انهيار المعسكر الاشتراكي.. الأسباب والتصورات/4


محمد علي محيي الدين
2008 / 2 / 2 - 10:46     

4-المسألة القومية:طرحت القيادة السوفيتية بعد ثورة أكتوبر حلول عملية لمسألة القوميات في الإتحاد السوفيتي واتسمت هذه الحلول بالقبول لأنها جاء تلبية لطموحات تلك الشعوب وتتجاوب من حيث المبدأ مع أمالها في الحصول على حقوقها القومية التي كانت تناضل من أجلها،بعد أن حضت بحياة اقتصادية لائقة وتمكنت من بناء دولتها التي تضمن لها حقوقها القومية والثقافية في ظل تحولات أنعشت اقتصادها ورفعت من مستوى شعوبها الى حد لم تكن تصل إليه في ظل النظام القيصري،ولكن التبعات الأممية أثقلتها كاهلها بما فرضت عليها من التزامات إزاء الشعوب الأخرى أثرت على اقتصادها،وجعلتها تنفق من مواردها لرعايا بعض الدول من منظور عقائدي صرف،وجعلها ملزمة بانتهاج سياسة خارجية قد لا تصب في مصلحتها القومية على المدى البعيد،رغم أن ما تحصل عليه جراء الابتعاد عن خطها الاشتراكي لا يوازي ما حصلت عليه في ظل ذلك النظام الذي كفل لها الاقتصاد المتين،والقدرة على الصمود دون الاضطرار لإعطاء تنازلات لهذا الطرف أو ذاك،وستظهر الأيام القادمة أن ما كانت تعيشه في ظل النظام الاشتراكي لا يمكن للنظام الرأسمالي توفيره،وأن الحياة المستقرة والمستقبل المضمون لا يمكن توفره في ظل الاقتصاد الحر،والسياسة الرأسمالية المبنية على الجشع والاستحواذ،وقد تكون لها عودة لانتهاج الطريق الاشتراكي بعد أن تظهر لها عظم المشاكل التي ستطيح باقتصادها وتجعله رهنا لسياسة العولمة الجديدة والشركات المتعدية التي تمتص دماء الشعوب ولا تفكر بغير الربح بعيدا عن كل ما هو أنساني ونبيل،وربما تشهد الأعوام المقبلة تحركات تهدف لإعادة السير بركاب الاشتراكية الخلاقة،وانسحاب التأييد الشعبي الى الأحزاب الشيوعية والاشتراكية في تلك البلدان التي بدأت تستعيد مواقعها السابقة وتحضا بتأييد واسع من الجماهير بعد أن لمست الشعوب أن الطريق المعبد بالورود الذي صورته لها الدول الغربية بات سراب لم تجن من وراءه إلا المزيد من المحن والآلام،وبين لها أن النموذج الاشتراكي إذا هيئ له التطبيق وفق الأسس والمبادئ التي اقرها أئمة الاشتراكية سيكون الطريق الأنسب لوصولها الى شاطئ الأمان.
5-وكان لسلسلة الانحرافات والأخطاء التي رافقت الحقبة الستالينية- رغم وجود ضرورات لها- واستشرائها وتفاقمها في الفترات اللاحقة وبالذات في عهد بريجنيف الذي كان فترة انحسار وتردد في التقدم الى الأمام،وهذه الأخطاء والانحرافات جاءت نتيجة الافتقار الى الديمقراطية،وبروز طفيليات أضرت بالحركة الشيوعية وانحرفت بها عن مسارها،وكان لها تأثيرها المباشر على العمل الحكومي وإدارة الدولة،لأحكام سيطرتها وبسط نفوذها على جميع مفاصل الدولة،دون أن يكون سبيل لجهات رقابية فاعلة تأثيرها عليها،أو القدرة على الوقوف بوجهها،وتمكنت هذه الفئات من سرقة الأموال العامة وتوجيه الاقتصاد بما يخدم توجهاتها في الكسب غير المشروع،وحصلت على الرشا والامتيازات التي كسبت من ورائها الملايين وتمكنت من إنشاء كارتلات ضخمة تمتلك الملايين وتنعم بحياة ارستقراطية،وتهيمن بشكل مباشر على الكثير من القطاعات التي تسيرها بما يخدم توجهاتها ومصالحها،وأصبح لها التأثير الكبير على الاقتصاد وتسيير أمور الدولة ودفعه بالوجهة التي تخدم امتيازاتها،وسلوكيتها بالكسب غير المشروع،وهؤلاء أنفسهم كانوا وراء التوجهات الأخيرة لخصخصة المنشات والمصانع والدفع باقتصاد البلد للسير بالطريق الرأسمالي،وحاولوا الاستفادة مما يسمى بالإصلاحات لبسط سيطرتهم والاستحواذ على كل شيء،بما يوفر لهم الأرضية المناسبة لاستثمار أموالهم في المشاريع الاقتصادية المختلفة بحجة فشل الاشتراكية وقصورها عن تحقيق الرفاهة الاجتماعية وبناء الاقتصاد الوطني ،وكانوا وراء الفشل الذريع الذي مني به الاقتصاد السوفيتي سواء في نوعية الإنتاج أو كميته،بعيدا عن المثل العليا التي يجب أن يتحلى به الشيوعيين المتسمة بنكران الذات وانتفاء المنافع الشخصية والانصهار في المجتمع الاشتراكي والبعد عن الأنانية والمصالح الفردية،أو جني الربح الخاص على حساب المصالح العامة.
