لينين في رحاب التاريخ


فلاح أمين الرهيمي
2007 / 12 / 28 - 12:32     

في الواحد والعشرين من شهر كانون الثاني سنة 1924 وفي الساعة السادسة وخمسون دقيقة توقف القلب الكبير بسبب نزف دموي في الدماغ.. مات لينين ذلك القائد الفذ والعبقري اللامع العظيم.. وفي هذه المناسبة .. وهذه الذكرى لابد من وقفةٍ فيها نداء حي واستدعاء صارخ للماضي والحاضر والمستقبل أتلمس في كل حرف منه حرارة الصدق وقوة الإيمان بمثل ما تنطوي عليه من حرارة الألم وبمستوى قوة البواعث التي انبعثت حتى وكأني أخط هذه الكلمات انتقل معها من جديد وعلى مدى رؤية الواقع الشاخص ومن خلال ما يخفق في قلبي رفيف جناح الذكريات وما حفر في ذاكرتي من ( قصة عشرة أيام هزت العالم لجون ريد ) ومن خلال هذه الصورة التي استلزمت هذا الإطار و فرضت علي هذا التعبير الناضح صدقاً وحباً وترحيباً ليس لي وحدي وإنما لكل المناضلين العقائديين المبدئيين . وسأختصر الموضوع راجياً من أعماق قلبي ورجائي من رفاقي الأعزاء المناضلين الذين يقودون سفينة الشرارة المناضلة وهي تمخر في بحر هائج ورياح عاصفة اختلطت فيها الأوراق . الاهتمام بتراثنا الفكري الخالد وقادته ومفكريه العظام الذي لولاهم لما عرفنا الحقيقة والمعرفة والفكر الاشتراكي الخلاق وشكراً جزيلاً وإلى المزيد من التقدم والسمو من أجل الوعي والمعرفة والفكر التقدمي الواضح والخلاق .
ولد لينين في 12 نيسان / 1870 وكان والده يعمل مديراً للمدارس الشعبية في محافظة (سيمبيرسك) وهو منحدر من أوساط المثقفين غير النبلاء ، أما والدته (ماريا الكسندروفتا) فقد ولدت وترعرعت في عائلة طبيب وكان له ستة أخوة وجميعهم من الثوريين وقد اختلفت بهم السبل ففي عام 1887 أعدم أخوه (الكسندر) بسبب اشتراكه في محاولة اغتيال (القيصر الكسندر الثالث) وهو الذي اطلع لينين وعرفه على المبدأ والكتب الماركسية وقد كتبت أخته تقول : (مات الكسندر بطلاً ودمه كان اللهيب الثوري الذي أضاء الطريق أمام أخيه لينين) .
توفى والده عام 1886 وفي عام 1887 تخرج من الثانوية بتفوق وحصل على الميدالية الذهبية وشهادة ممتازة بكفاءة عالية فانتسب إلى كلية الحقوق (بجامعة قازان) ولكنه فصل منها بعد أربعة أشهر لنضاله واشتراكه في اجتماع طلابي ثم اعتقل ونفي إلى قرية (كوكوشكين) في محافظة قازان .. وفي عام 1889 انكب لينين باجتهاد ومثابرة في دارسة مؤلفات ماركس وانجلز (البيان الشيوعي) كما تعلم في تلك الفترة اللغات الأجنبية وترجم مؤلفات ماركس وانجلز والبيان الشيوعي إلى اللغة الروسية وفي سنة 1891 عاد إلى كلية الحقوق في جامعة (بطرسبورج) ونجح نجاحاً باهراً في جميع الامتحانات وتخرج محامياً في محكمة قضاء (سامارا) وفي سنة 1892 نظم لينين في قضاء (سامارا) أول حلقة ماركسية وفي سنة 1893 انتقل لينين إلى (بطرسبورج) وخاض نضالاً وصراعاً ضد (الشعبيين الليبراليين) الذين كانوا يهاجمون الماركسية بضراوة مما دفعه إلى تأليف كتاب (من هم أصدقاء الشعب) وأخذ يعمل بجد ومثابرة من أجل تطوير فكرة تحالف العمال والفلاحين وعمل على إنشاء الحزب البروليتاري وفق النظرية الماركسية واستطاع في عام 1895 أن يوحد الحلقات الماركسية في (بطرسبورج) في