دراسة - إمبريالية القرن الواحد والعشرين

كلاوديو كاتز
2003 / 11 / 17 - 04:43     

حوَّر تجدد الاهتمام بدراسة الإمبريالية، النقاش حول العولمة، الذي ارتكز أساسا حول نقد النيوليبرالية والخطوط الجديدة للعولمة.
هذا المفهوم (الإمبريالية) الذي طوره المنظرون الماركسيون الرئيسيون في القرن العشرين ـ والذي عرف انتشارا كبيرا في سبعينياته ـ يجلب من جديد اهتمام الباحثين، مع تفاقم الأزمة الاجتماعية في العالم الثالث، وتضاعف النزاعات العسكرية، والتنافس المميت بين الشركات الكبرى.
فكرة الإمبريالية تُمَفهم نوعين من المسائل: من جهة، علاقات السيطرة الموجودة بين رأسماليي المركز وشعوب الأطراف، ومن جهة أخرى، العلاقات التي تسود بين القوى الإمبريالية الكبرى عند كل مرحلة من مراحل تطور الرأسمالية.
ما هي إذن حدود راهنية هذه النظرية؟ وبماذا يمكن أن تساهم  لإنارة الوضع الحالي؟
I – شرح لقطبية العالم.
يؤكد "استقطاب المداخيل"، أهمية نظرية الإمبريالية في معناها الأول. فعندما تصبح ثروة ثلاثة مليارديرات أكبر من الناتج الداخلي الخام (PIB) ل48 بلدا. وعندما يموت مواطن من الأطراف كل أربعة ثواني جوعا، يصبح من الصعب إخفاء كون تعاظم الهوة بين البلدان المتخلفة والمتقدمة ينتظم ضمن إطار علاقات الاضطهاد.
فاليوم لا مجال للقول بأن هذا التباين هو حدث عرضي، سيتم تصحيحه بعد تدفق عائدات ومزايا العولمة.
وبلدان الجنوب لا يشكلون فقط "الخاسرين" في هذه العولمة، بل إنهم يعانون من تعميق مسلسل تحويل المداخيل لصالح الشمال، هذا المسلسل الذي عطل تاريخيا تنمية الجنوب.
هذا التجفيف تسبب بمضاعفة إذقاع بؤساء البلدان 49 الأكثر فقرا، وتشوهات جمة في نظام التراكم الجزئي للبلدان التابعة النصف المصنعة. ففي هذه الأخيرة انعدمت نجاحات القطاعات الداخلة في قسمة العمل الدولية، بعد إضعاف الأنشطة الاقتصادية الموجهة للسوق الداخلي.
إن التحليل الذي تقدمه الإمبريالية لا يعتبر بأن التأخر هو نتيجة مؤامرة، ولا يبرئ الحكومات المحلية من مسؤولياتها عن ما آلت إليه الأوضاع. لكنه يقدم بكل بساطة تفسيرا "لاستقطاب" التراكم على الصعيد العالمي وتقلص احتمالات تعادله بين اقتصاديات غير متشابهة.
فهامش "التنمية السريعة" الذي سمح في القرن 19 لألمانيا واليابان بالوصول إلى وضعية قوى عظمى بحجم فرنسا وبريطانيا، اللتان سبقتاها لذات الوضع، هذا الهامش لم يعد متوفرا اليوم بالنسبة للبرازيل أو الهند أو كوريا الجنوبية، إذ أن خريطة العالم المنمطة على هذا النحو تتميز ب"هندسة ثابتة" في المركز وب"جغرافيا متحركة" للتخلف، والتغيرات الوحيدة الممكنة هي في الوضعية الطرفية لكل بلد تابع.
تعزو نظرية الإمبريالية هذا التباين إلى التحويل الممنهج للقيمة المحدثة في الأطراف لصالح رأسماليي المركز.
