , ولكن العراق يعيش اليوم بها من خلال السلبيات التي ترافقها أيضاً ويصعب عليه التمتع بإيجابياتها بسبب سياسة قوى الاحتلال والإرهاب الدموي والطائفية السياسية السائدة والخراب الاقتصادي والفساد المالي والوظيفي الذي كان ولكنه تفاقم منذ سقوط الدكتاتورية الغاشمة. ولا شك في أن بعض أبرز هذه الظواهر كانت موجودة في ظل النظام السابق وتفاقم بعضها لاحقاً وبعد سقوطه , ولكن النظام ألصدامي كان السبب الرئيسي في وجودها أو في نشوئها.
والسؤال هو : هل في مقدور القوى الحاكمة في العراق أن تستفيد من العولمة الرأسمالية السائدة , أم أن سياسات العولمة تعيق ذلك حقاً , أم أن طبيعة الحكم ذاته يعيق ذلك؟
أن الإجابة المدققة عن هذه الأسئلة تؤكد اشتراك جميع تلك العوامل وغيرها في إعاقة الاستفادة الفعلية من إيجابيات العولمة الرأسمالية بالصورة المنشودة والتي يمكن بلورتها بالنقاط التالية:
* التخلف الكبير في الواقع الاقتصادي والاجتماعي والفكري وفي وعي الإنسان بشكل عام الذي يعيق إمكانية الاستخدام العقلاني لمنجزات الثورة العلمية والمعلوماتية وتجلياتها في العولمة.
* الإرهاب الدموي الإسلامي الدولي وإرهاب قوى التدمير الداخلية التي ما تزال تواصل نشاطها التخريبي في العراق وغياب الاستقرار والأمن للسكان بحدود كبيرة , رغم التحسن الأمني النسبي الذي طرأ في الفترة الأخيرة.
* طبيعة الحكم والطائفية السائدة والوعي الديني المزيف والمشوه ودور المؤسسات الدينية والسياسات التي تمارسها الكثير من القوى السياسية الإسلامية والطائفية والعشائرية والتمييز الديني التي تحرم المجتمع من القدرة على الاستفادة من جوانب العولمة الإيجابية.
* وأخيراً وليس آخراً السياسات التي تمارسها الدول الرأسمالية المتقدمة التي تستهدف الحصول على المزيد من الأرباح والنفوذ و"المصالح الحيوية" على حساب الشعب العراقي وتقدمه. والسنوات الخمس المنصرمة تؤكد ما ذهبنا إليه.
وعلينا أن نتذكر باستمرار بأن أحد جوانب العولمة قد برز في ذلك التحالف السياسي والعسكري الذي أسقط الدكتاتورية الغاشمة والشوفينية الجامحة والاستبداد الدموي العنصري والطائفي لنظام صدام حسين في العراق وفتح الباب على مصراعيها لتغيير واسع ممكنٍ في العراق. لا شك في أن طريقة إسقاط النظام وما أعقبها من سياسات مارستها قوى الاحتلال في فترة بول بريمر وما بعدها قد خلطت كل الأوراق وأساءت التصرف وعمقت الهوة والمحاصصة الطائفية في المجتمع وقللت من فرص تجاوز المصاعب الراهنة وأضعفت القوى الديمقراطية في البلاد.