منظمة سياسية واحدة (اتحاد النضال من أجل تحرير الطبقة العاملة) وفي نفس العام اعتقل لينين مع قسم من أعضاء اللجنة التي يقودها واستولت الشرطة الروسية على العدد الأول من الجريدة التي أصدرها (قضية العمال) وزج لينين في زنزانة انفرادية في سجن (بطرسبورج) وقضى في السجن مدة أربعة عشر شهراً فكتب في السجن كتاب (الرأسمالية في روسيا) وقرأ ودرس مئات المجلات والكتب التي كانت تحملها إليه أخته (آنا) وفي عام 1897 حكم على لينين بالنفي إلى سيبيريا الشرقية وقد نفيت إلى الغربة التي نفي إليها لينين (كروبسكايا) التي تعرف عليها سنة 1894 عن طريق الرفاق التي كانت تدرسهم في المدرسة والذين انتظموا في الحلقات الماركسية التي كان يشرف عليها لينين كما اعتقلت (كروبسكايا) في ذلك الوقت بتهمة الانتساب إلى منظمة (اتحاد نضال العمال) التي ألفها لينين وفي تلك السنة تزوج لينين من كروبسكايا وقد بقيت رفيقة له وصديقته المخلصة والوفية حتى أواخر حياته وفي سنة 1898 انعقد مؤتمر الحزب الأول وأعلن فيه إنشاء الحزب وبعد فترة وجيزة اعتقل جميع أعضاء اللجنة المركزية للحزب . وفي سنة 1900 انتهت مدة نفي لينين وغادر القرية مع زوجته ورفيقته الوفية والمخلصة كروبسكايا وبعد فترة من إطلاق سراحه قاد قائد الدرك (زويانوف) قرب بطرسبورج محاولة لاغتيال لينين استطاع أن يهرب ويفلت من محاولة الاغتيال وهرب إلى خارج روسيا وسافر إلى ألمانيا وهي الهجرة الأولى التي امتدت أكثر من خمس سنوات وفي نفس السنة صدر العدد الأول من جريدة الحزب ايسكرا (الشرارة) ودبج افتتاحيتها بالقول : (من الشرارة يندلع اللهيب) وأصبحت الجريدة توزع في جميع عواصم العالم وبدأ لينين يكتب المؤلفات وأدبيات الحزب ويوقع عليها باسم مستعار (لينين) وخاض نضالاً عنيداً وصراعاً حاداً ومتواصلاً ضد الأفكار المنحرفة واليسارية والمنشفيك .

ولد كارل ماركس 1818 توفي 1883
ولد فريدريك انجلز 1820 توفي 1895
ولد فلاديميريلتش لينين 12 / نيسان / 1870 توفي / كانون ثاني / 1924

لقد كانت أفكار ماركس وانجلز والنشاط الفكري والعملي الذي مارساه كان في سنوات مرحلة الثورة البورجوازية الديمقراطية . أما لينين فقد هبط بالفلسفة المادية التاريخية من سماء العلوم الطبيعية والمعرفة العلمية المجردة والافتراضات الفلسفية الصرفة إلى أرض الواقع وأصبحت نضالاً جماهيرياً وصراعاً ونزاعاً طبقياً وليس عراكاً فلسفياً حول الأفكار والقوانين في النظرية الماركسية من مجال الفلسفة إلى صراع طبقي من خلال المجتمع والظواهر والتطورات الاجتماعية وقاد العمال والفلاحين والمثقفين الثوريين وجميع المضطهدين والجياع والمحرومين إلى النصر المؤزر في ثورة أكتوبر العظمى سنة 1917 لقد وجد لينين وهو يواجه مهام قيادة الثورة البورجوازية الديمقراطية والانتقال إلى الثورة الاشتراكية تراثاً ماركسياً غنياً في جميع مجالاتها فكانت أعمال ماركس وانجلز هادية له في تفكيره التي ينطلق منها إلى قمم النظرية والتطبيق العملي الخلاق لقد تناول وعالج في كتاباته ومؤلفاته الكثيرة والتي جمعت أربعة وخمسين مجلداً ضخماً يعالج ويفسر الحلول العملية والتطبيقية لجميع المشاكل التي تجابه المجتمع البشري .
