شروط نفي النظرية - مشاركة حوار اليسار كاظم حبيب – سيار الجميل 1


صائب خليل
2008 / 1 / 5 - 10:55     

تابعت باهتمام النقاش الدائر بين العزيزين الدكتور كاظم حبيب والدكتور سيار الجميل حول مفاهيم الماركسية والإشتراكية وامكانيات تطبيقهما في الواقع العربي (1)، وبعد تردد قررت المشاركة في النقاش ليس كقارئ فقط بل ككاتب ايضاً، راجياً ان تسهم مشاركتي في إغناء الحوار في هذه المسألة خطيرة الأهمية.
.
ليس النقاش حول نظرية الماركسية والإشتراكية وامكانيات تطبيقهما على الواقع (العربي) نقاشاً سهلاً، لكن ما يزيده عسراً كما لاحظت منذ مدة ان ثمة عدم وضوح سائد في الوسط اليساري في المفاهيم الأساسية لـ "التجربة" و"النظرية" و"التطبيق"، ولم تسلم، في تقديري، المناقشة الهامة أعلاه من تلك المشكلة، لذا سأكتفي في هذه المقالة القصيرة بتسليط الضوء على إشكال المفاهيم هذا وتطبيق مبدأ نفي النفي لـ"نفي نظرية" من قبل نظرية اخرى، على ان اعود في مقالة قادمة الى تطبيق الماركسية في العالم الثالث والتحفظات التي اوردها الدكتور الجميل حول ذلك.
.
نفي النظرية
.
ربما كان السؤال الأكثر اهمية وتداولاً في مناقشات اليسار اليوم هو: هل تم نفي النظرية الماركسية بنظرية احدث منها ام لا؟ ولأهميته القصوى يستحق السؤال العودة الى الأسس فنقول: لكي تنفي النظريات الجديدة النظريات القديمة وفق مبدأ نفي النفي الديالكتيكي فأن النظرية الجديدة النافية يجب ان تبرهن على انها قادرة على توقع المستقبل وتفسير الحدث الخاص بها بشكل افضل من النظرية القديمة. وان قبلنا بعض التبسيط يمكن القول ان هناك نوعين من النفي: نفي قاطع حيث تلغي النظرية الجديدة النظرية القديمة, ونفي جزئي, وهنا تحل النظرية الجديدة محل القديمة في بعض التطبيقات وتترك للقديمة بقية الساحة.
.
كمثال على ذلك من علم الفيزياء فأن النظريات الحديثة للضوء نفت تماماً النظرية القديمة القائلة بأن الضوء شعاع يخرج من عيوننا ليسقط على الأشياء التي نراها. وكمثال على النفي الجزئي نفت نظرية آينشتاين النسبية نظرية نيوتن حين تمكنت من التنبؤ بشكل اكثر دقة من الأخيرة بحركة كوكب عطارد مما اثبت تفوق نظرية النسبية على نظريات نيوتن في الحركة ونفيها لها. لكن نظريات نيوتن بقيت صحيحة بما فيه الكفاية وبقيت تدرّس وتستعمل بنجاح في معظم المجالات التطبيقية الحياتية، بينما احتلت نظرية النسبية مكانها في التطبيقات ذات الأرقام الفلكية وسرع تقترب من سرعة الضوء. اي ان نظرية النسبية قد "بنت" فوق نظريات نيوتن ولم تلغها، وهذا هو مصير معظم النظريات المؤسسة بشكل جيد: انها لا تنفى إلا جزئياً ويتم البناء فوق هذا الجزء المنفي، وبهذا يتصاعد بناء العلم.
.
النظرية لا تنفى بالتقادم وحده
.