هنا التحويل يتم عبر تدهور حَدَّي المبادلات لغير صالح الأطراف. وبالتناقص التدريجي للعائدات المالية والأرباح الصناعية إلى حدود الصفر.
النتيجة السياسية لهذا التجفيف هي فقدان الاستقلالية السياسية للطبقات السائدة في الأطراف، وكذلك التدخلات العسكرية المتزايدة للدركي الأمريكي.
هذه المظاهر المتزايدة للإمبريالية المعاصرة تظهر بوضوح في حالة أمريكا اللاتينية اليوم.
II – تناقضات الاقتصادات الطرفية.
منذ أواسط التسعينات وأمريكا اللاتينية تتحمل نتائج انهيار "الأسواق العابرة"، حيث أن أغلب البلدان المتضررة عرفت أزمات حادة مسبوقة بهروب الرساميل ثم تخفيض العملة، الشيء الذي زاد في التضخم وقلص من القدرة الشرائية.
لقد تسببت هذه الانهيارات في إفلاسات بنكية، وأدى تدخل الدولة لإنقاذها الى مفاقمة المديونية العمومية، ليصبح بالتالي من الصعب إعطاء نفس جديد للاقتصاد وليتعمق فقدان السيادة النقدية والمالية.
مَرَد هذه الأزمات هو السيطرة الإمبريالية، ولا يمكن تعليلها فقط بتطبيق السياسات النيوليبرالية، المطبقة في المركز كذلك.
فالانهيارات التي عرفتها أمريكا اللاتينية أكثر عمقا من الاختلالات التي وجدت في أوروبا أو اليابان، باعتبار أن أمريكا اللاتينية تتأثر بالانخفاض الحاد والدوري لأسعار المواد الأولية المصدرة، والانقطاع الدوري في أداء الديون، وتفكك الصناعة المحلية.
إن بلدان المحيط هي الأكثر تعرضا للنتائج الوخيمة التي تسببها التقلبات المالية العالمية، باعتبار أن دورتها الاقتصادية مرتبطة بشكل وثيق بنشاط الاقتصاديات المتقدمة. وتقدم العولمة يضاعف هذه الهشاشة بتعميق تجزء النشاط الصناعي وبتركيز العمل المؤهل داخل بلدان المركز مع توسيع الفروقات بين مستويات الاستهلاك.
من جهة أخرى، تمكن السيطرة الإمبريالية الإقتصاديات المتقدمة من تحويل جزء من اختلالاتها الذاتية إلى البلدان التابعة. هذا التحويل يفسر الطبيعة المتباينة واللامعممة للانحسار الإقتصادي العالمي الحالي. فرغم أن أزمة اقتصادية مماثلة لأزمة 1930 قد تسجل في المحيط، لكنها ستبقى مجرد احتمال في بلدان المركز.
فنفس سياسات الخوصصة لم تؤد لنفس الخسائر في مختلف المناطق. فإذا كانت التاتشيرية قد زادت من حدة الفقر ببريطانيا، فإنها أدت إلى سوء التغذية والبؤس بالأرجنتين. وإذا كان توسيع الفوارق قد أدى إلى تقليص الأجور بالولايات المتحدة، فإنه تسبب في الفاقة والهجرة الجماعية بالمكسيك. وإذا كان الانفتاح التجاري قد تسبب في إضعاف الاقتصاد الياباني، فإنه خرب الإكواتور.