كان لينين يعرف ويتقن اللغات (الانكليزية والفرنسية والألمانية والإيطالية واللاتينية) وحينما كتب بحثه المشهور (المادية والنقد التجريبي) استعان بعدد كبير من المصادر الإنكليزية والفرنسية والألمانية .
كان لينين يتمتع بعبقرية فذة من عبقريات النظرية الماركسية وظل يكن التبجيل العظيم لمؤسسي النظرية العلمية (ماركس وانجلز) ويتخذ منهما موقف التلمذة وكان يردد أنه غالباً ما يلجأ إلى ماركس ويستشيره وكان حينما يكتب بحثاً يراجعه عدة مرات ثم يعرضه على رفاقه المفكرين والباحثين مثل بليخانوف واكسبلرود وغيرهما ومع ذلك لم يقف لينين النظري العبقري والملهم من النظرية الماركسية موقف المتعبد في محرابها بل تمسك بالحياة والواقع الموضوعي قبل كل شيء مسترشداً بالنظرية العلمية ومتناولاً إياها من خلال ارتباطها الجدلي بالواقع الملموس ومن هذا الموقف إزاء النظرية الماركسية ومن تعاليم ماركس وانجلز التي وصفها بأنها (كلية الجبروت) .
لقد صاغ لينين نظرية الثورة الاشتراكية وخلف للإنسانية تراثاً ضخماً من الأفكار والتعاليم بحيث من يقرأ أعمال القائد الفذ والعبقري الملهم لينين ويستنتج فوراً إنه لم يتصرف كعالم أكاديمي بل كقائد ملهم ومعلم ثوري حيث إن جميع أعماله دون استثناء كانت عبارة عن معالجات ملموسة لمهمات ملحة فرضتها تطورات وانعطافات الحركة الثورية في عصره . لقد عالج لينين جميع المشاكل التي تواجه المجتمع في هذا القرن في مختلف أشكاله ومراحله إذ إنه لم يكن فيلسوفاً استوعب نتاج الفكر الإنساني وتاريخه فقط وإنما كان مؤسس ومنظم دولة كبيرة من طراز جديد اقتلعت الأساس الطبقي الاستغلالي الذي كانت تقوم عليه المجتمعات الإنسانية السابقة لتضع أساساً اقتصادياً جديداً وتبني علاقات اجتماعية جديدة وكان عليها نتيجة لذلك أن تعيد النظر في البناء الفوقي الذي قام على الأسس الاقتصادية السابقة أي في القيم والمفاهيم والأفكار والقوانين والمعايير الثقافية والفنية التي كونتها المجتمعات الطبقية ليصوغ منها كياناً جديداً بعد أن أضيف إليها من المساهمات القيمة في جميع الميادين ويجعل من البناء الفوقي الجديد سلاحاً فعالاً في يد الشعب .. في يد الجماهير الكادحة والمحرومة لتحقيق التقدم والازدهار والرفاه لتحقيق المجتمع الاشتراكي حلم البشرية جمعاء والقضاء على كل أنواع الاستغلال .
