تسعون عاماً على نوفمبر 1917م: ألحقنا يا إليتش!!


مجدي الجزولي
2007 / 12 / 11 - 11:42     

ليس أصدق في وصف حال اليسار الشيوعي منذ سقوط الاتحاد السوفييتي مثل عبارتنا السودانية "انكسر المرق واتشتت الرصاص"، لكنا على الأقل لذلك مدركين، وذات الإدراك ما هو يدفعنا إلى استعادة فضيلة (البحث)، في معنى دراسة وتأمل امكانيات المشروع التحرري ما بعد تهافته على يد البيروقراطية السوفييتية، بل ما بعد استقلاب مكوناته وتبدل محدداته. فضل يساريون من الأطياف كافة، في جلبة (التطهر) من أدران الشيوعية كما تمثلت في الإخراج الروسي، رمي الثورة الروسية نفسها في سلة المهملات، كونها لحظة الولادة التي انتهت بختام التاريخ وقد وأد حلم (عمال العالم وشعوبه المضطهدة)، ولعلنا نصادف في هذه (التطهرية) ذات النرجسية التي دفعت ستالين إلى تصور أن التاريخ بين يديه فهو فاعله وقديسه المرتجى يميز اتجاهاته ويقودها كما الخياط يخيط المستقبل ثياباً، إلا أنها في حالة متطهرة اليسار نرجسية المهزوم المنكسر، وعند نومنكلاتورا ستالين نرجسية جنون العظمة، وفي الحالتين التواء عن عزائم إدراك التاريخ والفعل فيه عقلانياً، أو على الأقل محاولة ذلك.
البحث التاريخي في قضية نوفمبر 1917م يكون في مجال متجاوز لهذين الموقفين المبتورين، مثال ذلك ما أنجزه دكتور محمد سعيد القدال في ورقة بعنوان "الجذور التاريخية لانهيار الاتحاد السوفييتي" (2003م) ، حيث عدد بعضاً من تناقضات اشتباك روسيا والخطة الاشتراكية أبرزها تخلف روسيا عشية نوفمبر 1917م عن شرح ماركس لشروط الثورة البروليتارية والتحول الاشتراكي في علاقات الإنتاج، فروسيا حينها لم تكن بلداً صناعياً إلا استشرافاً، والبروليتاريا الروسية لم تتجاوز كماً 4% من قوة العمل. عليه، أجاز القدال في تقييمه القول أن الثوريين الروس حققوا ثورة بروليتارية دونما بروليتاريا، بل نالوا السلطة السياسية من عل، ولما يتفق للطبقة الاجتماعية التي يمثلون "التأهيل التاريخي" لاستلام السلطة مضيفاً أن هذا التأهيل كان ليتيسر للبلاشفة خلال ممارستهم السلطة لو انفتحوا على القوى السياسية الأخرى، خاصة وقد ساهمت هذه القوى في الثورة كما ساهموا. في هذا السياق تطرق القدال لمحاولة لينين قياد الإنتاج الروسي عبر التطور الرأسمالي من خلال "السياسة الاقتصادية الجديدة" (NEP)، وانتقد تنكر البلاشفة للديموقراطية الليبرالية، بدلاً من تطويرها، حتى استحال حكمهم إلى ملك عضود قوامه ديكتاتورية الحزب وليس ديكتاتورية البروليتاريا.