لقد انتبه الزعيم الشيوعي(خروشيف)منذ الخمسينات الى المخاطر الناجمة عن هذا التحول والخطورة التي بدأت تلوح في الأفق جراء السياسة الاقتصادية التي تسير عليها البلاد،وحاول إصلاح الأمور وإعادة العجلة الى مسارها الصحيح،فباءت محاولاته بالفشل لأنها حاولت الإصلاح من خلال القيادة السوفيتية المترهلة التي تضر بها هذه الإصلاحات وهي السبب وراء المشكلة والمحرك لها،وتنامي البيروقراطية في هذه القيادة وانسحابها على المفاصل الدنيا للإدارة السوفيتية،والتي تتمسك بالفكر التقليدي البعيد عن العقلية الماركسية الخلاقة،ولا تميل الى الإصلاح والتغيير لما في ذلك من أضرار بمصالحها وتوجهاتها المريضة في الهيمنة والاستحواذ،فتمكنت القوى المعششة في تلك القيادة من إبعاده وإنهاء حركته الإصلاحية بما توفر لها من أكثرية قادرة على الإبقاء على المسار الخاطئ والوقوف بوجه أي إصلاح هادف لتغيير أنماط السلوك المتخلف لهذه القيادة،ولو قيض لحركته النجاح لسار الاتحاد السوفيتي خطوات متقدمة الى الأمام،وتمكن من الخروج من عنق الزجاجة الذي بدء يضيق جراء الفترة الستالينية بما حمل في طياته من توجهات استبدادية تهدف لأحكام القبضة على الدولة والإمساك بها بيد من حديد نتيجة الظروف الدولية التي أقسرت القيادة على الضبط الحديدي ،وطبيعة المجتمعات الشرقية المتمثلة بعبادة الفرد والخضوع للقوي،والاعتماد على الأشخاص دون الاعتبار للجماهير التي هي المحرك الأساسي للتاريخ.
