كتاب: حول تاريخ الثورة الروسية وتناقضات نظرية الثورة على مراحل


بشير الحامدي
2007 / 12 / 31 - 11:11     

فهرس الكتاب
الجزء الأول ـ الثورة الروسية 1905 ـ 1917
ـ الأوضاع في روسيا قبل فيفري 1917
ـ سقوط القيصرية وتحول السلطة إلى البرجوازية
ـ الحزب البلشفي يصحح برنامجه
ـ إفلاس الديمقراطية البرجوازية الصغيرة
ـ التحضير لدكتاتورية البروليتاريا
أ ـ فشل انقلاب كرنيلوف
بـ ـ البلاشفة يعودون لشعار كل السلطة للسوفييت
ج ـ الانتفاضة وانتصار الثورة
الجزء الثاني ـ تناقضات نظرية الثورة على مراحل
 ـ  تناقضات صيغة الدكتاتورية الديمقراطية للعمال والفلاحين
ـ مفهومان للثورة
ـ حول نظرية الثورة على مراحل
ـ تناقضات الستالينيين حول مفهومي دكتاتورية البروليتاريا والمجتمع الاشتراكي
الجزء الثالث ـ حول نظرية الثورة الدائمة
ـ ماركس والثورة الدائمة
ـ تروتسكي والثورة الدائمة
المؤلف ـ  بشير الحامدي
 
 
 
حول تاريخ الثورة الروسية
وتناقضات نظرية الثورة على مراحل
 
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الجزء الأول
 الثورة الروسية
 1905 ـ 1917
ــــــــــــــــــــــــــــــ
كتاب ـ حول تاريخ الثورة الروسية وتناقضات نظرية الثورة على مراحل ـ  صدر بتونس سنة 1989 في طبعته الأولى الورقية مناقشة لكتاب وقع نشره في تلك الفترة بعنوان "التروتسكية والتروتسكيون في تونس" لصاحبه محمد الكيلاني.
ــــــــــــــــــــــــــ
إهداء
إلى ابني أحمد الذي ولد بعد تسع سنوات من نشر الطبعة الأولى الورقية من هذا الكتاب والذي اجتهد وحوّل جزءه الأول إلى نسخة رقمية.
بشير الحامدي
تونس ديسمبر2007
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 
 
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 الجزء الأول
الثورة الروسية
1905 ـ 1917
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
«...التاريخ سوف يلقن أولئك الذين يعتقدون بأنّ " دورة الثورات " قدا انقضت الدرس السلبي الذي يستحقون. لقد بدأ القرن العشرون سنة 1905 تحت علامة الثورة والثورة المضادة وسوف ينتهي ويبدأ القرن الحادي والعشرون تحت العلامة ذاتها. » ارنست مانديل
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ الأوضاع في روسيا قبل فيفري 1917
ظهرت الرأسمالية متأخرة في روسيا بالمقارنة مع بلدان مثل انقلترا أو فرنسا ولكن روسيا تمكنت في مدة زمنية قصيرة نسبيا من استيعاب الأساليب الرأسمالية الحديثة في الإنتاج . ومع بداية القرن العشرين غدت مجتمعا تهزه التناقضات الطبقية الحادة في الريف والمدينة على أعتاب أزمة اجتماعية وسياسية حادة وشيكة الانفجار .
في سنة 1905 ثار الفلاحون في كامل البلاد مطالبين بالأرض، وانتفض العمال وكونوا السوفييتات وانفصلت البرجوازية الليبرالية عن الشعب عندما أدركت أن الثورة في حقيقة الأمر لا تستهدف القيصرية فقط وشعرت البروليتاريا قبل الأحزاب وفي قلب المعركة بتغير ظروف الصراع وتقدمت الممارسة على النظرية  وشعر العمال بتحويل الإضراب إلى انتفاضة مسلحة . لقد أدركت الجماهير رغم تجربتها المحدودة ضرورة تحطيم النظام القيصري لكن وبحكم عوامل كثيرة موضوعية وذاتية تمكنت الملكية القيصرية من سحق الانتفاضة ومن قمع الطبقة العاملة والجماهير الثائرة قمعا دمويّا.
لقد بينت ثورة 1905 المشاركة الكبيرة والدور المتعاظم للطبقة العاملة في النضال ضد القيصرية وأحدثت تعديلات في علاقات القوى الطبقية ستظهر بكل وضوح إبّان وبعد ثورة فيفري 1917 .
لقد طرحت ثورة 1905 بشكل ملموس إشكاليات تتعلّق بطبيعة الثورة والطبقات والسلطة التي ستبنى على أنقاض النظام القيصري ويمكن القول أنّ الإثني عشر سنة التي فصلت ثورة 1917 عن ثورة 1905 كانت ضرورية للتوصّل إلى إجابات عن الإشكاليات التي طرحت. فلقد كشفت ثورة فيفري 1917 عن كثير من الأوهام والأخطاء الكامنة في برامج الأحزاب وفي وعي الطليعة الثورية والمتعلقة بأهم مسائل الثورة. لكن وبرغم الهزيمة التي ألحقت بها في ثورة 1905 فقد تصلبت البروليتاريا كقوة طبقية، فخاضت البروليتاريا الإضرابات الاقتصادية والسياسية ودافعت عن مصالحها بالتظاهر والصدام المباشر مع الجيش وقوات البوليس وانخرطت في الحركة السياسية المنظمة ونشطت في الحلقات السرية  وباختصار حافظت كطبقة على قدر ما من ثوريتها أهلتها فيما بعد لتقود النضال ضد الحكم المطلق وتلعب دورا رئيسيا في أحداث ثورة فيفري 1917 .
لقد وجدت الطبقة العاملة الروسية نفسها في بداية القرن العشرين في مواجهة جملة من المسائل التي تطرحها الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في روسيا إلا أن الخصوصية التي منحتها الظروف لبروليتارية روسيا ولكل بروليتارية البلدان ذات التطور الرأسمالى المتأخر هي أنها لم تكن الطبقة الوحيدة التي لها مصالح في الثورة فعليها أن تحوز دعم الحركة الفلاحية التي ارتبطت مصالحها موضوعيا بمصالح الطبقة العاملة التي أصبحت تاريخيا الطبقة الوحيدة القادرة على  حل المسالة الزراعية وعلى انجاز البرنامج الديمقراطي وإتمامه.                       
ألغيت القنانة في روسيا سنة 1861 وقد مثل ذالك إصلاحا لوضع الفلاحين قامت به الملكية القيصرية  إلا إن هذا إلاجراء كان مجرد إجراء إدارى أكثر منه إصلاحا فعليا لتحويل طبيعة الملكية في الريف وإنهاء العلاقات ما قبل الرأسمالية في الزراعة ولا يمكن مقارنته بالإصلاحات الزراعية التي نفذتها الطبقة البرجوازية في البلدان ذات النمو الراسمالى المتقدم إبان قيامها بثوراتها  البرجوازية. لم يلغ هذا الإصلاح القنانة في الواقع  ولم يحوّل المشاعات ولم يمسّ الإجراء غير  جزء من الاراضى المشاعية ولم يرافقه تطور فعلى في أساليب وأدوات الإنتاج التي بقيت متخلّفة ولم يتمّ تحرير الفلاحين إلاّ جزائيا. ومع بداية القرن العشرين وقبل 1917 وجد الفلاحون المحرّرون أنفسهم من جديد تحت وطأة الإقطاعيين النبلاء والملاكين العقاريين والنظام المجحف الذي عليه ملكية الأرض وتوزيعها بين السكان. واحتدّ الصراع الطبقي في الريف ومثّل إصلاح ستوليبين سنة 1906 إصلاحا في صالح الطبقة الغنيّة في الأرياف ودعّم الطبقة البرجوازية الريفية التي أصبحت في حاجة أكيدة إلى سلطة سياسية قوية تؤمّن لها سيطرتها ونفوذها الاقتصادي وأصبحت حليفة قوية للسلطة القيصرية . وقد شكّل ذلك عاملا من العوامل التي أدت إلى تسارع في وتيرة الصراع الطبقي في الأرياف وجعلت من مسألة الإصلاح الزراعي في صالح غالبية الفلاحين شعارا فعالا محركا للثورة الزراعية التي أصبحت وشيكة والتي لم تجد حلا على أيدي البرجوازية .
فكيف يمكن حل مسألة الإصلاح الزراعي حلا ثوريا ولصالح  الفلاحين بعد فشل الطبقة البرجوازية ؟ الحل يكمن في ارتباط الثورة الفلاحية بالبروليتاريا وفي تحالف البروليتاريا والفلاحين . كانت هذه هي الإشكالية الكبرى التي على البروليتاريا أن توليها الاهتمام إذا أرادت أن تحرّر نفسها وتحرّر المجتمع من ورائها .
كانت الأوضاع على درجة كبيرة من التأزم و كانت الطبقات الماسكة بالسلطة السياسية تعمل على حماية نفسها . لقد أصبحت تدرك أن الثورة هذه المرة ستدكّ كل القلاع وأصبحت الملكية مهزوزة وعاجزة كنظام سياسي في نظر البرجوازية الليبرالية التي أصبحت على قناعة تامة أن مصالحها الطبقية ستظل في خطر ما لم تسع لإنقاذ نفسها وتأمين سيطرتها . لقد أصبح المجتمع في حاجة إلى سلطة قوية وأجهزة دولة قوية. فلم تعد السلطة القيصرية غير واجهة من زجاج لنظام في أشد الحاجة إلى منقذ ولم تكن البرجوازية الليبرالية تخشى على زوال القيصر. لقد كانت تخشى ضياع نفوذها هي بالذات كطبقة .
اشتركت روسيا في الحرب العالمية الأولى بوصيفها دولة مرتبطة بالنظام الرأسمالي العالمي وحليفة تابعة له لقد وجدت نفسها ومنذ اليوم الأولى لدخولها الحرب في تبعية كاملة لحلفائها. لقد كانت في حاجة إلى آلية حربية متطورة لم تكن بحوزتها ، ولم تتمكن الصناعة الروسية من تلبية كامل حاجيات الجبهة ، فالصناعة لم يكن بمقدورها التحول إلى صناعة حربية بشكل فعال وقد مثل هذا خللا كبيرا كانت نتائجه كارثية على الجبهة التي قدرت الخسائر فيها بما يساوي 40% من مجموع خسائر الحلفاء . أزمت الحرب الأوضاع الداخلية لروسيا المتخلفة بلد الأغلبية الفلاحية الساحقة وظهر جليا أن متطلبات الحرب كانت أكبر بكثير من إمكانيات امبرياليي البرجوازية الروسية . وازداد الوضع ترديا يوما بعد يوم وتفاقم الغضب في صفوف الشعب المعارض لهذه السياسة ، وأصبحت الحرب عبئا ثقيلا يضغط بكل ثقله على الطبقة العاملة التي جند خيرة عناصرها وعلى الفلاحين أدوات هذه الحرب اللصوصية . ومثلت سياسية مواصلة الحرب التي سلكتها الطبقات الحاكمة وتمسكت بها رغم نتائجها عاملا من العوامل التي ساهمت في إنضاج الوضع الثوري والتمهيد للثورة القادمة .
 ما كان لثورة 1905. التي كانت بدايتها الإضراب أن تمكن أي حزب سياسي من قيادتها برغم إدراك هذه الأحزاب جميعا أن الإضراب  سيتحول إلى انتفاضة لقد كانت المبادرة في ذلك تعود إلى العمال أنفسهم برغم طابع العفوية الذي كانت تسير عليه الأحداث في اتجاهها العام.  لقد قرر سوفييت عمال بطرسبرغ الذي ترأسه تروتسكي ضرورة العمل  على تحويل الإضراب إلى انتفاضة كانت هذه المؤسسة التي ظهرت في خضم الأحداث أول مؤسسة تمكنت من تنظيم الجماهير وتحديد الشعارات الثورية التي التف حولها العمال فما كان بوسع أي منظمة من المنظمات أن تكون مستعدة بالفعل إلى مثال هذا العمل أو إن تلعب الدور الذي لعبه السوفييت  لقد تأخرت الأحزاب عن مبادرة  الجماهير وعن الحركة التي أخذت في الاتساع . وانتقلت المواجهة إلى صدام مباشر مع الجيش  وارتفعت حركة الجماهير إلى  انتفاضة مسلحة أكرهت القيصر على المضي إلى النهاية في مواجهة الشعب وكشف الملكية القيصرية عن وجهها الحقيقي واستخدمت ومسائلها القمعية للمحافظة على وضع تفوقها الطبقي وأغرقت الانتفاضة في الدم . يقول لينين سنة 1917 في الذكرى السنوية الثانية عشر للأحد الدامي  بداية ثورة 1905 : «إن تشابك الإضرابات الاقتصادية والإضرابات السياسية كان في غاية الأصالة إبان الثورة. ولا سبيل إلى الريب في أن الصلة الوثقى بين هذين الشكلين من الإضراب هي وحدها التي كانت تؤمّن للحركة قوة كبيرة ... وشرع الفلاحون يتجمعون جماعات لتدارس وضعهم وينجذبون إلى النضال شيئا فشيئا : كانوا يهاجمون جموعا كبار الملاكين العقاريين، ويحرقون قصورهم وممتلكاتهم ، أو يستولون على مؤوناتهم و حبوبهم ومآكلهم الأخرى ، ويقتلون رجال الشرطة ، ويطالبون بتسليم الشعب الأراضي الشاسعة التي تخص النبلاء ... وبقدر ما كانت تتعاظم موجات الحركة بقدر ما كانت الرجعية تتسلح بمزيد من العزم والحزم لأجل محاربة الثورة ...»(1).كان التمايز الطبقي واضحا جليا بين البروليتاريا والبرجوازية الصغيرة و الطبقة البرجوازية في المدينة والريف . فالطبقة  البرجوازية الصغيرة كانت في تركيبتها الساحقة فلاحية وقد مثلت غالبية الشعب . ولئن كانت البروليتاريا ، وبالمقارنة مع نسبة البرجوازية الصغيرة في المجتمع تمثل أقلية ، فإنها كانت تمثل أغلبية ساحقة لسكان المدن في عموم روسيا وتتمتع كذلك بدرجة عالية من التركيز في الصناعة ( فإذا أخذنا مجمل تطور البلاد وجدنا أن الطبقة العمالية الروسية لم تنحدر من خزان الحرفية التعاونية بل من الوسط الريفي . ولم يأت العمال من المدينة بل من القرية . و يجدر بنا هنا أن نذكر  بأن البروليتاريا الروسية لم تتشكّل رويدا رويدا خلال قرون طويلة ، ولم تتطور حاملة معها أعباء الماضي كما هي الحالة في انجلترا و لكنها جاءت بوثبات ، وتبدلات مفاجئة للأوضاع والاتصالات والعلاقات وبقطع عنيف لكل ما كان قائما بالأمس . ولقد جاءت هذه الأسباب مجتمعة وسط نظام القمع القيصري المركزي فأدت إلى جعل العمال الروس مؤهلين لتقبّل أكثر الأفكار الثورية وجرأة تماما كما كانت الصناعة الروسية المتخلفة مؤهلة لتقبّل أحدث أساليب التنظيم الرأسمالي. ففي الوقت الذي تبلورت به العناصر البروليتارية ذات الأصول الطبقية الحقيقية في صناعة التعدين في بطرسبرغ بعد أن قطعت كل علاقتها مع القرية ، كان معظم العمال في الأورال من النوع نصف البروليتارى نصف الفلاحي . وكان سيل اليد العاملة القادم سنويا من الريف إلى مختلف فروع الصناعة ، يشكّل صلة الوصل بين البروليتاريا و الخزان الاجتماعي الذي انحدرت منه . وكان عجز البرجوازية السياسي محددا بطبيعة علاقتها مع البروليتاريا والفلاحين . ولم تكن هذه البرجوازية قادرة على أن تجّر وراءها عمالا يعارضونها بحقد في الحياة اليومية ويمتازون بأنهم تعلموا مبكرا كيف يعطون أهدافهم ومطالبهم معنى أوسع. وكانت البرجوازية من جهة أخرى عاجزة عن التأثير على طبقة الفلاحين نظرا لوقوع  البرجوازية في شبكة المصالح المشتركة مع الملاكين الزراعيين وخوفها من أية هزة تصيب الملكية  مهما كان شكل هذه الهزة...(2). إن المصالح المشتركة التي كانت لكل من البروليتاريا والبرجوازية الصغيرة كانت ناتجة عن تخلف البرجوازية الروسية عن انجاز مهمات الانقلاب الديمقراطي . وهو ما أنتج في روسيا وضعا متشابكا في علاقة هاتين الطبقتين في ما بينهما و في علاقتيهما بالطبقة البرجوازية في الثروة. وهو وضع يتشابه والى حد كبير والصورة التي رسمها ماركس الأوضاع في ألمانيا في كتاباته بين 1848 و 1850. فألمانيا مثلها مثل روسيا لم تشهد ثورة برجوازية والبرجوازية الألمانية بحكم تخلفها كانت طبقة غير قادرة على القيام بدور ثوري بالمقارنة مع سابقتها الفرنسية مثلا.
كانت البروليتاريا الألمانية طبقة جديدة في المجتمع ثورية و ناشئة. فالبرجوازية كانت تبحث عن التغيير لكن عن طريق المساومات والحلول الوسطيّة ولم تتمكن من التخلي عن السير في ذيل النظام القديم وعقد التحالفات معه وخيانة الشعب . لقد كانت طبقة ثورية بالعلاقة مع الطبقات المحافظة و محافظة بالعلاقة مع الطبقة  العاملة. ولقد بين ماركس أن ألمانيا لا يمكن لها أن تتحرر من الملكية والإقطاع الرجعي ومن كل ما هو محافظ وقديم إلا إذا تمكنت من أن تتحرّر من الطبقة البرجوازية التي توقفت عند تحقيق اليسير من مهامتها و أصبحت عاجزة من السير إلى النهاية فألمانيا لا يمكن لها أن تقوم بغير ثورة تقلب الأمور جميعا أي أن البروليتاريا هي التي عليها السير بهذه الثورة إلى النهاية حتى الاستيلاء على السلطة السياسية وإرساء دكتاتوريتها دون التوقف عند حدود برنامج البرجوازية الديمقراطية. فالمسألة ليست في تحويل الملكية الخاصة بل في إنهائها والقضاء على الطبقات والمهمة ليست أصلاحا سياسيا برجوازيا بل ثورة اشتراكية(3).
كانت الاشتراكية الديمقراطية الروسية قبل 1905 قد مرت بعدة مراحل ويمكن عموما تحديد بداية ظهورها إلى تاريخ تأسيس فرقة تحرير العمل بقيادة بليخانوف ولقد مثلت هذه المرحلة مرحلة ظهور وانتشار الأفكار الاشتراكية الديمقراطية في صفوف البرجوازية الصغيرة من المثقفين والطلاب الذين لم يكونوا على صلة كبيرة بالحركة العالمية ، وسرعان ما نمت في غضون العشر سنوات الأولى من ظهورها و ظهرت بوصفها حركة اجتماعية وسياسية(4). وبدأت في التوجه إلى الطبقة العاملة التي أخذت في استعمال سلاح الإضراب كوسيلة نضالية لتحسين أوضاعها المادية . لقد خاضت الاشتراكية الديمقراطية الروسية نضالا حادا من داخلها ضد كل الاتجاهات الإرهابية و الشعبوية والاقتصادية         والتحريضية هذا النضال الذي ظل متواصلا طيلة كامل تاريخها بعد تأسيس الحزب الاشتراكي الديمقراطي الروسي . وقد شمل الخلاف كل القضايا المتعلقة بالنضال السياسي و الإيديولوجي وتعددت أوجهه .
 كانت الاشتراكية الديمقراطية الروسية في سنواتها الأولى تعمل على الالتحام بالعمال حاملة إليهم النظرية الماركسية الثورية سلاحهم الوحيد في نضالهم لإسقاط الحكم المطلق  . كتب بليخانوف في تلك الفترة من التاريخ « ... من المؤكد أن الاشتراكي الديمقراطي لن يفعل إلا ما في وسعه لكن ميزة وضعه تستقيم في أنّ في وسعه أن يعمل من أجل الطبقة العاملة أكثر جدا من آي« اشتراكي ثوري » أنه سيحمل إلى الطبقة العاملة الوعي الذي لا يمكن بدونه التصدي للنضال الجدي ضد الرأسمال . وإذا ما حمل هذا الوعي مرة فإنه سيعطي الحركة الثورية قوة و استمرارا وجبروتا ما كان يمكن لنا أن نحلم بها قط إذا ما اقتصرنا على  « البرامج القديمة » إن وضع روسيا السياسي الحالي وهو أبعد ما يكون عن إرغامنا على التخلي عن العمل بين العمال يبين لنا على العكس من ذلك أننا لن نستطيع إلا بهذا العمل وحده أن نتخلص من النير الذي لا يطاق للحكم المطلق ». « مرة أخرى نقول إن تشكيل حزب عمالي بأسرع وقت ممكن هو الوسيلة الوحيدة من أجل حل جميع التناقضات الاقتصادية والسياسية في روسيا الحالية... هذا هو برنامجنا إنه لا يضحي بالريف من أجل المدينة ولا يجعل طبقة الفلاحين في مصلحة عمال الصناعة أنه يتخذ رسالة له أن ينظم القوى الاجتماعية الثورية في المدينة كي يجر الريف في حركة تاريخية على صعيد العالم بأسره»(5). وقد لخّص لينين الوضع الذّي كانت عليه الحركة الاشتراكيّة الديمقراطية الروسية سنت 1900 بقوله «إن الاشتراكية الديمقراطية هي اندماج الاشتراكية والحركة العمالية ومهمتها لا تقوم علي خدمة الحركة العمالية في كل من أطوارها خدمة هامدة غير فاعلة بل على تمثيل مصالح الحركة بمجملها ودلّها علي هدفها النهائي ومهماتها السياسية وصيانة استقلالها السياسي والفكري. وإذا ما انفصلت الحركة العمالية عن الاشتراكية الديمقراطية تفهت وتبرجزت حتما . فان الطبقة العاملة إذا ما حصرت نفسها في النضال الاقتصادي فقدت استقلالها السياسي وسارت في ذيل الأحزاب الأخرى وخانت تلك الوصية الكبيرة القائلة إن تحرير العمال يجب أن يكون من صنع العمال أنفسهم . إن جميع البلدان قد عرفت مرحلة كانت فيها الاشتراكية والحركة العمالية تعيشان أحداهما منفصلة عن الأخرى وتسيران كل منهما في طريقها ، وفي جميع البلدان آل هذا الانفصال إلي ضعف الاشتراكية وضعف الحركة العمالية  وفي جميع البلدان كان اندماج الاشتراكية والحركة العمالية هو وحده الذي أدّى إلي وضع أساس متين لكل منهما ولكن هذا الاندماج كان في كل بلد من نتاج التاريخ وجرى بسبل أصيلة تبعا لظروف الزمان والمكان . وفي روسيا أعلنت ضرورته نظريا منذ زمن بعيد  ولكنه لا يتم عمليا إلاّ في الوقت الحاضر . وهذا تفاعل صعب جدا ولا غرابة أذا ما رافقته شتي الترددات والشكوك »(6). يمكن القول إن الخصوصيات التي كان عليها الوضع في روسيا وطبيعة القوى الطبقية التي لها مصالح في الثورة وحدودها هي التي تفسر الاختلافات و التناقضات التي ظهرت و تطورت على أرضيتها مختلف الأحزاب السياسية في روسيا. لقد تأسس الحزب الاشتراكي الديمقراطي الروسي سنة 1901 وفي مؤتمره الثاني عام 1903 انقسم إلى أغلبية وأقلية جناح المناشفة وجناح البلاشفة . وكانت أسباب الانقسام لا تعود فقط إلي الاختلاف حول مسألة التنظيم الثوري و بالتحديد البند الأول من النظام الداخلي بل تعود أيضا إلي الاختلاف حول جملة من المسائل النظرية والسياسية المتعلقة بتحديد قيادة الثورة  والموقف من البرجوازية  .  وبرغم الأهمية التي عليها مسالة النظام الداخلي التي وقع الانقسام بسببها إلا أنها تبقى مجرد نقطة من نقاط كثيرة كانت محل اختلاف. وبرغم الانقسام بقى الجناحان اتجاهين متعارضين  داخل الحزب الاشتراكي الديمقراطي الروسي حتى سنة 1912 تاريخ انفصال البلاشفة و المناشفة نهائيا. فى سنة  1905 أسست البرجوازية   الليبرالية حزب «حرية الشعب» الحزب الدستوري الديمقراطي « الكاديت ». كان هذا الحزب يعمل على تأسيس ملكية دستورية محافظة كان « حزب الإصلاح السياسي بلا منازع».
