أنهيار المعسكر الاشتراكي الأسباب والتصورات(3)


محمد علي محيي الدين
2008 / 1 / 30 - 11:10     

س لم يكن الانهيار وليد الصدفة أو نتيجة مؤامرات خارجية وداخلية فحسب،وإنما بسبب الأمراض التي تنهش جسد الدولة وفقدان العلاقة الحميمة بين الحزب والجماهير والممارسات القمعية وعوامل القسر والإكراه التي مارستها القيادات المتعاقبة اتجاه الشعوب،ولا ينسينا ذلك المكاسب والانجازات التي قدمتها الثورة الكبرى إلى الجماهير في بداياتها الأولى،ومدى التقدم والرفاه الاجتماعي الذي واكبها في السنين التالية،ولكن تحولت تلك المكاسب والانجازات إلى شعارات براقة لا تغني عن جوع ولا تجدي على صعيد الواقع المعاش لشعوبها،وسبب تدني الحالة المعاشية واستشراء اللابالية ،واستفحال البيروقراطية مما أدى إلى البرودة في التفاعل بعد أن تحولت الثورة إلى سلطة تمارس متطلبات السلطة بما تفرضه من قيود كبلت الطاقات الشعبية،وحجبت الرأي الآخر وأدت إلى ذوبان الوعي الشعبي في أتونها،مما جعلها أسيرة توجهات السلطة التي لم يمكن الخروج عليها أو محاسبتها،وشكل قمة حاكمة لها اتخاذ القرارات دون أن يكون للجمهور الواسع رأيه فيها.
وفيما يلي خلاصة لتلك الأمراض التي نهشت بكيانها وأحالته إلى حطام وأدت لتسلط التيارات الهامشية على مقاليدها وانحرافها عن خطها الماركسي اللينيني،والسير في سياسات لا تخدم الجماهير وخلقت نوع من الرفض الصامت،مما مهد للانقضاض عليها وانهيارها بفعل العوامل الكامنة بداخلها:
1- الافتقار إلى الديمقراطية التي هي سمة العصر وحاجة الشعب وأداته للانفتاح وبناء الدولة الوطنية،والتي يستطيع من خلالها الإفصاح عن مطالبه والتعبير عن حاجاته،والتسلط السلطوي والقمع والاستبداد وكبت الأصوات المعارضة للتوجهات الضارة التي جعلت الجماهير تنكمش عن إسنادها وتأييدها،ولو كان للتحولات الاشتراكية العظيمة أن تتواكب مع التوجهات الديمقراطية بذات الكثافة،لأخذت الأمور منحى آخر يسعى لتطوير سلطة الطبقة العاملة وتعزيز سلطة الحزب،ولكنها سارت بالاتجاه الخاطئ ما أدى إلى هيمنة النخبة وسيطرة الفرد وانعدام التعددية الحزبية وخنق الأصوات الحزبية التي شعرت بهول الكارثة وما سيئول إليه الأمر إذا سارت الأمور هذا المسرى الخاطئ،وفقدان النقد الذي هو سمة من سمات الشيوعية وقاعدة مهمة في بنائها فأجهضت الأصوات التي تجرأت على نقد الظواهر الخاطئة والممارسات الضارة،مما أدى إلى شيوع البيروقراطية واستحكامها في الدولة والحزب،مما جعل الخلاص منها مستحيلا،وادي بالتالي إلى فقدان الكثير من المفاهيم والقيم والقواعد في العمل الحزبي وإهمال الأسس التنظيمية التي أقرتها الأنظمة والبرامج الداخلية وحددت بموجبها أساليب العمل وطرائق التنظيم وأسس التعامل داخل الحزب بما لا يؤدي إلى فرض رأي او قرار دون سياقات ديمقراطية تجعل القرار جماعيا ملزما على الجميع العمل لتفعيله وتطبيقه وإنجاحه.