عودة الى المناقشة بين الدكتور كاظم حبيب والدكتورسيار الجميل حيث تساءل الأخير:
"ولماذا كل هذا التشبّث باحادية منهج وفلسفة تجاوزهما الزمن ؟ لم يمض وقت طويل على ديالكتيك هيغل حتى تبلورت نظرية كارل ماركس .. فهل من حق نظرية الاخير احتكار التاريخ ؟"
وكتب ايضاً: " هل ستنفعنا ايديولوجيات القرن العشرين ، وهي ايديولوجيات لم تخلق في واقع كالذي عليه نحن اليوم ؟" و " ولكنني اعتقد ان كلا من الهيغلية والماركسية قد تجاوزهما الزمن اثر مرور اكثر من قرن كامل على ولادتيهما التاريخيتين".
.
السؤال هنا هل تنفى النظرية بالتقادم اوتوماتيكياً؟ كما قلنا في المبادئ اعلاه فأن النظرية تترك المجال حين تأتي نظرية اخرى ادق او اوسع منها، ورغم انه من الطبيعي ان تأت النظرية النافية متأخرة عن النظرية المنفية، لكن هذا لا يعني ان الزمن نفسه يكفي لكي ينفي النظريات. اي ان النظريات العلمية لا تنفى بالتقادم بل تنفيها فقط نظريات أفضل منها تعبيراً عن الواقع وأكثر قدرة على توقع نتائج احداثه. لن يكون "طول الزمن" حجة كافية للدعوة للتخلي عن النظرية لأنه ليس هناك اية طريقة لمعرفة الزمن اللازم لحلول النظرية الجديدة البديلة الأفضل، لذلك فأن وصف نظرية او منهج او فلسفة بانها قد "تجاوزها الزمن" ليس وصفاً علمياً رغم انه متداول كثيراً. الدكتور الجميل لايجهل ذلك فيكتب: "ثمة نظرية وتطبيقات وقد تجاوزتها نظريات اخرى"، ومع ذلك لم اجد في تلك المناقشة التي تركزت على كون النظرية الماركسية قد نفيت ام لم تنف، لم اجد تلك "النظريات الأخرى" بشكل واضح ومحدد لكي يتاح لنا ان نتساءل بعد ذلك عن برهان تجاوزها؟ وهل هذا البرهان علمي؟ وهل نفت "النظريات الأخرى" كل النظرية الماركسية ام بنت عليها وهل مازالت النظرية القديمة تحتفظ بجزء من الساحة؟ واي جزء هو ان وجد؟
.
أن الفشل في الإجابة عن هذه الأسئلة، بل الفشل حتى في طرحها، مؤشر الى ان النظرية التي حكم عليها بالنفي، لم تلق محاكمة شرعية. فلو طبقنا هذا الفحص على عمليتي نفي نظرية الضوء الصادر من العين ونفي نظريات نيوتن لما وجدنا اي اشكال في الإجابة عن هذه الأسئلة: في حالة نظرية الضوء نفت نظرية صدوره من العين نظريات اخرها النظرية الكهرومغناطيسية القادرة على تفسير الواقع وتوقعه بشكل افضل. النظرية الأولى تتوقع اننا يجب ان نستطيع ان نرى مادمنا نفتح عيننا, ولاتستطيع تفسير اختفاء الضوء حين تختفي الشمس (ومصادر الضوء الخارجية) وانعدام الرؤية عموماً في الليل، ولا توجد مثل هذه الإشكالات في النظرية الكهرومغناطيسية.
واما الجواب عن المساحات التي تركت للنظرية القديمة فلا توجد اية مساحات. لكن هذا لايعني ان النظرية الكهرومغناطيسية تحتل الساحة لوحدها، فيصعب عليها مثلاً تفسير انتقال الضوء في الفراغ، بينما تنجح في ذلك نظرية الكم التي تفشل هي الأخرى بتفسير ظواهر ضوئية اخرى مثل الحيود، لذا نستطيع القول ان النظريتان تتقاسمان الساحة في تفسير الضوء وماهيته وتوقع تصرفاته.
.