مثّل المناشفة و البلاشفة و الحزب  الاشتراكي الثوري أبرز الاتجاهات السياسية التي كان لها دور كبير في الحياة السياسية في روسيا منذ 1905 . كان الحزب الاشتراكي الثوري حزب برجوازي صغير متعاون مع البرجوازية الليبرالية ينكر على البروليتاريا تمثيلها لدور القيادة في الثورة ويرى الفلاحين طبقة متجانسة لا تناقضات طبقية تشقها . كان برنامجه الزراعي يطالب بالقضاء على الملكية الخاصة للأرض وجعلها تحت تصرف المشاعات الفلاحية وينادي بحق التمتع المتساوي بالأرض . انشق عن هذا الحزب جناحه اليساري سنة 1917 وسمّى نفسه الحزب الاشتراكي الثوري اليساري وتبنّى البرنامج البلشفي لثورة أكتوبر حول دكتاتورية البروليتاريا . وشارك في الثورة وشغل بعض زعاماته مناصب في الحكومة السوفييتية . ومثّل المناشفة و البلاشفة التيارين الأساسيين في الحزب الاشتراكي الديمقراطي الروسي وفي الحركة العمالية وتشكلت المنشفية منذ سنة 1903 كتيار عمالي إصلاحي برجوازي صغير يستند إلى شريحة الأرستقراطية العمالية والي الفئات العمالية القريبة في موقعها الطبقي وفي وعيها من البرجوازية الصغيرة والتي قطعت صلتها بالثورة في حين كان البلاشفة يمثلون الجناح الثوري للطبقة العاملة ويستندون إلي الشرائح البروليتارية الأشد ثورية وتمركزا وخاصة في الصناعة الكبيرة وعلى العناصر الأشد حماسا وقدرة على الاستمرار في النضال .
كان الخلاف القائم بين المناشفة و البلاشفة يتلخص في أن المنشفية كانت تيارا يرى أن الثورة القادمة ثورة برجوازية بقيادة برجوازية وسترسي سلطة برجوازية ديمقراطية وعلى البروليتاريا أن تعمل على الاستفادة من الوضع الذي ستقيمه الثورة البرجوازية،فالتناقض في رأي المناشفة قائم بين الطبقة البرجوازية والمجتمع القديم الإقطاعي والماقبل رأسمالي . وكان البلاشفة أيضا يعتبرون الثورة القادمة ثورة برجوازية إلاّ أن خلافهم مع المناشفة لم يكن على طبيعة الثورة  بل كان على قيادة هذه الثورة ، ففي الوقت الذي أنكر فيه المناشفة هذا الدور عل العمال و الفلاحين ، شدّد البلاشفة على ضرورة التحالف بين هاتين الطبقتين للقيام بالثورة البرجوازية وقيادتها فقد أصبحت البرجوازية عاجزة عن القيام بثورتها الخاصة والديكتاتورية الديمقراطية للعمال والفلاحين والتي لا تشبه في شيء دكتاتورية البروليتاريا بل تتعارض معها هي السلطة البدلية التي ستنبثق عن هذه الثورة . فالمهمة ليست إقامة مجتمع اشتراكي بقدر ما هي ثورة على كل ما هو قديم . وكان برنامج البلاشفة يرتكز على ثلاث نقاط في الفترة الممتدّة من 1905 إلى أفريل 1917 .
ـــ الجمهورية الديمقراطية
 ـــ مصادرة أراضي الملاكين والنبلاء
ـــ يوم العمل من 8 ساعات . 
لقد أنكر البلاشفة هم أيضا ورغم تباينهم الكامل مع المناشفة على روسيا إمكانية المرور إلى الاشتراكية ومثلت صيغة الدكتورية الديمقراطية للعمال والفلاحين صيغة وسطية ستتجاوزها البلشفية أثناء التطور الفعلي لسير الثورة نحو الثورة الاشتراكية ودكتاتورية البروليتاريا سنة 1917 . لقد كان البلاشفة قبل سنة 1917 يرون بأن الثورة ستكون ديمقراطية أما الثورة الاشتراكية فإنها مرحلة أخرى مستقلة بذاتها رغم تشديد لينين على أن الثورتين غير مفصولتين بسور صيني. ومهما كان الاختلاف عن المناشفة أصحاب نظرية الحقوق التاريخية لسلطة البرجوازية فإنهم (البلاشفة) بقوا دون تحديد كيفية الانتقال إلى الاشتراكية وقد كان برنامجهم بوصفة برنامج حد أدني يدعو إلى إحلال الجمهورية الديمقراطية محل الحكم الاوتوقراطى بواسطة انتفاضة شعبية تنبثق عنها حكومة ثورية مؤقتة قادرة على تأمين انجاز برنامج الحريات السياسية وتلبية جميع المطالب الاقتصادية المباشرة والقابلة للتحقيق وتعقد جمعية تأسيسية تمثل الشعب بأسره . وقد وضّح ذلك لينين في خطّتا الاشتراكية الديمقراطية بقوله:« إن الانقلاب الديمقراطي انقلاب برجوازي . وشعار التّقسيم الأسود أو شعار الأرض والحرية  وهو أوسع الشعارات انتشارا بين جماهير الفلاّحين الجاهلة والمستعبدة ، ولكنها التي تسعي بشغف وراء النور والسعادة ، شعار برجوازي  غير أننا نحن الماركسيين يجب علينا أن نعرف أنه ليس هناك ولا يمكن أن يكون للبروليتاريا والفلاّحين إلا سبيل واحد إلي الحرية الحقيقية ، وهو سبيل الحرية البرجوازية و التقدم البرجوازي . وينبغي لنا أن لا ننسي أن ليست هناك اليوم و لا يمكن إن تكون إلا وسيلة واحدة لتقريب  الاشتراكية وهى الحرية السياسية التامة والجمهورية الديمقراطية ودكتاتورية البروليتاريا والفلاحين الديمقراطية الثورية . ونحن بوصفنا ممثلي الطبقة الطليعية الطبقة الثورية الوحيدة ، الثورية بلا تحفظ  بلا تردد  بلا نظرة إلى الوراء يترتب علينا أن نضع أمام الشعب كله مهمات الانقلاب الديمقراطي بأكثر ما يمكن من الاتساع والجرأة والمبادرة»(7). وهكذا حصر برنامج البلاشفة الأدنى البروليتاريا في  حدود البرنامج الديمقراطي . إن تطور العلاقات الطبقية منذ 1905 في روسيا  والدور الذي لعبته القوى المحركة للصراع الطبقي هو الذي بيّن إلى أي مدى كان مصير الثروة منذ فيفرى 1917 مرتبطا بتجاوز الصيغ البلشفية القديمة. لقد كان الامتحان الأخير للنظرية هو ميدان التجربة بالذات فلم تتوقف الثروة عند حدود البرنامج الديمقراطي والدكتاتورية الديمقراطية للعمال و الفلاحين بل اندفعت إلى مداها الأخير . وعلى امتداد ثمانية أشهر كانت البروليتاريا الروسية وبقيادة الحزب البلشفي تعمل وبصفة دائمة ومستمرة من أجل دكتاتورية البروليتاريا والثورة الاشتراكية .
2 ـ سقوط القيصرية وتحول السلطة إلى البورجوازية
كيف نشأ الوضع الثوري ؟
 كيف سقطت السلطة القيصرية في فيفري 1917 ؟
 من المؤكد أنه ما كان لنتائج الحرب بحد ذاتها أن تخلق وضعا ثوريا . لقد كانت عاملا من عدة عوامل أخرى أدت غلى الإفلاس التام لنظام الملكية القيصرية . ففي الأشهر الأخيرة من عام 1916 اشتدت حدّة الأزمة الاجتماعية في روسيا ولم تتمكن الطبقات المالكة و الماسكة بالسلطة من احتواء الوضع وتخفيف هذه الأزمة ورفضت القيصرية إجراء اتفاق سياسي مع البورجوازية الليبيرية ، فما كان بمقدورها تقديم أي تنازلات أو القيام بأي إصلاحات وكأنها ما تعلمت شيئا من تجربتها في ثورة 1905 التي أجبرت القيصر وقتها على إجراء بعض الإصلاحات الاقتصادية و السياسية ( إصلاح ستوليبين ــــ و الدستور الملكي ) التي سرعان ما تراجع عنها وألغاها في فترة لاحقة فترة الردة السوداء .
كانت البورجوازية الليبرالية تسعى إلى إرساء ملكية برلمانية وهو أقصى ما كانت تطمح إليه وبرغم اقتناعها بإفلاس القيصرية كسلطة سياسية فهي لم تبادر لإنقاذ نفسها . لقد كانت جبانة خمولة ومساومة متعلقة بالأسياد النبلاء الإقطاعيين وبسلطة القيصر . وبدت الحكومة عاجزة عن أخذ أي إجراء، أو إصلاح من شأنه أن يخفف، أو يحدّ من تطور الأزمة. وقد ضاعف هذا الوضع حالة البؤس في صفوف الفلاحين والجنود والعمال فاشتدّ التذمّر، وتوسّع البؤس وانتشر في صفوف الطبقات الفقيرة وغير المالكة. وأصبحت الثورة المخرج و المنقذ الوحيد للجماهير التي تزايد حقدها على النظام القائم واقتناعها بعجز هؤلاء الحكام. ففي صفوف الجماهير كانت توجد عناصر كثيرة من أولائك العمال الذين خاضوا معركة ثورة 1905 وبحكم التجربة وتطور الوعي أصبحوا قادرين على استخلاص الاستنتاجات الثورية ونشرها بين الجماهير . فهؤلاء العمال هم الذين سيحققون إنتصار ثورة فيفري 1917 . لكن وبرغم قيادتهم للثورة ما كان بوسعهم أن يؤمّنوا السلطة السياسية في هذه الثورة للطبقة العاملة .
 في بداية شهر فيفري 1917 وبالتحديد في مدينة بتروغراد وكذلك في معظم المراكز الصناعية الكبيرة في المدن الأخرى أين تتمركز الطبقة العاملة كان كل إضراب أو تحرك جماهيري قابلا للتحول إلى صدام مع السلطة فالأوضاع تتشكّل وبسرعة كبيرة في حالة وضع ثوري قابل للتفجر عند أول مواجهة على عكس ما كانت ترى لجنة دائرة فيبورغ للحزب البلشفي التي قدرت أن لحظة المواجهة  لم تحن بعد فالحزب البلشفي مازال لم يتخط  بعد وضع الضعف الذي هو عليه بحكم القمع القيصري الذي طاله أثناء الحرب وشمل أغلب قياداته و الالتحام بين العمال و الجنود والتحالف مع الحركة الفلاحية مازال متعثرا إلا أن لجنة دائرة فيبورغ وجدت نفسها مضطرة إلى تعديل مواقفها على خطوات الحركة الجماهيرية التي لم  يعد في وسعها الانتظار .
 لقد كانت شرارة انطلاق الثورة إضراب عاملات النسيج الذي أدى إلى إعلان الإضراب العام في بتروغراد كلها في أواخر شهر فيفري 1917 واتسعت الإضرابات العمالية وخرج العمال المضربون إلى الشوارع في مظاهرات وحشود كبيرة خاضت معارك مع البوليس وعقد العمال الاجتماعات في المصانع والساحات وظهرت شعارات رددتها الجماهير المنتفضة « فليسقط الاستبداد » « ولتسقط الحرب » . لقد كانت الجماهير في هذه الأيام وخاصة في اليوم الأول تعتقد أن المظاهرات سيقع قمعها وستتصدّى لها الحكومة بكل قوة بحكم أن البلد في حالة حرب . إلا أن الأمور سارت على غير هذا التوقّع . فبرغم محاولات تفريق المظاهرات فإن الجماهير أخذت تنتظم بشكل ذاتي وتتشكل في مفارز صغيرة لتعود إلى التجمع و تكوّن جماعات كبيرة تتصدى بكل قوة وإصرار ثوري لرجال الشرطة . لقد كانت الجماهير تكنّ لهذه المؤسسة عداء كبيرا وكان الأمر يختلف مع الجنود الذين امتنعوا بدورهم عن تفريق العمال أو إطلاق الرصاص عليهم .
كانت هذه الظاهرة ذات أهمية كبيرة بالنسبة للعمال الذين عملوا ومن اليوم الأول للثورة على الالتحام بالجنود وكسبهم لصالح الثورة . فعلى كسب هذا الجمهور الكبير و المسلح سيتوقف مستقبل الأحداث.
تواصلت الإضرابات وأخذت تتّسع لتشمل مختلف فروع الصناعة و النقل و المؤسسات الصغيرة           والطلاب وبدأت حركة الإضرابات و المظاهرات العمّالية تلتحم بجماهير الأحياء وتتوسع وتمتدّ حتى شملت حوالي 240 ألف عامل في بتروغراد وحدها . وبدأت جموع العمال في تنظيم الاجتماعات واشتبكت مع قوات الشرطة التي أطلقت نيران أسلحتها على الحشود . وأمام هذا الوضع قررت السلطة القيصرية وضع حد لهذه الحالة فقد هدّدت بارسال العمال الذين لن يلتحقوا بأعمالهم إلى الجبهة .
تميزت الأيام الثلاثة الأولى للانتفاضة بالشمول والاتساع و بإصرار الجماهير على كسب المعركة . كان اعتقال حوالي 100 من المناضلين النشيطين من بينهم 5 أعضاء لجنة بلا شفة بتروغراد بمثابة الإعلان الصريح من الحكومة على أنها لن تسمح بتواصل موجة الإضرابات والمظاهرات ، فهي تراقب الوضع بحذر ، وقد اختارت هذه اللحظة لمواجهة الثورة . إنه إعلان بأن الحكومة قد نقلت المعركة إلى مرحلتها الحاسمة . لقد بدأت الحكومة هجومها المضاد .
فليسقط القيصر هذا الشعار كان هو الحافز الكامن وراء إصرار الجماهير على المضي قدما وعلى تطوير أشكال المواجهة ، وتمكن العمال من السيطرة على كامل أحياء فيبورغ وتسلحوا بسلاح الشرطة الذي نزع منها وأصبح قطاع كبير من أحياء بتروغراد تحت سيطرة العمال . وتدخل الجيش وخاصة أفراده المنتمون إلى مدارس ضباط الصف لقمع جماهير العمال الذين سيطروا على المدينة وسقط حوالي 40 قتيلا حسب تروتسكي في تاريخ الثورة الروسية .
لقد أصبحت الجماهير في هذا الوقت علي قناعة تامة بأن الثورة في طريق الانتصار فارتفعت الشعارات المدوّية بسقوط الحكم المستبدّ و بإنهاء الحرب. لقد أصبحت الجماهير تثق في قوّتها الذاتية وازداد العمال إصرارا علي كسب جماهير الجنود الذين يدركون أكثر من غيرهم مغزى شعار فلتسقط الحرب. وأصبحوا أكثر تصميما علي متابعة المعركة ، إنهم علي اقتناع تام بالانتصار. لقد كان اليوم الثالث من الانتفاضة يوما حاسما في تاريخ الثورة فقد بدا واضحا يومها أن الجنود قد انتقلوا من موقع الحياد إلي المساندة الفعالة للعمال و جماهير الأحياء ، وتمرّدت كتائب جنود الاحتياط في الثكنات ، وخرجت إلي المعركة      ورفضت قوات مدارس ضباط الصف في الأيام الموالية السّير لمواجهة العمال ، ورفض الجنود تسليم السلاح ،وانظم فوج موسكو إلى الثورة وانتشرت الانتفاضة في قطعات الجيش الأخرى وانحلت حامية القيصر وتمكنت الجماهير من التقدم إلى قصر توريد واعتقلت وزراء القيصر وعددا كبيرا من الضباط والحرس وأفرجت عن الموقوفين السياسيين الذين كان من بينهم أعضاء لجنة بتروغراد البلشفية . كان القيصر قد أصدر قرارا بحل مجلس الدوما وقد سبقت ذلك لقاءات بين وزراء الحكومة القيصرية وأعضاء كتلة الدوما في محاولة للوصول إلى اتفاق يقضي باستقالة الحكومة وتعيين حكومة جديدة تكون مقبولة في نظر الشعب لتهدئته . إلاّ أن كل هذه المحاولات لم تؤد إلى نتيجة تذكر  .
إلي جانب المعارك المسلحة في الشوارع والإحياء كانت الأزمة السياسية للنظام القائم على أبواب الانفجار والمعركة تحتد بين جناحي النظام المتهرئ : الحكومة وكتلة أعضاء الدوما. كان قرار حلّ مجلس الدوما أخر قرار اتخذه القيصر وكان قراره الأخير هذا من حيث تاريخ صدوره غير متوقع بالمرة  ولا يخدم في شيء قوى الثورة المضادة و النظام القيصري. ففى الوقت الذي كان يسود فيه الارتباك والانحلال أعلي هرم السلطة السياسية ويعمل قسم من أعضاء الدوما المنحل على إنقاذ الوضع كانت الجماهير تزحف نحو قصر توريد وتنشئ سلطتها الجديدة . لقد علّمت تجربة وخبرة 1905 العمال كيف يمكن لهم التحرك في الوقت المناسب وكيف يمكن لهم أنشاء سلطتهم الخاصة والتقى المناشفة وأعضاء لجنة الصناعات الحربية الذين أخلي سبيلهم من السجن في قصر توريد بممثلين نشيطين عن الحركة النقابية وحركة التضامن المنتمين إلى النجاح اليميني ذاته ومع البرلمانيين المناشفة... وشكلوا فورا لجنة تنفيذية مؤقتة لسوفييت مندوبي العمال أنظمّ إليها بصورة أساسية في ذلك اليوم الثوريون القدماء ، الذين فقدوا الاتصال مع الجماهير ولكن أسماءهم مازالت معروفة . وأنظم البلاشفة أيضا إلى اللجنة التنفيذية ودعت هذه اللجنة العمال إلى انتخاب مندوبيهم بسرعة و حدّدت الجلسة الأولى لمجلس السوفييتيات في مساء اليوم ذاته في قصر توريد ... وأقر مجلس السوفييتيات تشكيل اللجنة التنفيذية وعيّن فيها ممثلين رسميين عن كل الأحزاب «الاشتراكية» بالإضافة إلى أعضائها السابقين...وقد تقرر في هذه الجلسة الأولى توحيد الحامية مع العمال في مجلس واحد هو سوفييت مندوبي العمال و الجنود.وبدأ مجلس السوفييت منذ اللحظة التي تشكل فيها يمارس عمله كسلطة حكومية بواسطة لجنته التنفيذية (1). وفي الحال شرعت اللجنة التنفيذية في ممارسة مهامها بدعم من الجماهير الملتفة حولها ، وقررت احتلال المصرف المركزي ، ووزارة الحربية ... الخ. لقد أصبحت اللجنة التنفيذية في عيون جماهير العمال والجنود مركزا لكل سلطاتهم وتجسيدا       لإرادتهم الثورية .
في الجهة الأخرى إستمرّ أعضاء مجلس الدوما يعملون لإنقاذ الوضع وانتخبوا « لجة مؤقتة لأعضاء الدوما» اجتهدوا في إظهارها بمثابة جهاز غير رسمي مهماته « إعادة النظام وإقامة العلاقات مع المؤسسات والشخصيات » بهذه الصيغة المبهمة والفضفاضة ظهرت البورجوازية عشية الثورة تعمل على أخذ السلطة وهي التي ضلت تراقب الأوضاع وتطور الثورة التي كانت تمثل بالنسبة إليها الخطر الكبير الذي يهدد مصالحها ، لم تكن تفكر أن الأوضاع ستتطور بهذا الشكل، وهي الطبقة التي ما قدرت يوما على فّك ارتباطها بالسلطة القيصرية وأن الجماهير الثائرة والمسلحة والطبقة الثورية التي أسقطت القيصر ستضع وفي آخر المطاف السلطة بين أيدي أعدائها الطبقيين .
لقد كان المناشفة والاشتراكيون الثوريون وبرغم تشكيل اللجنة التنفيذية للسوفييت يرون أن انتقال السلطة إلي البرجوازية أمر طبيعي ونتيجة حتمية للمسار الثوري لثورة برجوازية و بدأت اللجنة التنفيذية ترتب أمر تسليم السلطة للبرجوازية منذ اليوم الأول للانتصار . لقد كان تسليم السلطة للبرجوازية التي شكلت فيما بعد الحكومة المؤقتة دليلا علي العجز الذاتي الذي أصاب القوى الثورية وجماهير العمال والجنود الذين  منحوا ثقتهم في اللجنة التنفيذية وسلّموها السلطة هذه اللجنة التي سلمتها بدورها للطبقة البرجوازية. وهكذا وضعت الجماهير حاجزا بينها و بين أهدافها و لم يعد بمقدورها التقدم والاستمرار دون تحطيم هذا الحاجز. لقد ارتبكت الثروة أولى أخطائها و عليها أن تستمر 8 أشهر في وضع من ازدواجية السلطات حتى يمكنها تحطيم هذا الحاجز الذي أقامته بنفسها.
كانت هذه المفارقة الكبرى التي أرستها الثورة في فيفري1917.
كيف نفسر مرور السلطة إلى الطبقة البرجوازية وما هي أسباب التراجع الذي حدث؟ لتوضح ذالك لابد من الإجابة على بعض الأسئلة .