هذه الاختلافات ترجع إلى الطبيعة الهيكلية لكل بلد داخل النظام العالمي : هل في المركز؟ أم في الأطراف؟
تشكل التبعية السبب الأساسي للتراجع الكبير الذي عرفته أمريكا اللاتينية، منذ منتصف التسعينات، رغم بعض الانتعاش الذي يرجع لتدفق الرساميل الموظفة لمدد قصيرة. فالمنطقة تسقط من جديد في الوضعية المأساوية التي عرفتها إبان "العشرية الضائعة" للثمانينات. فقد توقف الناتج الداخلي الخام في المنطقة عند حوالي 0,3 % سنة 2001 ، وسيتموقع حوالي 0,5 % سنة 2002  ، وبعد أربعة سنوات من الخروج الكامل للرساميل توقفت الاستثمارات الأجنبية، وفاقم تخصص بلدان المنطقة في النشاطات الإنتاجية ذات القيمة المضافة المنخفضة (نشاطات قاعدية de base ) تدهور الميزان التجاري. فتحويلات المهاجرين بالكثير من البلدان تتجاوز العملة الصعبة المجنية من الصادرات.
نتيجة هذه الأزمة تتجلى في كون 20 فقط، من 120 شركة أمريكية لاتينية كانت متواجدة في البورصات العالمية، حافظت على ذلك التواجد اليوم.
السيطرة الإمبريالية هي الأصل في الاختلالات الاقتصادية الكبرى التي سببت العجز التجاري (المكسيك) وفقدان التحكم المالي (البرازيل) وانهيار الإنتاج (الأرجنتين). والآن تؤدي هذه التقلبات إلى تعاقب الأزمات المنتشرة في اتجاه الجنوب، مسببة اختلال اقتصاد الأوروغواي وتهدد البيرو والبرازيل.
يُجهِد الإقتصاديون النيوليبراليون أنفسهم في تحليل خصوصيات هذه الأزمة، دون أن يحاولوا فهم القاعدة العامة لفقدان التوازن هذا، فتجاهلهم للاضطهاد الإمبريالي يجعلهم يميلون مرات متعددة إلى تغيير آرائهم، والحط من قيمة النماذج الاقتصادية التي كانوا يدافعون عنها ورميها بأقذع النعوت.
لكن بعد إطلاق منطقة التبادل الحر للأمريكيتين (ZLEA) ، أصبح من المستحيل عمليا تفادي تحليل الإمبريالية.
فهذا المشروع الاستراتيجي للسيطرة الأمريكية الشمالية، يهدف إلى توسيع الصادرات الأمريكية (USA) من أجل لجم المنافسة الأوروربية وتدعيم مراقبة القوة الأولى لجميع العمليات المربحة بالمنطقة (الخوصصات المتبقية ـ المعاهدات التفضيلية في القطاع العام...).
إن اتفاق ZLEA ، هو معاهدة استعمارية جديدة، بحيث يفرض الانفتاح التجاري لأمريكا اللاتينية دون أن تلتزم الولايات المتحدة بالمثل. فمن أجل الحصول على « fast track » (ترخيص الكونغرس للرئيس بالتفاوض السريع حول الاتفاقات مع البلدان دون الرجوع إليه)، أدخل بوش معايير جديدة لا تسمح بتحويل التقنيات العالية باتجاه أمريكا اللاتينية، الشيء الذي يعرقل دخول 293 منتوج أمريكي ـ لاتيني لسوق الولايات المتحدة.
هذه الحواجز الجمركية تمس بالدرجة الأولى صناعة النحاس والحديد، النسيج والفلاحة. أكثر من ذلك وضع بوش برنامجا لدعم القطاع الفلاحي في الولايات المتحدة، الشيء الذي سيوجه ضربة قاصمة لصادرات أمريكا اللاتينية من الصويا، القمح والذرة في غضون العقد القادم.
تنزع ZLEA القناع عن الخطاب الإمبريالي المزدوج، الذي يسعى وراء الانفتاح التجاري في الخارج مع اللجوء في نفس الآن إلى الأساليب الحمائية في الداخل. لهذا سيؤدي التوقيع على الاتفاق إلى انهيار البلدان نصف ـ المصنعة مثل البرازيل، وإلى انهيار الاتفاقيات الجهوية كالميركوسور، كما أن الاقتصاديات الصغيرة أو تلك المكملة لقطاعات جد خاصة في الولايات المتحدة، لن تتلاءم إلا بشكل جد ضعيف مع الإتفاق.