كذلك نعرف اجوبة الإسئلة اعلاه بالنسبة لنفي نظريات نيوتن فكما قلنا فقد بنت النسبية فوق نظريات نيوتن التي بقيت تحتفظ بالكثير من مجالات تطبيقها في الحياة اليومية كما اسلفنا.
.
النظريات الإجتماعية والإقتصادية، كنظريات علمية، لها الحق بنفس العناية في اثبات شرعية نفيها وبواسطة نظرية افضل منها وليس بالتقادم. لماذا إذن نسمع كثيراً عن نفي النظرية الماركسية دون ان تقدم اثباتات علمية محددة لنفيها، بل ان اية محاولة جدية لتقديم مثل هذه الإثباتات لم تتم حسب علمي، فلم يقدم احد اي اقتراح معقول للطريقة التي يجب ان نتعامل بها مع مشكلة فائض القيمة الذي بين ماركس بمعادلة رياضية بسيطة انه سرقة. إنها تدعو في الواقع الى قبول هذه السرقة كأفضل خيار للبشرية وسنعود الى خطورة هذه النقطة في مقالة لاحقة ان اتيح لنا.
.
يبدو من المناقشة السابقة ان الماركسية لم تتعرض الى نفي علمي شرعي محدد وواضح من اية نظرية اخرى فلماذا يسود الشعور بالعكس؟ ولماذا يبدو العديد حتى من اليساريين قد فقد صبره في انتظار اعتراف عام بهذا النفي؟
الجواب عن هذا الإشكال برأيي ان المرء يقع في فخ الخلط بين اشكالية نظرية ما وبين الموانع العملية من الإستفادة منها. سوف أناقش الموانع العملية لتطبيق النظرية الماركسية في مقالة اخرى، اما الآن فأكتفي بالقول ان الموانع العملية ليست كافية لنفي النظرية، حيث تلعب المصالح والعوامل الخارجية المؤثرة على التجربة دوراً تشويشياً هائلاً ومتعمداً احياناً. اضافة الى ذلك فهناك عوامل نفسية اهمها التعب والخوف من سلطة النظرية القديمة وارهابها، والمشاق المتوقعة من الإصرار على تجربة النظرية الجديدة بشكل مقنع يعرض القديمة والمستفيدين منها للخطر.
.
هذا الحال من تشوه المنطق بتأثير العوامل النفسية اشبه بحالة من يتوصل الى ان الضفة الأخرى للنهر ربما تكون اوفر غذاءً, ولكنه حين يكتشف ان النهر يعج بالتماسيح, "يستنتج" انه كان مخطئاً فيترك المحاولة. ليس من العيب ترك المحاولة ان وجد العبور فوق طاقته, لكن وعيه يجب ان يبقى سليماً فيقول: "مازلت اعتقد ان الضفة الأخرى ربما تكون اوفر غذاء لكني لا استطيع الوصول اليها حالياً." ورغم ان هذا المنطق لايدفع باتجاه تصرف مختلف عن الأول، لكنه، وعلى العكس من الأول، يدفع للتفكير بحل، ويبقي الباب مفتوحاً لمراقبة اية فرصة تسنح للسباحة الى الضفة الثانية، حين تغفو التماسيح مثلاً. ان المحاولات الحالية للبرهنة على خطل الماركسية لاتتم من خلال الإشارة الى خلو اشجار الضفة الثانية من الثمر، بل بالإشارة الى العدد المخيف من التماسيح التي تقف بيننا وبينها.