ـ ما هي موازين القوى السياسية التي أقامتها الثورة ؟
ـ هل كانت اللجنة التنفيذية للسوفييت جهازا ثوريا ؟
ـ كيف تعامل البلاشفة مع الأحداث وماذا كانت شعاراتهم ؟
لم تكن البرجوازية الليبرالية على ثقة تامة بان السلطة التي تسلّمتها بعد انتصار الثورة على القيصرية ستعرف كيف تحافظ عليها ، وهو ما يفسر الارتباك الذي حصل لها أثناء تشكيلها للحكومة المؤقتة لأنها كانت مقتنعة أن الثورة قد رسمت خطا فاصلا بينها وبين الطبقات الثورية . لقد أنشأت الثورة توازنات طبقية جديدة في المجتمع أنتجت تحالفات بين القوى السياسية طبعت الثورة منذ الأيام الأولى لانتصارها بطابعها . ففي الوقت الذي لم تكن فيه الجماهير ترغب في المحافظة على أجهزة السلطة القديمة سلم المناشفة والاشتراكيون الثوريون السلطة  إلى الطبقة البرجوازية وتحالفوا معها ضد الشعب والثورة .
كانت الجماهير قد أنشأت جهاز سلطتها الخاص السوفييتات إلا أنها لم تكن تعي أنها وضعت ثقتها في الممثلين التاريخيين للديمقراطية البرجوازية الصغيرة. لقد دعمت جماهير العمال والجنود المناشفة والاشتراكيين الثوريين وانتخبتهم في قيادة السوفييتيات ليس فقط لكون هؤلاء ضد القيصر بل كذلك لتوهم العمال أنهم أيضا ضد البرجوازية  ( وهذا ما سيثبته الانعطاف اللاحق للجماهير في اتجاه البلاشفة ) وكذلك لاعتقاد الجماهير أن هذين الحزبين قادران علي إنهاء الحرب وتوزيع الأرض وإقرار يوم العمل من 8 ساعات وعقد الجمعية التأسيسية الخ ...إن تسليم السلطة للبرجوازية ناتج عن عدم ثقة الديمقراطية البرجوازية الصغيرة بقواها وقوى الجماهير والطبقة العاملة، لقد كانت تخشى تطور الأوضاع في اتجاه لا ترضاه فأوقفت الثورة عند خطوتها الأولى : إسقاط القيصرية ، وإرساء الانقلاب البرجوازي .
كانت هذه هي الثورة التي طالما نادي بها زعماء البرجوازية الصغيرة وانتظروها . فلتتوقف الثورة عند هذا الحد ولتتسلّم البرجوازية السلطة هكذا أصبحت الديمقراطية البرجوازية الصغيرة تلعب دور الكابح للتطور الموضوعي للثورة . لقد أدى هذا الموقف بالمناشفة والاشتراكيين الثوريين إلى التحالف مع البرجوازية الليبرالية ولم يكن هذا التحالف يعني وفي مثل تلك الأوضاع بالذات غير خيانة سافرة للطبقة العاملة كما لم يكن يعني تحالف المناشفة والاشتراكيين الثوريين في السوفييتات تحالفا بين العمال والفلاحين بقدر ما كان يقوم دليلا قاطعا على قطع هذين الحزبين لأي صلة لهما بمصالح البروليتاريا والفلاحين الحقيقية . لقد تحول الحزبان إلى ذيل لحزب الكاديت وأحزاب الطبقات الرجعية .
إذن يمكن القول أن الوضع بعد الثورة أصبح على الصورة التالية تجمعت الطبقة البرجوازية بكل مكوناتها مع بقايا الرجعية الملكية في حزب الكاديت الذي أصبح الممثل السياسي لطبقة البرجوازية الليبرالية وانحازت الأغلبية الساحقة للجماهير لحزبي المناشفة و الاشتراكيين الثوريين الذين أصبحا الممثلين  السياسيين للطبقة البرجوازية الصغيرة الذي سلمت السلطة للبرجوازية وتذيلت لها  في حين لم يتمكن الحزب البلشفي من أن يتصرف كحزب ممثل للطبقة العاملة وبقى في شبه شلل تام وظهر وكأنه ممثل الجناح اليساري للديمقراطية البرجوازية الصغيرة وظلت السوفييتات جهازا قائما انبثق من الوضع الثوري تجسّد إلى جانب الحكومة المؤقتة إزدواجية السلطة التي نشأت لما تراجع المناشفة والاشتراكيون الثوريون عن الثورة .
من المعلوم إن ثورة فيفري إنتصرت قبل أن يتمكن العمال من إنشاء سوفييتاتهم . ومن المعلوم أيضا ، أن الجنة التنفيذية للسوفييتات قد شكلت قبل تكون سوفييتات القاعدة ، لكن ما تجدر ملاحظته هو أن اللجنة قد تكونت في وضع اتسم بالفوضى والاندفاع والعفوية ويبين تروتسكي في معرض حديثه عن تكون اللجنة التنفيذية للسوفييت فيقول :«عندما تأخذ الأحداث اتجاه ثوريا ، ويتحطم نظام التسلسل كله ، تتمسك الشرائح « المثقفة » المدعوة للمشاركة بالسلطة بالأسماء والرموز المرتبطة بالذكريات البطولية للجماهير . وتخفي الكلمات عادة روح الأشياء وجوهرها خاصة عندما يتعلق الأمر بمصالح الشرائح المسيطرة ... ولكن الطبيعة المعتدلة التوفيقية التي اتسمت بها اللجنة التنفيذية والسوفييت لم تأت من الظروف التي أحاطت بتشكيلها فحسب ، بل ساعد على ذلك أسباب أكثر عمقا وأبعد مدى ... وكانت نسبة التمثيل مطاطة مرنة إلى حد كبير... وبالإضافة إلى ذلك فإن انتخاب كافة المندوبين لم يتمّ من قبل العمال ! فلقد قبل السوفييت عددا من الأشخاص بناء على دعوة شخصية ، أو لتمتعهم بحماية مجموعة ما ، أو بفضل ألاعيبهم الفردية ... ولقد وافق الزعماء على هذا الإفساد الأكيد لطبيعة السوفييت ، نظرا لرغبتهم في تخفيف حدة مندوبي المصانع والثكنات ببعض ممثلي البورجوازية الصغيرة »(2). وتشكلت اللجنة التنفيذية من 39 عضوا من بينهم 11 عضوا من البلاشفة فيهم 3 أعضاء من اللجنة المركزية للحزب البلشفي .
وبدأت السوفييتات تتشكل في كامل البلاد وبدأت هيمنة المناشفة والاشتراكيين الثوريين على قيادة هذه المجالس تتعاظم . وتحالف الحزبان وتجاوزا بعض خلافتهما القديمة . لقد وضعتهما الثورة على نفس الخط . كانت اللجنة التنفيذية بتركيبتها . تحت قيادة الأغلبية ( المناشفة والاشتراكيون الثوريون ) وتراءس « تشخيدزه » المنشفي اللجنة التنفيذية للسوفييتات التي دعمت الحكومة المؤقتة بعد أن سلمت لها السلطة  وأصدرت اللجنة في الأيام الأولى من تشكّلها قرارا ينظّم صدور الصحف ويمنع الصحف الملكية من الصدور، ما لبثت أن تراجعت عنه تحت ضغوطات البرجوازية وصمتت هذه اللجنة عن مسألة الجمهورية الديمقراطية ، وعن مسألة الحرب ، وعن يوم العمل من 8 ساعات وعن الجمعية  التأسيسية والإصلاح الزراعي، وهكذا أبدت تراجعها  منذ أيامها الأولى أمام مطالب الحركة الشعبية التي لا تقبل التأخير ،وأصبحت جهازا توفيقيا مرتبطا بالبرجوازية قد قطع كل صلة له بطبقة العاملة و الفلاحين .
أم بالنسبة للحزب البلشفي فرغم مشاركته الفعالة في إسقاط السلطة القيصرية ورغم النضال البطولي الذي خاضته قاعدته العمالية الواسعة في مصانع وأحياء بتروغراد وتأثير ذلك على دفع الثورة إلى الأمام فإنه ظهر بعد الانتصار على القيصرية على درجة كبيرة من التردّد و المراوحة ، ولم يكن بمقدوره التصرف كحزب بروليتاري يسعى إلى أخذ السلطة . وقد أستمر على هذه الحالة حتى انعقاد المجلس العام السابع في أفريل .
كان أول بيان أصدرته اللجنة المركزية للحزب البلشفي بعد الثورة مباشرة وإبان الصراع الذي صاحب تسليم السلطة للبرجوازية ودعم اللجنة التنفيذية للحكومة المؤقتة يقول :« على عمال المصانع، وعلى جنود القطعات العسكرية الثائرة أن يعملوا فورا على أنتخاب مندوبيهم للحكومة المؤقتة »(3). هذه الصيغة المبهمة والغامضة في مثل تلك الأوضاع كانت شعارا غير عملي بالمرة فهي صيغة نظرية متناقضة تعود إلي سنة 1905 حين كان لينين يقول « أماّ البروليتاريا الثوريّة  فأنّها مادامت تسير بقيادة الاشتراكية الدّيمقراطية تطالب بنقل كامل السلطة إلي الجمعية التّأسيسية ولهذا الهدف لا تناضل في سبيل الاقتراع العام وحرية التحريض التامة وحسب إنما تناضل أيضا من أجل دك حكومة القيصر فورا والاستعاضة عنها بحكومة ثورية مؤقتة.» (4).
وفي جلسة السوفييت التي ناقشت مسألة انتقال السلطة إلى البرجوازية والتي حضرها 400 مندوبا صوت منهم ضد نقل السلطة 11 عضوا في الوقت الذي كانت المجموعة البلشفية في هذه الجلسة تعد 40 مندوبا ! لقد كان موقف البلاشفة من طبيعة الثورة وأفاق تطورها ودور الطبقة العاملة فيها موقفا غامضا . فلما نظمت لجنة فيبورغ اجتماعا حضره ألاف العمال والجنود وقرروا ضرورة إستيلاء السوفييت على السلطة ورفضوا تسليمها تدخلت لجنة بتروغراد البلشفية ورفضت القرار وأوقفت مواصلة الدعوة له وأجبرت عمال فيبورغ على تركه وكتبت البرافدا في عددها الأول :« المهمة الأساسية هي إقامة نظام جمهوري ديمقراطي »(5). وأصدرت لجنة موسكو البلشفية تعليمات لممثلي العمال تقول :« تستهدف البروليتاريا الحصول على الحرية بغية النضال في سبيل الاشتراكية التي تمثل هدفها النهائي »(6). لم تكن تعني هذه التعليمات في الواقع غير التأكيد على أن الثورة ثورة برجوازية وأن المهمة الملحة هي الحصول على الحريات السياسية وقد كان ذلك يعني سياسيا سلوك سياسة ديمقراطية برجوازية صغيرة والتخلي عن مهمات التحريض من أجل أخذ السلطة وتأجيل الاشتراكية .
يقول أحد زعماء تنظيم ساراتوف البلشفي :« إن حزبنا الذي شارك في الانتفاضة بشكل فعال قد تخلى بكل وضوح عن سلطته بين الجماهير .وترك هذه السلطة لتسقط بين أيدي المناشفة والاشتراكيين الثوريين . ولم يكن أحد يعرف ما هي شعارات البلاشفة آنذاك ... وكانت الصورة سيئة إلى حد بعيد.»(7) كل هذه الاستشهادات تعكس إلى أي حد وصل الاضطراب فقد أصبح الحزب يتخبط في جملة من المفاهيم والأفكار المتناقضة التي لا يربط بينها أي رابط والمهمات الحقيقية التي كانت على الحزب أن يقوم بها في صفوف الطبقة العاملة من أجل التقدم بالثورة وأخذ السلطة السياسية.
 لقد كان الحزب البلشفي أسيرا للشعار القديم: الدكتاتورية الديمقراطية للعمال والفلاحين ولم يتمكن زعماؤه أسرى الماضي من تحليل الواقع الملموس وتحديد الشعارات الملائمة للتحولات التي حدثت . لقد بينت الأحداث أي مدى كان يفصل قناعات الماضي عن طبيعة المهمات التي يتطلبها الحاضر . وازدادت الأزمة التي يتخبط فيها الحزب عمقا لما عاد ستالين و كامينيف من المنفى حيث دفعا الحزب دفعة كبيرة في اتجاه سياسة أكثر يمينية . وتولى كل من ستالين و كامينيف ومورانوف إثرعودتهم مهمة إدارة صحيفة البرافدا بعد أن أزاحوا أعضاء هيئة التحرير القديمة لأنها في رأيهم كانت يسارية أكثر من اللزوم وأعلنوا في المقال البرنامج الذي عرضوه استعدادهم لدعم الحكومة المؤقتة.  «إذا عمدت هذه الحكومة إلى القتال ضد الرجعية والثورة المضادة»(8). وأضافوا « أننا لن نرفع شعار فلتسقط الحرب! وشعرنا هو الضغط على الحكومة المؤقتة لإجبارها على القيام بمحاولات تستهدف دفع كافة البلاد المتحاربة للبدء بالمفوضات مباشرة ...ولكن حتى يتم ذلك ، ينبغي على كل فرد أن يبقى في موقعه القتالي »(9). ويقول «شليابنيكوف » وهو بلشفي في حديثه عن البرافدا تحت إدارة ستالين وكامينيف و مورانوف :« كان يوم ظهور أول عدد من إعداد البرافدا بعد التعديلات التي دخلت عليها ... يوم فرح بنسبة لأنصار الدفاع الوطني .»
وتناقل الناس في كافة أرجاء قصر توريد من رجال أعمال لجنة دوما الدولة  إلى قلب الديمقراطية الثورية اللجنة التنفيذية نبأ هما واحدا هو: انتصار البلاشفة المعتدلين العاقلين على البلاشفة المتطرفين ...وما إن وصل هذا العدد من صحيفة البرافدا إلى المصانع حتى أصيب البلاشفة ومؤيدوهم بدهشة عميقة ... وكان التذمر والسخط في الأحياء كبيرين . وعندما علم البروليتاريون أن البرافدا سقطت من جديد بين أيدي ثلاثة من زعمائها القدامى بعد عودتهم من سيبيريا  طالبوا بطرد هؤلاء القادة من الحزب فورا »(10). وتحت ضغط قاعدة الحزب واضطرارا نشرت البرافدا احتجاجا ساخطا قدمته لجنة فيبورغ يقول :« إن على الصحيفة أذا أرادت ألا تخسر ثقة الأحياء العمالية أن ترفع نورالضّمير الثوري وسترفعه حتما مهما كان هذا النّور حادا ... »(11). وكان موقف ستالين من الاقتراح الذي قدّم حول اندماج البلاشفة مع المناشفة هو التّالي : «إن علينا أن نوافق . ومن الضروري تحديد مقترحاتنا حول خط التوحيد . والتّوحيد ممكن بناء علي  خط زيميرفألد كينتال»(12). في الوقت الذي كان يعلن فيه ستالين عن استعداد الحزب البلشفي لإزالة الخلافات والتّوحّد مع المناشفة فان لينين وبعد تصريح ستالين بثلاثة أيّام بالضبط قال«سمعت بأنّ في روسيا تيارا وحدويا إن الوحدة مع أنصار الدّفاع الوطني تعني خيانة الاشتراكية. »(13).وكان لينين قد ردّ منذ 1916 على مثل هذه الميولات فكتب « إن روح التوفيقية والتوحيد لمن أسوأ الأمور بالنسبة للحزب العمالي في روسيا . ليست هذه الروح حماقة فحسب ولكنها ضياع الحزب كله... ولن نستطيع الاعتماد إلاّ على من فهموا كل الفهم خدعة فكرة الوحدة...»(14). وقد كان لينين يرى أنه من غير الملائم حتى مجرد تقاسم اسم الاشتراكية الديمقراطية مع « اشتراكية الدفاع الوطني » وقد عمل على إصلاح برنامج الحزب من كل الميولات الوسطية والتوفيقية و تخليصه من الأفكار الديمقراطية البرجوازية الصغيرة المفعمة بروح الوفاق الطبقي والتنازل والتذيل للمناشفة والاشتراكيين الثوريين وكان تحريضه الجديد على الحزب البلشفي والمعارض لمواقف أغلبية قيادته يتمحور حول ثلاث نقاط هي :
ــ فك الارتباط بالمنشفية والاشتراكيين الثوريين .
ــ عدم مساندة الحكومة المؤقتة .
ــ العمل على التحضير لدكتاتورية البروليتاريا وتسليح الحزب ببرنامج ثوري .
كانت أول رسالة كتبها لينين وهو ما يزال في سويسرا قبل عودته تقول :« إن من يزعم أنه ينبغي على العمال دعم الحكومة الجديدة في صالح النضال ضد الرجعية القيصرية ... يخون العمال يخون قضية البروليتاريا يخون قضية السلام والحرية ...»(15).
لقد نشرت كتابات لينين في صحيفة البرافدا باسمه الخاص وقد كتبت نفس الصحيفة بعد يوم واحد من نشرها لكتابات لينين راد عليها يقول :« أما فيما يتعلق بالمخطط العام للرفيق لينين فهو يبدو لنا غير مقبول نظرا لأنه يعتبر الثورة الديمقراطية البرجوازية منتهية ويطالب بتحول هذه الثورة فورا إلى ثورة اشتراكية »(16). وهكذا دخل الحزب البلشفي منعرج شهر أفريل وأصبح التناقض بين كتلتيه كبيرا . فمسائل الاختلاف محدّدة لمصيره ومصير الثورة ، وغير قابلة للاستمرار . فإما خط ثوري وإما السير في ذيل الأحزاب البرجوازية الصغيرة ، وخيانة الثورة ، والطبقة العاملة ، والحزب . كان موقف لينين واضحا ولم يفزعه موقع البلاشفة المؤيدين له كأقلية بل عول على تلك الأقلية القائمة من أجل توسيع تحريضه مرشده في ذلك روح الماركسية الخلاقة ومبادؤها الثورية ، وقد بين مدى أهمية المحافظة على استقلالية حزب البروليتاريا كحزب ثوري عن الأحزاب البرجوازية الصغيرة باعتبارها الحزب الذي يمثل وفي كل الحالات المصلحة  النهائية للعمال، وشدّد بصدد معالجته للوضع داخل السوفييتات على ضرورة انتهاج المرونة تجاه الفلاحين والعمال الذين مازالوا تحت تأثير المناشفة والاشتراكيين الثوريين بقوله:«انتظموا في كل مكان بعزم أقوى وبعدد أكثر،في صفوف وقوافل بروليتارية إلتفّوا حول سوفييتاتكم واسعوا في هذه السوفييتات عن طريق الإقناع الرفاقي وإعادة انتخاب الأعضاء إلى رصّ الأكثرية حولكم» (17).
3 ـ الحزب البلشفي يصحح برنامجه
انحصر النقاش داخل الحزب البلشفي منذ مقالات لينين الأولى وإبان التحضير للمجلس العام السابع وطيلة مدّة انعقاده في:ما هي السياسة التي على الحزب أن يتوخاها بعد أن سقط النظام القيصري وبعد أن أمسكت البرجوازية بالسلطة ممثلة في الحكومة المؤقتة مدعومة بحزبي المناشفة والاشتراكيين الثوريين وبالسوفييتيات بقيادة هذين الحزبين التوفيقيين؟ فهل يجب اعتبار المرحلة مرحلة نمو واكتمال للثورة الديمقراطية أم يجب البدء بالتحضير للثورة الاشتراكية والاستيلاء على السلطة السياسية وإسقاط الحكومة البرجوازية وإرساء دكتاتورية البروليتاريا ؟
كان هذا النقاش في حقيقة الأمر مواصلة لنقاش كان بدأ منذ سنة 1905 وما قبلها بين الاشتراكيين الديمقراطيين الروس وأساسا بين ترو تسكي و البلاشفة وتواصل فيما بعد حول طبيعة الثورة الروسية وحول طبيعة قيادتها وبرنامجها والسلطة التي ستنبثق عنها.
كان لينين قد بين سنة 1905 بأن البروليتاريا والفلاحين هما اللذان سيقودان الثورة ويشكلان طليعتها فليس بمقدور الطبقة البرجوازية قيادة الثورة وليس بإمكانها القيام بالإصلاحات الديمقراطية،فوحدها الدكتاتورية الديمقراطية للعمال والفلاحين قادرة على إنجاز مثل هذه المهام. ولم ينكر تروتسكي كذلك عجز البرجوازية عن قيادة الانقلاب الديمقراطي والسير به إلى النهاية بل ذهب إلى أبعد من ذلك فقد أكّد على أنّ الثورة ستبدأ كثورة برجوازية فيما يخص بعض مهامها وهي لن تنتصر كثورة إلاّ تحت قيادة دكتاتورية البروليتاريا المستندة إلى الفلاحين وبمجرد أن تتسلم البروليتاريا السلطة السياسية فإنها لن تحصر نضالها ضمن حدود البرنامج الديمقراطي بل ستجد نفسها مجبورة على تخطيه والبدء في تحطيم الحواجز التي تفصل برنامج الحدّ الأدنى عن برنامج الحدّ الأقصى وبالتالي الانتقال إلى انجاز المهمات الأكثر جذرية والمرتبطة ببناء الاشتراكية.وقد شدّد أيضا على أهمية الثورة العالمية و ما تمثله من دعم للسلطة الجديدة في روسيا. يقول في كتابه نتائج وتوقعات الذي كتب إثر ثورة 1905: «إن البروليتاريا تنمو وتتضاعف قوتها بنمو الرأسمالية بهذا المعنى يكون تطور الرأسمالية هو تطور البروليتاريا في اتجاه تحقيق دكتاتوريتها ... من المحتمل أن يصل العمال إلى الحكم في بلد متخلف اقتصاديا قبل وصولهم إليه في بلد متقدّم... إن الثورة الروسية سوف تخلق برأينا الظروف التي تمهد لانتقال السلطة إلى العمال وفي حال انتصار الثورة يتوجب عليها أن تمهّد لهذا الانتقال قبل أن يتسنى للسياسيين البرجوازيين الليبراليين أن يعرضوا كل براعتهم في تسيير الحكم.»(1). ويضيف تروتسكي في مقال نشره في نفس الفترة:«إن البرجوازية الليبرالية عندنا تبرز كقوة معادية للثورة حتى قبل أن تبلغ الثورة ذروتها ... أما الفلاحون فإنهم يمثلون قوة أساسية من قوى الانتفاضة ولكنهم لن يخدموا الثورة إلاّ إذا استولت قوة ثورة على الدولة. إن المكان الطليعي للطبقة العاملة في الثورة والارتباط المباشر بينها وبين الريف الثوري وبسط نفوذها على الجيش كل هذا يدفعها حتما إلى استلام الحكم. انتصار الثورة الكامل هو إنتصار البروليتاريا وهذا يعني بدوره ديمومة الثورة»(2). لقد عاد الخلاف القديم إلى الظهور وتصدر النقاشات خلال فترة أفريل 1917 ولم يكن هذه المرة بين تروتسكي والبلاشفة كما في الفترة التي عقبت ثورة 1905 بل أصبح بين جناحين من داخل الحزب البلشفي نفسه بين لينين والجناح اليميني للحزب.
