القيمة فى العمل(ا) يحرمون الربا و يحللون فائض القيمة


سامح سعيد عبود
2007 / 12 / 23 - 11:03     

فائض القيمة مصطلح ينتمى للعلوم الحديثة المرتبطة بظهور الرأسمالية كنظام اجتماعى، وهو غير شائع فى مجتمعاتنا المهووسة دينيا ، والتى تحصر نفسها داخل الثقافة الدينية، سواء بين العامة أو بين المثقفين، ومن ثم يظل المصطلح محصورا بين من لهم دراية بالاقتصاد السياسى و بين من مروا بدراسة الماركسية، أما الربا فهو مصطلح شائع لدينا كونه متداول فى تلك الثقافة السائدة، وبرغم أن كلا من الربا و فائض القيمة متشابهين، خاصة من زاوية لصوصية من يحصل عليهما، إلا أن الناس فى بلادنا يحرمون الربا لوجود نص دينى قاطع بتحريمها فى حين يدافعون عن من يحصلون على فائض القيمة، مرددين نفس حجج المرابى المدافع عن حقه فى الربا، ذلك لأنهم لا ينطلقون فى رفضهم للربا من حس أخلاقى يرفض اللصوصية فى حد ذاتها، أيما كان شكلها، ولكنهم ينطلقون من عبودية للنص الدينى مع رفض القياس عليه فى حالة فائض القيمة، شأنهم فى ذلك شأن من يحرمون الخمر لوجود نص دينى بتحريمها، فى حين أنهم يحللون المخدرات لعدم وجود نص دينى بتحريمها.
أصل الربا فى المجتمعات ما قبل الرأسمالية، أنه عندما أكتشف الناس النقود كوسيلة للتبادل، تراكمت النقود عند البعض منهم، فى حين احتاج إليها البعض الآخر سواء لتلبية احتياجاتهم المعيشية من سكن وطعام أو لتمويل نشاطهم الاقتصادى من تجارة و إنتاج، فأضطر المفتقرين للمال إلى الاقتراض من المرابين، على أساس أن يسددوا ديونهم للمقرضين بنقود أكثر من أصل الدين، وكانت النظم القانونية القديمة تحمى هؤلاء المرابين، و قد حرمت اليهودية على اليهود أن يقرضوا اليهود بالربا إلا أنها لم تحرم عليهم الإقراض بالربا لغير اليهود، ولم تأت المسيحية بنصوص قاطعة الدلالة بتحريم الربا، وإن كانت موعظة الجبل تحوى مواعظ أخلاقية على النقيض تماما من منطق المرابى منها مثلا" من طلب منك ثوبا فأعطه ثوبان "، ولكن هذه القيم الأخلاقية الرائعة لم يكن لها أى تطبيق فى عالم الواقع حتى بين المسيحيين المتدينين، ثم حرم الإسلام الربا الذى كان مجرد نشاط فردى شائع، وإن كان مدان أخلاقيا فى المجتمعات ما قبل الرأسمالية.
فى أواخر القرون الوسطى حدثت تطورات هامة فى غرب و وسط أوربا، إذ توسعت الأعمال التجارية لدى التجار الأوروبيين عبر العالم، واحتاجت صفقاتهم التجارية لتمويلات ضخمة، كما كانوا يحتاجون إلى من يحفظ لهم مدخراتهم، ويكون وسيطا بينهم فى تعاملاتهم عبر العالم، فنشأت البنوك التى كانت تطويرا لعمل المرابى من نشاط فردى إلى نشاط مؤسسى، و ذلك لكى تحقق العديد من الخدمات الائتمانية للتجار والحرفيين وغيرهم، إذ كانت تحفظ للمدخرين ودائعهم، وتقرض من مجموع هذه الودائع المتراكمة لديها من يرغب فى تمويل نشاطه التجارى أو الحرفى أو تلبية احتياجاته الاستهلاكية، و كانت تعطى المودعين فوائد على ودائعهم لديها، وتأخذ من المقترضين فوائد على القروض التى اقترضوها على أن تكون قيمتها أكثر من فوائد المودعين، ومن الفرق المتحقق بين الفوائد على القروض والفوائد على الودائع، تحقق أرباحها، ومع التطور التاريخى تدخلت الدول لتحدد بنفسها تلك الفوائد التى تقررها البنوك التى تعمل فى أراضيها فى حالتى الإيداع والاقتراض، أى أن الدولة أصبحت هى التى تحدد بنفسها ربح البنوك كأحد أشكال السياسة المالية للدولة، و أحد سلطاتها السيادية.