2- الجمود العقائدي:لقد حذر رادة الاشتراكية الأوائل، من الجمود العقائدي الذي يجعل من النصوص مقدسات لا يمكن المساس بها او تجاوزها او الخروج عليها،ولكن ما حدث أن البعض جعل منها مسلمات بديهية لا يمكن الخروج عليها او تجاوزها حتى إذا كانت لا تصب في المصلحة العامة للجماهير،وأصبحت العلاج لكل ما يطرأ من مشاكل جديدة رغم إنها كانت حصيلة ظرف معين قد لا يصح تطبيقه في ظرف آخر تبعا لتغير الظروف والأزمان وان ما يصح تطبيقه في مجتمع ما لا يمكن تطبيقه على مجتمع آخر لاختلاف المجتمعات ودرجات نموها وتطورها او تخلفها وانكماشها.أن هذا التحجر والجمود كان يحمل في طياته عوامل الفشل والاندحار،فقد نقلت التجربة السوفيتية إلى بلدان أوربا الشرقية،رغم اختلاف تلك البلدان في النواحي المختلفة عن المجتمع السوفيتي،فالخصائص والسمات لشعب ما قد تختلف او تفترق في الكثير من النواحي والتوجهات وبالتالي فان ما يلاءم هذا البلد قد يتحول الى مأساة في البلد الآخر،وأن لكل بلد خصائصه التي يجب البناء عليها،بما يتلاءم معها ولا يؤدي الى حدوث شروخ في العلاقات بين الحزب والمجتمع لأن الأحزاب هي نتيجة مجتمعاتها وجزء منها ،ولا يمكن لها ان تكون بعيدة عنها في التصور والحاجات.وأدى هذا الجمود بالقيادات الى السير على وتيرة واحدة،وصيغ جامدة لا تتوافق وما عليه تلك الشعوب رغم إن ما قدمته السلطة الجديدة من منجزات ومكاسب كان تحولا نوعيا للرقي بتلك الشعوب من واقعها المأساوي الى واقع آخر أكثر نضجا وانفتاحا،ووفر لها القدر الكافي من المكاسب والمنجزات ورفع من مستوى الخدمات والضمان،ووصلت مستويات المعيشة لدرجات متقدمة لم تكن في متناول تلك الشعوب سابقا،إلا إن إلية انقلبت بفعل السير على وتيرة واحدة دون السعي لتغيير الطرائق بما يؤدي نحو الأفضل،فضلت إدارة الإنتاج تسير بتلك الوتيرة المنتظمة،وفقدان الحوافز المادية وروح التنافس لتطوير الإنتاج والارتقاء به الى مستويات مغايرة،مما اخل بالمستوى العلمي وتدني الإنتاج في المجالات الزراعية والصناعية قياسا لما شهدته المجتمعات الرأسمالية من طفرات نوعية في مستوى الإنتاج والمكننة الحديثة وارتفاع المستوى ألمعاشي وخلق بونا شاسعا عند المقارنة بينهم،فالعامل الغربي ينعم بحياة متقدمة قياسا الى غيره،وارتفع المستوى ألمعاشي للمجتمع الرأسمالي بما لا يمكن مقارنته مع الحالة المأساوية التي يعيشها العمال في الدول الاشتراكية وجعل الهوة بعيدة بين الطرفين مما دفع العمال الى طلب المساواة بنظرائهم الغربيين،والانكي من ذلك إن هذا المستوى المتدني الذي ترزح الطبقات الفقيرة تحت تداعياته لم ينل من القيادات السياسية وكبار رجال الدولة والحزب او المراتب المتقدمة في سلم المجتمع الاشتراكي،فهؤلاء يعيشون حياة مترفة لاهية لا تختلف من حيث المستوى عما يعيشه الأغنياء في المجتمعات الرأسمالية،فهم ينعمون بالسيارات الفارهة والقصور المنيفة والامتيازات الهائلة ويحصلون على الأموال بأساليب مختلفة مشروعة او غير مشروعة مما خلق هوة واسعة بينهم وبين الجماهير التي أخذت تنظر إليهم كحكام متسلطين وخلق هوة واسعة بين الشعب وقيادته مما دفعهم لمقتهم واحتقارهم وتحين الفرص للخلاص منهم،فالعامل كان يرجوا إن يعيش في ظل النظام الاشتراكي حياة حرة كريمة تنعدم فيها جميع إشكال التسلط والفروق المعيشية وان ينعم بحريته وكرامته لا إن يكون آلة بيد الحاكم ليعود به الى عصور التخلف والحكم المطلق ويعيش وسط ظروف تنعدم فيها ابسط مقومات الحياة الحرة الكريمة.