لقد طور لينين وأثرى التراث النظري لأستاذته العظام فيما يتعلق بالظروف التاريخية الجديدة وناضل بلا هوادة ضد تحويل مذهب ماركس وانجلز إلى صيغة جامدة ميتة وهو الذي قال : (إننا لا ننظر إلى نظرية ماركس باعتبارها شيئاً كاملاً ومقدساً بل على العكس إننا مقتنعون إنها قد وضعت فقط حجر الأساس للعلم الذي يجب على الاشتراكيين تطويره في كل الاتجاهات إذا ما أرادوا أن يلاحقوا الحياة) وكان لينين يرى في التطور الخلاق للماركسية شرطاً أساسياً كي تظل مذهباً ثورياً فعالاً وشعلة وهاجة لجميع الشعوب المقهورة والمحرومة والمضطهدة ومفتاحاً لحل جميع المهام النظرية والعملية الملحة للطبقة العاملة والجماهير الكادحة ووسيلة هامة في النضال ضد الانتهازية والمنحرفين عن الخط الاشتراكي الخلاق .
إن لينين قائد سياسي عظيم من طراز جديد إنه أستاذ وزعيم وداعية ومنظم الجماهير العريضة وهو مؤسس الحزب الشيوعي للاتحاد السوفيتي وقائد أعظم ثورة اجتماعية في التاريخ ومهندس أول دولة اشتراكية في العالم وقائد الطبقة العملة العالمية وكل الكادحين والمضطهدين في العالم وتتلخص صفاته البارزة في عمق نظرته العملية وعبقريته في تحليل الأحداث وفي تقديره السليم للعلاقات والقوى الطبقية وتوزيعها وفي ثباته وإصراره في الدفاع عن المبادئ الماركسية وفي أعماله الهادفة والصائبة ومرونته في تكتيكات النضال وتفانيه في العمل من أجل مصالح وأهداف الحركة الجماهيرية .
كان لينين يربط ربطاً وثيقاً بين الصياغة النظرية والسياسة العلمية وبين دراسة وتلخيص التجربة التي اكتسبها الشعب في نضاله . لقد تأمل ودرس وحلل تجارب الملايين وخرج منها بإجابات صائبة وحكيمة على المشاكل الرئيسية لحركة وتطور الصراع الطبقي ولما كان لينين رجل الإستراتيجية والتكتيك الذي يتمتع برؤيا ثاقبة بتطورات العلاقات والأحداث على الساحة السياسية والعمل الجماهيري ومصالحهم الحيوية ويشعر على الدوام بنبض الحياة بين الشعب ويدرس باهتمام التكوين النفسي السياسي والاجتماعي لكل فئات المجتمع ويضع كل ذلك في حساباته واعتباره عندما يضع الخطط ويصوغ الحلول السياسية وبذلك أصبحت حياة لينين حياة فذة حيث جمعت بين عمله الخلاق ونشاطه الثوري الذي لا يكلّ ولا يملّ أو يفتر نضاله الإيديولوجي والسياسي وأصبحت تتجسد في شخصية هذا الرجل العظيم أبرز الصفات الإنسانية وكان راجح العقل ذات عزيمة لا تقهر تقتحم الصعاب ويواصل النضال من أجل الوصول إلى الحقيقة ويملئ قلبه إيمان عميق لا يتزعزع في جماهير الشعب الخلاقة الكراهية الشديدة التي لا حدود لها للعبودية والاضطهاد والاستغلال . إن لينين عنفوان من الحماس الثوري والروح الحمية للبشرية جمعاء وتتجسد في قلبه الكبير التضحية ونكران الذات من أجل المستقبل المشرق السعيد للإنسانية جمعاء وكان يتمتع بطاقة وكفاءة تنظيمية خارقة لا حد لها وانصهرت حياته ونشاطه ونضاله في بودقة واحدة مع المظلومين والمحرومين والكادحين والمستغلين في جميع أنحاء المعمورة ولذلك أصبح لنضاله ونشاطه وتعاليمه وآراء تأثير فعال وهائل على حركات التحرر الوطني في جميع أنحاء العالم وهو الذي بلور لها مطمحاً وطريقاً أيديولوجيا وتنظيماً ثورياً أصبح النبراس الذي يهدي الشعوب إلى المستقبل المشرق السعيد .
