لمحات مضيئة في رحاب الاشتراكية الخلاّقة


فلاح أمين الرهيمي
2008 / 1 / 16 - 11:06     

(1)
الضياع والانكسار

لم يكن جديدا ولا غريبا المحاولات المتكررة واليائسة والمستمرة لأعداء الاشتراكية من قوى امبريالية وحاقدة من (أنصار العولمة المتوحشة ) حاليا وسابقا في تدمير المعسكر الاشتراكي والقضاء على ذلك الأثر التاريخي الخالد والحلم الباسم المشحون بالأمل والرجاء الذي يداعب أماني وطموحات جميع المظلومين والمحرومين والمضطهدين في مستقبل زاهر وسعيد يضمن لهم حياة رغيدة ومرفهة واطمئنان لغد مشرق سعيد خال ٍ من الخوف والقلق عما يحمله المستقبل المجهول من أحداث.
النظام السوفيتي الذي قارب عمره سبعة عقود من الزمن تعرض خلالها إلى صعوبات وأزمات قاتلة كحرب التدخل من قبل أربع عشرة دولة بعد قيام ثورة أكتوبر وتمرد الحرس الأبيض وقواد الجيش الروسي بالتعاون مع الرجعية والكولاك الذي يحرق الإنتاج الزراعي من الحنطة والشعير والرز ولا يقدمه إلى الشعب مما خلق مجاعة كبيرة بين أبناء الشعب والحربين العالميتين الأولى والثانية التي احتلت فيها القوات النازية ثلث الأراضي السوفيتية وهدمت جميع البني التحتية الخدمية والمؤسساتية والمشاريع إضافة إلى المعسكر الاشتراكي في دول أوربا الشرقية الذي هدمته الحرب العالمية الثانية وغيرها ولكن الاتحاد السوفيتي تجاوز تلك الأزمات والعثرات وسلك طريق التطور والبناء بالرغم من أن الأزمة الأخيرة قبل مجيء غورباتشوف إلى السلطة كانت في طريقها إلى الحل على يد ( يورى أندروبوف ) إلا أن الموت عاجله وذهبت معه مشاريعه إلى القبر.
أستلم ( غورباتشوف ) السلطة في الاتحاد السوفيتي وأنتهج وأتبع سياسة ( البيروسترويكا) أي إعادة البناء إلا أن غورباتشوف لم يوفر البدائل المعقولة والواقعية لإعادة البناء لعملية العثرات والتهديم الذي قام بها مما أدى إلى خلق حالة من اليأس والإحباط لدى الشعب السوفيتي مما أدى خلق الفوضى والتحريض والمظاهرات ضد الحزب وأجهزة السلطة مما دعا غورباتشوف أن يستجدى المساعدة من ( أعداء الاشتراكية ) الولايات المتحدة الأمريكية والدول الغربية وكانت إذاعة صوت أوربا الحرة ( عددها ستة محطات) الموجهة نحو الاتحاد السوفيتي والمعسكر الاشتراكي والتي استمرت بالبث والتحريض والثورة لمدة أربعة وعشرون ساعة في اليوم إضافة إلى تسلل المخربين والجواسيس والطابور الخامس في تحريض الشعب السوفيتي ضد السلطة والحزب والتمرد عليهما وكذلك في دول المعسكر الاشتراكي و أستمر غورباتشوف بمشروعه مما أدى إلى انهيار الاشتراكية وتفكك الاتحاد السوفيتي وقد أتضح من الاعترافات الشخصية لغورباتشوف بأنه كان فاقدا القناعة والثقة بالاشتراكية وان هذه العملية كانت تجري في سياق ظروف دولية بدأت معالم الاختلال فيه تميل لصالح القوى الامبريالية.