كيف يُفترض أن يتعامل العراق مع العولمة
يفترض في المسئولين عن العملية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية الجارية حالياً في العراق أن يعرفوا جيداً طبيعة العملية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والعلمية والتقنية والبيئية والعسكرية الجارية على الصعيد الدولي , باعتبارها عملية موضوعية أولاً , وكذلك طبيعة التناقضات والصراعات الدولية في ضوء التباين في السياسات والمصالح في ما بين الدول المراكز الرأسمالية الثلاثة واتساع قاعدة الدول الكبرى وشمولها , إضافة إلى روسيا الاتحادية , الصين الشعبية والهند ثانياً , وأن يعوا ويشخصوا طبيعة السياسات والمصالح التي يفترض أن ينتهجها العراق وسبل التعامل مع الجانب الموضوعي من العملية ومع السياسات العولمة التي تمارسها الدول الصناعية الكبرى ثالثاً. إذ أن مثل هذه المعرفة الجيدة من المستلزمات الأساسية للاستفادة من هذه العملية. يشير واقع العراق الراهن إلى التشخيصات التالية:
1. يتطلب واقع العراق الراهن, ارتباطاً بالتدهور والتخلف الشديدين في القوى المنتجة المادية والبشرية السائدين في البلاد وتشوه شديد في البنية الاقتصادية والاجتماعية وتراجع شديد في عملية التراكم البدائي للرأسمال في الاقتصاد الوطني , من المجتمع وجميع قواه السياسية الديمقراطية والواعية , أياً كانت مواقفها الفكرية والسياسية, أن تعي بأن العراق يقف أمام مهمة التحول من العلاقات الإنتاجية الراهنة والمتخلفة والمشوهة وما قبل الرأسمالية إلى العلاقات الإنتاجية الرأسمالية الأكثر تطوراً وتقدماً, بغض النظر عن المواقف المتباينة للقوى السياسية المختلفة من العلاقات الإنتاجية الرأسمالية , وبغض النظر عن موقف كل منا من العلاقات الرأسمالية , على وفق ظروف البلاد الملموسة. إذ أنها عملية موضوعية ولا يمكن القفز فوق المراحل واختزالها كما كنا نتصور وتصور آخرون أيضاً وارتكبنا, وأنا منهم, من جراء ذلك , أخطاءً غير مبررة. ومن المؤلم أيضاً أن البعض لا يزال يتصور ذلك ويسعى إلى سراب دون أن يعي الحاجة لمثل هذه العلاقات لأي تطور لاحق للعراق.
2. أن يجري فهم واستيعاب وتعامل واع ومسئول مع القوانين الاقتصادية الموضوعية للرأسمالية في مرحلة التطور التي يمر بها العراق من جهة , والتي يعيشها العالم المتقدم من جهة أخرى , لكي يتسنى للمسئولين وعي مواقع التوافق والاختلاف وما يمكن ممارسته في العراق لتجنب التناقضات والصراعات والصدام الفعلي بين أفعال القوانين الموضوعية والسياسات التي تمارسها الدولة والقطاع الخاص في مختلف المجالات. إذ أن مراحل تطور الرأسمالية متباينة من بلد إلى آخر رغم كون القوانين الاقتصادية للرأسمالية واحدة , ولكنها متباينة في مستوى تطورها وفعلها. ونحن نعرف تماماً أسباب تأخر نمو الرأسمالية في بلادنا والمرتبطة بعوامل تاريخية في دولة مشرقية وعوامل جديدة داخلية وخارجية.
3. وأدراك هذا الواقع والتعامل الواعي والفعال معه يعني بدوره الاعتماد الواسع والفعلي على القطاع الخاص والقطاع المختلط في عملية التنمية الوطنية المستديمة وفسح المجال لهما لأخذ دوريهما الفعليين في العملية الاقتصادية بمختلف مراحلها.
4. ولكن هذا لا يعني إلغاء أو إهمال أو عدم الاعتماد على قطاع الدولة في المجالات الاقتصادية التي لا يكون في مقدور القطاع الخاص النهوض بها أولاً , وفي القطاع المرتبط بالموارد الأولية التي يفترض أن تبقى في العراق في إطار ملكية الدولة مع إمكانية المرونة في سبل استثمار هذه الموارد ثانياً , إذ أن هناك أكثر من أسلوب ووسيلة في التعامل مع الشركات الأجنبية للاستثمار في قطاع النفط الخام والغاز الطبيعي وبقية الموارد الأولية المتوفرة في باطن الأرض العراقية أو على سطحها شريطة أن تكون مصالح العراق هي البوصلة التي يهتدي بها النخب الحاكمة.
5. يضاف إلى ذلك أن العراق لا يملك البنية التحتية الضرورية لنمو وتطور القطاع الخاص , سواء أكام محلياً أم إقليمياً أم دولياً , في حين سيكون في مقدور قطاع الدولة توفير هذه الأرضية المناسبة , خاصة وأن الدولة تمتلك النفط كمورد مالي أساسي لعملية التنمية المادية والبشرية وللسنوات القادمة.
