الماى: قرية مصرية أدمنت إسقاط الحزب الوطنى ثارت ضد نائبها الإخوانى .. فاستدعى الشرطة لحمايتة ( 2 ) *


بشير صقر
2008 / 1 / 27 - 10:48     

" ضاقت.. فلما استحكمت حلقاتها .. فُرجَت "، نصف بيت من الشعر تمنت جماهير مصر ونخبها السياسية أن يتحقق إبان الإنتخابات البرلمانية الأخيرة عام 2005 .
ويمكن القول أن تلك العبارة ( الحكمة) مثلت تلخيصاً دقيقاً لآمالها وأحلامها ، ليس الآن فقط بل وفى كل لحظة من أيامها المقبلة .
ضاقت السبل.. وسدت الطرق .. وطفح الكيل ، فالبطالة مزمنة والأسعار جامحة ، والفساد دون سقف والإستبداد والقهر بلا قيود ، والصحراء والصهاينة تحاصر الوادى والحدود . والصحافة إن تكلمت قدمت وعظاً بلا سيقان ، والقضاة إن تمردوا وأطلقوا زئيرهم استقبلته الصحراء وبددته ، والإنتخابات إن بدأت ، فبفرمان أمريكى مشروط وإن أجريت فبين أسنة رماح العسكر وعيون العسس وتحت قبضات البلطجية ومطارق الرشاوى وطوفانها .
إستحكمت حلقات الحصار:
فالنظام الحاكم مستبد وجهول .. والبديل الاقرب أشد استبداداً ودموية وجهالة لأنه ربيبه وسليله، والنخب السياسية عزلت نفسها وعُزلت عن البشر وانفرط عقدها وتكسرت آحاداً واقتصر نضالها على الحجرات المغلقة وبيانات الشجب والتنديد والإدانة.
أما سادة العالم الأمريكان فيحاصرون الجميع ويصدرون الأوامر والفرمانات ، ويشهرون "مشاريع الاصلاح" المختلفة فى الوجوه بل ويحركون الجيوش ويحيكون المؤامرات ويحفرون القبور للمعترضين أينما ووقتما شاءوا.
فى هذا الجو الكئيب أجرى النظام المصرى الحاكم الإنتخابات البرلمانية عام 2005 بنفس المنطق القديم إلا قليلاً (جداول إنتخابية مليئة بالأسماء المغلوطة وإشراف قضائى شكلى، وتصويت جماعى لجمهور ليس مقيما فى الدائرة، وكتائب أمن تحاصر اللجان وعيون عسس أشد من هراوات العسكر، وسيول الرشاوى الصريحة والمقنعة تغرق الحوارى والأزقة، وأموال للدعاية الإنتنخابية تغرف من البحر، وقبضات وسيوف البلطجية تطارد الجميع، وصحفيون ومصورو قنوات فضائية وأعضاء لجان رقابة الإنتخابات يتعرضون للضرب والحصار، وقضاة تسيل دماؤهم وتمرغ أجسادهم فى تراب لجان التصويت، وأعداد غفيرة من الناخبين تُمنع من الإدلاء بأصواتها: وتُعاد إلى منازلها حاملة خيبة الأمل) وما يتم إعلانه من نتائج وما يشاهد من ممارسات على مدى شهر الإنتخابات يصيب الشعب باليأس والإحباط ويطيح بآمال النخب السياسية أملاً وراء آخر .
لكن وبينما كل ذلك يحدث .. تبزغ أحيانا فى الليل الحالك ومضات قليلة سريعة تسير عكس التيار تداعب ما تبقى من آثار ذلك الأمل المفقود وتشير إلى أن هناك بصيصا لتجاوز المحنة الراهنة وإلى قدرة غريبة كامنة فى هذا الشعب على مواجهة أزماته المستحكمة .
وفى محافظة المنوفية تمثل هذا الوميض فى موقعين كل منهما فى دائرة إنتخابية:
الأول:هو قرية كمشيش مركز تلا الذى تحدثنا عنها قبل ذلك.
والثانى: هو قرية الماى مركز شبين الكوم.. تلك المحافظة التى أفرخت أعدادا هائلة من قادة ورؤوس هذا النظام الحاكم الذى يكذب بمثل ما يتنفس ويفسد بقدر ما يقهر .