أما أصل مصطلح فائض القيمة فيرجع إلى أنه مع منتصف القرن الثامن عشر ، بدأت الثورة الصناعية فى بريطانيا، وظهرت معها الرأسمالية كنمط إنتاج حديث، وأخذت طلائع علماء الاقتصاد يؤسسون لعلم الاقتصاد السياسى، الذى كان من أهم أسئلته التى جاوبوا عليها، هو ما الذى يحدد قيمة السلعة ؟. وانتهى أبرزهم مثل سميث و ريكاردو إلى أن العمل البشرى المبذول فى إنتاج السلعة هو محدد قيمة السلعة فى السوق، فالعمل البشرى وحده هو خالق الثروة، باعتبار الثروة هى المجموع الكلى للسلع التى ينتجها المجتمع، وكانت إضافة ماركس إلى هؤلاء العلماء هى برهنته العلمية القاطعة على كيف تنقسم تلك القيم المنتجة بواسطة العمل البشرى، بين الرأسماليين الذين يحصلون على جزء من تلك القيم أسماه ماركس فائض القيمة، وذلك فى صور ثلاث هى أرباح على مشاريعهم الإنتاجية والخدمية أو فوائد على ودائعهم و قروضهم البنكية أو ريوع على عقاراتهم، وبين العمال الذين يحصلون على أقل من قيمة ما انتجوه فعليا من قيم فى صورة أجور.
لا غبار على استنتاجات ماركس بهذا الصدد ، إلا أن ماركس الذى برهن على لصوصية الرأسماليين لم يحاول أن يبرهن على لصوصية البيروقراطيين، ربما لضيق وقته أو لأن الظاهرة البيروقراطية فى الاقتصاد الحديث لم تكن معروفة فى عهده، وقد استكملت تلك النقيصة فيما بعد فى القرن العشرين على يد العديد من الاقتصاديين الماركسيين مثل شاختمان وغيره، الذين كانوا دعامة نقد النمط البيروقراطى للإنتاج المشهور بالاشتراكى.
وقد ظهرت بعد ماركس العديد من الانتقادات لنظرية القيمة فى العمل،منها حق المخاطرة والتنظيم ونظريات العرض والطلب وغيرها، و هذه الانتقادات، لا تهدف للحقيقة بقدر ما تهدف للدفاع عن اللصوص، مستندة على شبهات واستثناءات تثبت القاعدة و لا تنفيها، و لا تستند إلى برهنة علمية بقدر ما تردد غالبا نفس حجج المرابى الذى يدافع عن نفسه كالآتى:
أنه وفر ما وفره من نقود بعرقه وكده و ذكائه و حسن تدبيره ، فما يحصل عليه من فوائد هو أجر على نقوده التى يحتاجها الآخرين، فهو يقرضهم تلك النقود مخاطرا بها أن تضيع فلا يردها له المقترضين، ومن ثم فقد يخسرها أو يخسر بعضها فله حق فى التربح منها مقابل المخاطرة والمغامرة، كما أن من حقه أن يستفيد منها ويربح من إقراضها كما يستفيد المؤجر من عقاراته بتأجيرها، فهو يؤجرها كما تؤجر العقارات، بدلا من أن ينفقها على نفسه ويحبسها عن الناس الذين يخدمهم بسداد حاجتهم للنقود،و ما فوائد قروضه إلا مقابل تلك الخدمة، كما أن النقود قد تفقد قيمتها بمرور الزمن فما تشتريه العشرة جنيهات الآن قد تعجز عن شرائه غدا، و من ثم فإن من حقه أن يعوض هذا الفقد بفائدة يحصل عليها من المقترض الذى حرمه من استثمارها وتنميتها طوال فترة الاقتراض. ولكن هذا الدفاع الذى قد يبدو مقنعا، لا ينفى أن نقود المرابى ربت أو نمت لديه دون أن يبذل مجهودا فى زياداتها، و النظرة الموضوعية ترى أنه لا فرق إطلاقا بين فائض القيمة الذى يحصل عليه الرأسماليون، و الفائدة التى يحصل عليها المرابى، وبرغم هذا التطابق الواضح للعيان إلا أن البعض لا يجد غضاضة فى أن لا يدين أرباح الرأسمالى، ويعتبرها رزقا حلالا، ويدين فى نفس الوقت أرباح الربا التى يعتبرها مالا حراما.