هذا الخطأ المتمثل بالقاء المشاكل التطبيقية والصعوبات العملية على كاهل النظرية نفسها خطأ شائع جداً، لكن الحياة لا تخلو من امثلة معاكسة حيث يلقى على نقص التطبيقات العملية كاهل نواقص نظرية في فكرة او فلسفة ما. وفي هذه الحالة يبقى المؤمن بصحة نظريته يحاول طويلاً حل الإشكال من الناحية العملية, مضيعاً الكثير من المال والوقت والجهد كما حدث تأريخياً للكيمياويين باحثين عن طريقة لصنع حجر الفلاسفة وحدث للفيزياويين الباحثين عن طريقة لصنع المحرك الدائم الحركة. وكمثل حديث إكتشف الحلفاء بعد نهاية الحرب الثانية ان الألمان كانوا قد توصلوا الى نظرية التفجير النووي ولكن بخطأ جعلهم يحسبون ان الكمية اللازمة لأجراء تفاعل متسلسل تتطلب اطناناً كثيرة من المواد المشعة، فراحوا يركزون جهودهم على جمع الكمية الهائلة اللازمة لذلك في الوقت الذي كان الخطأ في النظرية وكان لديهم في الواقع ما يكفي لإنجاز مثل هذا التفاعل. ربما كان الخطأ في الإجابة عن هذا السؤال قد كلف الألمان الحرب!
في كل هذه الأمثلة فأن العجز عن تمييز الإشكال النظري عن العملي يدفع بالمرء الى محاولة حله في الجانب الخاطئ وكثرما يكون هذا الخطأ شديد الكلفة ان وقع في مسائل اساسية ومصيرية.
.
لما تقدم اقول اخيراً ان تساؤل الدكتور سيار الجميل عن "حق نظرية الماركسية باحتكار التأريخ" تساؤل غير محله لأكثر من سبب.
فأولاً وحسب المناقشة السابقة، فليس هناك اعتراض حقيقي على ان "تحتكر التاريخ" نظرية ما، مالم تزحها نظرية ادق منها، وكل نظرية "ستحتكر التأريخ" بلا شك حتى تأتي تلك اللحظة وعندها سنهاجم النظرية القديمة ليس لأنها بقيت زمناً طويلاً تحتكر التأريخ، بل نهاجمها بالعوامل الأفضل التي جاءت بها النظرية الجديدة بغض النظر عن فترة حياة الآولى وطولها.
من ناحية ثانية من الغريب ان تهاجم الماركسبة على انها قد "احتكرت التأريخ" وهي اقرب ان تكون قد حرمت من اية فرصة لتجربة تضمن مقارنة عادلة لنتائجها مع منافسيها. انها نظرية يعيب عليها منتقدوها انها لم تتمكن من التطبيق العملي لأفكارها فمتى "احتكرت التأريخ"؟
والسبب الثالث لعدم شرعية السؤال هي ان دعوة الماركسية للتخلي عن "احتكار التأريخ" لا يتم لصالح نظرية جديدة، بل نظرية اقدم منها، تزاحمها وتبغي "إحتكار التأريخ" لزمن اطول كثيراً من فترة حياة الماركسية، فإن كان هناك اعتراض على "احتكار التأريخ" فأجدر ان يوجه الى الرأسمالية وهي الأقدم بين النظريتين والأوسع تطبيقاً في العالم.
.
من هذه المناقشة آمل ان قد وضحت ان التساؤلات المطروحة في اليسار متملثة بتلك التي طرحها الدكتور سيار الجميل عن الدعوة الى عدم "التشبث بالنظرية الماركسية" وانها تقادمت لصالح نظريات "احدث منها"، ان هذه التساؤلات لم تعالج الموضوع بشكل مرضي من الناحية العلمية. أؤكد كذلك هنا انني عندما شككت بالطرق التي توصلت الى "نفي" النظرية الماركسية باعتبارها اصبحت قديمة، فأن هذا لايقول شيئاً عن صحة النظرية ومجال تطبيقها وانما يبين الحاجة الى مناقشتها بطريقة اكثر وضوحاً و "شرعية".
.
.
هامش:
(1) تجدون مقالات الدكتور كاظم حبيب الخاصة بهذه المناقشة على صفحته التالية:
http://www.ahewar.org/m.asp?ac=&st=&r=20&i=110&fAdd=
وتجدون مقالات الدكتور سيار الجميل على موقعه التالي:
http://www.sayyaraljamil.com/Arabic/