لقد أسهمت كمشيش سياسياً بقوة فى إسقاط مرشحى الحزب الحاكم والإخوان المسلمين فى دائرة تلا.. أما الماى فلها قصة أخرى :
* فى العام 1995 تعرض مرشح القرية فى الإنتخابات البرلمانية (عمال) وهو من جماعة الإخوان المسلمين لإعتداءات مادية ومعنوية جسيمة من مرشح الحزب الوطنى (عمال) وأنصاره بعد محاولته التحالف مع مرشح ( الوطنى فئات) فى جولة الإعادة .. ولم يوفق ولم ينجح، بينما تمت مطاردته ومداهمة منزله قبيل بدء نفس الإنتخابات التالية فى عام 2000 مما اضطره لمغادرة القرية بعيدا عن أعين الدرك لمدة شهرين حتى انتهت الإنتخابات .. لكن أهل قريته إقتصوا له ولأنفسهم (فى غيابه) وأسقطوا مرشح الوطنى (عمال وفئات) فى الدائرة . وليست هذه أول مرة تمارس فيها قرية الماى هوايتها فى إسقاط مرشحى النظام الحاكم فى الإنتخابات البرلمانية فقد أدمنت تلك الهواية على مدى ثلاثين عاماً .
* وفى إنتخابات عام 2005 التى جرت فى ظل أوضاع سياسية تختلف عما سبقتها – بالذات بعد التصريح الأمريكى باستعداد الولايات المتحدة للقبول بحكم إسلامى معتدل بمصر ، وبعد الفرمان الأمريكى للنظام المصرى بضرورة وجود تمثيل قوى للإخوان المسلمين بمجلس الشعب المصرى – قام سعد حسين مرشح القرية (عمال-إخوان) فى إنتخابات 1995 بإعادة ترشيح نفسه فى إنتخابات 2005 ، بينما رشح رجل أعمال آخر نفسه (مستقلاً) على مقعد الفئات (أحمد حجازى) وكان فى الوقت نفسه عضوا بالمجلس الشعبى المحلى للمحافظة عن الحزب الوطنى، وبينما كان مرشح الإخوان (عمال) مقيماً بالقرية منذ مولده كان المرشح الآخر (فئات) بعيداً عنها ولم يقم بها إلا مؤخرا وهو رجل متشابك العلاقات فى المحافظة وقدم عددا من الخدمات لأهالى القرية وتبرعات عينية ونقدية متفرقة. هذا عن مرشحى قرية الماى .
* وفى المقابل رشح الحزب الوطنى نائبيه عن الدائرة منذ عام 2000 رغم ضعفهما مما أثار استغراب أهالى الدائرة.
* ودائرة البتانون ( وهذا اسمها ) مكونة من 18 قرية منها ثلاث قرى رئيسية هى البتانون ومليج والماى تتجاوز مجموع أصواتها نصف أصوات الدائرة.
* وقد انحصرت المنافسة على مقعد العمال بين مرشح الماى (إخوان) ومرشح الحزب الوطنى. . بينما كانت المنافسة على مقعد الفئات بين 4 مرشحين منهم 3 من الماى ومليج وقرية صغيرة (بخاتى) وكلهم من الحزب الوطنى.
* هذا وقد أسفرت جولة الإنتخابات الأولى عن فوز مرشح الماى بمقعد العمال فوزا مدوياً وسقوط مرشحى الحزب الوطنى الرسميين على المقعدين، بينما تقررت الإعادة على مقعد الفئات بين مرشح الماى وبين مرشح القرية الصغيرة (بخاتى).
* وفى جولة الإعادة تقدم مرشح بخاتى على مرشح الماى بسبعمائة صوت وفاز بمقعد الفئات .
* وقد أرجع أنصار مرشح الماى سقوطه إلى :
1- تنصُّل جماعة الإخوان من الإتفاق الذى عقد معهم ليلة الجولة الثانية إلا أنهم لم ينفذوا الإتفاق، وكانت المؤشرات على ذلك التخلى عديدة حيث أن نشاط الإخوان فى الجولة الثانية إختلف تماما عنه فى الجولة الأولى فضلاً عن إنخفاض معدل تصويت القرية بحوالى 1200 صوت منسوباً للجولة الأولى وهو ما يعادل القوة التصويتية للإخوان وجمهورهم تقريبا.. ولو تساوى التصويت فى الجولتين لفازمرشح الماى خصوصا وأن فارق الأصوات مع المرشح الفائز كان 700 صوت تقريباً.