6. أن يفسح في المجال لرؤوس الأموال العربية والإقليمية والدولية التوظيف في القطاعات الاقتصادية الإنتاجية والخدمية. وليس الهدف من هذا الموقف هو التناغم مع شروط البنك الدولي وصندوق النقد الدولي غير المناسبين للمرحلة الراهنة من واقع وحاجات التنمية في العراق , بل تفرضها ضرورات تعجيل التنمية الاقتصادية والبشرية لاقتصاد خربته السياسات غير العقلانية والحروب والدكتاتورية الجامحة والحصار الدولي , إذ أن الاقتصاد والمجتمع يعانيان اليوم من تخلف شديد وبنية اقتصادية واجتماعية متخلفة ومشوهة ومخربة في آن واحد. فالاقتصاد العراقي كان ولا يزال وسيبقى لفترة غير قصيرة اقتصاداً ريعياً واستهلاكياً في آن ويعاني من نسبة عالية جداً من البطالة المكشوفة والمقنعة , ويبقى لفترة غير قصيرة مكشوفاً على الخارج , خاصة وأن الطبقة الوسطى التي أتى عليها النظام السابق لا تزال ضعيفة.
7. ويتطلب هذا الواقع وضع قانون جديد للاستثمار الأجنبي يتحرك وفق معايير دولية مناسبة ويعطي الكثير من المحفزات المناسبة دون مغالاة للتوظيف الداخلي مع حماية المصالح الوطنية وضمان تعجيل التنمية. ولا شك في ضرورة مشاركة العراق , وبضمنه طبعاً إقليم كُردستان العراق , وبمستويات مطلوبة في المؤسسات الاقتصادية الدولية , رغم احتمال بروز جملة من السلبيات التي ستواجهه الاقتصاد والمجتمع في المرحلة الأولى بسبب التباين في مستوى التطور بين اقتصاديات الدول المتقدمة واقتصاد العراق , والفجوة المتسعة دوماً حتى الآن لصالح الدول المتقدمة , إذ أن العراق سيحتاج إلى عقدين من السنين على الأقل لتجاوز تراكمات الماضي والحاضر.
8. إن ولوج العولمة يستوجب التيقن من استراتيجية العراق للمرحلة القادمة إزاء عملية التنمية الاقتصادية والبشرية وفي الموقف من النفط الخام والغاز الطبيعي , وكذلك من التقنيات التي يفترض أن تستخدم لصالح تعجيل تطور اقتصاد النفط استخراجاً وتصديراً وتصنيعاً. كما يفترض أن يلج العراق وبالطرق المناسبة في مشروعات التطوير العلمي والتقني الدولي والتعليم بمختلف مراحله وفروعه واختصاصاته ليصبح بمستوى لائق للمشاركة في تطوير سبل تطويع التقنيات ومنجزات الثورة العلمية والاستفادة القصوى والممكنة من ثورة المعلومات والاتصالات لصالح تعجيل وتحسين عملية التنمية البشرية والتعليم والبحث العلمي.
9. ولا شك في أن العراق, وهو يلج العولمة من أوسع أبوابها, يتطلب منه أن يعير أكبر الانتباه للثقافة العراقية بمختلف مكوناتها القومية ومدارسها واتجاهاتها وعلاقاتها المتبادلة والتفاعل والتلاقح في ما بينها ومع الثقافة العربية والإقليمية والعالمية, بما يسهم في تطوير وإغناء مختلف مكونات الثقافة العراقية. كما يفترض أن يتعزز ويتطور ويغتني دور ونشاط المثقفات والمثقفين العراقيين في كافة المجالات. إن الظاهرة السلبية الحادة التي يواجهها العراق تبرز في ضعف هذا الدور والنشاط لا بسبب المثقفات والمثقفين أنفسهم , بل لعدة أسباب منها : الأول , الإرهاب الدموي الذي يمنع وصول نشاطهم إلى الفئات المختلفة من المجتمع ؛ والثاني , دور الطائفية السياسية التي تتعارض في رؤيتها مع الثقافة الديمقراطية الحية والحياة الجديدة وحرية الإنسان ؛ والثالث , في دور النخب السياسية الحاكمة التي تسعى إلى تقليص وتقريم دور المثقفات والمثقفين في حياة البلاد السياسية والاجتماعية والثقافية ؛ والرابع , الدور الذي مارسته سلطات الاحتلال في إضعاف دور القوى العلمانية والديمقراطية واليسارية في الحياة السياسية لصالح قوى الإسلام السياسي الطائفية.