وظهرت القيادة الجديدة ممثلة ببرجنيف الذي هو صورة مشوهة للعقلية الستالينية،وكان نهجه أكثر سوءا وحمل في طياته الكثير من أمراض المرحل المنصرمة وزاد عليها بما تميز به عهده من بدايات الانحسار الثوري والسياسة المهادنة والضعف بمواجهة تعقيدات المرحلة وما تولد من ممارسات جديدة ألحقت أفدح الأضرار بالحركة الشيوعية وطليعتها الاتحاد السوفيتي،وأدت الى بروز نزعات جديدة تحاول الهدم بحجة الإصلاح،وآخرها محاولات غورباتشوف الإصلاحية التي أطلق عليها عملية إعادة البناء فكانت الهدم المنظم لكل ما شاده القادة الأوائل،فقد حاول إصلاح ما فسد وإعادة الأمور الى مسارها الصحيح وإيجاد الحلول الناجعة لمعالجة الأخطاء التي أفرزتها الحقبة السابقة،إلا أن القيادة البيروقراطية التي تقف بوجه الإصلاحات التي تهدد مراكز نفوذها،حاولت التصدي لحركته وإبعاده بذات الطريقة التي ابعد بها سلفه خروشيف،لتبقى ممسكة بزمام الأمور وإبقائها على ما هي عليه بما يخدم توجهاتها،إلا أن حركته الإصلاحية أخذت بعدها الحيوي ووجدت لها مكانا في أذهان الجماهير التي سارعت لتأييدها،فاتخذت صيغة المطلب الشعبي،فنشأ صراع عنيف بين دعاة الإصلاح والتجديد،وخصومهم من دعاة إبقاء الأمر على ما هو عليه،فتمكنت الحركة الشعبية الداعية للتجديد من تحقيق أهدافها والسير بالبلاد في طريق جديد للتخلص من البيروقراطية التي استشرت ومدت أطنابها في مفاصل الدولة السوفيتية،وتمكن من تثبيت شيء بسيط من مبادئ الديمقراطية التي افتقرت لها البلاد منذ عقود،إلا انه عجز عن تحقيق الإصلاح الاقتصادي المنشود،وترميم النظام الاشتراكي المثقل بالأمراض المزمنة والمستعصية التي لا يمكن أصلاحها بهذه المحاولات الترقيعية المتعجلة،والأساليب غير المدروسة التي لا تستند لأسس علمية ،فاستسلم لتيار جارف من الفوضى خلقته ذات القوى المستفيدة من النظام السابق،فأحكمت القوى الطفيلية التي كانت تتصدر القيادة السوفيتية سيطرتها من جديد ونحت بالاقتصاد السوفيتي بما ينمي سلطتها ويوسع من نفوذها،ويحقق مصالحها،وقامت بوأد التجربة الاشتراكية العملاقة،التي كانت هي السبب وراء جمودها وفشلها وغرقها في مستنقع البيروقراطية الآسن،وتمكنت من تفكيك الإتحاد السوفيتي،وعادت لتتصدر الواجهة من جديد،بشكل مغاير لما كانت عليه في السابق،وأصبحوا فرسان القيادة الإصلاحية ،بعد أن كانوا لعقود قادة الحركة الشيوعية والذادة عنها والمنافحين عن وجودها.
أن القادة الجدد الذين رفعوا رايات الإصلاح وركبوا الموجة الجديدة،هم ذات القيادة التي أوصلت البلاد الى التدهور والضياع،والحقوا إضرار بالغة بالاقتصاد السوفيتي،واندفعوا بكل قحة وصلافة ليكونوا فرسان الاقتصاد الحر ورادة الديمقراطية والتجديد والبناء الجديد للإنسان،وان الرئيس يلسن عراب السياسة الغربية كان واجهة الحكومة السوفيتية البيروقراطية التي تمتعت بالامتيازات الكبيرة وهيمنت على مليارات الدولارات جراء الفساد المستشري فيها،وكان على رأس الرأسمالية الجشعة التي سارت بالبلاد في الطريق الرأسمالي المنفلت وقام مع شلته بشراء المعامل والمصانع والمنشات الحكومية بأسعار متدنية بفضل سيطرته على السلطة وأضرت بالاقتصاد الروسي في تحوله الخارج عن نواميس التحول مما خلق طبقة جديدة لا تزيد على عدد الأصابع تهيمن على جميع المناحي الاقتصادية للبلاد وتحوز على جميع الثروات الوطنية،مما خلق بونا شاسعا في المستوى ألمعاشي وافرز طبقة جديدة هيمنت على مفاصل الاقتصاد وجعلته أسير توجهاتها النفعية الضارة بمستقبل البلاد وأدى الى انتشار الفقر في المجتمع السوفيتي وانخفاض الإنتاج الوطني لمستويات متدنية في المجالات الصناعية والزراعية وأدى بالنتيجة الى انتشار الفقر في المجتمع الروسي وهروب رأس المال الوطني الى الخارج بمئات المليارات من الدولارات مما أضاف أعباء جديدة عليه وأدى هذا الارتباك إلى حالات مجتمعية لم تكن موجودة في المجتمع الاشتراكي حيث زادت نسبة الجريمة والفساد والدعارة وهيمنة المافيات وهو الذي كان نادرا او منعدما في النظام الاشتراكي.
ولعل السبب المباشر في فشل غورباتشوف عجزه عن إيقاف التدهور الاقتصادي المريع وازدياد الوضع الاجتماعي سوءا وتدني مستوياته عما كان عليه في زمن بريجنيف، وازدياد سيطرة المافية الروسية وبناء مرتكزاتها في النظام الجديد.