3- اخذ الحزب الشيوعي السوفيتي مركز الصدارة بين الأحزاب الشيوعية في العالم،وأستلم قيادها لأن الحزب الأول الذي تمكن من الوصول للسلطة وبناء الدولة الاشتراكية،وزاده مكانة عندما الحق الخسارة بالقوات النازية الغازية وتمكن من الصمود الأسطوري بوجه الحملات الضارية للدول الرأسمالية التي شنت حربها الشعواء لإسقاطه وإفشال تجربته الفتية،وعمل الكثير من اجل حركات التحرر في العالم وقدم لها المساعدات التي مكنتها من الصمود والتصدي وتحقيق ثورتها الوطنية،وسعى بدأب لمساعدة الشعوب للتخلص من حكامها المتسلطين،وكان له الدور المميز في مساعدة الشعوب الفقيرة لبناء اقتصادها بعيدا عن الهيمنة الغربية،وقدم الكثير من المساعدات للدول النامية ،وله الدور الكبير في بناء وتقوية الأحزاب الشيوعية وإبرازها كقوة عالمية يحسب لها ألف حساب،وله الفضل في إيصال الكثير من الأحزاب الشيوعية الى تسلم السلطة في بلدانهم،وكان لمواقفه الأممية أثرها الواضح في بلورة نضال الشعوب المضطهدة من اجل التحرر والخلاص من الهيمنة الاستعمارية المقيتة،وبناء دولتها الحرة المستقلة،ومد الدول الفتية بالمساعدات الفنية والمالية والعسكرية بما يقوي من شأنها ويجعلها قادرة على الصمود والوقوف بوجه التحديات الخارجية،واعنها في السعي لرفاهة شعوبها وبناء مجتمع خال من الاستغلال والتسلط.وبعد أن نمت النزعات التسلطية في القيادات السوفيتية أخذت القيادة السوفيتية دور الوصي والقائد للأحزاب الشيوعية والعمالية للدول الأخرى مما افقدها استقلاليتها وجعلها رهينة التوجهات السوفيتية وأدى الى الإضرار بها في اتخاذ القرار الذي ينسجم وتوجهات شعوبها وجعلها تعيش في بلبلة فكرية تفتقر الى الأسس الواقعية في اتخاذ القرارات وتطبيقها بما يلاءم طبيعة تلك الشعوب،دون الاهتمام بالظروف الخاصة بكل بلد، والخصوصية التي تتمتع بها تلك الشعوب وتفردها في عاداتها وتقاليدها وتطلعاتها ومصالحها التي تختلف عن طبيعة المصالح والتوجهات التي تنطلق منها القيادة السوفيتية.إن العلاقات الأممية التي يجب أن تكون في حدود التضامن وحدة التوجهات في الهدف العام لا تعني الانصهار في البوتقة السياسية للحكومة السوفيتية،ولا تعني التدخل في الشأن الداخلي لتلك الشعوب والأحزاب وعدم استقلاليتها في اتخاذ القرارات التي تتوافق وشؤون بلدانها،مما دفع بعض الأحزاب الى رفض هذه الهيمنة والاختلاف مع التوجه السوفيتي والسعي لبناء تجربتها المستقلة بعيدا عن التوجهات السوفيتية،مما جعل السوفيت يتهمون الخارجين عنهم بالتحريفية والخروج عن النظرية الماركسية والابتعاد عن التضامن الاممي،والاختلاف بين الأحزاب الشيوعية لم يكن بمعزل عن هذه التصورات فالخلاف الخطير الذي ذر قرنه بين الحزبين السوفيتي والصيني والخلاف اليوغسلافي كان نتيجة التعامل السوفيتي مع الآخرين المنطلق من منطق الوصاية والقيادة والتبعية وعدم التعامل مع الآخرين كأنداد،مما جعل هذه الوصاية تخرج عن طابعها ألرفاقي وتدخل في اطر أخرى تفصح عن محاولات للهيمنة وفرض الرأي والوصاية،مما جعلها تشعر بالضعة والاستصغار والمهانة،والحق أضرار جسيمة بالحركة الشيوعية والعمالية ما كان لها إن تحدث لو كان الوفاق سائدا وأعطي لكل حزب حقه في التصرف بما يوافق مصالحه ومصالح شعبه بعيدا عن مصالح السلطة السوفيتية،وأدى انفراط عقد التحالفات الى هذا الانهيار المريع في المعسكر الاشتراكي والإضرار بجدوى النظرية الماركسية كدليل عمل في بناء المجتمع الإنساني بعيدا عن التسلط والاستغلال،