10. ويفترض أن ندرك دور العولمة الموضوعية في توفير مستلزمات نشر ثقافة حقوق الإنسان وحقوق القوميات وحقوق المرأة الكاملة وغير المنقوصة سياسياً واقتصادياً واجتماعياًُ وثقافيا وتعليمياً وبالنسبة إلى حقها في احتلال مختلف المناصب في الدولة والمجتمع , وهو النقص الأكثر بروزاً وإيذاءً والذي كان ولا زال يواجه العراق منذ عقود. ولا شك في أن العولمة يمكن أن تسمح , كما جرى ويجري في مواقع كثيرة من العالم , إلى تدخل في شئون الدول بذريعة الدفاع عن حقوق الإنسان , أي من الممكن أن تستخدم هذه الحقوق النبيلة كأداة بيد القوى العظمى للتدخل في شئون الدول الأخرى , ولكن هذا جانب واحد , إذ أن الجانب الثاني يفسح في المجال الدفاع عن حقوق الإنسان على الصعيد العالمي ونشر ثقافة حقوق الإنسان ورفض العنف والقسوة والاستبداد.
11. ولا شك في أن إمكانية العراق وحده في مواجهة الجوانب السلبية في العولمة الرأسمالية ضعيفة حقاً , ولكنها يمكن أن تتعزز في حالة تغير الظروف الراهنة من جهة , وفي حالة إيجاد سبل جديدة للتعاون والتنسيق والتكامل مع الدول العربية ودول الجوار وبصيغ مناسبة لهذه الدول , وليس في إطار مشاريع تريد الإبقاء على الهيمنة والتخلف , من جهة ثانية.

يعيش العراق في عالم العولمة , ولكن من مواقع التخلف والتشوه التي ولجتها دول الأطراف , شاءت ذلك أم أبت. ورغم أن هذا يعني ولوج مباشر في العملية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والعلمية والتقنية والبيئية الدولية, ولكن لا يعني بالضرورة قدرة العراق على الاستفادة منها دفعة واحدة وسريعة , ولكنها يمكن إن تفتح الطريق على مصراعيه أمام العراق باتجاهات مختلفة , وعلى القوى الحاكمة تقع مسؤولية رسم سياساتها بما يساعد ويسهل عملية الاستفادة من العولمة كعملية موضوعة , وتجنب قدر الإمكان , ما يرشح منها من سلبيات.
وأول شروط الاستخدام العقلاني للعولمة هو سيادة مبادئ الديمقراطية في حياة الدول والمجتمع , إذ بدونها يصعب الحديث عن توفير مستلزمات الاستفادة الفعالة من عملية العولمة الجارية. والديمقراطية هنا تعني وجود دستور ديمقراطي ومؤسسات دستورية ديمقراطية وتداول ديمقراطي للسلطة وتعددية سياسية وحريات عامة وسيادة مبادئ حقوق الإنسان والمواطنة المتساوية والحرة. وهذا يعني دون مواربة التخلي الكامل عن مشاريع بناء دولة إسلامية سياسية غير قابلة للحياة والتطور والكف عن ربط الدين بالدولة والابتعاد الكامل عن الطائفية السياسية والبنية العشائرية للمجتمع والحكم ... الخ.
والشرط الثاني في هذا الجانب هو التوجه الجاد صوب تغيير البنية الاقتصادية البالية وتنمية الاقتصاد الوطني وإزالة حالة التخلف والتشوه منه ليفسح في المجال لبناء وتطوير مؤسسات المجتمع المدني ونظام اجتماعي سياسي مدني ديمقراطي في العراق.
والشرط الثالث هو استخدام الإدارة الديمقراطية والعلمية لتسيير دفة الحياة الاقتصادية والاجتماعية ومشاركة المجتمع والنقابات ومنظمات المجتمع المدني في العملية السياسية والاقتصادية والاجتماعية وتنشيط وتفعيل دور الإنسان الحر والديمقراطي الخالي من أردان الطائفية المقيتة والعشائرية والتمييز الديني والقومي والطائفي وإزاء المرأة.