على صحة هذا التحليل فإنه يستقي من إطلاع المؤرخ على تكشف التاريخ اللاحق أي خبرة تضعضع الاشتراكية (القائمة فعلاً) ومن ثم انهيارها. لذا قد تلزم العودة إلى معاصري الثورة الروسية بحثاً عن شك (ثوري) في حدودها. ومن أفيد في هذا المعنى من مهندسها الأول. في مقال بعنوان "ثورتنا" دافع لينين عن تكتيكه الوثاب مؤنباً منتقديه على سمتهم البرجوازي الصغير إذ عابوا عليه ثورته الموزعة بين طبقة الفلاحين وحزب البروليتاريا، ليؤكد أن ما يميز الماركسية هو بالضبط هذا الديالكتيك الثوري، أي فقه المتناقضات، وأن سير التاريخ لا تحدده القوانين بقدر ما تستوحيه. في شأن (جاهزية) روسيا للتحول الاشتراكي كان رد لينين أن الاصطدام بأوضاع تتطلب (الثورة)، وذلك بالإشارة إلى الحرب العالمية الأولى والحال الداخلي في روسيا، هو الذي فرض التغيير الثوري، وليس جاهزية التشكيلة الاقتصادية الاجتماعية في روسيا للانتقال من شفا الرأسمالية إلى رحاب الاشتراكية. عرف لينين نوفمبر 1917م بأنها تلاقح حرب الفلاحين الأهلية وحركة الطبقة العاملة، وهو تعريف أصبح في مرحلة لاحقة برنامج تحالف سياسي لحركات التحرر الوطني في المستعمرات، مشيراً إلى أن الفرصة التاريخية أتاحت لروسيا محاولة مد طريق جديد إلى المستقبل يخالف ما آلت إليه أوروبا الغربية في القبضة الرأسمالية، لينتهي إلى أن دينامية الثورة كفيلة بردم الهوة في مستوى التطور الاجتماعي والاقتصادي بين روسيا المتخلفة والغرب المتطور ("ثورتنا"، برافدا، 16/01/1923م؛ الأعمال الكاملة، مجلد 33، ص 476 – 480).
في شأن النظام السياسي، تصور لينين أن ديموقراطية قاعدية يمكن أن تتحقق من خلال (السوفييتات)، فهي توفر الشرعية الديموقراطية للسلطة السوفييتية، وتعكس طبيعتها الثورية، كونها مجالس منتخبة انتخاباً حراً من بين جماهير العمال والجنود والفلاحين. اختصر لينين عام 1918م خطة الديموقراطية البروليتارية في سطور قليلة تبدو اليوم ظلاً تاريخياً لمحاولات ثوريي الضواحي الفرنسية، عاطلين وعمال، الفوز ببعض التمثيل في هيئات الحكم المحلي، ومشاريع حكومة شافيز في فنزويلا تثوير الديموقراطية البرلمانية لتستوعب حراك (الغيتو) الحضري والأرياف: "تتجلى ديموقراطية السلطة السوفييتية وطبيعتها الاشتراكية في عدة حقائق: تمثل السوفييتات السلطة العليا في الدولة، وتتكون من ممثلين للشعب العامل (العمال والجنود والفلاحين)، ذلك عبر الانتخاب الحر المباشر. يخضع أعضاء السوفييتات لإرادة الجماهير التي تستطيع اعفاءهم أو استبدالهم في أي وقت؛ يمكن للسوفييتات المحلية أن تلتحم بحرية في اتحاد فدرالي واحد على أساس المركزية الديموقراطية، وذلك على غرار السوفييت الأعلى لجمهورية روسيا السوفييتية؛ تتركز السلطة التشريعية والإشراف على تنفيذ القانون في يد السوفييتات، بل إن من حق أعضاء السوفييتات تنفيذ القانون مباشرة على أن تنتقل سلطات التشريع وإدارة الدولة تدريجاً إلى كل الجماهير العاملة" ("ديموقراطية واشتراكية السلطة السوفييتية"، برافدا، 22/04/1957م؛ الأعمال الكاملة، مجلد 42، ص 100ب – 101أ). يبدو تقرير لينين هذا لطبيعة السلطة السوفييتية صدىً تطبيقياً لمشروعه المفصل في "الدولة والثورة: النظرية الماركسية للدولة ومهام البروليتاريا في الثورة" (1917م)، حيث يتطلع إلى زوال الدولة بالكلية، كونها أداة للقهر الطبقي، ويرسم القاعدة الاقتصادية لهذا الزوال، إن لم يكن التهافت. عليه، ليست ديموقراطية لينين التي استشرف في الفكر ارتداداً عن الحقوق والحريات، بل بصورة "تجريبية" بحثاً عن مضمون لها في خضم المعضلة الاجتماعية التي تمثلها الرأسمالية. في هذا الخصوص كان هدي لينين أن على البروليتاريا تحطيم الدولة في إخراجها البرجوازي، فديموقراطيتها الليبرالية ليست سوى تعبير عن ديكتاتورية البرجوازية وتظل منقوصة وهدامة ما دامت علاقات الإنتاج الرأسمالي في محلها ("الديموقراطية والديكتاتورية"، برافدا، 03/01/1919م، الأعمال الكاملة، مجلد 28، ص 368 – 372).