كانت رؤيا إلى الفن تنطلق من أن الفن الواقعي هو وحده الذي يستطيع أن يقوم بواجب كبير كهذا فالواقعية في نظره هي قبل كل شيء حتمية حياتية تتحقق عن طريق خلق المثال الجمالي للاشتراكية الذي يكشف تناقضات الواقع وتعطي رؤية واضحة للطريق الحقيقي لتطور التاريخ . والفنان الواقعي يعتبر الفن تعبيراً عن الوسط الاجتماعي الذي يعي في ذات الوقت تلك القضايا التي يفرضها العصر ويصور الصفات المحسوسة وظواهر العصر وهدف المثال الجمالي الذي يقدمه الفنان في تربية الجماهير وخدمة مصالح الشعب أي توعية الجماهير بواجباتها تجاه الثورة الاجتماعية إن التراث اللينيني يقدم إمكانيات كثيرة لأولئك الذين يبحثون عن الحقيقة ويساعدهم على اكتشاف الطريق الصحيح للحياة والسير في الطريق المعادي للإمبريالية والعمل من أجل انتصار قضية الشعوب العادلة وبناء المستقبل الأفضل لهما .
وبالنظر للظروف القاسية بعد قيام ثورة أكتوبر العظمى من تدخل أربعة عشر دولة أجنبية وكان رئيس وزراء بريطانيا العجوز (تشرشل) يصرخ ويقول (اقضوا على الشيوعية ما زالت في البيضة ولم تنمو) والحصار وتمرد قادة الجيش الروسي ومعهم الحرس الأبيض الخاص (بالقيصر) وما قام به (الكولاك) الملاكين الزراعيين من حرق الانتاج الزراعي من حنطة وشعير وبطاطا وغيرها مما أدى إضافة إلى الحصار من تفشي وخلق المجاعة بين أبناء الشعب الروسي والأعمال التخريبية التي مرت بها الثورة البولشفية مما أدى إلى إعلان سلطة دكتاتورية البروليتاريا التي علق وقال عنها لينين : ليس في مثلنا الأعلى مكان لتطبيق العنف على الناس فليس العنف وحده ولا العنف بالدرجة الأولى هو الذي يشكل (ديكتاتورية البروليتاريا) إن جوهرها الرئيسي يكمن في روح التنظيم والنظام والطاعة والوعي واحترام القوانين الذي تتحلى به فصيلة الشغيلة المتقدمة وطليعتها وقائدها الوحيد (الحزب الشيوعي) وهدفها إنشاء وبناء الاشتراكية ومحو انقسام المجتمع إلى طبقات وتحويل جميع أعضاء المجتمع إلى شغيلهُ وإزالة كل أساس لاستثمار الإنسان لأخيه الإنسان وقد طلب لينين بإلحاح من الشيوعيين في هنغاريا أثر استلام السلطة عام 1919 أن لا يطبقوا كل ما طبقه الشيوعيين الروس في هذا المجال والدليل على ذلك ما سارت عليه بلدان الديمقراطيات الشعبية بعد انتصار الثورة الاشتراكية في بلدانهم حيث أقيمت سلطة ديمقراطية جديدة هي شكل من أشكال (ديكتاتورية البروليتاريا) حيث لم يجر أي تقييد للانتخابات ولم يحرم البورجوازيين من الحقوق الانتخابية بل جرى الاستمرار على الاستفادة من البرلمانات (باعتبارها مؤسسات تمثيلية) بعد أن أبدل طابعها من مؤسسات بورجوازية إلى مؤسسات شعبية تمثل بحق جماهير الشعب من الشغيلة والمضطهدين وتعكس طموحهم كما تم في الديمقراطيات الشعبية الإبقاء على الأحزاب الديمقراطية وأسست الجبهات الوطنية وأطلقت لهذه الأحزاب حرية النشاط السياسي وحرية الصحافة وأُشركت في السلطة السياسية لإدارة الدولة .