هكذا، فبعد عقد من السياسات النيوليبرالية، لم يعد الخطاب الإمبريالي حول الإنفتاح يقنع أحدا. إن نجاح بلد ما لا يتعلق فقط "بحضوره العالمي"، لكن بأشكال وظروف هذا الحضور. نأخذ إفريقيا كمثال: نسبة تجارتها الخارجية، مع أمريكا اللاتينية، على ناتجها الداخلي الخام، كبيرة جدا (45,6 %) مقارنة مع أوروبا (13,8 %) أو الولايات المتحدة (13,2 %) مع أنها أفقر منطقة في العالم. هذه الحالة المتطرفة من الإلحاق المُضر والغير صحي بقسمة العمل الدولية، تمثل حالة من حالات التبعية العامة التي تعرفها الاقتصاديات الطرفية.
III – إعادة الاستعمار السياسي.
إعادة استعمار دول المحيط تمثل الوجه السياسي للسيطرة الإقتصادية الإمبريالية، وهو يرتكز على التعاون المتزايد للطبقات المسيطرة المحلية مع نظيراتها في الشمال. هذا الإرتهان جاء كنتيجة للتبعية المالية ولتحويل الموارد الطبيعية وكذا لخوصصة القطاعات الاستراتيجية للمنطقة.
ففقدان السيطرة الإقتصادية، مَكَّن صندوق النقد الدولي من وضع اليد بشكل مباشر على التدبير الماكرواقتصادي، ومنح لكتابة الدولة الأمريكية في الخارجية تأثيرا مماثلا على القرارات السياسية. فاليوم لم يعد مسموحا لأي رئيس أمريكي لاتيني اتخاذ قرارات هامة دون الرجوع لسفارة الولايات المتحدة. هذا في الوقت الذي تقوم فيه وسائل الإعلام و"المثقفون المتأمركون" بدور الراهب المُسَبِّح بحمد أمريكا، مما يؤدي إلى شرعنة هذه التبعية.
وعلى العكس من الفترة الواقعة بين 1940 و 1970 ، لا يعتزم رأسماليوا أمريكا اللاتينية تصليب الأسواق الداخلية بالاعتماد على سياسة تعويض الواردات. فأولويتهم الآن هي الارتباط بالشركات الأجنبية، وذلك لأن الطبقات المسيطرة في المنطقة، هي بدورها معنية بأداء الدين الخارجي، وتستفيد حاليا من الهامش الذي يوفره انعدام الضبط المالي، كما تستفيد من الخوصصات ومن مرونة الشغل. توجد أيضا فئة من الموظفين تقدم الولاء للمؤسسات الإمبريالية أكثر مما تقدمه لبلدانها، فهؤلاء تعلموا في الجامعات الأمريكية وتدربوا في المؤسسات الدولية وفي الشركات الكبرى، لذا يرتبط مسارهم المهني بهذه المؤسسات أكثر من ارتباطه بحسن سير الدول التي يحكمونها.
لكن إعادة الاستعمار المعمم هذا يعمق كذلك أزمة الأنظمة السياسية في المنطقة، ففقدان الحكومات لمشروعيتها، كنتيجة لتنفيذ أوامر صندوق النقد الدولي، نجم عنه في السنتين المنصرمتين "أزمة نظام" في أربعة بلدان (الباراغواي ـ الإكواتور ـ البيرو ـ الأرجنتين). وهكذا، فبعد مسيرة طويلة من تآكل نفوذ الأحزاب التقليدية، أصبحت الحكومات أكثر هشاشة، وتتجه الأنظمة نحو التفكك، بل إن بعض الدول قد اهتزت.
