رؤيا في رحاب الفكر الماركسي الخلاق


فلاح أمين الرهيمي
2007 / 12 / 27 - 11:41     

إن الفلاسفة والمفكرين الماركسيين الماديين الذين يقدسون المادة على الفكر لم يغالوا في ماديتهم وفي إشراقاتهم الفكرية بل اعتبروا إن الحقيقة النسبية تحتمل الصواب والخطأ باعتبار جميع الحقائق متغيرة من حيث خضوعها الجدلية المكان والزمان فما يصح اليوم قد تجده خطأ غداً لأن كل شيء في جدلية الفكر الماركسي متغير حسب حركة الأشياء الداخلية وانتقال التغيرات الكمية إلى النوعية والصراع الأزلي للأضداد والثنائيات وولادة الظواهر والحقب الجديدة من رحم القديم ضمن قانون نفي النفي ويرى المطلق الوحيد في هذا المجال هو نسبية الأفكار وإن الفكر يكون أكثر فاعلية للحياة والحقيقة والتأثير كلما كانت ثوابته أقل ومتغيراته أكثر وهذا ما يلبس الحياة دوماً لباساً جديداً يتلون من خلاله النظر للرؤيا وتستجد القيم والمفاهيم وقد سخروا لتدعيم آرائهم وأفكارهم كل معطيات العلم وجدل المنطق وحقائق التاريخ دون أن يقطعوا بصواب ما وصلوا إليه وبقي الشك يراودهم كون الحقيقة بعدة وجوه وما زالوا يجاهدون ويبحثون في كل يوم ومرحلة من أجل الاقتراب من الحقيقة ولازال الاختلاف في الحقيقة في الجدلية بين الأفكار والواقع المكاني وألزماني والشخصي وإن المفاهيم التي تبدو ثابتة في المظهر تتغير بشكل جذري في مضمونها عندما تنتقل من سياق تجربة تاريخية اجتماعية إلى سياق تجربة أخرى ومن خلالها يتجسد جوهر النظرية الماركسية بما يلي :

1) إن الأشياء وجدت مستقلة عن الإنسان وعن شعوره ووجدانه .
2) لا فرق بين الأشياء وما ينتج عنها.
3) الاختلاف مرهون بما يعرف عن الحقائق وما لم يصل الإنسان إلى معرفته.
4) المعرفة بنت الجدل وهي كغيرها من العلوم ليست محدودة ولا مطلقة بل نسبية وقابلة للبحث والاستكشاف.
5) لا عصمة بالمعرفة إن الجهل بالشيء لا ينفي وجوده ولا صحته.

ومن خلال الفكر الماركسي الجدلي الذي يقترن ويؤدي إلى ظهور أفكار جديدة وموضوعات للمناقشة وكل مناقشة وجدل وحوار فكري جديد يؤدي إلى ظهور رؤيا واجتهاد وأفكار جديدة ومن خلال هذه الرؤيا والاجتهاد التي تفرزها المناقشات والحوارات والجدل التي تنشأ مشاعر ورغبات جديدة يمكنها أن تخلق رؤيا وأفكار جديدة تؤدي إلى ظهور ظاهرة جديدة وبما أن أية ظاهرة في الوجود لابد أن تكمن وراءها عوامل وأسباب تمكنها من الظهور وإن هذه العوامل والأسباب هي المنابع والروافد التي تصب في تلك الظاهرة وتساعدها على النشوء والنمو والديمومة والاستمرار في الحياة ومن أجل الوصول والمعرفة والتحكم بتلك الظاهرة يجب معرفة القوانين التي تتحكم بتلك الأسباب والعوامل ، إن القانون العلمي الذي نستطيع بواسطته الوصول لمعرفة الأسباب والعوامل هو مقياس علمية الفكر والمعرفة وإن الفكرة والمعرفة التي لا يمكن التحقق منها استقرائياً ولا يمكن اختبارها تجريبياً يجب أن تحذف من قائمة الأفكار التي تدخل في دائرة العلم (كما يحدث الآن من طرح أفكار ورؤيا واجتهادات) لأنها تبقى مجهولة وغير واضحة ما عدا الفكرة التي يجري اختبارها تجريبياً تعتبر مقياس الصدق ومصدر معارفنا للوصول إلى حقيقة الأسباب والعوامل التي تتحكم بالظاهرة الجديدة لأن الفكرة الصحيحة نظرياً قد تلعب دوراً رجعياً في الواقع الموضوعي وفي التاريخ إذا ما طبقت في غير شروطها الموضوعية والتاريخية فليس ثمة فكر اجتماعي لم يصبح واقع حقيقي وموضوعي إلا بعد اختباره تجريبياً واستقراءه واستدلاله وحينما نستلهم من التجربة ما هو سليم وصحيح فإن ذلك يتحول إلى فكرة مرشدة للعمل إن الفكر الماركسي الخلاق يجب أن يكتشف في الوقت نفسه أكبر قدر من الموضوعية لكي يستطيع أن يرى إن حركة المجتمع على حقيقتها ويساعد الجديد على النمو والتطور عن طريق اكتشاف قوانين سيره وتعضيدها ومن خلال دراسة الواقع الموضوعي يستطيع أن يصور هذا الواقع بصدق ومعرفة في مظهره التاريخي الملموس في عملية متجددة ومتطورة أبداً والذي يمكنه من التمييز والتفريق بين الجوهر والمضمون والعام والخاص والحركة والتغيير عن كل ظاهرة خاصة في نطاق القوانين العامة ومبادئ التطور التاريخي وتوضيح كفاح الجديد مع القديم يؤدي إلى انتصار الجديد .