2- تشدد القضاة فى جولة الإعادة فيما يتعلق بصحة أسماء الناخبين بالماى عكس ماحدث فى الجولة الأولى، فى مقابل التساهل الذى حدث بقريتى بخاتى والبتانون والقرى التابعة لهما.
رد الفعل:
* فى اليوم التالى لظهور نتيجة جولة الإعادة تجمع عدد من الغاضبين - أنصار مرشح الماى - فى مسيرة تحولت إلى مظاهرة (يقدرها البعض بعدة مئات ويقدرها آخرون بألفى مواطن) رافعين شعار (اليهود أهم) ضد الإخوان ومرشحهم الذى نجح .. وقاموا بتمزيق لافتاته وصوره وحرقها (وهو طبق ما حدث تماما بقرية كمشيش ضد مرشح الإخوان لكن فى الجولة الأولى) بل وغطوا بعض شعاراته المكتوبة على الحوائط بالطين .
* لكن الأهم من كل ذلك هو عدم إعتراض جماهير القرية على هذا الإحتجاج الجامح بل واستقباله من جانبهم بارتياح شديد .
* ولإدراك الإخوان أن حزن القرية على عدم نجاح المرشح الثانى (حجازى) عمّ أغلب أرجائها، وبسبب خوف نائب الإخوان من مهاجمتهم لمنزله حسبما سرت الشائعات وقتها.. فقد قام بإبلاغ الشرطة بما حدث مشيرا إلى خطورة الوضع .. وهو التصرف الذى بدأ به حياته النيابية بعد أن رفعته جماهير القرية قبل تسعة أيام على الاعناق ..
أما المظاهرة التى كانت عفوية وتلقائية فقد أنتهت بعد ساعة واحدة تقريبا بعد أن أفرغت شحنتها من الغضب .
* أما المفاجأة الحقيقية فتمثلت فى أقوال عدد من أهالى قرية الماى من أنصار قرية بخاتى الذى فاز بمقعد الفئات ويقيم بالقاهرة ويعمل طبيبا بها:
* أن نائب الإخوان قد ذكر لهم قبل بدء الإنتخابات ضرورة محاربة (حجازى)، وأن أحد قادتهم ذكر "أنهم مستعدون للتحالف – حتى مع جرجس – لإنجاح مرشحهم فى الجولة الاولى".
* كذلك كان عدد من قادتهم قد أبدوا رغبتهم فى إسقاط (حجازى) فى الجولة الثانية لأن شرعيته تختلف عن شرعيتهم.
* وأنهم لتأكدهم من رغبة الجماهير بالقرية فى إنجاح حجازى لم يستطيعوا إعلان إعتراضهم وسايروا القرية فى الجولة الأولى بينما واتتهم الفرصة للعمل ضده فى الجولة الثانية .
هذا من ناحية ومن ناحية أخرى يرى آخرون من متعلمى القرية :
* أن الإخوان إتفقوا على تأييد (حجازى) فى الجولتين وقرأوا الفاتحة فى الثانية على ذلك .
* وأن أخبار ما دار فى إجتماعهم ( بحجازى ) ليلة الجولة الثانية وإتفاقهم معه ثم تخليهم عنه قد نال من رصيدهم الشعبى كثيرا بالذات وهم يتصورون أن ما تم كان خافيا عن أعين الجماهير لأنهم لايجيدون العمل فى النور وأنهم لم يستنكروا وجود حجازى مرشحا عن القرية بدليل إقامتهم مؤتمرا إنتخابيا له فى عقر دارهم وتقديمه تبرعا عينية لهم.
* ورغم ذلك إنتقلت بعض عناصرهم فى الجولة الثانية لقرية مجاورة تأييداً للمرشح المنافس.
* ويؤكد ذلك قيام الكثير من أهالى قرية بخاتى (فور سماعهم خبر نجاح مرشحهم) برفع ملابسهم لتظهر تحتها تى شيرتات عليها صورة مرشح الإخوان.
* ولذلك أدرك عامة الناس بفطرتهم وبمشاهداتهم أن الإخوان نقضوا عهدهم مع حجازى .