كان لينين متفتحاً دون عصبية أو تزمت حيث كان يدعو إلى الاقتباس من منجزات الرأسمالية في العالم كالتكنيك والمعرفة والعلوم والأخذ بكل ما هو نافع من الحضارة الأوروبية وحينما درس بحوث الاقتصاديين الرأسماليين (رامزي) و (تايلر) حول تيسير ظروف العمل ورفع إنتاجيته دعا إلى اقتباسها وتطبيقها بالطرائق الاشتراكية كما كان يطالب ويحبذ بإرسال البعثات والتخصص إلى إنكلترا أو ألمانيا وغيرها من الدول الرأسمالية المتقدمة كما دعا لينين إلى استثمار مواهب المتخصصين من البورجوازية والرجال العسكريين ذوي الكفاءة والخبرة والمقدرة في الجيش الأحمر واهتم باقتباس كل ما هو مفيد من أساليب الثقافة الأوروبية وحث وزير الثقافة على الاهتمام بمكتبات المطالعة ويعتبر الكتاب قوة جبارة .
كان لينين فذاً عبقرياً وموهوباً وطموحاً وفي أحد مقابلاته الصحفية مع أحد الصحفيين الأمريكان تكلم لينين للصحفي عن مشاريعه بخصوص كهربة البلاد والمشاريع الذي يروم القيام بها .. اعتبر الصحفي الأميركي إن تلك الأفكار والتمنيات مبالغ فيها .. فقال له لينين زورنا بعد عشر سنوات وستجد جميع هذه المشاريع قد أنجزت .. وقد أطلق الصحفي الأميركي لقب (حالم الكرملين) على لينين . وقد عبر لينين عن جوهر الفلسفة المادية التاريخية بالنظريات التالية :
1) إن الأشياء وجدت مستقلة عن الإنسان وعن شعوره ووجدانه .
2) لا فرق بين الأشياء وما ينتج عنها .
3) الاختلاف مرهون بما يعرف عن الحقائق وما لم يصل الإنسان إلى معرفته .
4) المعرفة بنت الجدل وهي كغيرها من العلوم ليست محدودة ولا مطلقة بل نسبية وقابلة للبحث والاستكشاف .
5) لا عصمة بالمعرفة إن الجهل بالشيء لا ينفي وجوده ولا صحته .

على هذه الأسس بنى فلسفته وعلى هذه الأسس بنى ثورته الشاملة في المجتمع والاقتصاد والدين والقومية والسياسة والسلطة وكل هذه الأمور تتطور حتماً بتطور المعرفة والزمن والحاجة . لا إطلاق في الحياة ما كان حسناً في القرن الثامن عشر قد يظهر فاسداً وخطأ في القرن العشرين . الحقيقة نسبية . الطبيعة مستمرة في ناموسها التطوري . الجمود محال . ومن هذه النظرة وضع لينين قاعدة (الانتقاد والانتقاد الذاتي) مدللاً على إن النظرية الماركسية شأنها شأن الماركسية – اللينينية ليست عقيدة حكيمة . وإن قاعدة الانتقاد والانتقاد الذاتي يجب أن يكونا عنصرين حميمين فيها من أجل التوصل إلى معرفة الحقيقة . إن عنصر الانتقاد يدخل في صلب كل فلسفة ولكن لم يسبق لفلسفة غير ماركسية أن أدخلت في صلبها الانتقاد الذاتي وأصرت على إحلاله عنصراً حميماً فيها وهو الدليل على أن الفلسفة الماركسية هي الأكفأ بين كل الفلسفات التي سبقتها لاستطلاع الحقيقة والكشف عنها بل هو الدليل على إنها الوحيدة القابلة للتطور مع تطور العلم والتكنولوجيا والمعرفة والفلسفة الوحيدة التي في وسعها حل مشاكل الناس .