إن طبيعة الرغبات الضرورية للإنسان لم تكن موجودة طول الوقت من حيث الزمان والمكان إنما هي تتغير بتغير الواقع الموضوعي والثقافات من خلال ديناميكية الحياة ومسيرة وحرك التاريخ إلى أمام. إن الإنسان كان ولا يزال يقضي أغلب وقته باحثاً عن حاجاته الضرورية والأساسية وتعتبر تنوع الرغبات هي أحد القيم الروحية للإنسان كما تعتبر أحد الجوانب الطبيعية للواقع الإنساني التي تتغير عبر الزمن لأن لها علاقة بالحياة الإنسانية وهي ليست طبيعة ثابتة وإنما هي طبيعة متغيرة حسب الزمان والمكان والفردانية الشخصية ومرتبطة ارتباطاً واقعياً وموضوعياً بالحياة الإنسانية وتطورها . وتعتبر الرغبات الإنسانية وتغييرها ذات علاقة أساسية بتطور المجتمع من خلال تناقضاته التي تؤدي إلى تغيير في بنيته وتنظيمه السياسي والاقتصادي والاجتماعي والتي تؤدي بمرور الوقت بشكل واضح إلى استبدال البنية التنظيمية القديمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية بأخرى جديدة وهذه أيضاً تحمل في داخلها بذرة فنائها وعن طريق فناء القديم وظهور الجديد تحدث حركة التاريخ وتقدمه وتطوره وذلك يحدث من خلال العقل الذي يكتشف القانون العلمي الذي بواسطته نستطيع اكتشاف الظواهر التي هي موجودة على الرغم من مظاهرها الخارجية والذي نكتشفها بواسطة العقل عن طريق الحواس الإنسانية والتي تؤدي الوصول إلى معرفة الحقيقة والظواهر المختلفة عن طريق اكتشاف ومعرفة القوانين العلمية والذي يعتبر هو مقياس علمية الفكر والمعرفة . كما إن هذا التطور ينشأ من خلال التداخل والانفعالات الإنسانية والتي تؤدي إلى الصراع بين التناقضات الاجتماعية وتغير الواقع الموضوعي . فالتاريخ يتقدم ويتطور من خلال عملية الصراع والنزاع المستمر بين المذاهب الفكرية السياسية والاقتصادية والاجتماعية في المجتمع حتى نصل إلى مرحلة السمو الإنساني والمساواة خالية من المتناقضات والصراع الطبقي والاستغلال والاضطهاد والحرمان .
إن الفكر الماركسي الخلاق يتمحور جميع مكوناته وأسسه حول الإنسان وسعادته وحياته واستقراره ومستقبله المشرق السعيد ولذلك تعتبر النظرية الماركسية وفكرها الخلاق مرتبطة بعلاقة حميمة لا يمكن انفصالها عن الإنسان ووجوده منذ نشوءه في المغارات والكهوف إلى ما هو عليه الآن من تقدم وتطور ومعرفة وهي مسئولة عنه منذ أن ترميه أمه من رحمها إلى آخر رحلة يغادر فيها الحياة إلى القبر .
ومن ذلك نستنج بكل إيمان ووضوح رؤيا بأن النظرية الماركسية العلمية لا زالت حية ولم تشيخ أو تموت وهي تؤدي دورها ومسيرتها بكل نشاط وعنفوان فاعلة وعاملة مازال الإنسان حياً وموجوداً في هذا العالم المتلاطم الأمواج وسط الرياح العاصفة والعاتية ولا زال هذا الإنسان جائعاً ومحروماً ومضطهداً ومستغلاً فإن النظرية الماركسية العلمية الاشتراكية تحمل شعاع صولجانها ونبراسها وتضئ له الطريق رفيقة ودليلة حتى إنجاز مرحلة العبودية إلى شاطئ الأمان والاستقرار وبناء المجتمع المشرق السعيد المزدهر .