بعد انتهاء مهمة (غورباتشوف) جاءت مهمة (يلتسين) ليهدم ويدمر آخر حجر للبناء الاشتراكي والاتحاد السوفيتي فسن قانون حق الشعوب في تقرير مصيرها مما أدى إلى تفكيك وتفتيت الاتحاد السوفيتي إلى مقاطعات وكتل قومية ودينية وفئوية وأعلنت استقلالها عن بعضها البعض وبناء الدولة الخاصة بها وهذه الخطة الجهنمية أدت إلى بروز واستفحال النهج والنعرة القومية والدينية بين شعوب الاتحاد السوفيتي السابق وكانت هذه الشعوب والدول متداخلة فيما بينها من حيث الأرض والسكان مما أدت إلى نشوب حروب ونزاعات فيما بينها مما وضع المستحيل في المستقبل إعادة وحدتها وبناء الاتحاد السوفيتي. ولم يكتف (يلتسين) بهذا المخطط بل أستمر في نهجه العدواني ضد الاشتراكية فقرر سحب أجازة الحزب الشيوعي السوفيتي وإلغاء ممارسة نشاطه العلني على الساحة السياسية.
وبالرغم من كل ذلك سيبقى الاتحاد السوفيتي وانجازاته ومساعداته ونصرته الشعوب المظلومة والمضطهدة والمحرومة محفورة في ذاكرة الناس وفي قلوبهم في جميع إنحاء المعمورة وستبقى هذه الإعمال الإنسانية حروف من نور مسطرة في بطون كتب التاريخ وليس هنالك إنسان حر شريف ينسى الدور الكبير الذي قامت به ثورة أكتوبر العظمى والاتحاد السوفيتي العظيم من تحقيق الجوانب الايجابية والانجازات الاجتماعية الكبيرة التي تم تحقيقها خلال هذه الفترة لشعوب الاتحاد السوفيتي هي التي حولت روسيا القيصرية من سجن كبير للشعوب المختلفة والمتخلفة اقتصاديا واجتماعيا إلى بلدان متقدمة وذات صناعة متطورة وحياة ثقافية نابضة وواعية ونصير للشعوب في تحررها من نير الاستعمار والاستعباد والاضطهاد.
بعد سبعة قرون من الزمن تلقفت قبب الكرملين الصفراء والساحة الحمراء التي خضبتها دماء العمال والجنود والفلاحين في وثباتهم وانتفاضاتهم وسميت بالساحة الحمراء لكثرة الدماء الغزيرة التي سالت فيها وأصبح لونها أحمر كلون الدماء الزكية، ولازالت محفورة في ذاكرتي كلمات مؤلف كتاب ( عشرة أيام هزت العالم ) ( لجون ريد ) كيف كان الجنود والفلاحون والعمال المنتشرون في الساحة الحمراء وهم ممزقو الملابس والأحذية ، والجوع والزمهرير ينهش في أجسادهم الخاوية.
قبب الكرملين الذهبية والساحة الحمراء يلتفتون نحو كل جانب يبحثون عن ذلك الجندي والفلاح والعامل الممزقة ملابسهم وأحذيتهم وعن ذلك السيف الثائر الذي يقف على صهوة المجد يحمل صولجان الحرية والى ذلك العامل الذي يقف بين الجموع المحتشدة يحمل الراية الحمراء المعجونة بالجراح تداعبها نسمات أكتوبر الرطبة الخريفية الباردة تهرع الطيور والبلابل في ذلك اليوم الأغر تغرد أنشودة النصر العظيم مع الجموع المحتشدة والمحتفلة بيوم النصر العظيم من على منارة التاريخ وتصرخ بأعلى أصواتها: تحطمت السلاسل والقيود وتهدمت جدران السجون والاستبداد ودياجير الأقبية المظلمة في سيبريا وجميع أنحاء روسيا وولد إنسان جديد في عالم جديد وتنطلق صرخات المعذبين والمضطهدين والمحرومين في جميع أنحاء المعمورة تغني وتنشد فرحا وتهليلا بالعالم الجديد ويصبح شعاعه الوهاج وصوته الهادر يمزق غفوة النيام في قبور الإحياء ويتحرك في قلوبهم الأمل والرجاء فيتحركون ويزيحون عنهم ثقل هموم السنين ويبحثون عن النور فتستقبلهم الحرية باسمة الثغر وأبواب المستقبل المشرق السعيد.