بنفس منطق المرابى يدافع الرأسمالى عن نفسه كالآتى: أن ما يحصل عليه من أرباح، هو حقه المشروع مقابل مخاطرته باستثمار ما يملكه من رأسالمال، الذى كان يمكنه أن ينفقه على نفسه أو يحبسه عن الاستثمار، إلا أنه قرر أن يوفر فرص للعمال المحتاجين للعمل من أجل يستمروا فى الحياة، ولأنهم محرومين فى نفس الوقت من وسائل الإنتاج، فأنه اشترى تلك الوسائل كى ينتجوا بها سلع ذات قيمة أكثر من قيمة ما أنفقه على شراء وسائل الإنتاج، و دفعه لأجور العمال،ولما كان يلبى حاجات العمال للعمل فإنه يطالب بحقه فى الربح من تلك الخدمة الاجتماعية التى يؤديها لهم.
مثلما يكون المرابى هو الطرف الأقوى الذى يستغل حاجة المقترضين لنقوده، ومن ثم يفرض شروطه المجحفة عليهم باعتبارهم الطرف الأضعف، فكذلك الرأسمالى أيضا يستغل احتياج العمال المجردين من الثروة للعمل فيفرض شروطه الظالمة عليهم. وإذا كانت العدوات تنشأ بين المقرضين والمقترضين بسبب اختلاف المصالح بينهما، فإن عداوت أمر تنشأ بين العمال والرأسماليين، حيث يكون من مصلحة العمال أجور أعلى وعدد ساعات عمل أقل وأسعار أرخص فى حين لا تتحقق مصلحة الرأسماليين إلا بالعكس بأجور أقل وعدد ساعات عمل أكثر وأسعار أرخص.
يدعى الرأسمالى مدافعا عن حقه فى الربح ، أن من حقه الحصول على تلك القيمة الزائدة مقابل تنظيمه وإدارته للاستثمارات التى يملكها. وكذلك يدير المرابى أمواله بمتابعة الإقراض وتحصيل حقوقه من المقترضين، إلا أن الحقيقة الواضحة كالشمس أن غالبية الرأسماليين لا شأن لهم فعليا بالإدارة والتنظيم لاستثماراتهم التى أصبحت غالبا فى يد البيروقراطيين، و أنهم غالبا ما يحصلون على دخلهم من الثروة التى يملكونها، كفوائد على ما يملكوه من الأسهم و الأوراق المالية و الإيداعات البنكية، أو كريع للعقارات المملوكة لهم، دون بذل أى جهد يذكر فى الإنتاج وتنظيمه وإدارته الذى أصبحت شأنا فنيا فى يد المتخصصين فى الإدارة، وفضلا عن أن مقابل الإدارة والتنظيم هذا إن اتفقنا علي أحقية المديرين فيه، لا يمكن أن يبرر نصيب الأسد الذى يحصل عليه الرأسماليين من فائض القيمة فى صورة أرباح وفوائد وريوع فى مقابل الفتات التى يحصل عليها العمال فى صورة أجور، إلا إذا اعتبرنا أن الإدارة والتنظيم هى أهم عناصر الإنتاج، و أن القرارات الإدارية التى يتخذها المديرون هى المولدة للربح دون أن تجد من ينفذها من العمال الذين يحولوها لإنتاج ملموس.
الرأسماليون فى مصر يحصلون على أكثر من سبعين بالمئة من الدخل القومى فى صورة عوائد تملك ، فى حين يتركون لمجموع العاملين بأجر بما فيهم البيروقراطيين أقل من ثلاثين بالمئة فى صورة أجور، فهل الإدارة والتنظيم تساهم بسبعين فى المئة من القيمة المنتجة ، مع ملاحظة أن الإدارة والتنظيم يتم الحصول على مقابلها فى صورة أجور للبيروقراطيين الذين يحصلون فعليا على نصيب الأسد من مجمل الأجور أى الثلاثين بالمئة الباقية للعاملين بأجر.
للحديث بقية