لقد مثلت قضية السلطة محور تلك الخلافات وقد بيّنا فيما سبق البلبلة التي أحدثتها مواقف لينين داخل الحزب. فبفكر ثاقب كان لينين قد اقتنع أن مسيرة ثورة فيفري قد تجاوزت البرنامج البلشفي القديم المبني على:
ـــ الجمهورية الديمقراطية.
ــ مصادرة الأراضي التي بحوزة الملاكين النبلاء.
ــ يوم العمل من ثماني ساعات.
لقد انتصرت الثورة بالفعل بقيادة العمال والجنود وهذا ما جعل الكثير من البلاشفة يعتقدون عن أوهام في إمكانية تحقيق الدكتاتورية الديمقراطية للعمال والفلاحين. إلاّ أن تنازل العمال والفلاحين والجنود عن السلطة والتفريط فيها للبرجوازية التي أقامت سلطة حكومية مؤقتة وظهورالسوفييتات كجهاز ممثل للعمال والفلاحين والجنود أرسى في حقيقة الأمر نظاما مزدوج السلطات متشابكا وضعيفا لضعف مكوّنيه: الحكومة المؤقتة من جهة والسوفييتيات من جهة أخرى.
لقد إنبنت أوهام البلاشفة حول إمكانية تحقيق سلطة الدكتاتورية الديمقراطية للعمال والفلاحين على الضعف الذي كانت عليه الطبقة البرجوازية وحكومتها.فلقد اعتبروا أنه حالما تستنزف قوتها وتبرهن على عجزها سيكون بمقدور الدكتاتورية الديمقراطية للعمال والفلاحين الظهور. وقد كان هذا يعني أن ثورة فيفري لا تمثل غير مرحلة أولى من الثورة البرجوازية ستتلوها لا محالة المرحلة الثانية التي ستكون السلطة فيها الدكتاتورية الديمقراطية للعمل والفلاحين وقد قال كامينيف في مجلس أفريل:«يخطئ لينين عندما يقول بأن الثورة الديمقراطية ـ البرجوازية قد أنجزت... ولم يًصف حتى الآن وجود الإقطاعية... ولم تتحول الدولة إلى مجتمع ديمقراطي... ولم يحن الوقت بعد للقول بأن الديمقراطية البرجوازية قد استنزفت كل إمكاناتها»(3). وكذلك رد تومسكي على أطروحات لينين بقوله :« إن الدكتاتورية الديمقراطية قاعدتنا ... وعلينا أن ننظّم سلطة البروليتاريا والفلاحين وأن نميّز هذه السلطة عن الكومونة التي كانت السلطة فيها للبروليتاريا»(4). لقد كشفت هذه المواقف عن تأخر كبير في صفوف الحزب البلشفي وعن تخلى واضح عن مهماته بوصفة حزب الطبقة العاملة صاحبة المصلحة الأولى في الثورة إذ لم تكن تعني مهمة قيادة البروليتاريا للثورة حسب البلاشفة وقتها غير إعطاء الثورة طابعا ديمقراطيا وتأجيل الاستيلاء على السلطة السياسية وانجازا الإصلاح الزراعي ( قيادة الفلاحين ) وإنهاء الحرب والبدء بمعالجة المهمات الخاصة بالانتقال إلى الاشتراكية .
 كانت أفكار لينين الجديدة متناقضة تماما والخط الذي كان يسير عليه ورسمه الحزب قبل المجلس العام السابع . وفي معرض نقاشه الرافض لحجج البلاشفة القدامى البرجوازية الصغيرة الاستسلامية التوفيقية التي دعموا بها موقفهم حول عدم استيلاء البروليتاريا على السلطة ، وحول طبيعة المرحلة التي تمر بها الثورة ، قال لينين في المجلس العام السابع:« إن كل هذا هراء. إذا تكمن المسألة في أن البروليتاريا لا تتمتع بالوعي الكافي والتنظيم الكافي . ولا بد من الاعتراف بذلك .إن القوة المادية بيد البروليتاريا ، ولكن البرجوازية ظهرت هنا واعية ومنظمة . إن هذا الأمر شنيع ولكن من الضرورة الاعتراف به بشكل مكشوف صريح وإعلام الشعب بأننا لم نتسلّم السلطة نظرا لأننا لم نكن منظمين أو واعين »(5). إن الاستشهاد المذكور يبيّن أن عدم استلام السلطة ناتج عن أن الحزب البلشفي لم يكن يدرك المهمات المطروحة ولم يستطع تجاوز الديمقراطية البورجوازية الصغيرة ، ولم يمنعها من تسليم السلطة للبورجوازية الليبيرالية ، وأن برنامج البلاشفة كان وسطيّا ولم تكن المهمات مطروحة بشكل واضح ولم تكن مسألة السلطة واضحة وضوحا كافيا في برنامج الحزب وفي أذهان أغلبية قادته ، ولم تكن كذلك مسالة الإعداد لدكتورية البروليتاريا مطروحة في صفوف الطبقة العاملة . يقول لينين في موضوعات نيسان :« إن الشيء الأصيل في الوضع الراهن في روسيا إنما هو الانتقال من المرحلة الأولى للثورة التي أعطت الحكم للبرجوازية نتيجة لعدم كفاية الوعي والتنظيم لدى البروليتاريا إلى المرحلة الثانية للثورة التي يجب أن تعطي الحكم للبروليتاريا والفئات الفقيرة من الفلاحين »(6). يقدم هذا المفهوم التحول الكبير في فكر لينين في اتجاه نظرية الثورة الدائمة ولا نستغرب ذلك إذا علمنا أن آراءه هذه قد عورضت أثناء نشرها بحجة أنها قريبة من نظرية تروتسكي . فالإصلاحات الديمقراطية التي على الثورة أن تنجزها لا يمكن أن تحدّد طابع هذه الثورة كثورة بورجوازية بل بالعكس فإن هذه الإصلاحات بالذات واستحالة تحققها كما بينت التجربة بالفعل تحت قيادة البرجوازية هي التي تجعل من الثورة ثورة الدائمة . فالثورة التي أعطت السلطة للبرجوازية لأن البروليتاريا لم تكن على درجة كافية من الوعي والتنظيم على البروليتاريا بعد تجاوز هذه الضعوفات تحويلها إلى ثورة اشتراكية بتسليح نفسها ببرنامج ثوري يتوج باستيلاء العمال على السلطة السياسية. فالطابع الانتقالي للمهمات الديمقراطية يجعل من المستحيل تحقيقها وإلى نهايتها دون دكتاتورية البروليتاريا.
لقد آنبنى موقف لينين هذا على تجاوز موقف البلاشفة السابق الذي كان مقتصرا على إعطاء الثورة أهدافا ديمقراطية. وقد كتب لينين في التقرير الذي قدّمه لاجتماع البلاشفة في أوائل شهر أفريل وقدمه كذلك في الاجتماع الذي حضره مندوبو سوفييت نواب العمال والجنود لعامة روسيا البلاشفة             و المناشفة:«أن موقفنا من الحرب ...لا يقبل أي تنازل مهما كان طفيفا لنزعة«الدفاع الثوري». إن البروليتاريا الواعية لا يسعها أن توافق على الحرب ثورية تبرر فعلا نزعة الدفاع الثوري إلا شرط:
أ‌)       انتقال السلطة إلى أيدي البروليتاريا و العناصر الفقيرة من الفلاحين الواقفة إلى جانب البروليتاريا .
ب‌)  التخلي الفعلي لا الشفوي عن الجميع الإلحاقات.
    ج) القطيعة الكلية الفعلية مع جميع مصالح الرأسمال...لا تأييد للحكومة المؤقتة على الإطلاق ... الشرح للجماهير أن سوفييت نواب العمال هي الشكل الوحيد الممكن للحكومة الثورية... لا جمهورية برلمانية فالرجوع إليها بعد قيام سوفييت نواب العمال يكون خطوة إلى الوراء بل جمهورية سوفييت نواب العمال و الأجراء الزراعيين والفلاحين في البلاد بأسرها...إلغاء البوليس و الجيش (أي الاستعاضة عن الجيش الدائم بتسليح الشعب كله) و سلك الموظفين. إمكان انتخاب وعزل جميع الموظفين في كل آن، يجب أن لا تتجاوز رواتبهم متوسط أجرة العامل الجيد. نقل مركز الثقل في البرنامج الزراعي إلى سوفييتات نواب الأجراء الزراعيين. مصادرة جميع الأراضي في البلاد ووضع الأراضي تحت  تصرف السوفييتات المحلية لنواب الإجراء الزراعيين و الفلاحين . تمييز سوفييتات نواب الفلاحين الفقراء. تحويل كل ملكية كبيرة ... إلى استثمارة نموذجية توضع تحت إشراف نواب الإجراء الزراعيين وتعمل على حساب المجتمع . دمج جميع مصارف البلاد فورا في مصرف وطني واحد ووضعه تحت رقابة سوفييتات نواب العمال.عدم «تطبيق» الاشتراكية باعتبارها مهمتنا المباشرة بل الانتقال فورا إلى مجرد مراقبة الإنتاج الاجتماعي وتوزيع المنتجات من قبل سوفييتات نواب العمال . عقد مؤتمر الحزب. تعديل برنامج الحزب وبالدرجة الأولى حول الاستعمار والحرب الاستعمارية ، حول الموقف من الدولة ومطلبنا نحن   « دولة كومونة » أي دولة كانت كومونة باريس الشكل المسبق لها. إصلاح برنامج الحد الأدنى الذي ولى زمانه . تغيير اسم الحزب ( ينبغي على الحزب أن يطلق على نفسه اسم الحزب الشيوعي بدلا من اسم الاشتراكي الديمقراطي التي خان زعماؤها الرسميون ... الاشتراكية في العالم كله وانتقلوا إلى جانب البورجوازية ). إنني أكتب وأصرح وأكرر : أن سوفييتات نواب العمال هي الشكل الوحيد الممكن للحكومة الثورية وإن مهمتنا لا يمكن أن تكون إذن إلا أن نوضح للجماهير أخطاء تكتيكها بصبر و مثابرة وانتظام توضيحيا مكيفا على الخصوص لحاجات الجماهير الفعلية ...»(7).
بين لينين أن المهام الديمقراطية لم تنجز برغم استيلاء البرجوازية على السلطة فالبرجوازية غير قادرة على إنهاء الحرب وغير قادرة  على حل المسألة الزراعية وغير قادرة على استدعاء المجلس التأسيسي . كان هذا الموقف  يختلف عن موقف البلاشفة القدامى المتمسكين بضرورة دفع الثورة الديمقراطية إلى أخر مداها وكان لينين يرى أن إنجاز البرنامج الديمقراطي لابد أن يتم تحت قيادة طبقية جديدة  ودكتاتورية جديدة هي دكتاتورية البروليتاريا المستندة غلى الفلاحين الفقراء . ولبلوغ ذلك لابد من العمل على فصل الجماهير عن تأثير حزبي المناشفة والاشتراكيين الثوريين وبالتالي عن تأثير البرجوازية الليبرالية وركز كل تحريضه على مسالة الانفصال عن الاشتراكية الوطنية ومعارضاتها والنضال ضد كل ميولاتها وتأثيرها على الجماهير التي يجب توعيتها بخطر الانسياق وراء الأحزاب التي تقف ضد مصالحها في إنهاء الحرب وتوزيع الأرض وتعمل على مواصلاتها مضحية بكل مطالب الحركة العمالية والحركة الفلاحين في سبيل الإلحاق والنهب الامبريالي. ولم تكن آراؤه حول التدابير الاقتصادية التي من الضرورية البدء بإنجازها تعني المرور فورا إلى تطبيق التدابير الاشتراكية بل كانت تعني الانتقال إلى مراقبة الإنتاج والتوزيع من قبل سوفييتات نواب العمال ومن هنا كان إلحاحه الشديد على ضرورة تعديل برنامج الحد الأدنى الذي ولي زمانه . كانت أراء لينين كلها مبنية على قراءة علمية لواقع القوى الطبقية ولدرجة تطور الوعي لدى الجماهير ولم تكن تعنيه القوالب النظرية الجاهزة في شيء بقدر ما كان يهتم بمدى تقدم الجماهير في إدراك مهامتها وفهم الشعارات التي تساعد على الوصول إلى ذلك . ويمكن القول إن جملة آراء لينين المعروفة باسم موضوعات نيسان والتي دافع عنها وطرحها في المجلس العام السابع للحزب البلشفي تتخلص في :
ــ ضرورة كسب الجماهير إلى البرنامج البلشفي ( برنامج انتقالي وسلطة عمالية كما وضّح سابقا ) وتخليصها من سيطرة الديمقراطية البورجوازية الصغيرة .
ــ العمل على الكسب الأغلبية في السوفييتات بتوعية الجماهير عبر تجربتها الخاصة .
ــ قلب الحكومة المؤقتة بالتحريض من أجل كل السلطة للسوفييت.
ــ التحضير عمليا لدكتورية البروليتاريا بتسليح الشعب و الإعداد للانتفاضة (سلطة على شاكلة كومونة باريس) وبإلغاء البوليس والجيش .
ــ عدم الاكتفاء بالإصلاحات الديمقراطية كبرنامج للثورة بل ( تأميم جميع الأراضي وجعلها تحت إشراف الإجراء الزراعيين ودمج المصارف في مصرف واحد وجعله تحت رقبة العمال ).
ــ العمل على تأسيس أممية جديدة و الإستناد إلى دعم الثورة العمالية.
يقول لينين في مقال نشر في بدية أفريل 1917:« إن القضية الجذرية في كل ثورة إنما هي قضية سلطة الدولة.وما دامت هذه القضية لم توضح فليس هناك مجال للكلام عن أيّ اشتراك واع في الثورة ناهيك عن قيادتها... يجب معرفة إكمال وإصلاح «الصيغ»القديمة مثلا صيغ البلشفية لأنها كانت كما تَبيّن صحيحة بصورة عامة ولكن تطبيقها الملموس ظهر على نحو آخر فإن أحدا لم يفكر في الماضي ولم يكن في وسعه أن يفكر بازدواج السلطة. ما هو ازدواج السلطة؟ إنه يعني أنه إلى جانب الحكومة المؤقتة حكومة البرجوازية قد تألفت حكومة أخرى... وهي سوفييتات نواب العمال والجنود . وما هو التركيب الطبقي لهذه الحكومة الأخرى؟البروليتاريا والفلاحون (ممن يرتدون لباس الجنود).ما هو طابع هذه الحكومة السياسي؟إنها دكتاتورية ثورية،أي سلطة تستند مباشرة إلى الاستيلاء الثوري، إلى المبادرة المباشرة الصادرة من تحت عن الجماهير الشعبية...هذه السلطة هي من النوع ذاته الذي كانت منه كومونة باريس عام 1871...» (8).
بهذه المفاهيم الجديدة أمكن للحزب البلشفي في أفريل 1917 أن يتسلح ببرنامج ثوري وافتتحت موضوعات لينين مرحلة جديدة من تاريخ الحزب ومن تطور الثورة ستخوضها الطبقة العاملة بقيادة حزبها من موقع متقدم لتصل إلى تحقيق دكتاتوريتها في أكتوبر 1917 . تقول البلشفية لودميلاستا في مؤتمر بتروغراد:«كان جميع الرفاق قبل قدوم لينين تائهين... ولم يكن أمامهم سوى صيغ 1905 . وعجزنا عن إعطاء الدروس للشعب عندما وجدناه يخلق الثورة بعفوية... واضطر الرفاق إلى الاكتفاء بالإعداد إلى المجلس التأسيسي وفق أسلوب برلماني ولم يفكروا لحظة واحدة بالاندفاع إلى الأمام. والموافقة على أفكار لينين تعني أننا سنتصرف وفق مطالب الحياة نفسها... وليس علينا أن نخشى الكومونة لأننا حققنا الحكومة العمالية. ولم تكن كومونة باريس عمالية صرفة بل كانت برجوازية صغيرة أيضا.» (9)
4 ـ إفلاس الديمقراطية البرجوازية الصغيرة
تميزت بداية شهر أفريل بصعوبات كثيرة. لقد ارتفعت الأسعار وتزايد نقص المؤن وخفضت حصة الفرد من الخبز وبدا أن الحكومة المؤقتة عاجزة عن تجاوز الأزمة. كانت الحكومة قد أعلنت يوم 27 مارس في بيان إنّ«روسيا الحرة لا تستهدف أبدا السيطرة على الشعوب الأخرى أو انتزاع ثروتها الوطنية أو الاستيلاء بالعنف على أراضي الآخرين». بل تستهدف «احترام الشروط التي تفرضها اتفاقياتها مع حلفائها». وكان تأكيد الحكومة المؤقتة على احترام شروط الاتفاقيات مع الحلفاء يعني ضم القسطنطينية وضم أرمينيا وتقسيم النمسا وضم شمال إيران والمحافظة على معاهدات النهب التي أبرمتها القيصرية.    وأعقبت الحكومة هذا البيان بمذكرة إلى الحلفاء الذين اعتبروا البيان تنازلا من الحكومة أمام السوفييت وتراجعا عن تعهداتها. وأكدت المذكرة على أن موقف الحكومة السابق لا يعني «التفكير بأن الثورة المنجزة ستؤدي إلى إضعاف دور روسيا في الصراع المشترك مع الحلفاء بل على العكس إذ تزايد تصميم الشعب كله على دفع الحرب العالمية حتى النصر النهائي (وتضيف المذكرة) إن المنتصرين سيجدون الوسيلة للحصول على الضمانات وفرض العقوبات التي تضمن في المستقبل منع وقوع أية صراعات دامية»(1).                                                                                                              
وجدت اللجنة التنفيذية للسوفييت نفسها في وضع حرج أمام هذه المذكرة وهي التي سعت باتفاق مع الحكومة لإصدارها. لقد استغلت الحكومة المؤقتة البرجوازية وضع التردد الذي عليه اللجنة التنفيذية وطمأنت حلفاءها بأن روسيا لن تخرج من الحرب بل ستواصلها إلى نهايتها وأنها ستحافظ على كل معاهداتها السرية.واجتمعت اللجنة التنفيذية للسوفييت لمناقشة المذكرة بعد إعلانها للعالم وخرجت بأن ما في المذكرة كان غير متوقع من الحكومة ولم تتوصّل إلى قرار،فاستدعت مجلس السوفييت لجلسة طارئة.وفيما واصلت اللجنة التنفيذية ولجنة الاتصال مع الحكومة مناقشاتهما التي لم تنته إلى شيء جاء رد الجماهير فوريا على هذه المذكرة، فخرجت الجماهير في يوم 20 أفريل وبشكل عفوي معبرة عن سخطها ورفضها لسياسة الحكومة.
وابتدأت المظاهرات في الأحياء العمالية وفي الساحات والشوارع . كانت مظاهرات عنفية مسلحة . الجنود والعمال يردّون الفعل مباشرة على خيانة الحكومة للثورة والسلم و كان الوضع مناسبا لتحريض البلاشفة ضد الحكومة المؤقتة ، ورفعت اللافتات الداعية لسوط الحكومة ، هذا الشعار الذي التف حوله جمهور كبير من العمال والجنود والبحارة المسلحين والذين حاولوا اعتقال أعضاء الحكومة المؤقتة .
كان هذا الجمهور الثائر والمسلح قادرا على الإطاحة بالحكومة المؤقتة إلا أن غياب دور القيادة الثورية التي يمكنها توجيه الجماهير جعل من هذه التحركات تنتهي مجرد احتجاجات لكنها احتجاجات لا تخلو من العنف وتهديد للسلطة البورجوازية الليبيرالية وتمكن التوفيقيون في اللجنة التنفيذية للسوفييت من إنقاذ الموقف وتهدئه الجماهير ودعي الجنود إلى العودة إلى الثكنات ورفع الحصار عن قصر الحكومة.
ما كانت الاحتجاجات التي انطلقت لتكفّ فازدواجية السلطة المستمرة في وضع سلمى منذ سقوط القيصرية توشك أن تتحول إلى حرب أهلية. وجاء اليوم الموالي وخرجت جموع غفيرة من العمال والجنود بتحريض من لجنة بتروغراد البلشفية وبرغم معارضة المناشفة والاشتراكيين الثوريين فإن الجماهير نزلت إلى الشوارع في مظاهرات حاشدة . لم يكن هدف المتظاهرين واضحا بقدر ما كانوا مصممين على فعل شيء ما  وفي الوقت الذي كان فيه التوفيقيون يحاولون تهدئة الوضع وكبح تحركات الجماهير المناهضة للحكومة استغل حزب الكاديت هذا الوضع لمزيد تأزيم الأمور من أجل حسم الموقف لصالح السلطة البورجوازية . كان الجنرال كورنليوف المتواطئ مع حزب الكادية مستعدا للتدخل لقمع المتظاهرين واستخدام السلاح . ودعا الكاديت أنصارهم إلى النزول إلى الشوارع والساحات لتصعيد الموقف والوصول بالوضع إلى المعركة الحاسمة ضد العمال والجنود المنادين بسلطة السوفييتات وسقوط الحكومة المؤقتة . وقاد أعضاء وقيادي هذا الحزب مظاهرات رافعين شعارات ولافتات تدعو إلى الثقة الكاملة في الحكومة المؤقتة . هكذا ظهرت قوى الثورة المضادة بشكل صريح وعلى رأسها حزب الكاديت ودخلت المعركة بكل ثقلها .كانت المواجهة هذه المرة مسلحة وتدخل كورنيلوف لقمع المظاهرات وتفريقها.  وسقط في هذا اليوم عديد الضحايا ولم تتمكن الجماهير التي ثارت لإسقاط مذكرة 18 أفريل ومن ورائها سياسية مواصلة الحرب من الاستمرار في هجومها والوصول به إلى هدفه النهائي : إسقاط الحكومة البرجوازية ، وتشكيل سلطة السوفييتات .
وسلكت اللجنة التنفيذية كعادتها نهجا توفيقيا فقد اعتبرت تصرف كورنيلوف مجرد تحريض على الحرب الأهلية ودعت الجماهير إلى إيقاف موجة المظاهرات  وأيدت اللجنة المركزية للحزب البلشفي الدعوة إلى منع المظاهرات وإيقافها لأن شعار فلتسقط الحكومة المؤقتة شعار لا يمكن رفعه مادامت البروليتاريا تفتقر إلى دعم أغلبية الشعب . فمهمة اليوم هي العمل على كسب الأغلبية في السوفييتات . لقد عدّلت أزمة أفريل الأوضاع في اتجاه مزيد إنضاج الأزمة السياسية الناتجة عن ازدواجية السلطة ودفعت هذه الأحداث بحزبي المناشفة و الاشتراكيين الثوريين أكثر إلى اليمين ، وأصبح الليبراليون ، ولضمان مواصلة سلطتهم  في حاجة إلى إشراك المناشفة والاشتراكيين الثوريين في الحكومة . ووافقت اللجنة التنفيذية على مقترح تشكيل الائتلاف . و تحالفت الديمقراطية البرجوازية الصغيرة مع الليبراليين على قاعدة برنامج الثورة المضادة .