هذا المشهد يشكل تتويجا لعملية تفصيل المؤسسات على المقاس، مما جعلها تفقد كل حساسية للمطالب الشعبية ولا تقيم لها أدنى اعتبار، وتتصرف كخادمة للإمبريالية. وفي نفس الوقت الذي تتفكك فيه الواجهة الدستورية، تشجع كتابة الدولة الأمريكية في الخارجية على العودة إلى الممارسات الديكتاتورية للماضي، مع تغليفها ببعض المجملات الدستورية.
هذا الخط يظهر جليا في المحاولة الإنقلابية بفنزويلا. فتغيير الحكومة الوطنية بهذا البلد يشكل أولوية بالنسبة لحكومة الولايات المتحدة، وذلك لأجل تصليب الحصار ضد كوبا، وتقطيع أوصال الزاباتية، والإستعداد لفوز إنتخابي لحزب العمال في البرازيل، وكذلك تلقين درس للتمرد الشعبي في الأرجنتين.
وقد بدأت دبلوماسية الولايات المتحدة بتقييم إمكانيات إعادة إرساء الحمايات القديمة التي تعتبرها قد انتهت. كولومبيا وهايتي هما المرشحتان الرئيسيتان لهذه المحاولة النيوكولونيالية، والتي يمكن أن تطبق كذلك في يوغوسلافيا، رواندا، أفغانستان، الصومال وسيراليون. كذلك يمكن إدخال الأرجنتين في هذا المشروع الذي تهدف من ورائه أمريكا حكم هذه البلدان بإقامة من يقوم مقامها فيها. بدائل مثل هذه ستفرض على الدركي الأمريكي أن يحشر أنفه بشكل متزايد في أمور المنطقة.
IV – التدخلية العسكرية.
يعتبر "مخطط كولومبيا" المحاولة الأساسية لهذا التدخل العسكري في أمريكا اللاتينية، فقد وضع البانتاغون الذرائع المتعلقة بتهريب المخدرات جانبا، وبدأ حملة عسكرية ضد الثوار، مع القطع النهائي لمفاوضات السلام.
ومن أجل تقليص عدد الضحايا في صفوف الفرق العسكرية الأمريكية (عقدة فيتنام) ستتم التضحية بعدد كبير من "الأهالي" بوضعهم على خط النار.
إن الحرب في كولومبيا تعني إرساء سلطة دولة قطعت أوصالها. أي إرساء شروط النهب الإمبريالي للموارد الاستراتيجية. ومثلما تؤكد المؤامرة ضد فنزويلا، تهدف هذه الممارسات كذلك إلى ضمان تزود الولايات المتحدة بالبترول. ومن أجل تأمين كل ذلك وضعت C.I.A مركزا استراتيجيا بالإكواتور، مهمته التصنت، من الحدود، على كامل التراب المكسيكي.
لقد ألزمت الإمبريالية نفسها بتحديث قواعدها العسكرية بفرق قادرة على التحرك السريع. ومن أجل ذلك، عملت على تنويع ولامركزة هيئات القيادة، متخلية بذلك عن المركز في بانام، ووضعت توزيعا جديدا لقواتها وآلياتها بكل من فييك ـ مانطا ـ آروبا وسلفادور.
وعبر شبكة من 51 نقطة موزعة على كل الكوكب، تنفذ الفرق العسكرية الأمريكية تمرينات تهدف إلى الإنتشار المتزامن في بضعة أيام ل 60000 جندي على 100 بلد. ويظل العدوان على كوبا بواسطة عمل إرهابي أو من خلال مخطط جديد للاجتياح، هدفا دائم الحضور.
الانعطاف نحو النزعة الحربية احتد بعد 11 شتنبر 2001، فالولايات المتحدة تراهن على إعادة تنشيط اقتصادها بإطلاق إعادة التسلح واضعة نصب أعينها الحرب على العراق ـ إيران ـ كوريا الشمالية ـ سوريا وليبيا. فاليوم، وب 5 % من عدد سكان المعمور، تنفق الولايات المتحدة 40 % من مجموع الميزانية العسكرية العالمية. كما أنها بدأت للتو في تحديث غواصاتها وتصنيع نوع جديد من الطائرات. ومن خلال "نسخة معدلة" من "حرب النجوم"، يتم اختبار التطبيقات الجديدة لتكنولوجيا الإتصال.