يوافق سير التاريخ ما ذهب إليه القدال، فأخيل الاتحاد السوفييتي أوتي من كعبين، الأول عجز نظامه الاقتصادي عن اللحاق بمستوى تطور قوى الإنتاج الرأسمالي، والثاني اهدار نظامه السياسي للحقوق والحريات العامة بدلاً عن تعزيزها بعضد الاشتراكية. لكن، لا يكفينا الإثبات بشهود المنتهى، دون بحث في شرط التاريخ الذي أخرج الثورة، والواقع الذي اكتنفها، والتطورات التي صاحبت وصنعت الاتحاد السوفييتي حتى تهاوى، مما يقتضي فحص الواقع الذي ثار عليه البلاشفة، وفحص الديموقراطية التي هاجم لينين كما تمثلت في القرن التاسع عشر، إذ ان ممارسة الحقوق السياسية وتأهيل الأنظمة الديموقراطية في أوروبا المعاصرة واقع خلاب تزيغ بإزاءه الأبصار عن حقيقة أنه نتاج لتطور وئيد، ودموي، أعظم محطاته الحرب العالمية الثانية، حيث ارتدت البرجوازية الأوروبية عن (الحقوق) و(الحريات) إلى خطاب (الفاشية) هلعاً من شبح الاشتراكية، ووقوده كفاح متصل للقوى الديموقراطية وفي مقدمتها الطبقة العاملة ذات الروح الأممي. كما أن تطور قوى الإنتاج الرأسمالية لم يتأتى بنشر السلم، وإنما تعاظم بريع الاستعمار، قديمه وحديثه، وتغذى من تكنولوجيا الحروب.
إن جرداً لحصاد الاشتراكية السوفييتية مقارناً مع الرأسمالية الحاكمة ما زالت، إذا تحررنا بعض الشئ من المركزية الأوروبية، يبرز حقيقة مهمة مفادها أن التاريخ سار في غير اتجاه التطلع السوفييتي، وأن السلطة السوفييتية هزمت نفسها، في الحقيقة قبل انهيارها، فما استطاعت ديكتاتوريات الحزب الواحد التشبث أكثر بقياد السلطة والدولة، وما كان لها. في الجهة المقابلة لا مجال للحكم بأن السوق الرأسمالية والديموقراطية الليبرالية، منزوعة العدالة الاجتماعية، كانتا برداً وسلاماً على البشرية. بالعكس من ذلك، ما إن ترجل الفارس الاشتراكي حتى استعادت الرأسمالية أحد أنيابها، والشاهد تسونامي الليبرالية الجديدة مزدوجة وعقائد المحافظين الجدد، والهيمنة السياسية الأميركية على الأرض وأهلها، الظاهرة التي اقترح لتوصيفها المؤلفان هاردت ونيجري مفهوم "الامبراطورية" (Empire) كمرحلة قصوى جديدة للإمبريالية (Imperialism).
نشهد، بحسب هاردت ونيجري، تشكيل وتمترس نظام سياسي عالمي، بالتواز مع عولمة الاقتصاد والثقافة، وعلى إثر اقتلاع الأنظمة الاستعمارية وتصدع الحدود السوفييتية أمام السوق الرأسمالي العالمي حتى انهيارها، وهو نظام وهيكل ومنطق سياسي مستجد يؤذن بسيادة رأسمالية امبراطورية تحدد قواعد التبادل العالمي، بل تشكل قوة ذات سيادة تحكم العالم، إذ أن تناقص سيادة الدولة القطرية في خضم العولمة لا يعني بالضرورة زوال السيادة على الإطلاق، وإنما انتقالها إلى مستوى آخر من السلطة، هو "الامبراطورية". على خلاف التمدد الامبريالي، الذي قام على توسع سيادة الدول الامبريالية الأوروبية خارج حدودها، حتى تقاسمت العالم فيما بينها، لا تعترف الامبراطورية بالحدود، بل تقوم بنزع الحدود (deterritorializing)، وتعتمد على نسق لا مركزي في النفوذ (decentered)، وبذا تقتنص المدى الكوني ضمن حدودها المفتوحة والمتمددة ("الامبراطورية"، 2000م، المقدمة).