كانت حكومة الائتلاف حكومة لخداع الشعب ، حكومة في جوهرها جهاز لسلطة البرجوازية التي تتخفى وراء هؤلاء «الاشتراكيين» الذين فقدوا أي صلة بالجماهير وبالاشتراكية. لقد استخدمت الطبقة البورجوازية في كل مكان هذا الأسلوب خلال الأزمات الثورية ، من أجل خداع العمال و الجماهير الشعبية وزرع الانقسام في صفوف الطبقات ذات المصلحة المشتركة ـــ وقد لجأت البرجوازية الليبرالية في روسيا إلى هذا الأسلوب هي أيضا لأنها أصبحت عاجزة على المحافظة على سلطتها إذا لم تشرّك حزبي الأغلبية المهيمنة على جهاز السوفييتات في الحكم .فازدواجية السلطة لا يمكن أن نستمر طويلا ولابد من مخرج يضمن استمرار هيمنة البرجوازية واحتفاظها بالسلطة ولا مفر من اتفاق وحل وسط: ائتلاف مع الاشتراكيين الثوريين و المناشفة ... وأعلنت الحكومة المؤقتة في منشور بتاريخ 26 أفريل ضرورة الاستعانة في أعمال الدولة«بالقوى الخلاقة النشيطة في البلاد » (أنظر تاريخ الثورة الروسية لليون تروتسكي).
وقررت اللجنة التنفيذية للسوفييت الاشتراك في الحكومة بأغلبية 41 صوتا ضد 18 وأمتنع 3 وتسلم التوفيقيون البورجوازيون الصغار 6 وزارات .
كان الليبراليون يعتقدون أن قوة السوفييت ستتحول إلى الحكومة الائتلافية بحكم وجود المناشفة والاشتراكيين الثوريين في السلطة . وكانت الجماهير ترى عن وهم أن دخول ممثلين عن السوفييت في الحكومة سيعجل بطرد البورجوازية منها و لكن اتضح كما ذكر تروتسكي في تاريخ الثورة الروسية « أن السلطة المزدوجة لم تلغ بهذا الشكل وإنما أنتقلت فقط إلى الوزارة ذاتها وأن السلطة الموحدة الحقيقية التي ستنقذ روسيا ستظهر عندما تتم الخطوة التالية انتقال السلطة إلى أيدي مندوبي العمال والجنود » كان موقف البلاشفة من الحكومة الائتلافية واضحا فلم يكن بوسعهم الحيلولة دون تشكل الائتلاف بعد انسياق الديمقراطيين البورجوازيين الصغار المتشبثين بسياسة الدفاع عن الطبقة البرجوازية واشتركوا في الحكومة ولم يكن من السهل على البلاشفة كذلك إقناع الجماهير بان حكومة الائتلاف حكومة ضد مصالحهم أساسا ولم تكن الجماهير لتعي أن هذا الأسلوب في الحكم سيرسّخ قدم البورجوازية التي ستتوارى خلف التوفيقيين لتمرير سياستها المعادية لمصالح أوسع الطبقات غير المالكة والمستهدفين لمزيد الاستغلال . لقد عملت البورجوازية الليبيرالية على قمع العمال والفلاحين بسياط «ممثليهم» أنفسهم . وقرر البلاشفة تجميع القوى من أجل تنوير المتأخرين من كل الفئات الكادحة والمتأرجحة . لقد ساعدت الحكومة الائتلاف إلى تحويل الثقل السياسي للسوفييتات إلى مجلس الدوما البلدية وتحويل النظام إلى نظام جمهوري برلماني يعوّضُ فيه المجلس التأسيسي اللجنة التنفيذية للسوفييت ونظمت في نهاية شهر ماي مؤتمرا للتحضير لدعوة المجلس التأسيسي الذي ماطلت في استدعائه ولم ينعقد إلا بعد أن استولت البروليتاريا على السلطة في أكتوبر1917. وخرج كيرنسكي إلى الجبهة للتحريض على استئناف الحرب وبدأ بالتحضير لهجوم عسكري جديد على الجبهة رافقته حالة من الاستياء العميق في صفوف الجنود وعامة الشعب .
بعد أربعة أشهر من بداية الثورة كانت الجماهير الفقيرة الرازحة تحت وطأة البؤس والجوع تطمح إلى تغيير جذري لإيقاف الحرب وتوزيع الأراضي ... وكانت الحكومة المؤقتة عاجزة عن إنقاذ البلاد من حالة الخراب الشاملة فخلال شهر أفريل وماي توقفت عديد المؤسسات و المصانع عن الإنتاج وأغلقت أبوابها ورمت بمئات الآلاف من العمال إلى البطالة والجوع وقد تعلّل أصحاب المصانع بنقص المواد الأولوية وبانخفاض معدل الإنتاج . كان هذا الإجراء في حقيقته عملية ضغط قام بها الرأسماليون لدفع الحكومة إلى مواجهة العمال لإيقاف موجهة الإضرابات المتزيدة ، وأجرت لجان المصنع المكونة من العمال تحقيقات حول الأسباب الفعلية لغلق المعامل ، اضطر بعدها الصناعيون إلى إعادة فتح مؤسساتهم . لقد كانت نتيجة عمل لجان المصانع مؤشرا على قوة السلطة العمالية الناشئة وعلى استحالة السيطرة على التطوّر الموضوعي للثورة و الحدّ من المبادرات الثورية للطبقة العاملة أو تفكيك أشكال تنظمها الذاتي .
لقد وجد العمال أنفسهم في مواجهة التناقض الحادّ بين طابع العمل الإجتماعي وطابع الملكية الرأسمالية لوسائل الإنتاج وقد أدى هذا الانتصار الجزئي المحدود على البورجوازية إلى تطوّر نسبي في وعي العمال سيؤثر بشكل ملموس على تطوّر الثورة في الأشهر اللاحقة .
انعقد المؤتمر الأول لسوفييتات نواب العمال والجنود في بداية شهر جوان ودعت صحيفة البرافدا البلشفية في نفس المدة إلى القيام بمظاهرة وأخذ التنظيم العسكري للبلاشفة مهمة التحضير لتنظيم هذه المظاهرة وتحرك بشكل سري خشية أي عمل مضاد قد يقوم به الاشتراكيون الثوريون والمناشفة. ورأت الحكومة في هذه الدعوة خطة يدبرها البلاشفة للإستيلاء على السلطة وتحركت اللجنة التنفيذية للسوفييت لإلغاء المظاهرة ووضّح البلاشفة أن المظاهرة ليس لها أي طابع تآمري وأكدوا على طابعها السلمي . وطرحت المسالة للنقاش في مؤتمر السوفييتات الذي أتخذ قرار بمنع التظاهر لمدة ثلاثة أيام . وتحرك مندوبو المؤتمر وتنقلوا في المعامل والأحياء والثكنات وبذلوا جهودا كبيرة لإقناع العمال و الجنود بعدم التظاهر . وانعقد في نفس الفترة اجتماع ضمّ اللجنة التنفيذية وزعماء الأحزاب السياسية وأعضاء رئاسة مؤتمر السوفييتات المنعقد، وقاطع البلاشفة هذا الاجتماع لما توضح أنّ غايته كانت العمل على نزع سلاح العمال والجنود ، وتصفية البلاشفة وإظهارهم كمتآمرين. ووزّع الحزب بيانا في مؤتمر السوفييتات يقول «لم يعد هناك من شك بالنسبة إليكم ، بعد أن زار مندوبوكم المصانع والأفواج أن المظاهرة لم تحدث لا لأنكم منعتم خروجها ، ولكن لأن حزبنا أمر بصرف النظر عن قيامها ... ولم ينشر أحد أعضاء الحكومة المؤقتة وهم وجود مؤامرة عسكرية إلا للقيام بنزع سلاح بروليتاريا بتروغراد وتفتيت الحامية . فلو أن السلطة الحكومية انتقلت بكاملها إلى السوفييت وهو ما نحاول تحقيقه وإذا حاول السوفييت اعتراض  حركتنا ،فان ذلك لن يضطرنا إلى الخضوع بصورة سلبية بل يدعونا إلى مواجهة الاعتقال وكل أنواع العقوبات الأخرى باسم أفكار الإشتراكية الأممية التي تفصلنا عنكم »(2). وقرر مؤتمر السوفييتات تنظيم مظاهرة يوم 18 جوان واختيرت شعارات هذه المظاهرات بدقة كي لا تثير الجماهير. شعارات مثل «سلم عام»   «استدعاء المجلس التأسيسي» «جمهورية ديمقراطية » . وأسقط الاشتراكيون الثوريون والمناشفة الحديث عن الائتلاف مع البرجوازية وكتبت البرافدا تقول « سنذهب إلى مظاهرات 18 بغية النضال من أجل الأهداف التي أردنا أن نقوم بالتظاهرة في سبيلها بتاريخ 10».
وخرج البلاشفة في المظاهرة كانت شعاراتهم «فليسقط الوزراء الرأسماليون» «فليسقط الهجوم» «كل السلطة للسوفييت». لقد كانت الجماهير بحكم قوة إرادتها قادرة على أن تقرّر كل شيء وكان هذا ماتخشاه البرجوازية وحلفاؤها المناشفة والإشتراكيون الثوريون. كانت الثورة تتقدم برغم  مقاومة الديموقراطية البرجوازية الصغيرة . ففي كل أزمة كانت الجماهير تكتسب نفسا ثوريا جديدا . وبدأ نفوذ البلاشفة يتعزز في السوفييتات منذ أزمة أفريل التي أدت إلى الائتلاف الأول .وأصبح البرنامج الذي يركز عليه تحريضهم برنامجا انتقاليا يقوم على : كل السلطة للسوفييت ـ الرقابة العمالية على الإنتاج والتوزيع  ـ تأميم جميع الأراضي ـ إنهاء الحرب وتسلح الشعب(3). فمنذ رجوع لينين بدأ الحزب البلشفي يضع على رأس مهماته العمل على مساعدة الجماهير للانتقال من مساندة البورجوازية والتوفيقيين إلى السير مع الحزب البلشفي وتبني برنامجه والعمل على إنجازه. وحدّد البلاشفة  السياسة الضرورية لاستقطاب هذا الميل المتزايد للتجذر في صفوف الطبقة العمالية والحركة الفلاحية ، وبدأ النضال بكل حزم من أجل أن تنتقل الحركة الفلاحية إلى جانب البروليتاريا ، وكسب جمهور البرجوازية الصغيرة إلى الثورة وذلك بنقل ثقل الحركة الفلاحية إلى جمهور البروليتاريا الزراعية والفلاحين الفقراء .
يقول قرار المجلس العام للحزب البلشفي :« وكلما تمّ تحطيم وإلغاء الملكية الإقطاعية للأرض بمزيد من الحزم والمثابرة ، وكلما تمّ التحويل الزراعي الديمقراطي والبرجوازي في روسيا بوجه عام بمزيد من الحزم والمثابرة ، تطور نضال البروليتاريا الزراعية الطبقي ضد الفلاحين الميسورين ( البرجوازية الفلاحية ) بمزيد من القوة والسرعة . إن مصير الثورة الروسية ونتيجتها يتوقفان على أمرين مختلفين هذا إذا لم تؤثر الثورة البروليتارية التي تبدأ في أوروبا تأثيرها الجبار المباشر في بلادنا ـــ : إما أن تتمكن بروليتاريا المدن من أن تجرّ وراءها البروليتاريا الريفية وتظمّ لها جمهورأنصاف البروليتاريين في الأرياف ، وإما أن يتبع هذا الجمهور البرجوازية الفلاحية التي تميل للتحالف مع ... الرأسماليين والملاكين العقاريين وإلى أعداء الثورة بوجه عام ...  ينبغي الشروع فورا في جميع الأماكن بتنظيم البروليتاريا الزراعية على حدة وبصورة مستقلة سواء أبشكل سوفييتات نواب العمال الزراعيين ( وأيضا بشكل سوفييتات خاصة لنواب الفلاحين أنصاف البروليتاريين ) أم بشكل كتل وفرق بروليتارية في سوفييتات خاصة نواب الفلاحين المشتركة وفي جميع هيئات الإدارة المحلية و الإدارة في المدن »(4).
خلال شهر جوان وبداية شهر جويلية ازددت وتيرة توقيف المصانع وانخفض الإنتاج في كثير من المواد  وارتفعت الأسعار ارتفاعا كبيرا وتزايد التضخم النقدي . وكان الوضع الاقتصادي لروسيا تحت حكومة الائتلاف على درجة كبيرة من الانهيار . وتأثرت جل المؤسسات المرتبطة بالصناعة ، بهذه الأزمة ، وبدأ الانهيار الاقتصادي يهدّد بالمجاعة في كل لحظة ، ولم يكن أمام الحكومة  من حلّ غير تعبئة قوة الثورة المضادة ولم تكن الأوضاع في الأرياف أحسن ممّا هي عليه في المدن .
في أول شهر جويلية انعقد مؤتمر عموم روسيا للملاكين الزراعيين الذي يسيطر عليه النبلاء وكبار ملاك الأراضي الذين بدؤوا يتجمعون ويواجهون حركة الاستيلاء على الأراضي التي ينظمها الفلاحون الفقراء. وكانت الحالة على الجبهة متميزة بدرجة كبيرة من التوتّر بين الجنود والضباط وتراكم عناصر الغضب والتمرد يوما بعد يوم في صفوف الأغلبية الساحقة من الجنود الذي أصبحوا لا يرون أي مبرّر لمواصلة الحرب ولم تنقطع المظاهرات والإضرابات والاجتماعات التي تطالب بحكومة بدون الوزراء البرجوازيين وبضرورة استيلاء السوفييت على السلطة . وشمل الغليان جميع المصانع والأحياء والأفواج العسكرية المرابطة في بتروغراد ، وأصبح أمر إسقاط الحكومة وتسلم السوفييت للسلطة خطوة لابد منها بالنسبة للجماهير لإنهاء الحرب وتأمين الخبز والحرية . وأشتد الغليان ، واقترب العمال أكثر من الجنود وبدأ التنسيق بين الأفواج والمصانع يأخذ شكلا ملموسا لتحالف طبقي متين ، ورفضت بعض الأفواج السير إلى الجبهة ، واشتدت الدعوة إلى المظاهرات في الاجتماعات الحاشدة التي كانت تنظّم في المصانع والثكنات والساحات . وبدأت الأحداث تسير بسرعة في اتجاه جولة جديدة من الصدام ضد الحكومة المؤقتة  وتوقفت المصانع عن العمل، ونظّم العمال والجنود الاجتماعات للتحضير للتظاهر.
 في هذه الأيام انفجرت الأزمة داخل الحكومة ، فقد استقال منها 4 وزراء كاديت وكان السبب الفعلي لاستقالتهم هو محاولة الضغط على الاشتراكيين الثوريين و المناشفة ودفعهم إلى مواجهة الجماهير الثائرة عوض المراوحة، فلقد رأت البرجوازية أنه من الأفضل لها ترك المناشفة والاشتراكيين الثوريين يواجهون وحدهم . وعلى إثر استقالة وزراء حزب الكاديت من الحكومة اجتمعت اللجنتان التنفيذيتان للسوفييتات ــ لجنة العمال والجنود ولجنة الفلاحين ــ وأصدرتا بيانا يمنع كل المظاهرات ويعتبرها خيانة . واصطدمت مظاهرة (3 ــ 5) جويلية المسلحة والتي تحولت إلى شبه إنتفاضة بمعارضة التوفيقيين . وتلقت كل أفواج الجنود أوامر بإرسال قوة للدفاع عن السلطة القائمة واستدعيت بعض القطعات العسكرية من الجبهة لقمع المتظاهرين ، وتزايد الغضب الشعبي ، وانتقلت القيادة الفعلية للحركة الجماهيرية في هذه الفترة إلى الحزب البلشفي. وبلغت المظاهرات أوجها بانضمام بحارة كرونشتاد ، وتحركت قوات الثورة المضادة ، وتحولت المظاهرات إلى معارك بالسلاح ، وتمكنت القوات العسكرية الموالية للحكومة وللجنة التنفيذية من السيطرة على المتظاهرين وتشتيتهم ، ولم يكن بوسع هذه التحركات أن تؤدي إلى غير إنتصار جديد للبرجوازية ولم يتمكن الحزب البلشفي صاحب هذا الموقف من إيقاف المظاهرات وتجنب النتائج التي أدت إليها ، فقد خرّب ونهب مقرا صحيفة البرافدا البلشفية واحتلت قوات الثورة المضادة  مقر الحزب البلشفي ، واعتقلت مندوبي العمال وصادرت الأسلحة التي كانت بحوزة العمال ، وقطعت الاتصالات بين الأحياء  وبدأ التحضير للهجوم على البلاشفة وكما قل تروتسكي فقد أفلست الديمقراطية البرجوازية الصغيرة لما أصبحت الديمقراطية الحقيقية ممارسة ملموسة من قبل الجماهير الشعبية . وبدأت اللجنة التنفيذية والحكومة بعد سحق مظاهرات بداية شهر جويلية تبحثان عن مخرج من أجل سلطة قوية قادرة على تغيير موازين القوى التي بدأت تتحول إلى صالح البلاشفة فمنعت صحف الحزب البلشفي وصدر أمر باعتقال لينين وتقديمه للمحاكمة واعتقل تروتسكي ، وانتقلت السلطة إلى الحكومة وتحولت السوفييتات بقيادة الاشتراكيين الثوريين و المناشفة إلى جهاز مشلول .يقول لينين في مقال « الوضع السياسي » كتبه في 23جويلية 1917 « إن الثورة المعاكسة قد نظمت صفوفها وتوطدت واستولت بالفعل على السلطة في الدولة ... فسلطة الدولة الأساسية في روسيا أنما هي اليوم عمليا الدكتورية العسكرية . وهذا الواقع ما يزال غامضا من جراء عدد من المؤسسات الثورية قولا ولكنها العاجزة فعلا . غير أنه واقع لا شك فيه جذري إلى حد أنه لا يمكن دون إدراكه فهم شيء في الوضع السياسي ... إن زعماء السوفييت وحزبي الاشتراكين الثوريين و المناشفة ... قد خانوا نهائيا قضية الثورة إذا سلموها إلى أيدى أعداء الثورة وحولوا أنفسهم وحزبيهم والسوفيتيات إلى ورقة تبن تتستّر بها الثورة المعاكسة ... إن كل الآمال لتطور الثورة الروسية السلمي قد تلاشت نهائيا ... أما انتصار الدكتاتورية العسكرية حتى النهاية  وإما انتصار انتفاضة العمال المسلحة الذي ليس ممكنا إلا إذا توافقت الإنتفاضة مع نهضة جماهيرية عارمة ضد الحكومة وضد البرجوازية ، على أساس الخراب الاقتصادي وامتداد الحرب . إن شعار انتقال كل السلطة إلى السوفييتات كان شعار تطور الثورة السلمي الذي كان ممكنا في نيسان (أفريل) وأيار     (مايو) وحزيران (يونيو) حتى 5ـ 9  تموز (يوليو) أي حتى انتقال السلطة الفعلية إلى أيدي الدكتاتورية العسكرية . أما اليوم فليس هذا الشعار صحيحا لأنه لا يحسب الحساب لهذا الانتقال الذي تحقق ولخيانة الاشتراكيين الثوريين و المناشفة التامة للثورة بالفعل ... ومن الآن فصاعدا لا تجوز أي أوهام دستورية وجمهورية وأي أوهام بصدد الطريق السلمي ... إنما ينبغي جمع القوى وإعادة تنظيمها وإعدادها بثبات للانتفاضة المسلحة ... إن هدف الانتفاضة المسلحة لا يمكن أن يكون غير انتقال السلطة إلى أيدي البروليتاريا التي يدعمها الفلاحون الفقراء من أجل تحقيق برنامج حزبنا » (5).
لقد أحدث انتصار الثورة المضادة في شهر جويلية تغيرا كبيرا في الوضع وفي موازين القوى الطبقة السياسية ، فتحوّل الديمقراطية البرجوازية الصغيرة ممثلة في حزبي المناشفة والاشتراكيين الثوريين كليا إلى دعم البرجوازية في كل سياساتها حوّل السوفييتات إلى جهاز في أيدي الحكومة . إلاّ أن تحول البرجوازية الصغيرة هذا وأحزابها لن يكون أول ولا آخر تحول، فالمراوحة الدائمة لهذه الطبقة ولممثليها السياسيين بين الطبقة البرجوازية والطبقة العاملة هو الذي جعل البلاشفة يتخلون عن الشعار كل السلطة للسوفييت مؤقتا(6). وينادون بدكتاتورية البروليتاريا والفلاحين الفقراء لان السوفييتات أصبحت منظمات تدفع إلى مواصلة الحرب وتقوم باضطهاد البلاشفة . وكان من المحتمل أن تواصل السوفييتات سلوك هذه السياسة لو لم يحدث عصيان كورنيلوف الذي أدى إلى تحوّل جديد في موقف السوفييتات وأتاح فيما بعد سيطرة كاملة للبلاشفة عليها وأصبحت عمليا منظمات لدكتاتورية البروليتاريا ومركزا لتجميع القوى الثورية والتحضير للانتفاضة .