حمامة من نار يلتف ربيع عمرها بالغبار والظلام والعواصف تائهة في السهول والجبال والوديان يختطفها الأشرار في ضحى النهار من بين قلوب الرجال. الحاقدين واللئام الجبناء يمزقون جسدها الطاهر وينثرون حرير ضفيرتها المخضبة بالدماء في نهر ( الفولفا ) ويعلقون رأسها على أسنة الرماح فوق قبب الكرملين الذهبية شيوخ وصبيه ونساء تتبارى للموت وتمتد أيديهم للسيوف غير أنها لم تجد إلا السلاسل وسجون وزنزانات ( يلتسن ) وأقبية الموت في سيبريا، انزلقت وسالت الدماء من جديد في الساحة الحمراء وانتشرت الوجوه النحاسية تنعق كالغربان من الحاقدين وأعداء الشعب والاشتراكية وتمتد مخالبها القذرة في برك الدماء الزكية وتمزق الأجساد الطاهرة وتهتك الأعراض العفيفة ويتعالى الصراخ والأنين والبكاء ويسود الصمت الموحش وتنطبق أجفان الضياء المغرورقة بالدموع (الاتحاد السوفيتي) الممزق الأشلاء والمذبوح يطيل التحديق من عيونه الزهر نحو قبب الكرملين الذهبية والساحة الحمراء التي لازالت الدماء فيها لم تجف يبحث عن ماضيه وعن بقايا حسام.
ولا بد من الإشارة إلى حجم المؤامرة التي أدت إلى انهيار المعسكر الاشتراكي ففي الثالث من شهر يناير سنة 1992 أي بعد انهيار الاتحاد السوفيتي بأسبوعين عقد اجتماع بين باحثين روس وأمريكيين في قاعة أحد المباني الحكومية في موسكو بعد أن أصبح الاتحاد الفدرالي الروسي دولة مستقلة ونتيجة لذلك أختفي تمثال ( لينين) الذي كان يزين منصة القاعة وبدلا عنه كان علم الاتحاد الفيدرالي الروسي يرفرف على السور الخارجي للبناية، وقد صرح مستشار غورباتشوف لأحد الصحف المرافقة للوفد الاميريكي قائلا ( نحن نقوم بأمر مروع لكم... نحن نحرمكم من عدو كبير ) وقد سبقت عمليات التحول نحو الرأسمالية والتمهيد لها بأعمال أدت إلى زعزعت ثقة الشعب السوفيتي بالحزب الشيوعي والدولة السوفيتية ومن هذه الأعمال تطبيق سياسة العلاج بالصدمة في أوائل التسعينات وقد صرح أحد منفذي العملية واحد منظري الخصخصة والتحول الرأسمالي (تشوبايس) بأن مشروعه سيؤدي إلى خلق ملايين المالكين وإنعاش الاقتصاد الروسي ورفع مستوى معيشة الشعب الروسي. غير إن الذي حدث وفق المخطط المرسوم هو أن الإصلاحات المزعومة أسفرت عن فوضى اقتصادية شاملة فبدلا من ظهور ملايين المالكين كما زعم (تشوبايس)ظهر عشرات الملايين من الجياع والمشردين وأنخفض الناتج الوطني الإجمالي للاقتصاد الروسي من عام 1991 إلى سنة 1998 بنسبة 50 % وبلغ الانخفاض بالصناعة 50 % وفي الزراعة 60 % كما أدت الخصخصة إلى عملية ابتلاع هائلة للثروة الوطنية ولم تؤدي إلى ولادة طبيعية للمالكين وخلق طبقة رأسمالية كما روج لها وخطط المنظرون والخبراء الأميركيين والمؤسسات المالية والنقدية الدولية من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي بل أدى ذلك إلى تخصيص وتعيين رأسماليين جدد والى نشوء طبقة رأسمالية طفيلية مما أفرز ذلك الوضع الجديد وأدى إلى خلق شريحة قليلة من الأثرياء وإعداد غفيرة وواسعة من الجياع والمحرومين والمشردين من أبناء الشعب الروسي، الأمر الذي أدى إلى ازدياد التوترات الاجتماعية وازدياد الإعداد الفقيرة وقد شكلت نسبة الفئات التي تعيش دون مستوى حد الفقر إلى أكثر من ثلث الشعب الروسي كما أدى إلى تحرير حركة الرساميل وحرية السماح بتحويل الروبل الروسي إلى عملات أجنبية رئيسية من أهمها الدولار الاميريكي مما أدى إلى نزوح الرساميل الروسية وقدر حجمها مابين سنة 1992 وسنة 1994 بحوالي مئة مليار دولار بينما بلغت حجم الاستثمارات الأجنبية المباشرة في روسيا وحجم المساعدات الرسمية التي قدمتها الدول الغربية إلى روسيا في الفترة ذاتها إلى 4ر19 مليار دولار وقدرت الأموال التي هربت من روسيا بصورة غير شرعية خلال تولي يلتسين الحكم إلى 450 مليار دولار وفي مقابل ذلك أزداد معدل الديون الخارجية إلى أكثر من 30 % من ميزانية الدولة الروسية ومن المتوقع أن ترتفع في سنة 2003 إلى أكثر من 70 %. وكان تأثير ذلك على الوضع الاجتماعي للشعب الروسي سيئا ً وكارثيا ً حيث نمت الجريمة المنظمة والرشوة والدعارة ولعبت منظمات المافيا دورا رئيسا في الرأسمالية الروسية الجديدة حيث بلغت حوالي (9000) عصابة منظمة للمافيا تشرف على نشاط (400000) مؤسسة ومركز تجاري من بينها (450) مصرفا وهي تمثل الجزء الأكبر من هذا القطاع التجاري.