كان لينين شديد الإعجاب بالأدباء والفنانين الكلاسيكيين وبكل عمل فني رائع وكان يجتمع بهم ويقرأ قصصهم وأشعارهم ومقالاتهم وقد أقام علاقات صداقة حميمة معهم وكان لينين شديد الاهتمام بالعلم والاختراعات وبالحرص على رعاية ومساعدة العلماء والرحالة والمكتشفين والمخترعين وكان لينين شجاعاً صلب الإرادة قوي العزيمة شديد الصبر عظيم التفاؤل وكان رفاقه يصفونه بأنه (نسر من نسور الجبال) .
لقد تعرض لينين على الأحزان والمآسي منذ طفولته يوم أعدمت السلطات القيصرية أخاه لاشتراكه في محاولة اغتيال القيصر وعانى كثيراً من صروف الدهر سجناً وتشريداً وحرماناً وهذا ما عمق وجسد الإنسانية لديه وآثارها بعاطفة رحيمة وإرادة صلبة ثورية وكان لينين رحيماً ورقيقاً بأمه التي تحملت النكبات وعنها ورث كما تقول زوجته (كروبسكايا) الصلابة والإرادة والعطف والرعاية بالناس وعندما كان يتعرض للاعتقال يطلب من رفاقه بعدم إخبار والدته لأن ذلك سيذكرها بابنها الأكبر الذي أعدمته السلطات القيصرية وعندما بلغه نبأ وفاتها امتقع وجهه حتى أصبح مثل صفحة الورق وكان يصفه صديقه الحميم الأديب البارع (غوركي) بقول : (كان لينين يكتم مشاعره ولم يكن له مثيل في كبت عواطف قلبه وكان أبعد الناس عن الاهتمام بنفسه أو التحدث عن همومه للآخرين) ويروي سائقه عندما أطلقت النار عليه وأصابته اطلاقتين واحدة في رقبته والأخرى في ذراعه يقول ( لم يطلق أو يفه لينين بأي صوت وكنت أسمع منه أنيناً مكبوتاً جداً حتى لا يخيف أو يقلق أحد وكان وجهه يزداد امتقاعاً ويتعذب من الألم وقد أغمض عينيه ووضع رأسه وأماله على كتفه) .
كان لينين منصرفاً عن همومه ونفسه وذاته وكان مؤاسياً ونصيراً للمحرومين والمظلومين والمعذبين من الناس والشعوب وعند مغادرته روسيا إلى ألمانيا كان يعيش مع زوجته (كروبسكايا) في غرفة خربة في أحد الأحياء الفقيرة جداً حيث كان يسكنها أناس من الطبقات الدنيا والفقيرة جداً وكان يتحدث معهم ويتمازح ويداعب أطفالهم ويرتاح إليهم وكلن يقول : (على المرء أن لا يهتم بنفسه ومأواه وسكنه وشؤونه الخاصة ويهمل الآخرين بل عليه أن ينصهر في بودقة واحدة معهم وأن يشاطر الناس والشعوب همومهم وعذاباتهم ويبدي لهم الرعاية والاحترام والاهتمام بهم) وكان يتمثل بمقولة ماركس (إن أتعس مصير لأمة من الأمم هو أن تكون ظالمة لأمة أخرى) وكان يبدي الحنق والغضب الشديد على الاستغلال والظلم وعلى ما يشاهده من تفاوت طبقي بين المحرومين والمرفهين وكان لينين يتحلى بطبائع إنسانية رفيعة وسجايا حميدة محببة وكان ودوداً وأليفاً ومثيراً للأمل والتفاؤل وقد شبهت إحدى رفيقاته القدامى حضوره ووجوده بينهم (بزخة المطر المانح للحياة) وكان مرحاً خفيف الحركة بشوشاً وحلو المعشر وغير متصنع وقد وصفه أحد أصدقائه القدامى قائلاً (لم ألتق قط بإنسان قادر على أن يضحك بشكل مغرٍ بالضحك كما كان يضحك لينين من أعماق قلبه وكان غريباً أن يستطيع مثل هذا الإنسان الواقعي والحازم والصارم رجل الأعمال والمسؤولية التاريخية العظيمة أن يضحك كما يضحك الأطفال حتى تسيل الدموع من عينيه) وتقول زوجته كروبسكايا (كان يضحك ذلك الضحك المغري ويمزح مع الآخرين ذلك المزاح المرح ويحب سدرة الحياة الخضراء بقدر ما أعطته الفرصة والأمل) .