إن ما تطرحه النظرية الماركسية العلمية من قوانين وأفكار منذ القرن الثامن عشر ولحد الآن هي عملية ديالكتيكية متناسقة ومتجانسة ومنسجمة كالقضاء والقدر في كل زمان ومكان فهي كالعربة ومسيرتها من مسؤولية قائدها يستطيع أن يسير بها في طريق معبد ويستطيع أن يسير بها في طريق مملوء بالحفر والمطبات ولكل طريق سلوك ورؤيا واجتهاد وعمل يتحكم بها العقل المدرك والمدبر والخالق لكل مستلزمات الحيات المادية والمعنوية عن طريق القوانين العلمية والأفكار الدقيقة التي تعتبر المكونات الأساسية للنظرية الماركسية العلمية التي تعتمد على المذهب العقلي والكشفي معاً وترتقي من المحسوس إلى المعقول ومن المعقول إلى الكشف بواسطة العقل . ولذلك تعتبر قرار واختيار للنظرية والإنسان فبالنسبة للإنسان تعتبر مثل الموت والحياة لأن الإنسان أو أي كائن حي حيثما يولد فإن بذرة الموت تولد وتنشأ وتنمو معه في كل زمان ومكان مثل قرار واختيار الموقف والفعل الذي يقوم به ويمارسه أما بالنسبة للنظرية الماركسية العلمية فإنها بذرة موت ونهاية المرحلة الرأسمالية حتى قيام الاشتراكية والشيوعية فلا زالت الرأسمالية واستغلالها واضطهادها وحرمانها للشعوب والإنسان موجودة فالنظرية الماركسية العلمية موجودة بالضد وفي صراع ونزاع مع الرأسمالية وكلما تطورت الرأسمالية واخترقت العالم بعولمتها المتوحشة وخصخصتها المتعجرفة فإن النظرية الماركسية تمسك بها من رقبتها بقبضة فولاذية ولا تتركها أو تفارقها حتى تصبح جثة هامدة . هذا هو منطق التاريخ وتطوره ومسيرته وتقدمه فإن ديناميكية الحياة وحركتها تسير إلى أمام وليس من طبيعتها الوقوف والثبات والجمود وخلال مسيرتها سوف تجرف وتكتسح من أمامها جميع المطبات والحفر والعراقيل وتفتح آفاق جديدة للشعوب التي يخيم عليها الظلام الدامس وكابوس المرض والجهل والأمية والاستغلال يجثم على صدور الشعوب .
لقد رسمت النظرية الماركسية العلمية الطريق الواضح للشعوب وحملت عالياً الفكر النير والنبراس المنور لها في نضالها وكفاحها وأصبحت الصورة الحقيقية للنظرية الخلاقة لكل زمان ومكان فلم تفرق بين الشيء وصورته واتخذت من الأشياء والموجودات المادية من الواقع الموضوعي الملموس موضوعاً لبحثها وتحليلها واستدلالها فأثبت صحتها وواقعيتها ومصداقيتها بالرغم من إن لكل من هذه الأشياء والموجودات لكل واحد منها وجوداً مستقلاً من حيث الزمان والمكان ولكن القوانين العلمية للنظرية الخلاقة جعلت بينهم اتصال أممي لأن كل واحد منه هو نتيجة لغيره ومنبثق منه .
إن التطور الخلاق للنظرية الماركسية العلمية شرطاً أساسياً كي تظل مذهباً فعالاً وشعلة وهّاجة لجميع الشعوب المقهورة والمحرومة والمضطهدة .
في عصرنا الراهن (القرن الواحد والعشرين) تصبح مهمة الباحثين والمفكرين من المبدئيين والعقائديين من عشاق ومحبي النظرية الماركسية الخلاقة وخاصة بعد تفكك المعسكر الاشتراكي واختلاط الأوراق والنقاش البيزنطي (الدجاجة من البيضة أم البيضة من الدجاجة) وبعد الهجمة المتوحشة للعولمة وربيبتها المتعجرفة الخصخصة لابد من وقفة فيها نداء حي واستدعاء صارخ للماضي والحاضر والمستقبل بتحمل المسؤولية التاريخية أمام الشعوب المظلومة نضع على كاهلهم وجهودهم إطلاق إبداعاتهم ويقظتهم في اقتباس جذوة العمل والنضال في الفكر الماركسي الخلاق بما ينسجم مع المرحلة الحالية والمستقبلية حتى تستمر الثقة والعافية في المسيرة النضالية الجماهيرية في تحقيق حلمها المضيّع والمنكسر .