5 ــ التحضير لدكتاتورية البروليتاريا وانتصار الثورة
أ ـ فشل انقلاب كرنيلوف
تتابعت مؤتمرات الثورة المضادة بعد أحداث شهر جويلية في سبيل كسب نوع من الشرعية لسلطة الحكومة المؤقتة ولتأمين السيطرة السياسية للطبقة البرجوازية. وشرعت الطبقات الرجعية والمضادة للثورة تعمل على توطيد سلطتها بعد التغيير الذي حدث في موازين القوى لصالحها بكل الأساليب والطرق . وتحول مركز الثقل من الأحزاب إلى القيادات العسكرية العليا التي بدأت تحضر للإنقلاب العسكري للقضاء نهائيا على القوى الثورية في بتروغراد وفي المدن الأخرى وتجريد الجنود والعمال  من السلاح وتصفية البلاشفة وحل السوفييتات. كانت خيوط المؤامرة الانقلابية متشابكة إلى حد كبير . فلم يكن بوسع المتآمرين العمل بشكل مستقل عن بعض ممثلي الديمقراطية البرجوازية الصغيرة في الحكومة المؤقتة والذين غدوا منذ بداية الثورة دمى تتحرك في أيدي الطبقات والأحزاب البرجوازية . وكان كيرنسكي أول من يقف على رأس القائمة ، فهو لم يكن مستعدا لمواجهة قوى الثورة المضادة بقدر ما كان مستعدا للتعاون والتحالف مع هذه القوى ضد الشعب و الثورة و قد أكدت الأحداث مشاركته في التحضير للمؤامرة واتفاقه مع القيادة العسكرية العليا على إقامة سلطة دكتاتورية بواسطة الإنقلاب العسكري . لقد عمل قادة الانقلاب منذ بداية أوت على تعبئة قواتهم للسيطرة على بتروغراد وكانت خطة الانقلاب جاهزة ولم يكن كرنيلوف ليكتفي بتصفية البلاشفة والسوفييتيات لو نجح الإنقلاب . لقد كانت أهدافه أبعد من ذلك بكثير. كان سيعمل على إلغاء كل السلطات،وينصّب نفسه دكتاتورا عسكريا.فما دام البلاشفة يحضرون لقلب السلطة فلا مخرج إلا بتسليم السلطة إلى القوات العسكرية. لم يكن هذا الموقف ليجد التأييد من قبل كرنسكي الذي  كان يعمل بدوره على الاستفادة من مؤامرة العسكريين كي يضمن ويوطّد إلى حدّ ما ونفوذه الشخصي وهو الذي عمل منذ مارس على أن يظهر فوق الصراعات. وهكذا أصبحت المؤامرة التي حضيت بتأيده وشارك في تحضيرها تستهدفه هو بالذات والحكومة المؤقتة من ورائه كهدف من أهدافها التي تروم تحقيقها «وفهم كرنسكي أخيرا أن اللعبة السياسية مع الدكتورية أخذت منعطفا جادا ، وأن من الممكن أنتهاؤها بشكل سيء ضده »(1). وتحرّك كرنسكي بعد أن أحسّ أنّ الأمور بدأت تفلت من قبضته وعزل كرنيلوف من منصبه صبيحة اليوم المحدّد للانقلاب وأبرق إلي القيادات العسكريّة بأن توقف القطاعات المتجهة إلي بتروغراد  وتعيدها إلي مراكزها. وأصدر بيانا لقطعات بتروغراد يقول :« إن الجنرال كرنيلوف الذي أعلن عن وطينته و إخلاصه للشعب .. سحب أفواجا من الجبهة وجهها ضدّ بتروغراد »(2). وأصدر كرنيلوف من جهته بيانا يؤكد فيه عصيانه « أعلن أنا الجنرال كرنيلوف أنني مضطر للعمل المكشوف ، لأن الحكومة المؤقتة الخاضعة لضغط الأغلبية البلشفية في السوفييتات، تعمل بتوافق تام مع مخططات هيئة الأركان الألمانية، في الوقت الذي سينفذ به العدو إنزالا على شواطئ ريغا ويدمّر الجيش، ويخلق الاضطرابات داخل البلاد»(3). واستقال وزراء الحكومة المؤقتة يوم 26 أوت وقرر حزب الكاديت الانتظار: انتظار نتائج المعركة . فقد أصبح انتصار كرنيلوف أمرا واردا. وفي نفس اليوم الذي عزل فيه كيرنسكي الجنرال القيصري كرنيلوف تمّ تشكيل جهاز سوفياتي جديد للدفاع عن بتروغراد في الاجتماع الموحد الذي عقدته اللجنة التنفيذية لسوفييت نواب العمال والجنود واللجنة التنفيذية لسوفييت الفلاحين. وتكونت لجنة دفاع من ممثلين عن الأحزاب السوفيتية ( المناشفة والاشتراكيين الثوريين    و البلاشفة ) وممثلين عن اللجنتين التنفذيتين لسوفييت العمال والجنود وسوفييت الفلاحين وممثلين عن النقابات وممثلين عن سوفييت بتروغراد. لقد أدركت الديمقراطية البرجوازية الصغيرة أنها في حاجة إلى الإعتماد على قوة وتنظيم الجماهير من أجل الدفاع عن نفسها والتصدي للانقلاب . و أعلن المناشفة والاشتراكيين الثوريون انه يجب التمسك بالحكومة القائمة واستبدال الوزراء البرجوازيين المستقيلين بوزراء ديمقراطيين وإعلان الجمهورية الديمقراطية وحل مجلس دوما الدولة وتطبيق الإصلاح الزراعي والتعجيل بالدعوة إلى مؤتمر يمثل كافة الأحزاب والتنظيمات هذا المؤتمر الذي عرف فيما بعد بالمؤتمر الديمقراطي الذي شارك فيه البلاشفة في البداية ثم انسحبوا منه مطالبين بضرورة عقد المؤتمر الثاني للسوفيتات. وأجرت اللجنتان التنفيذيتان بقيادة الإشتراكيين الثوريين و المناشفة مباحثات طويلة مع كرنسكي الذي أصر على دعمه بغير شروط. يقول تروتسكي في معرض حديثه عن هذه الفترة :« وبعد هذه المباحثات ... لوحظ بأن كرنسكي يرفض بأصرار أي إشراف ديمقراطي على الحكومة. وكان إحساس كرنسكي باهتزاز الأرض تحت قدميه من ناحية اليمين        و اليسار يدفعه إلى التمسك بكل قواه بفكرة « حكومة المديرين » التي تجمعت فيها كافة أحلامه التي لم تبدّد بعد والخاصة بسلطة قوية. وبعد مناقشات جديدة ... أتخذ المجتمعون قرارا بالتوجه مرة أخرى إلى كرنسكي ... وفي الساعة السابعة والنصف صباحا عاد تيسريتلي ليعلن بأن كرنسكي يرفض تقديم التنازلات ويطالب «بدعم غير مشروط» ولكنه يعد بأستخدام « كل قوى الدولة » للقتال ضد الثورة المضادة ولكن تعهد كرنسكي العلني باستخدام «كل قوة الدولة» للقتال ضد الثورة المضادة لم يمنعه كما نعلم من التفاوض مع ميليوكوف وألكسيف والوزراء المستقلين وإجراء المباحثات حول موضوع الاستسلام السلمي أمام القيادة العليا...»(4). واستعدت لجنة الدفاع لمواجهة المؤامرة العسكرية وإفشال الانقلاب وبدأت نشاطاتها للإعداد للدفاع عن بتروغراد. وفي الوقت الذي ركنت فيه الحكومة المؤقتة إلى التردد رغبة منها في الوصول إلى حل أو شكل من الأشكال المساومة مع كرنيلوف قامت لجنة الدفاع بنشاط واسع لتطويق الانقلاب قبل أن تصل قطاعات القيادة العسكرية العليا وتحاصر أحياء بتروغراد. وسعت الجماهير المسلحة إلى القضاء على المراكز المؤيدة للأنقلاب داخل العاصمة وأجرت حملات تفتيش واعتقالات في صفوف الضباط الموالين لكرنليوف وأصبحت المؤسسات المدنية والعسكرية (مستخدمي السكك الحديدية ــ ومراكز البريد و قطعات الجنود) تتصرف حسب تعليمات لجنة الدفاع التي اضطرت تحت ضغط البلاشفة إلى تسليح العمال للدفاع عن الأحياء والمصانع. وقامت التنظيمات السوفييتية القاعدية بدور كبير في التحريض على التنظيم الذاتي للجماهير فتكونت لجان الأحياء المسلحة المتركبة من ميليشيات عمالية متحركة وأقر تنظيم البلاشفة العسكري ضرورة تسليح العمال وتدريبهم على استعمال السلاح، وطلب باعتقال كافة المتآمرين ونظم اجتماعات كثيرة دعى أثناءها العمال والجنود  إلى الدفاع عن المدينة و إسقاط القيادة العليا، وسحق المؤامرة، وإرساء سلطة ثورية للعمال والجنود. «وما إن دخلت أحياء بتروغراد حلبة الصراع حتى تبدّل اتجاه هذا الصراع بصورة مفاجئة. وكشفت التجربة من جديد حيوية التنظيم السوفييتي التي لا تنضب : لقد شلت قيادة التوفيقيين هذا التنظيم من الأعلى فتحرك في اللحظة الحاسمة من الأسفل بدفع من الجماهير ... وكان توتّر الصراع في كل مكان يدفع إلى أمام أكثر العناصر فعالية وجرأة. وأدّى هذا الاصطفاء الآلي إلى رفع البلاشفة بشكل لا مندوحة عنه، وتقوية نفوذهم، وجمع المبادهة بين أيديهم، وسلّمهم القيادة حتى في التنظيمات التي كانوا فيها قلّة. وكلما كان التنظيم يقترب من الحي، والمصنع، والثكنة، كلما ظهرت سيطرة البلاشفة بشكل أوضح وأكثر كمالا »(5). 
بـ ـ البلاشفة يعودون لشعار كل السلطة للسوفييت
أدّى انقلاب كرنيلوف إلى انعطاف حاسم في الوضع السياسي في روسيا مع بداية شهر سبتمبر1917 حتّم على الحزب البلشفي إعادة النظر في بعض تكتيكاته وشعاراته وتعديلها بما يتلاءم وطبيعة الظرف السياسي القائم. فقد بينت المؤامرة الانقلابية وبشكل ملموس لجماهير العمال والجنود والفلاحين كم أصبحت ضرورية مهمّة إسقاط السلطة البرجوازية واستيلاء البروليتاريا على السلطة للخلاص من نير الاستغلال الرأسمالي ولتحقيق الإصلاح الزراعي وإنهاء الحرب اللصوصية.
بعد هزيمة كرنيلوف أصبح الوضع مناسبا لقيام حكومة بدون البرجوازية. حكومة يمكن أن تؤمن سير الثورة بشكل سلمي. هذا ما استنتجه لينين من المنعطف الذي حدث وهو ما دفع الحزب البلشفي إلى الرجوع إلى مطلب كل السلطة للسوفييت من أجل تشكيل حكومة من الإشتراكيين الثوريين و المناشفة حزبي الأغلبية السوفييتية. كان لينين في هذه العودة إلى الشعار الذي تخلّى عنه الحزب البلشفي أثناء الائتلاف الأول الذي كرّس تحالف حزبي الديمقراطية البرجوازية الصغيرة مع الأحزاب البرجوازية والملكية وتحول جهاز السوفييتات إلى جهاز مشلول تسيطر بواسطته البرجوازية على الشعب مجرد مساومة يقوم بها الحزب البلشفي لدفع التوفيقيين الإشتراكيين الثوريين و المناشفة إلى القطع مع البرجوازية الصغيرة أو مواجهة الجماهير التي بدأت تتحرّر شيئا فشيئا من أوهامها وأصبحت لا تثق في أيّ إصلاح للوضع قد يأتي من الطبقة البرجوازية وأحزابها أو من سلطة يشارك فيها البرجوازيون.
لم يكن تخلي البلاشفة عن مطلب كل السلطة للسوفييت في الأيام التي سبقت شهر جويلية يعني التخلي عن السوفييتات كشكل من أشكال التنظيم الذاتي للبروليتاريا والجنود والفلاحين الفقراء ومركزا لتجميع القوى الثورية التي ستحضّر للانتفاضة وتعدّ للقيام بالثورة تحت قيادة الحزب الثوري، وأجهزة السلطة الجديدة التي ستأخذ بيدها أمر تسيير الشؤون السياسية والاقتصادية أثناء قيام دكتاتورية البروليتاريا التي ستحطم جهاز الدولة البرجوازية وتلغي كل مؤسساته البيروقراطية. لقد وقع ترك هذا الشعار والمطلب للرجوع إليه حالما يصبح ممكن التحقيق في الواقع وتحت قيادة ثورية. 
عاد البلاشفة إلى مطلب كل السلطة للسوفييت لمّا لاحت إمكانية لتطور سلمي جديد للثورة على إثر فشل انقلاب كرنيلوف،وتفكك الائتلاف،ولما سادت الترددات والانقسامات في صفوف الإشتراكيين الثوريين والمناشفة تجاه التحالف من جديد مع الأحزاب البرجوازية. كان البلاشفة يرون أن التطور السلمي للثورة إمكانية واردة ومنعطفا لن يدوم طويلا. وتكتيك دفع الديمقراطية البرجوازية الصغيرة إلى فكّ ارتباطها بالبرجوازية إمكانية قد تتحقق في الواقع وتسمح عند تحققها للبلاشفة الذين بدؤوا يعزّزون صفوفهم داخل السوفييتات ويكسبون قيادتها بالتحريض واستغلال المراوحة والتردد الذين سيظهرهما حزبا المناشفة والاشتراكيين الثوريين في انجاز المطالب الملحة للجماهير للعمل على تحقيق دولة الكومونة كما طالب بذلك لينين منذ أفريل. كان مفهوم التطور السلمي للثورة كما حدّده البلاشفة قبل جويلية وأثناء المنعطف الجديد يعني «كسب البلاشفة إمكانية التحريض بحرية تامة لنظراتهم، والعمل في ظروف الديمقراطية التامة فعلا من أجل التأثير في السوفييتات . إن «الجميع» يعترفون الآن بالأقوال بهذه الحرية للبلاشفة. أما في الواقع فإن هذه الحرية غير ممكنة في ظل حكومة برجوازية أو في ظل حكومة تشترك فيها البرجوازية، في ظل أي حكومة أخرى عدا الحكومة السوفييتية، ففي ظل الحكومة السوفييتية تكون هذه الحرية ممكنة ( ونحن لا نقول: مؤَمّنة بكل تأكيد بل ممكنة مع ذلك). ومن أجل إمكانية كهذه ينبغي في زمن صعب كهذا الإقدام على مساومة مع الأغلبية السوفييتية الحالية وليس لنا ما نخشاه في ظل الديمقراطية الفعلية لأن الحياة إلى جانبنا. وحتّى مجرى تطور التيارات داخل حزبي الإشتراكيين الثوريين والمناشفة المعادين لنا يؤكد أننا على حق وصواب.»(6)
 لقد طرح لينين هذه المساومة كتكتيك يستجيب للظرف القائم الذي نتج عن فشل الانقلاب وعن التجذر النسبي الذي أصبحت عليه تجربة الجماهير والذي استلزم إعادة النظر بشعار دكتاتورية البروليتاريا والفلاحين الفقراء وتعديله مؤقتا بدون التخلي عنه، فمطلب حكومة من حزبي الأغلبية السوفييتية مسؤولة أمام جهاز السوفييت كان مساومة إلاّ أنها مساومة اختيارية لا اضطرارية مساومة محددة بشروط. هي مساومة لا تعكس أي أوهام حول طبيعة حزبي الأغلبية السوفييتية ولا حول حدود الديمقراطية البرجوازية. إنها تنازل مؤقت عن شعار دكتاتورية البروليتاريا لتحضير أرضية تطور للثورة تؤدي إلى إفلاس الحزبين الإصلاحيين وتكشف عن حدودهما وعجزهما أمام مطالب الجماهير الحقيقية وتهيئ لكسب الأغلبية في السوفييتات لصالح البلاشفة، وتدفع إلى فصل أغلبية العمال والفلاحين عن حزبي المناشفة والاشتراكيين الثوريين و السير تحت قيادة الحزب البلشفي الحزب الوحيد القادر على قيادة مثل هذا التحالف الثوري قاعدة انتصار الثورة الإشتراكية وإرساء دكتاتورية البروليتاريا. «إن مهمة الحزب الثوري حقا لا تفرض إعلان الامتناع عن كل مساومة أمرا مستحيلا بل تفرض معرفة الحزب كيف يبقى عبر جميع المساومات مادامت محتّمة لا ندحة عنها مخلصا لمبادئه، لطبقته، لمهمته الثورية،لواجبه،واجب إعداد الثورة وتربية الجماهير والشعب من أجل إحراز النصر في الثورة... إن عودتنا إلى المطلب السابق لشهر تموز(يوليو) والقائل: كل السلطة للسوفييتات حكومة من الإشتراكيين الثوريين والمناشفة مسؤولة أمام السوفييتات هي مساومة من جانبنا ... وبإمكان هذه الحكومة أن تؤمن على الأرجح سير الثورة الروسية كلها إلى الأمام بصورة سلمية ... وفي سبيل هذا التطور السلمي للثورة وفي سبيله فقط ـ أي في سبيل إمكانية نادرة إلى أقصى حدّ في التاريخ وثمينة إلى أقصى حدّ إمكانية نادرة للغاية في سبيلها فقط برأيي أنه في مستطاع ومن واجب البلاشفة وأنصار الثورة العالمية وأنصار الطرائق الثورية أن يقدموا على مساومة كهذه.»(7).
 كانت المساومة كما طرحها لينين محدّدة بشروط هي:
ــ تأليف حكومة بدون البرجوازية مسؤولة أمام السوفييت.
ــ نقل كامل السلطة في الأقاليم والجهات إلى السوفييتات المحلية.
ــ الحرية التامة للتحريض ودعوة الجمعية التأسيسية.
ــ إعادة انتخاب السوفييتات بتطبيق أكمل شروط الديمقراطية.
ــ عدم اشتراك البلاشفة في الحكومة.
ماذا كان سيكسب البلاشفة من هذا التكتيك؟ما كان لهم أن يكسبوا أكثر من ضمان إمكانية تحريض واسع لبرنامجهم من أجل التأثير في السوفييتات والوصول إلى كسب الأغلبية فيها. إن توسيع الديمقراطية إلى أقصى حدّ كان يمثل بالنسبة للحزب البلشفي مجالا لممارسة التحريض بحرية داخل السوفييتات حول عجز حكومة البرجوازية والبرجوازية الصغيرة عن إنجاز المهمات الديمقراطية  الإصلاح الزراعي والجمعية التأسيسية ... وجعل الجماهير تعي بتجربتها الخاصة أنه لا بدّ لانجاز مثل هذه المهمات وإكمالها إلى النهاية من قيادة طبقية جديدة وسلطة ثورية لا يمكن أن تكون غير دكتاتورية البروليتاريا المستندة إلى الفلاحين الفقراء. وإجمالا يمكن القول أن هذه المساومة كانت مراهنة من الحزب البلشفي على عدم تجانس الكتلة البرجوازية الصغيرة، وتكتيكا منه لكشف حدود الديمقراطية البرجوازية الصغيرة وتذبذبها وتردّدها حتى في إنجاز البرنامج الديمقراطي (الحريات السياسية و الإصلاح الزراعي) بدون أن يتخلى عن استقلاليته التامة عن الأحزاب البرجوازية والبرجوازية الصغيرة وبدون مشاركتها في الحكومة فـ «بقدرما يتكامل إفلاس تحالف البرجوازية مع الاشتراكيين الثوريين والمناشفة يتعلم الشعب بمزيد من السرعة ويجد بمزيد من السهولة المخرج الصحيح : تحالف الفلاحين الفقراء أي أغلبية الفلاحين مع البروليتاريا»(8). كانت هذه المساومة تهدف إلى جعل وضع ازدواجية السلطة التي نشأت بظهور السوفييتات وتسلّم البرجوازية السلطة منذ شهر فيفري 1917 يحتدّ بفصل الاشتراكيين الثوريين والمناشفة عن البرجوازية. فهذه الكتلة التي ستكوّن الحكومة وستعجز عن التقدم بالثورة ستواجه السوفييتات أيضا وستسهّل بالتالي مهمة الحزب البلشفي في قيادة التحالف بين العمال والفلاحين الفقراء الذين سيدركون بالملموس عجز البرجوازية الصغيرة. وبالاستناد إلى وعي الجماهير سيبدأ الحزب البلشفي بالتحضير للانتفاضة كحل لأزمة الازدواجية الجديدة بشكل مضمون لصالح الطبقة العاملة وحلافائها.
كانت المساومة تكتيكا استوعب دروس وتجربة أزمات الثورة السابقة وخاصة الأزمة التي سبقت شهر جويلية والتي وطّدت إلى حين سيطرة البرجوازية على السلطة بدون أن تقضي على أزدواجية السلطة التي ظلت كامنة في الوضع ولم تأخذ طبعا سافرا حتى فترة انقلاب كرنيلوف الذي مثل منعطفا جديدا في الصراع بين الطبقات وأدى إلى انتفاضة أكتوبر وانتصار الثورة.
ما كان لهذه المساومة أن تتحقق. فلقد امتنع الاشتراكيون الثوريون والمناشفة عن المشاركة في حكومة ائتلافية جديدة مع البرجوازية بعد فشل الانقلاب وانجروا إلى مساندة «حكومة المديرين» التي شكلها كرنسكي باتفاق وتشاور مع حزب الكاديت. وبعد مدة قصيرة سرعان ما تراجعوا عن موقفهم الأول وكونوا حكومة ائتلافية كانت الحكومة الخامسة منذ سقوط القيصرية في الشهر فيفري 1917.
وهكذا وفي أيام معدودة مضت فترة كان فيها التطور السلمي للثورة إمكانية قد تتحقق وأصبح من قبيل الخطإ القاتل المراهنة على ممثلي البرجوازية الصغيرة في فك ارتباطهم بالطبقة البرجوازية. وتعززت من جديد سلطة الرسماليين والملاكين العقاريين، وأضحى تكتيك تطور الثورة تطور سلميا تكتيكا خاطئا و« أفكار متأخرة »(9). وانقلب الوضع. ومكن ائتلاف المناشفة والاشتراكيين الثوريين مع البرجوازية السوفييتات من التحرّر من الأوهام البرجوازية الصغيرة (10). ودفع الجماهير خطوات إلى أمام في أتجاه الحزب البلشفي الذي بدأ يعدّ لاستلام السلطة.
ج) الانتفاضة وانتصار الثورة
في شهر سبتمبر وإبان الأزمة الحكومية دعت اللجنة التنفيذية لسوفيات مندوبي العمال والجنود لعامة روسيا إلى عقد «الندوة الديمقراطية» التي التأمت خلال نفس الشهر وأقرت مبدأ التحالف مع البرجوازية، ووافقت على أنشاء برلمان تحضيري استشاري دعي «المجلس الجمهوري المؤقت». في هذا التاريخ لم تعد اللجنة التنفيذية تمثل القاعدة السوفييتية، وبدأت تلمّح عن طريق صحيفة ازفستيا لسان حالها الرسمي إلى حل السوفييتات حالما تنعقد الجمعية التأسيسية. فقد أصبح الاشتراكيون الثوريون والمناشفة يعملون على عرقلة تأثير البلاشفة بكل الطرق وارتبطوا بشكل نهائي مع قوى الثورة المضادة خاصة بعد أن أصبح الحزب البلشفي يحوز على الأغلبية في سوفيياتى بتروغراد وموسكو. وقد اختلف البلاشفة حول المشاركة في هذه الهيئة الاستشارية وانقسموا جناحين مؤيدون ومعارضون للمشاركة. وحاز أنصار الجناح الأول بقيادة كامينيف وزينوفيف على الأغلبية حول هذا الموقف. وشارك البلاشفة في اللجنة التحضيرية للمجلس الجمهوري المؤقت بـ 66 مندوبا، انسحبوا في بداية شهر أكتوبر أثر الكلمة التي ألقاها تروتسكي باسم البلاشفة في اجتماع هذا المجلس والتي أعلنوا فيها رفضهم الإشتراك في هذه الهيئة التي لا يمكن أن تكون غير هيئة لخيانة الشعب والثورة. وأنهى تروتسكي تدخله في ذلك الاجتماع بقوله:«أننا نحن جماعة البلاشفة نصرح بما يلي: نحن لا نملك شيئا مشتركا مع هذه الحكومة التي تخون الشعب، ولا مع هذا المجلس الخائر الأمام الثورة المضادة... وإننا ونحن نغادر المجلس المؤقت لندعو العمال وجنود وفلاحي عموم روسيا إلى التحلي بالشجاعة واليقظة،إن بتروغراد في خطر !... إننا نتوجه إلى الشعب. كل السلطة للسوفييت !» (11).