* لقد كان رد الفعل عقب الجولة الثانية متوقعا وعنيفا .. ولأن إقبال الناس على مرشحهم كان جارفا فإن إنصرافهم عنه كان أيضاً جارفا .
* أن رد الفعل الذى حدث كان سيحدث لأن القرية كانت قاب قوسين أو أدنى من الحصول على مقعد ثانى فى البرلمان لكن سلوك الإخوان خيب أملهم وصدمهم .
* أعتقد أن نائب الإخوان لن ينجح داخل الماى لو فرض وتم ترشيحه مرة أخرى هذه الأيام (بل وسيلقى أى مرشح إخوانى هذا المصير).. إلا إذا كان أداؤه فى الفترة القادمة جيدا وقام ببعض الإنجازات .
أما مثقفو القرية فيرون :
* أن وجهة نظر الدولة قد التقت مع وجهة نظر بعض القوى الخارجية (الأمريكان) فى إعطاء الفرصة "للإخوان المسلمين" لدخول البرلمان رغم اختلاف الأسباب، فالدولة تريد كشفهم داخل مجلس الشعب ليتأكد الناس أنهم "بتوع كلام".. بينما القوى الخارجية تريد مواجهة النظام الحاكم بهم لتحُد من إنفراده بالحكم .
* ونجاحهم سببه كراهية الشعب للحزب الوطنى وتسلطه وفساده، وأعتقد أنهم لن يفعلوا شيئاً فى المجلس لأنهم مع التوجه الحالى للنظام العالمى (الرأسمالى الحر) رغم اختلافهم فى بعض الأمور كالسياحة والملاهى.. وأتصور أن أداءهم البرلمانى لن يصل إلى أداء رجل برلمانى قوى مثل أ. كمال أحمد، وأعتقد أن رد الفعل الذى حدث ضد الإخوان كان أقل من حالة الغضب والحزن التى عمت القرية.
لقد أدركت جماهير قرية الماى بتجربتها الخاصة فساد النظام الحاكم منذ سنوات طويلة، وظل هذا الإدراك متصاعدا وملازما لها خلال كل تجربة.. لذلك سعت لوضع ثقتها فى أبنائها.. ولم يتقدم منهم لتمثيلها فى السنوات الأخيرة سوى جماعة "الإخوان المسلمين" شأنها فى ذلك شأن جماهير مصر التى عوّلت على التغيير من خلال هذه الجماعة وذهبت لصناديق الإنتخابات لوضع ثقتها فيهم.. لكن ما أن تبينت أنهم سقطوا فى أول مطلب (إمتحان) جماهيرى "بتفضيلهم مصلحتهم على رغبتها".. ما أن تبينت ذلك حتى ألقت بهم على الأرض بعد أن رفعتهم على الأكتاف.
ولا يمكن لأى مراقب أمين يتمتع ببعض الشرف عندما يكتشف أن أنصار المرشحيْن المتنافسيْن (على مقعد الفئات) من أهالى قرية الماى قد شهدوا معا على رداءة مسلك جماعة الإخوان وأجمعوا على إدانته، وعندما يكتشف أن نفس السلوك المتآمر المناور الذى استخدم نفس العبارات والمبادئ المهترئة (نتحالف مع الشيطان أو جرجس فى سبيل مصلحة الجماعة، والحرب خدعة) قد تكرر منهم فى أكثر من موقع وأكثر من دائرة إنتخابية، وعندما يسمع بأذنيه فى أركان القرية الأربعة ومن كل فئاتها: فلاحين ومتعلمين شبابا وشيوخا، رجالاً ونساء عبارات الحزن والغضب والصدمة من مسلك الإخوان المرددين لآيات القرآن وأحاديث الرسول فى كل كلامهم .. عندما يكتشف كل ذلك لايمكن له أن يصمت ولا أن يتواطأ أو يشارك فى دعم مثل هؤلاء بالقول أو بالفعل أو حتى بالإشارة.. وما أن يعرف أن جماهير القرية قد حددت موقفها من هؤلاء المناورين المخادعين لابد وأن يدرك ويتأكد أنه فى كل ليل حالك السواد سوف تبزغ ومضات من الأمل تستعيد الهمة والعزم وتحيى القلوب.

الاحد 25/12/2005
* كتبت عقب انتخابات مجلس الشعب الأخيرة