ويذكر صديقه الحميم الأديب البارع كيم غوركي عن لينين (إن دهشتي كبيرة .. كيف إن هذا الرجل الذي شاهد وعاش الكثير من المصائب والمآسي كان قادراً على الضحك بذلك القدر من السذاجة والطيبة) ثم يضيف (كيف إن لينين بعد أن استغرق بالضحك مسح عينيه من الدموع وقال : إن الإنسان الشريف ذو القلب النقي والطاهر وحده يستطيع أن يضحك بهذه الصورة) وكان يقول لينين : (إنه لشيء حسن أن يرى المرء الجانب المسلي من إخفاقاته .. إن خفة الروح هي صفة صحية رائعة وأنا حساس لهذه الصفة رغم أني غير موهوب بها ولا ريب إن في الحياة منها بقدر ما في هذه الحياة من أحزان ومآسي) وقال غوركي : (إن مزاج المرء هو شيء هام كما كان لينين بارعاً في الإصغاء والتعليق بالنكتة المرحة) . ويذكر المقربون منه والذين عايشوه والتقوا به على إنه لم يكن له مثيل في الإصغاء إلى من يتحدث معه في الحديث المباشر (من القلب إلى القلب) وقد اعتاد حتى وهو على رأس الدولة أن ينتقل للجلوس بملاصقة زائره للتحدث معهم باهتمام وود كانت أكبر هواياته زيارة المكتبات والمطالعة والكتابة والعمل وكان منظماً في عمله مثابراً ودءوبا شديد التركيز دقيقاً يكتب الملاحظات والتهميشات لا يعتمد على ذاكرته رغم إنها حية ومتوقدة وكان لا يكل أو يعجز من مراجعة أكداس من الإحصائيات والكتب والمراجع كما اعتاد أن يراجع مقالاته مرات متعددة فكان لينين يمثل الجهد الخارق للإنسان وقدرته مما أدى إلى إرهاق صحته .. لقد احترق مبكراً كما تقول زوجته ورفيقته المخلصة (كروبسكايا) وكيف لا يحترق ويذب وقد كان فكره يعمل طوال الوقت عملاً مجهداً .
تلك هي صفات وشمائل لينين العظيم القدوة الفريدة لكل القادة المخلصين لشعوبهم ذلك هو لينين النموذج الرائع الذي تتجسد فيه كل الصفات الإنسانية .. لقد جعلته تلك الخصال الحميدة أن يعيش في قلوب الملايين من أبناء الإنسانية في جميع أنحاء المعمورة وسيظل هكذا إلى الأبد محفوراً في حروف من نور في ذاكرة البشرية جمعاء ومكتوب على صفحات الكتب وعلى منصة التاريخ التي تستعرض من أمامها الأجيال الحالية والقادمة .
لقد مات لينين في يوم 21 / كانون الثاني / 1924 في الساعة السادسة وخمسين دقيقة بسبب نزف دموي في الدماغ .... عن عمر ناهز الرابعة والخمسين عاماً كان جميعه تراث وأثر ودور وموقف وفعل فدخل التاريخ من أوسع أبوابه وسيبقى خالداً ذلك الرجل الذي قضى حياته العظيمة متخندقاً في محراب النضال حاملاً بيد صولجان الشمس وباليد الأخرى الراية الخفاقة للاشتراكية الخلاقة .