في أواخر شهر سبتمبر لم يعد الخطر على الثورة كامنا في الاتجاه بسرعة إلى اليسار كما كان طيلة المدة التي سبقت أحداث جويلية، بل أصبح الخطر يكمن في المراوحة والتأخر عن ترتيب أمر إسقاط الحكومة البرجوازية وتنظيم الانتفاضة لاستيلاء البروليتاريا على السلطة. كان هذا هو جوهر الموقف الذي حدّد سياسة الحزب البلشفي طيلة المرحلة التي أعقبت تشكل حكومة الائتلاف الأخيرة. لقد حلت مرحلة التحضير للانتفاضة. وبدأ لينين يخوض صراعا داخل الحزب البلشفي لكسب الأغلبية لهذا الموقف ضد كل معارضيه من الإنتظاريين، ويرد على جميع حججهم. وقد كتب في هذه الفترة جملة من المقالات (12). عرض فيها كل آرائه و أفكاره التي مازالت إلى اليوم وستبقى دليلا على عظمة فكره وقوة إرادته الثورية وتمسكه بالنظرة الماركسية الثورية كدليل ومرشد للعمل. وقد مثلت هذه المقالات معالجة ملموسة وثورية للمسائل التي اعترضت البروليتاريا الروسية في نضالها للظفر بالسلطة السياسية.
في نفس هذا التاريخ ومع خروج البلاشفة من اللجنة التحضيرية للمجلس الجمهوري، شنت الأحزاب البرجوازية والتوفيقيون البرجوازيون الصغار حملة تحريض واسعة ضد بقاء القوات العسكرية المتمركزة في بتروغراد والتي كان تأثير البلاشفة ونفوذهم فيها واضحا وكبيرا ويتعاظم من يوم إلى آخر، وطالبوا بعودة هذه الأفواج إلى الجبهة وأخلاء المدينة منها. كانت هذه الحملة تهدف إلى تجريد البلاشفة من أقوى سند لهم : دعامتهم العسكرية فإخراج الأفواج العسكرية المرابطة في العاصمة وتفتيت هذه الحامية كان يعني إخضاع البلاشفة. وقد أخفت الحكومة وأنصار إخلاء بتروغراد الأهداف السياسية التي يرمون إلى تحقيقها من وراء هذه العملية بدوافع إستراتيجية وهمية. ورفضت أفواج بتروغراد العسكرية الخضوع لأوامر الحكومة المؤقتة التي لم يعد في مقدورها التصرف بهذه القوات وفشلت هذه الخطة مثلما فشلت خطة نقل العاصمة من بتروغراد إلى موسكو. لقد دفع انسحاب البلاشفة ومقاطعتهم للمجلس الجمهوري المؤقت بجماهير العمال والفلاحين خطوة إلى الأمام في اتجاه قطيعة تامة مع الحكومة البرجوازية ومؤسستها التي لم تكن تمثل غير أجهزة لإجهاض الثورة تسيطر عليها قوى الثورة المضادة، وأصبح واضحا للجماهير أن الحكومة تعمل على تعويض السوفييتات بأجهزة إدارية خاضعة لنفوذها ولكن الوقت كان متأخرا! فلقد غدت السوفييتات التي تبلشفت في أغلبها مؤسسات للثورة وأجهزة لسلطة عمالية ثورية تسعى إلى تحطيم الدولة البرجوازية و أرساء دولة دكتاتورية البروليتاريا .
 لقد قرر المؤتمر الأول للسوفييتات، المنعقد في جوان، عقد مؤتمراته كل ثلاثة أشهر. وقد عطلت الجنة التنفيذية موعد إقامة المؤتمر الثاني لما حاز البلاشفة على أغلبية واضحة في سوفييتات القاعدة تمكنهم من السيطرة على مجل الأجهزة التنفيذية في السوفييت فركّز الحزب البلشفي حملة تحضيرية قوية من أجل تحديد موعد المؤتمر الثاني، وهدّدت سوفييتات القاعدة بحسب حق استدعاء المؤتمر من اللجنة التنفيذية ولم يكن بوسع الحزب البلشفي ترك اللحظة التاريخية التي حولت الأزمة السياسية إلى وضع ثوري تمر دون أن تحمل البروليتاريا إلى السلطة السياسية.
كان تصميم لينين على ضرورة أن يبدأ الحزب البلشفي عمليا في التحضير للإستيلاء على السلطة السياسية ناتج عن تحليله العميق للتطور الذي حصل في الوضع السياسي. فقد أفلست الحكومة البرجوازية برئاسة كرنسكي في نظر أغلبية الجماهير ولم تعد قادرة لا على إنهاء الحرب ولا على تنفيذ أي إصلاح سياسي أو اقتصادي، وتحولت أحزاب الديمقراطية البرجوازية الصغيرة إلى قوة مناهضة للثورة و آحتياطي لقوى الثورة المضادة. وتغير ميزان القوى في السوفييتات لصالح الحزب البلشفي. و تجذرت الانتفاضة الفلاحية في الريف. وقد كتب لينين في أواخر شهر سبتمبر في رسالة موجهة إلى اللجنة المركزية ولجنة بتروغراد ولجنة موسكو للحزب البلشفي يقول :«إن البلاشفة وقد نالوا الأغلبية في سوفييتي نواب العمال والجنود في العاصمتين، يستطيعون ويجب علهم أن يأخذوا سلطة الدولة في أيديهم ... لأن البلاشفة بعرضهم على الفور صلحا ديمقراطيا وإعطائهم الأرض على الفور للفلاحين، وبعثهم المؤسسات و الحريات الديمقراطية التي داسها وحطمها كرنسكي سيشكلون حكومة لن يطيح بها أحد ... المسالة تتخلص في جعل المهمة واضحة أمام الحزب ... يجب طرح الانتفاضة المسلحة ... والظفر بالسلطة و الإطاحة بالحكومة ... إن التاريخ لن يغفر لنا إذا لم نأخذ السلطة الآن »(13).
دعا لينين إلى الانتفاضة وحدد شروطها التي أصبحت ناضجة في مقالته الماركسية والانتفاضة وهي
ــ وجوب الإعتماد في الإنتفاضة على الطبقة الطليعية لا على مؤامرة ولا على حزب بمفرده(14).
ــ اقتران لحظة الإنتفاضة بآنعطاف حاسم في الأوضاع، تتحدّد فيها الأزمة في صلب الطبقات الحاكمة ويبلغ التردد والعجز ذروتهما في صفوف البرجوازية الصغيرة. وقد كانت هذه الشروط في بداية نضجها في الوضع الروسي منذ أواخر شهر سبتمبر. لقد حدد لينين منذ 1915 في كتابه إفلاس الأممية الثانية شروط أنتصار الثورة وتشكل الوضع الثوري بقوله:«إن الماركسي لا يشك مطلقا في أن الثورة مستحلية دون وضع ثوري، ولكن ليس كل وضع ثوري يؤدي إلى الثورة. فما هي بعامة دلائل الوضع الثوري؟ يقينا لن نخطىء إذا أشرنا إلى الدلائل الرئيسية الثلاثة التالية:
1) أن يستحيل على الطبقات السائدة الاحتفاظ بسيادتها دون أي تغيير، أن تنشب هذه الأزمة أو تلك في«القمّة» أي تنشب أزمة في سياسية الطبقة السائدة تسفر عن صدع يتدفق منه أستياء الطبقات المضطهدة وغضبها فلكي تنفجر الثورة لا يكفي عادة«ألا تريد القاعدة بعد الآن» أن تعيش كما في السابق بل ينبغي أيضا «ألا تستطيع القمة ذلك».
2) أن يتفاقم بؤس الطبقات المضطهدة ويشتد شقاؤها أكثر من المألوف.
3) أن يتعاظم كثيرا للأسباب المشار إليها آنفا، نشاط الجماهير التي تستسلم للنهب بهدوء في زمن «السلم» ولكن التي تدفعها في زمن العاصفة سواء أجواء الأزمة كلها أم «القمة» نفسها إلى القيام بنشاط تاريخي مستقل. ودون هذه التغيرات الموضوعية المستقلّة لا عن إرادة هذه الكتل والأحزاب أو تلك وحسب بل أيضا عن إرادة هذه الطبقات أو تلك تستحيل الثورة بوجه عام ومجموع هذه التغيرات الموضوعية يسمى وضعا ثوريا ...»(15).
كان موقف لينين الذي دافع عنه في اجتماعات اللجنة المركزية للحزب البلشفي ضد الإتجاه الإنتظاري الذي عارض الانتفاضة ينطلق من أن الشروط الموضعية والذاتية للقيام بالثورة والاستيلاء على السلطة السياسية ناضجة فالأزمة التي يمرّ بها المجتمع تسمح للبلاشفة بالقيام بالإنتفاضة المسلحة وقيادة جماهير العمال والجنود لإسقاط الحكومة المؤقتة وتحطيم الدولة البرجوازية وإعلان دكتاتورية البروليتاريا وكانت حجج العناصر المترددة تتخلص في أن ليس في مقدور العمال إدارة جهاز الدولة وأن الثورة لا تملك جهازا قادرا على الحلول محل الجهاز القديم لممارسة السلطة. ورد لينين على أصحاب هذا الموقف داخل الحزب وخارجه مبينا أن هذا الجهاز موجود وهو جهاز السوفييتات.
كان لينين قد أدرك بفكره الثوري التردد الذي كانت عليه اللجنة المركزية للحزب البلشفي حول التحضير للانتفاضة. فكتب في رسالة إلى المشتركين في مؤتمر سوفييتات المنطقة الشمالية يقول(16) :« أغلب الظن أن كثيرين من قادة حزبنا لم يلاحظوا الأهمية الخاصة لذلك الشعار الذي أعترفنا به جميعا وكررناه بلا نهاية. هذا الشعار هو: كل السلطة للسوفييتات وكانت مراحل، كانت فترة خلال نصف عام من الثورة لم يكن فيها هذا الشعار يعني الإنتفاضة. ربما هذه المراحل
و هذه الفترات أعمت قسما من الرفاق وحملتهم على نسيان أن هذا الشعار يعادل الآن بالنسبة لنا أيضا، ومنذ منتصف أيلول (سبتمبر) على أقل تقدير، نداء إلى الانتفاضة ... أن شعار «كل السلطة للسوفييتات» ليس سوى نداء إلى الإنتفاضة. والذنب ذنبنا كليا و إطلاقا إذا كنا نحن الذين دعونا الجماهير طوال أشهر إلى الانتفاضة، إلى رفض التوفيق، لا نقود هذه الجماهير إلى الانتفاضة عشية إفلاس الثورة بعد أن أعربت الجماهير عن ثقتها بنا»(17). وحلل لينين في رسائله ومقالاته التي وجهها إلى اللجنة المركزية للحزب وشرح بافاضة مفهوم الإنتفاضة المسلحة وكيفية الإعداد الواعي لمثل هذه الخطوة من أجل الاستيلاء على السلطة السياسية، وبين كيف أنه يمكن للبلاشفة أن يقوموا بالانتفاضة ويقودوا الجماهير إلى تحقيق مطالبها رغم صياحات الفزع التي يطلقها البرجوازيون الصغار ورغم تردّد الكتلة اليمنية في الحزب والمعارضة لهذا التكتيك بحجة أن أخذ السلطة عمل سابق لأونه في مثل تلك الظروف ولا يمكن أن يؤدي إلا إلى هزيمة للحزب والثورة.
كان برهان لينين أن أستيلاء البروليتاريا على السلطة أصبح مسألة من المسائل الساعة في الوضع الراهن، وأن كل التأخير في الإعداد لذلك يعد جريمة وخيانة كبرى وذكّر معارضيه من قيادات الحزب بأن البلاشفة وفي ذلك الوضع بالذات لم يأخذوا على عاتقهم مهام لا حل لها. فمهام التقدم نحو دكتاتورية البروليتاريا ونحو الإشتراكية هي المخرج الوحيد للأزمة التي يتخبط فيها المجتمع. فقد بينت الأحداث إنعطاف الجماهير نحو الحزب البلشفي بعد تزعزع ثقتها في الحكومة البرجوازية وفي الممثلين الرسميين للديمقراطية البرجوازية الصغيرة. البروليتاريا وحدها التي يمكن لها عند توليها السلطة أن تسلك سياسة ثورية بنظر الجماهير وتحل جملة المطالب الملحة، وبهذه الاجراءات يمكن للطبقة العاملة أن تؤمن لنفسها تأييد أغلبية الشعب ولن تتمكن البروليتاريا من الوصول إلى السلطة السياسية بالطرق البرلمانية أو انتظار المجلس التأسيسي بل عليها أن تعرف كيف تنظم عملا ثوريا من أجل إستيلاء على السلطة. فالبروليتاريا لا تستطيع الاستيلاء على جهاز الدولة البرجوازية وتحريكه و لكن عليها أن تحطّم هذا الجهاز وتستعيض عنه بجهاز خاص بها، وهذا الجهاز موجود وتحت سيطرة العناصر الأكثر ثورية في الطبقة العاملة، إنه جهاز السوفييتات التي يقودها البلاشفة . إن هذا الجهاز قد أنشأ قوة العمال والفلاحين المسلحة غير المنفصلة عن «الشعب » وهو على صلة وثقي بأوسع الجماهير، وهو جهاز ديمقراطي ينظم الطليعة الثورية والفئات الأكثر وعيا من العمال والفلاحين، وهو من حيث التمثيلية لا يمت بأي صلة إلى الأشكال التمثيلية البرلمانية البرجوازية المزيفة فالجماهير في السوفييتات هي التي ستمارس سلطة التشريع والتنفيذ والإدارة، وهي التي ستختار ممثيلها بشكل أكثر ديمقراطية، وهي قادرة في هذا الجهاز وبهذا الجهاز على تنفيذ برنامج الثورة المتمثل في:
ــ إلغاء البوليس والجيش وتسليح الشعب.
ــ تأميم الأرض ووضعها تحت تصرف سوفييتات العمال الزراعيين.
ــ تأميم المصارف والشركات وإلغاء السر التجاري وإعلان الرقابة على الرأسماليين.
ــ إنهاء الحرب.
ــ حل مسألة الإضطهاد القومي الخ... (راجع مقالة لينين الكارثة المحدقة).
وأكّد لينين ضرورة أن تكون البروليتاريا منظمة وواعية ومسلحة كي يمكنها التحرك بفعالية من أجل أرساء دكتاتوريتها. فالإعداد الواعي للإنتفاضة وتنفيذها بتصميم هما الشرطان اللذان سيحولان دون تحوّّل سياسة السوفييتات والحزب البلشفي إلى سياسة دفاع عن الوضع القائم. ومعارضة الإنتفاضة وبأية حجّة كانت،وتأجيلها، وتردّد قيادة الحزب، يعني قيادة البروليتاريا والفلاحين إلى سياسة دفاع عن المجتمع الرأسمالي، وسلوك نهج برلماني لن يؤدي وفي كل الحالات إلاّ إلى القضاء على الثورة. وقد آستشهد لينين بماركس في الرد على الانتظاريين اليمنيين المعارضين «للسياسية المغامرية» حسب «رأيهم» والتي سيدفع إليها الحزب و السوفييتات فكتب :« إليكم رأي ممثل ومؤسس تكتيك البروليتاريا الثوري، كارل مركس ... حول هذه المسألة » «إن الإنتفاضة فن مثل الحرب أو أي فن آخر. وهي تخضع إلى قواعد يؤدي إهمالها إلى هلاك الحزب المسؤول عن هذا الإهمال. وهذه القواعد التي تستخلص بصورة منطقية من طبيعة الأحزاب من طبيعة الظروف التي لابد من مواجهتها في مثل هذه الحال،جدّ واضحة وبسيطة إلى حد أن تجربة 1848 القصيرة جعلت الألمان يعرفونها تماما.
أولا: لا تلعبوا أبدا بالإنتفاضة إذا كنتم لا تعتزمون على السير حتى النهاية ... فالإنتفاضة معادلة أرقامها غير محدودة إطلاقا، وقد تتغير كل يوم، والقوى القتالية التي تصطدمون بها تتفوق عليكم من حيث التنظيم وروح الطاعة والنظام وعادة الخضوع للسلطة (ويقصد ماركس هنا «أصعب» الحالات حيث تنشب الإنتفاضة ضد سلطة عريقة«مكنية» ضد جيش لما يتفسخ بتأثير الثورة من جراء تقلبات الحكومة). فإذا لم يستطع الثوار حشد قوات كبيرة ضد خصمهم كسرهم وقضى عليهم.
ثانيا: ومتى بدأتم الإنتفاضة فاعملوا بأشد الحزم، وبادروا إلى الهجوم. فالدفاع موت. كل انتفاضة مسلحة، فهي تهلك قبل أن تجابه أعداءها إذا ما أخذت موقف الدفاع. باغتوا أعداء كم حين تكون قواهم مشتتة، مبعثرة أحرزوا انتصارات جديدة، وإن طفيفة شرط أن تكون يومية، حافظوا على التفوق المعنوي الذي أكسبتكم إياه أوّل حركة للثوار تكللت بالنجاح لفّوا حولكم هذه العناصر المترددة التي تتبع دائما الجانب القوى والتي تقف دائما إلى الناحية الأقل خطرا أكرهوا أعداء كم على التراجع قبل أن يتمكنوا من لمّ شمل قواتهم ضد كم. وبكلمة اعملوا حسب كلمات دانتون الذي هو أكبر معلم عرفه التاريخ في التكتيك الثوري : الجرأة، الجرأة أيضا، الجرأة أبدا»(18) .
قبل الجناح اليميني في قيادة الحزب نداءات لينين المتكررة بالتردد. فأدرك لينين أن الحزب قادم على معركة لا تقلّ أهمية عن المعركة التي خاضها أبان شهر أفريل للتسلّح ببرنامج ثوري ، و تجاوز الصيغ الجامدة للبلشفية القديمة وهو الذي يعلم جيدا أن ترددات تلك الأيام والميل إلى المحافظة مازالت سائدة. فالانتظارية والتردد والمماطلة في حسم الموقف من قبل قيادة الحزب تهدد بشكل خطير بالتفريط في العمال في وضع على غاية من النضج هيأت له سنوات طويلة من النضال. فالاشتراكيون الثوريين و المناشفة يستميتون في الدفاع عن الطبقة البرجوازية ويعملون على تحويل السوفييتات إلى جهاز مشلول. والبرجوازية بحكومتها المؤقتة برئاسة كرنسكي في وضع من العجز لا مخرج منه.     و الأزمة الثورية ناضجة ومستقبل الثورة الروسية مرهون بتصميم البلاشفة على القيام بالانتفاضة في اللحظة المناسبة وتغير موازين القوى و أرساء دكتاتورية البروليتاريا. و البلاشفة سيخونون الفلاحين، سيخنون قضية الاشتراكية والثورة العالمية إن هم أرجؤوا القيام بالإنتفاضة وفوتوا فرصة تنظيمها للظفر بالسلطة السياسية. إن التأخير في أخذ السلطة والانتظار والثرثرة في اللجنة المركزية والاقتصار على الانتظار من أجل انعقاد الجمعية التأسيسية أو مؤتمر السوفييتات لا يعني غير «إهلاك الثورة». وقد كتب لينين:«ونظرا لأن اللجنة المركزية تركت حتى بدون جواب إلحاحي بهذه الروح منذ بداية الاجتماع الديمقراطي ولأن الجريدة المركزية تشطب من مقالاتي الإشارات إلى أخطاء صارخة أقترفها البلاشفة كالقرار المخزي بالإشراك في البرلمان التمهيدي ومنح المناشفة أماكن في هيئة رئاسة السوفييت... نظرا لهذا يجب عليّ أن أرى هناك تلميحا«خفيفا» إلى عدم رغبة اللجنة المركزية حتى في بحث هذه المسألة، تلميحا خفيفا على تسكير الفم وإلى الاقتراح عليّ بالانصراف. وهكذا يتأتّي لي أن أقدم عريضة بالاستقالة من اللجنة المركزية، وهذا ما أفعله، وأن أترك لنفسي حرية التحريض في قواعد الحزب وفي مؤتمر الحزب»(19). كان لينين يدرك وقد صرح أكثر من مرة بأن الجماهير أكثر تصميما من الحزب وخاض صراعا عنيفا ضد الاتجاه اليميني في الحزب والمعارض لتكتيك الانتفاضة مثلما عارض في السباق موضوعات أفريل وخطة لينين لتسليح الحزب ببرنامج ثوري. وفي الجلسة التي عقدتها اللجنة المركزية في أواخر شهر سبتمبر لبحث مسالة الانتفاضة المسلحة وناقشت فيها رسالتي لينين«يجب على البلاشفة أن يأخذوا السلطة» و«الماركسية والانتفاضة» قررت اللجنة المركزية للحزب البلشفي بأغلبية حرق النصين وإخفائهما عن الحزب (20). وعورضت خطة لينين بروح تآمرية ولم تجد أي دعم من اللجنة المركزية وتحدث بوخارين بعد أربعة سنوات من ذلك التاريخ عن هذه الحادثة فقال:«كانت الرسالة(رسالة لينين) مكتوبة بلهجة تتسم بمنتهى العنف ... وقد إنعقد لساننا منها. ولم يكن أحد حتى الآن قد طرح المسألة بهذا العنف ...وكان الكل في البدء يعيشون في جوّ تحوطه الشكوك. وبعد أن تشاورنا  قررنا إحراق رسالة لينين ... وفكرنا بأننا سننجح من دون شك في استلام السلطة في بتروغراد وموسكو ولكننا قدرنا أننا لن نستطيع الصمود في المناطق أيضا ولن نستطيع بدون أدنى شك أن نعزز موقفنا في باقى أنحاء روسيا إلا إذا استولينا على السلطة وطردنا أعضاء المؤتمر الديمقراطي» (21 ).
بمثل هذه الأوهام عارض الجناح اليميني الدعوة إلى الانتفاضة معتبرا أنها ناتجة عن أساءة تقدير للوضع ولقوة الحكومة البرجوازية ، وعوّض تكتيك الانتفاضة بالدعوة والضغط من أجل عقد المجلس التأسيسي.