إلا أن العراق بموارده الأولية وقدراته البشرية والكفاءات البشرية المتوفرة لديه من جهة , وإذا ما انفتح على الفكر والثقافة والعلم على الصعيد الدولي , سيتمكن من تعجيل عملية التنمية واختصار الزمن للخلاص من الوضع السائد فيه حالياً وليضع العراق ضمن دائرة جديدة على محيط أقرب إلى المراكز الصناعية العالمية من البعد الشاسع الذي يقف فيه اليوم. وهي مسألة ليست مهمة فحسب , بل وحياتية تحمل معها نتائج إيجابية للعراق على المدى البعيد.
والشرط الرابع يتلخص في الاستخدام العقلاني والفعال والاقتصادي للموارد الاقتصادية المتوفرة في البلاد من أجل إغناء الثروة الوطنية وتحسين مستوى مداخيل الأفراد وحياة ومعيشة السكان ومكافحة البطالة والفقر السائدتين في الواقع الاجتماعي العراقي الراهن من خلال تأمين علاقة توازن مناسبة بين تصدير النفط واستخدامه أولاً , وبين توزيع الدخل بين التراكم والاستهلاك , ومن ثم الانتباه للموازنات الضرورية بين مكونات كل منهما.
يفترض في المشرع الاقتصادي أن يعرف ماذا يريد للعراق خلال الفترة القادمة وعلى مدى عقدين قادمين. ووضوح الرؤية في هذه المسألة مهم جداً إذ أن السعي الأساسي يستوجب السيطرة على التناقضات وعدم فسح المجال لتحولها إلى صراعات ومن ثم نزاعات لا تحمد عقباها. وهذا يستوجب , من حيث المبدأ, السيطرة على التناقض الذي سيبرز قطعاً في إطار العلاقات الإنتاجية الرأسمالية وفي إطار العولمة , وأعني به التناقض بين العمل ورأس المال, أو بين العمال , على قلتهم , والفلاحين وصغار المنتجين في مختلف القطاعات الإنتاجية والخدمية , وبين أصحاب رؤوس الأموال , بهدف توزيع أكثر عقلانية وأكثر عدلاً للدخل المنتج بين الربح الرأسمالي أو فائض القيمة وبين والأجر بما يسهم في تخفيف الاستغلال وتحقيق الربحية الذي يساعد على تحقيق عملية التراكم الرأسمالي في الاقتصاد العراقي وعلى تشجيع التوظيفات الرأسمالية وتحقيق عدالة نسبية في توزيع الدخل القومي في آن (سأعود لمعالجة موضوع تخفيف الاستغلال وكيف يتم في مجتمع عراقي في الحلقة الخامسة بشكل أوسع , إذ أنها إحدى النقاط التي أثارها الصديق الأستاذ الجميل في حلقاته السابقة). إن العولمة الرأسمالية لا يمكن أن تكون "الرحمة للفئات الفقيرة والكادحة , ولكنها ليست الغضب المطلق على الفرد والمجتمع. ويفترض أن يعرف المسئولون في العراق سبل الاستفادة القصوى منها , حيث لا يجوز ولا يمكن الهروب من هذه العملية الموضوعية التي تشمل العالم كله , ومنه العراق , بأي حال. وسيكون الموقف رجعياً وخائباً حقاً حين يرفض المسئولون فهم ووعي طبيعة هذه العملية الموضوعية , التي هي خارج إرادة الإنسان ورغباته , ويرفضون التعامل الواعي معها , ولكن سيكون الأمر سلبياً جدياً وغير مسئول من جانب المسئولين في العراق حين لا يسعون إلى فهم وتجاوز السلبيات والصعوبات التي تخلقها سياسات العولمة التي تمارسها الدول الرأسمالية الصناعية المتقدمة بعيداً عن مصالح الإنسان والمجتمعات النامية , ومنها العراق. إذ أن كلا من هذين الاتجاهين خاطئ وخطير في آن , وعلينا أن نتجاوزهما لصالح العراق الاتحادي الديمقراطي الحر الذي ننشد إقامته. إن العراق بوضعه الراهن وسياساته الطائفية وتفكك قواه السياسية وصراعها عاجز حقاً عن الاستفادة الفعالة من العولمة كعملية موضوعية وعاجز عن تفادي سلبيات سياسات العولمة التي تمارسها الولايات المتحدة في العراق , رغم أن وجودها العسكري الراهن يفرضه الواقع الراهن للقوات المسلحة العراقية ولحركة وفعل قوى الإرهاب ودعم دول وقوى في الجوار لها.