وقد أجرت أحدى المؤسسات الإعلامية استفتاء ومحاورات لشريحة واسعة من الشعب في احد الدول الاشتراكية وكان جواب الأكثرية منهم: ( كنا نظن أننا نقتحم الحرية فإذا بنا مجرد سلعة في السوق تخضع إلى عملية العرض والطلب )
كارل ماركــس
ولد كارل ماركس عام 1818م في مقاطعة الراين الألمانية وكان في فتوته حاد الذكاء ضعيف البنية جريئا في أقواله وتصرفاته محبا للإطلاع على كل شيء وان كان ذلك لا يتناسب مع عمره، أفاق ماركس على ألمانيا مقسمه إلى ولايات ودويلات صغيرة ومتفرقة يحكمها ولاتها وأمراؤها وملوكها حكما استبداديا بينما كان الشعب يرزح تحت نير الطغيان السياسي والاقتصادي كما أفاق على شيوع الحركات الثورية في بلاده وخارج بلاده.
حظي ماركس خطوته الجديدة اثر دخوله الجامعة في السابع عشرة من عمره وأقتحم الحياة بنهج ثوري عنيف وجعل يتفحص الفلسفة ( الهيغلية ) تفحص الناقد المدقق وما كان يتهيب الاصطدام مع أتباعها وحاملي لوائها الكثيرين وحمل سيفا حادا في محاربة مثاليتها وضربها في النقاط الضعيفة التي بنيت عليها واخذ من ديالكتيكها سلاحا ضدها وطلع بديالكتيك جديد مستوحى من الحقائق العلمية المادية لأمن الفكرة المثالية التي تستوحيها فلسفة هيغل إذ لم يكن عند ماركس أيمان بشيء إلا بما يدله عليه العلم والواقع التاريخي. أن فلسفة هيغل تقوم على أساس مادي وروحي معا على اعتبار أن الروح شيء مستقل من أبداع الفكرة، فالروح الهيغلية وان اختلفت عن الروح ( الروحانية ) التي يبشر بها الفلاسفة الروحانيون إلا أنها روح مثالية من فكرة مثالية ومن عقلانية أنسأن مثالي أبتدعه هيغل. وان هذه الفلسفة لم تخل من شيء مثالي مجهول فيما وراء الطبيعة البشرية وماديتها هو الفكرة، أذن لم يكن لفلسفته بدّ من خلق روحية مثالية ليس لتطور المادة العلمي ولا لصقل وتطور المادة الدماغية المنبثق عنها العقل يد في التدرج للوصول إليه وهذا ما يجعل ديالكتيك هيغل ينتهي عند حاجز ليدرك ما وراءه إلا بالحدس أو بواسطة فكرة مثالية من هنا كان الاختلاف في تفسير الفلسفة الهيغلية بين تلامذته بالذات بين الروحانيين منهم وبين الماديين وكان ماركس بين فئة الماديين أكثرهم صلابة وأشدهم عنفا في تخطئة فلسفة هيغل وديالكتيكها.