 بمثل هذه الروح الانهزامية و السياسة التوفيقية التي تقوم على تصوّر إشتراكي ديمقراطي أراد الجناح اليميني استبدال سلطة السوفييتات بسلطة الجمعية التأسيسية التي بيّنت التجربة وبالملموس أثناء انعقادها بعد انتصار الثورة أنها مجرد جهاز للديمقراطية البرجوازية إذ رفضت المصادقة على قرارات السوفييتات فحلّت بقرار من اللجنة التنفيذية المركزية للسوفييتات بعد يوم واحد من انعقادها. لقد أختلفت قيادة الحزب بصدد مسألة الانتفاضة، وبرز موقفان متعارضان : موقف كامينيف           و زينوفييف اللذان عارضا مبدأ الانتفاضة وتسلّم السوفييتات للسلطة ودافعا عن هذا الموقف منذ بداية شهر سبتمبر قبل أن يعبرا عنه علنيا يوم11 أكتوبر بنشرهم لبيان «حول الساعة الراهنة » الذي كشف فيه تكتيك الحزب البلشفي وأفشيا موعد انتفاضة. وموقف الجناح الذي يتزعمه لينين والداعي إلى ضرورة البدء فورا في بإلانتفاضة والاستيلاء على السلطة و إسقاط الحكومة المؤقتة البرجوازية. وقد عارض لينين الرأي الذي دعا إلى أن المؤتمر الثاني للسوفييتات هو الذي سيحل مسألة السلطة الذي صرح به تروتسكي في اجتماع سوفييت بتروغراد في الأسبوع الأول من شهر أكتوبر.
عارض لينين هذا الموقف من باب الحذر وبين أن مسالة الاستيلاء على السلطة السياسية مقترنة بالانتفاضة، ولن يقدر مؤتمر السوفييتات أن يعطي أي شيء لأن الحكومة يمكن أن تأجل أو تمنع أو تحاصر المؤتمر. كان هذا الإختلاف في جوهرة شكليا حيث برهنت الأحداث فيما بعد أن تحضير الانتفاضة بالتمويه للتحضير للمؤتمر الثاني للسوفييتات كان ذا فائدة عظيمة في انتصار الثورة . يقول تروتسكي : من الواضح أن إعداد الانتفاضة تحت ستار التحضير للمؤتمر الثاني لمجالس السوفيتيات وفي ظل شعار الدفاع عنه قدّم لنا خدمات جليلة ... وأكثر من ذلك فإننا حين جمعنا في تحضيرنا بين  قضية السلطة وقضية انعقاد المؤتمر الثاني لمجالس السوفيات كنا ننمّي ونعمق تقاليد الازدواجية (يعني ازدواجية السلطة) ونحظر الإطار السوفييتي للانتفاضة في جميع أنحاء روسيا...أن ننظم إنتفاضة مسلحة تحت شعار أخذ السلطة من قبل الحزب فهي شيء وأن نعد ّثم نحقّق الانتفاضة تحت شعار الدعوة لضرورة الدفاع عن حق مؤتمر مجالس السوفيات فهي شيء آخر. ونحن إذا ربطنا زمنيا بين أخذ السلطة والمؤتمر الثاني لمجالس السوفيات فإنه لم يكن لدينا أي أمل ساذج بأن هذا المؤتمر سيستطيع بنفسه حل قضية السلطة. فقد كنا بعيدين تماما كنا بعيدين تماما عن مثل هذه العبادة للشكل السوفياتي. فنحن وجهنا نشاطنا للعمل الضروري في الميادين السياسية والتنظيمية والعسكرية للإستيلاء على السلطة. ولم تكن إشارتنا إلى أن المؤتمر المقبل هو الذي سيقرر قضية السلطة  سوى غطاء شرعي لعملنا ... وليس هناك مجال لتعميم التجربة التي وقع فيها الجمع بين انتفاضة هادئة ... وبين الدفاع عن الشرعية السوفيتية ... وصياغتها في قانون عام، بل على العكس من ذلك يمكن التأكيد بأن هذه التجربة لا يمكن تكرارها في أي مكان بهذه الصورة. إلا أنه من الضروري دراستها باهتمام لأن دراستها توسع في أفق كل ثوري وتكشف له اختلاف الأساليب المتغيرة التي يقع تطبيقها في النشاط العملي . ولكن بشرط أن يتم تحديد هدف واضح وتقييم صاف للوضعية وتتوفر الإرادة للقيام بالنضال حتى النهاية»(22).
 تعدّل الموقف في اللجنة المركزية للحزب البلشفي جذريا لصالح الانتفاضة التي تقرر أن تسبق موعد انعقاد المؤتمر الثاني للسوفييتات وبدأت تنظيمات الحزب والجنة العسكرية الثورية الأعداد للإنتفاضة وعزلت الحكومة ولم تعد قادرة على تنفيذ أي قرار تتخذه، وشلت حركة الأركان العامة العسكرية لمنطقة بتروغراد الموالية للحكومة البرجوازية، وتحولت السلطة الفعلية إلى اللجنة العسكرية الثورية. بعد يوم واحد من تاريخ انعقاد اللجنة المركزية البلشفية التي اتخذت قرار الانتفاضة كتب كامينيف    و زينوفييف بيانهما «حول الساعة الراهنة» الذي وجهاه إلى منظمات الحزب الذي يقولان فيه:« إنه لخطأ تاريخي كبير أن تطرح مسألة استيلاء حزب البروليتاريا على السلطة بهذه الطريقة :الآن أو إلى الأبد ذلك أن حزب البروليتاريا في نمو مطرد وبرنامجه يتضح أكثر يوما بعد يوم لجماهير تتسع أعدادها شيء فشيئا ... ولن يقطع تقدم نجاحاته إلا المبادرة الآن بالثورة في الظروف الراهنة ... إننا نحذر من هذه السياسة المشؤومة»(23 ).
وأعقب كامينيف هذا البيان برسالة نشرها في الصحافة غير الحزبية يعارض فيها الانتفاضة ويكشف خطة الحزب في الاستيلاء على السلطة. وفي مثل هذه الأوضاع التي أصبحت تزداد اضطرابا، كانت الدوائر الحكومية تعمل على إثارة الفتنة و إظهار البلاشفة كمتآمرين وخونة خاصة بعد أن أصبح الحزب البلشفي يحظى بأغلبية في سوفييتات المناطق والسوفييتيات القاعدية وفي منظمات عمال الصناعة و الجيش والبحرية. بدأ العمال والجنود يعقدون الاجتماعات لانتخاب مندوبيهم إلى المؤتمر الثاني للسوفييتات، واتسعت الدعاية البلشفية للإنتفاضة التي أصبحت موضوع الساعة في اجتماعات العمال والجنود في المصانع والثكنات. وبادرت اللجنة العسكرية الثورية من يوم انبعاثها إلى تعيين مفوضين لها في حامية بتروغراد وفي المؤسسات والمعامل كما لعب التنظيم العسكري للبلاشفة دورا كبيرا في حماية التنظيمات العمالية وتنفيذ قراراتها وساعدها في الاستيلاء على المؤسسات والهيآت التي بدأ العمال يراقبونها ويشرفون على إدارتها. وعقدت حامية بتروغراد مؤتمرا قررت فيه تقديم الدعم للجنة العسكرية الثورية في كل ما تقرره وطالبت مؤتمر السوفييتات باستلام السلطة، وتعهدت بوضع كل قواتها تحت تصرفه لحماية السلطة الجديدة، و اعتبرت أن قطيعتها مع هيئة الأركان العامة أصبحت نهائية، وقرّرت عدم تنفيذ أي أمر إن لم يكن صادرا عن اللجنة العسكرية الثورية . وأعلمت اللجنة العسكرية الثورية بدورها مواطني بتروغراد أنها عينت مفوضين لها في القطعات العسكرية وفي أهم مراكز المدينة وطلبت منهم الاتصال بهؤلاء المفوضين في حالة وقوع أي إخلال  بالنظام. فالمفوضون يتمتعون بثقة مجلس السوفييت وأي مقاومة لهم هي مقاومة لسوفييت العمال الجنود.
 كانت الجنة العسكرية تمارس سلطة حقيقية على كامل مدينة بتروغراد وتستمدّ شرعيتها من التفاف جماهير العمال والجنود حولها ومن ثقة سوفييت بتروغراد، لقد كانت تستولي على أي موقع تريده بدون قتال، كانت تكبّل النظام وتخنقه قبل أن تقضي عليه. هكذا مارست اللجنة العسكرية الثورية منذ تشكلها مهامها كجهاز للانتفاضة وأعدت للثورة على أرضية الدفاع عن الشرعية السوفيتية. واحتلت الجماهير قصر الشتاء مقر الحكومة المؤقتة ، وكذلك سيطرت على جميع المواقع الإستراتجية في المدينة، واعتقلت وزراء الحكومة البرجوازية، ونفذت خطة الانتفاضة، وحطمت مؤسسات الدولة البرجوازية، و أعلنت في الوقت الذي مازال فيه المؤتمر الثاني للسوفييت منعقدا في نداء إلى موطني روسيا تقول:«لقد خلعت الحكومة المؤقتة و أنتقلت سلطة الدولة إلى أيدي اللجنة العسكرية الثورية التابعة لسوفييت بتروغراد لمندوبي العمال والجنود الذي يقود بروليتاريا بتروغراد وحاميتها. القضية التي ناضل الشعب من أجلها: اقتراح فوري لعقد سلام عادل، إلغاء حقوق ملاك الأراضي على الأرض، سيطرة العمال على الإنتاج، تشكيل حكومة سوفيتية. هذه القضية بين أيد أمينة الآن»(24).
واصل المؤتمر الثاني للسوفييتات أجتماعه تحت دوي المدافع ( اللفظة لجون ريد ) وجلبة المندوبين التي لا تهدأ. و كعداتهم وقف المناشفة والاشتراكيون الثوريين اليمينيون في المؤتمر ضد الانتفاضة المنتصرة، وآنسحبوا بعد أن أعلنوا أنهم يقاطعون المؤتمر لأن البلاشفة قاموا بمؤامرة عسكرية بمساعدة سوفييت بتروغراد دون التشاور مع الأجنحة و الأحزاب الأخرى، ودعوا مندوبي المؤتمر إلى مقاطعتها والالتحاق بهم لمناقشة الوضع داعين إلى ضرورة الوصول إلى حل سلمي والبدء بمشاورات مع الحكومة المؤقتة لتشكيل حكومة توافق عليها جميع فئات المجتمع وأحزابه.
ما كان لانسحاب المناشفة والاشتراكيين الثوريين اليمينيين أن يغير شيئا أو يؤثر على طبيعة سير لأشغال المؤتمر.أقرّ المؤتمر بالإجماع تشكيل اللجنة التنفيذية الجديدة للسوفييت التي كان عدد أعضائها 101 منهم 62عضوا بلشفيا و29عضوا من جناح الاشتراكيين الثوريين اليساريين وتقرر أن يحفظ لسوفييتات العمال والجنود التي لم تتمكن من حضور المؤتمر حقها في التمثيل في اللجنة التنفيذية ب10أعضاء كما أقرّ المؤتمر أيضا حق تمثيل المجموعة المنسحبة على أساس التمثيل النسبي. وقرّر المؤتمر كذلك انتقال السلطة إلى السوفييتات، وتشكيل مجلس مفوضي الشعب وصادق المؤتمر على تقارير لينين حول السلام و الأرض وأعلن صبحية يوم 26 أكتوبر1917 في نداء إلى العمال والجنود والفلاحين: « أفتتح المؤتمر الثاني لسوفييتات (المجلس) نواب العمال والجنود في عامة روسيا وفيه تتمثل الأغلبية الكبرى من السوفييتات ... أنتهت صلاحيات اللجنة التنفيذية المركزية التوفيقية. و استناد إلى إرادة الأغلبية الكبرى من العمال والجمود والفلاحين، و استنادا إلى الانتفاضة المظفرة التي قام بها عمال بتروغراد وحاميتها يأخذ المؤتمر السلطة في يده. الحكومة المؤقتة أسقطت، أغلبية أعضاء الحكومة المؤقتة تم أعتقالهم. إن السلطة السوفييتية ستعرض الصلح الديمقراطي فورا على جميع الشعوب والهدنة فورا في جميع الجبهات. وستؤمن وضع أراضي الملاكين العقاريين وأرضي الأسرة القيصرية و أراضي الأديرة تحت تصرف لجان الفلاحين دون أي تعويض، وتضمن حقوق الجندي باشاعة الديمقراطية التامة في الجيش وتبسط الرقابة العمالية على الإنتاج وتؤمن عقد الجمعية التأسيسية في حينه وتعني بإيصال الحبوب إلى المدن وسلع الضرورة الأولية إلى الأرياف وتؤمن لجميع الأمم القاطنة في روسيا الحق الفعلي في تقرير مصيرها. إن المؤتمر يرسم ما يلي: تنتقل السلطة بكاملها في المطارح إلى سوفييتات نواب العمال الجنود والفلاحين التي يجب عليها بالذات أن تؤمن النظام الثوري حقا(25 ).
 وفي نفس اليوم كتبت البرافدا الصحيفة المركزية للحزب البلشفي تقول:« يودّون أن نستلم السلطة لوحدنا حتى نكون وحيدين خلال مجابهة الصعوبات الرهيبة التي تتعرض لها البلاد... حسنا سنأخذ السلطة لوحدنا مستندين إلى انتخابات البلاد و معتمدين على دعم البروليتاريا الأوربية الودّي ولكننا سنسدّد بعد استلام السلطة ضربة حديديّة قاضية إلى جميع أعداء الثورة أو الراغبين بتخريبها. لقد حلموا بدكتاتورية كورنليوف... وسنقدّم لهم دكتاتورية البروليتاريا...»(26).
بشير الحامدي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هوامش الجزء الأول                
1 ـ الأوضاع في روسيا قبل فيفري 1917                         
1 ـ لينين المختارات، تقرير عن ثورة 1905 المجلد1 الجزء2 ص 459
2 ـ ليون ترو تسكي: تاريخ الثورة الروسية، الجزء الأول، ص51- 52 .
3 ـ راجع حول هذا الموقف، بيان اللجنة المركزية لعصبة الشيوعيين ومقال البرجوازية والثورة المضادة في ألمانيا،ومقدمة نقد فلسفة الحقوق لدى هيجل لماركس، وحرب الفلاحين في ألمانيا لأنجلز.
 4 ـ راجع: مقالات جورج بليخانوف: الاشتراكية والنضال السياسي،الرأسمالية ومهمات الاشتراكيين الروس، المهمات الحقيقية للاشتراكيين في روسيا، خلافاتنا.
5 ـ جورج بليخانوف: مقال المهمات الحقيقية للاشتراكيين في روسيا، المجلد الأول المؤلفات الفلسفية، دار دمشق للطباعة والنشر،ترجمة الدكتور فؤاد أيوب ص296- 288- 299- 303 .
6 ـ لينين: المختارات، المجلد 1،الجزء 1،ص148.
7 ـ لينين: المختارات، المجلد 1 ،الجزء2 ، خطتا الاشتراكية الديمقراطية،ص119.
2  ـ سقوط القيصرية وتحول السلطة إلى البورجوازية
1 ـ تاريخ الثورة الروسية ليون ترو تسكي،.الطبعة2،1978،ترجمة أكرم ديري والهيثم الأيوبي، نشر المؤسسة العربية للدراسات والنشر،ص207-208-209 .
2 ـ تاريخ الثورة الروسية ليون ترو تسكي، الطبعة الثانية،1978، ترجمة أكرم ديري والهيثم الأيوبي، نشر المؤسسة العربية للدراسات والنشر،ص266-267.
3 ـ تاريخ الثورة الروسية ليون ترو تسكي،الطبعة الثانية، 1978، ترجمة أكرم ديري والهيثم الأيوبي، نشر المؤسسة العربية للدراسات والنشر،ص333.
4 ـ خطتا الاشتراكية الديمقراطية في الثورة الديمقراطية للينين،المختارات في ثلاثة مجلدات، المجلد 1،الجزء 2،ص15.
5 ـ تاريخ الثورة الروسية ص335.
6 ـ نفس المرجع ص335.
7 ـ نفس المرجع،ص 335.
8 ـ نفس المرجع،ص338.
9 ـ نفس المرجع،ص338.
10 ـ نفس المرجع،ص338.
11 ـ نفس المرجع، ص339
 12 ـ نفس المرجع، ص352.
 13 ـ نفس المرجع ص 355.
14 ـ نفس المرجع ص  352.
15 ـ لينين : المختارات في ثلاثة مجلدات المجلد 2،الجزء1 ،رسائل من بعيد الرسالة 1، ص39،راجع الرسالة الأولى.
16 ـ تاريخ الثورة الروسية لينين تروتسكي ، الطبعة الثانية،9178،ترجمة أكرم ديري والهيثم الأيوبي، ص 359-360.
17 ـ لينين:المختارات في ثلاثة مجلدات، مقال دروس الأزمة، المجلد 2،الجزء1 ،ص101 
3 ـ الحزب البلشفي يصحح برنامجه
1 ـ الثورة الدائمة ليون ترو تسكي كتاب نتائج وتوقعات ص189- 190.
2 ـ الثورة الدائمة ليون ترو تسكي ص190-191.
3 ـ تاريخ الثورة الروسية لليون تروتسكي، الطبعة الثانية 1978 ص366.
4 ـ نفس المرجع ص366.
5 ـ نفس المرجع ص352-353.
6 ـ لينين:المختارات في ثلاثة مجلدات المجلد 2،الجزء1 ص45.
7 ـ لينين: المختارات في ثلاثة مجلدات المجلد 2،الجزء1 مقال مهمات البروليتاريا في الثورة الحالية.
8 ـ لينين:المختارات في ثلاثة مجلدات المجلد 2،الجزء1 ص 51-52.
9 ـ تاريخ الثورة الروسية لليون تروتسكي الطبعة الثانية 1978 ترجمة أكرم ديري والهيثم الأيوبي نشر المؤسسة العربية للدراسات والنشرص376.
4 ـ إفلاس الديمقراطية البرجوازية الصغيرة
1 ـ الأستشهادات الوردة حول بيان و مذكرة الحكومة مأخوذة من كتاب تاريخ الثورة الروسية لليون تروتسكي راجع كامل الصفحات 382حتى384.
2 ـ تاريخ الثورة الروسية ليون تروتسكي، الطبعة الثانية،1978،ص502-503.
3 ـ راجع مقال لينين مهمات البروليتاريا في الثورة الحالية وكذلك مقررات المجلس العام السابع في مختارات لينين. المجلد 2،الجزء1
4 ـ لينين المختارات المجلد 2،الجزء1 ص 161 .
5 ـ لينين المختارات المجلد 2،الجزء1 ص 249 .
6 ـ لم يكن التخلي عن شعار كل السلطة للسوفيات يعني التخلي عن السوفيات كمركز لتنظيم القوى الثورية والعمل على اكتساب أغلبية بلشفية فيها وتحويلها إلى جهاز يحضر للانتفاضة... 
5 ــ التحضير لدكتاتورية البروليتاريا وانتصار الثورة
1 ـ تاريخ الثورة الروسية ليون تروتسكي الطبعة 2. 1978 ترجمة أكرم ديري والهيثم الأيوبي ص639.
2 ـ نفس المرجع السابق ص 642.
3 ـ نفس المرجع السابق ص 641 .
4 ـ نفس المرجع السابق ص 650 .
5 ـ نفس المرجع السابق ص 658 ـ 659 .
6 ـ لينين : المختارات المجلد 2 الجزء 1 مقال بصدد المساومة ص 295 ـ 296 .
7 ـ لينين : المختارات المجلد 2،الجزء1 مقل بصدد المساومة ص 292 ـ 294 .
8 ـ نفس المرجع السابق ص 360.
9 ـ راجع مقال لينين بصدد المساومات. المختارات المجلد2 الجزء 1. هذا المقال الذي كتب في أول سبتمبر ولم ينشر في وقته ... ولما أصبح ممكنا نشره كانت المساومة قد غدت تكتيكا خاطئا. فعنون لينين مقاله بأفكار متأخرة وكتب      « وأحيانا قد يكون الإطلاع على أفكار متأخرة ليس كذلك بدون فائدة».
10 ـ راجع مقال لينين هل يحتفظ للبلاشفة بالسلطة .
11 ـ  ليون تروتسكي : تاريخ الثورة الروسية ص 686 .
12 ـ راجع مقالات لينين الماركسية والانتفاضة والأزمة نضجت وهل يحتفظ البلاشفة بالسلطة.
13 ـ لينين : المختارات المجلد 2 الجزء1  ص 503 .
14ـ هذا الموقف هو ما يميز الماركسية الثورية عن البلانكية وكل النظريات الإنقلابية والإرهابية بصدد الإنتفاضة.
15 ـ لينين : إفلاس الأممية الثانية دار التقدم موسكو ص 10 .
16 ـ تمكن البلاشفة أثناء التحريض لإقامة المؤتمر الثاني لسوفييتات عموم روسيا الذي تعطّل بسبب مماطلة اللجنة التنفيذية التي يهيمن عليها المناشفة والاشتراكيون الثوريون من إقامة مؤتمر لسوفييتات منطقة الشمال ضم مندوبين عن 23 سوفييت وقد استغلت اللجنة التنفيذية للسوفييت هذا المؤتمر للتشكيك في شرعيته وعدّته مؤتمرا خاصا قاطعته أقلية ضئيلة من المندوبين المناشفة والاشتراكين الثوريين وأعلن المؤتمرون مطالبتهم بالسلطة للسوفيت ودعوا الجماهير إلى الانتفاضة المسلحة لإسقاط الحكومة المؤقتة .
17 ـ لينين المختارات المجلد 2 الجزء 1ص 595 .
18 ـ هذا المقطع أخذه لينين من ماركس عن نص الثورة والثورة المضادة في ألمانيا أنظر لينين المختارات المجلد 2 الجزء1 ص 579 .
19 ـ لينين المختارات. المجلد 2 الجزء1 . مقال الأزمة نضجت ص  525 .
20 ـ  إن اعتراف بوخارين و الوقائع الحقيقية لهذه الجلسة تدحض الملحوظة التي أوردها معهد الماركسية اللينينية في المجلد 2 الجزء 1 تحت رقم 130 ـــ والتي أدعى فيها أن كامنييف وحده هو الذي عارض موقف لينين حول الانتفاضة في اجتماع اللجنة المركزية المذكور وهو الذي اقترح إخفاء مقالي لينين وإتلافهما وأن هذا الموقف قد رفض وأرسلت اللجنة رسالتين إلى منظمات الحزب بينما يذكر تروتسكي أن قرار رفض الانتفاضة وإتلاف الوثيقتين تم بموافقه 6 أعضاء مقابل 4 وامتناع 6 عن التصويت .أنظر تاريخ الثورة الروسية.
21 ـ تاريخ الثورة الروسية ليون تروستكي ترجمة الهيثم الأيوبي وأكرم ديري نشر المؤسسة العربية للدراسات والنشر الطبعة الثانية 1978.ص 752.
22 ـ دروس ثورة أكتوبر ـــ ليون تروستكي المؤسسة العربية للدراسات والنشر ص 66 وما بعدها.
23 ـ  نفس المرجع ص 57 .
24 ـ جون ريد كتاب عشرة أيام هزت العالم طبعة 1983 ترجمة فواز طرابلسي ص151. أنظر أيضا لينين المختارات المجلد 2 الجزء 1 ص 621 .
25 ـ لينين المختارات المجلد 2  الجزء 2 ص 5 .
26 ـ تروتسكي تاريخ الثورة الروسية الطبعة الثانية 1978 ترجمة الهيثم الأيوبي وأكرم ديري نشر المؤسسة العربية للدراسات و النشر. ص 968.  
                      
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