الإندفاع العسكري يشكل الإجابة الإمبريالية على تفكك دول واقتصاديات ومجتمعات الأطراف، وهو تفكك ناتج عن السيطرة المتنامية للولايات المتحدة عليها. لذلك تلاحظ تشابهات كثيرة بين "الحرب الشاملة على الإرهاب" الحالية، والحملات الاستعمارية القديمة، فمن جديد تتم شيطنة العدو لأجل تبرير الهجوم على المدنيين في خط المواجهة، ومن جديد يتم تقليص الحقوق الديمقراطية. لكن كلما تقدم تدمير "العدو الإرهابي" كلما شهدنا تفككا سياسيا واجتماعيا. فحالة الحرب المعممة تؤبد حالة اللاستقرار الذي سببه النهب الاقتصادي والبلقنة السياسية والتدمير الاجتماعي للأطراف.
هذه النتائج تظهر بجلاء في أمريكا اللاتينية، الشرق الأوسط، وهما منطقتان ذاتا أهمية استراتيجية للبانتاغون، بما أنهما يختزنان الموارد البترولية ويمثلان أسواقا هامة تتنافس عليها أوروبا واليابان كذلك. لأجل هذه الأهمية الاستراتيجية وُضعت المنطقتان في قلب السيطرة الإمبريالية، وتعانيان من مسلسل متشابه من التفكك الدولتي والإضعاف الإقتصادي للطبقة المسيطرة المحلية، وفقدان نفوذ ممثليها السياسيين التقليديين.
V – القدرية النيوليبرالية .
الاستحواذ الاقتصادي، إعادة الاستعمار السياسي والتدخلية العسكرية يشكلون المحاور الثلاث للإمبريالية الراهنة.
يقف العديد من المحللين عند حدود الوصف المستسلم لهذا الاضطهاد باعتباره غير قابل للتليين. البعض يعتبر أن الانقسام بين "الرابحين والخاسرين" في العولمة هو "كلفة التنمية"، دون أن يشرحوا لنا لماذا يبقى على عاتق من دفع الثمن في الماضي أن يدفعه اليوم وغدا ودائما.
النيوليبراليون يتكهنون بأن نهاية عهد التخلف ستتم داخل البلدان التي تراهن على جذب الرساميل الأجنبية، وعلى إغراء الشركات الكبرى. لكننا نرى الآن، أن كل البلدان التابعة التي نهجت هذا الطريق خلال العقد السابق، بفتح اقتصادياتها، تؤدي الآن الفاتورة الثقيلة "للأزمات العابرة". وتلك التي التزمت أكثر على مستوى الخوصصة كانت الأكثر خسارة في السوق العالمي.
منحت هذه الدول تسهيلات جمة للرأسمال الإمبريالي، رفعت الحواجز التي كانت تحد من نهب مواردها الطبيعية، وتؤدي الثمن الآن بمبادلات تجارية أكثر ظلما، باشتداد اللاستقرار المالي، وبتفكك صناعي حاد.
بعض الليبراليين يعزون هذه النتائج إلى التطبيق المحدود لوصفاتهم، كما لو أن عقدا من التجارب الوخيمة لم تقدم ما يكفي من الدروس حول جدوى هذه الوصفات. البعض الآخر يزعمون أن التخلف قدر لا محيد عنه باعتبار أن سكان الأطراف لهم مزاج انهزامي ! ولسيادة الرشوة وعدم النضج الثقافي لشعوب العالم الثالث. على العموم يظهر أن الاستدلال الكولونيالي قد بدَّل من شكله وأسلوبه، لكنه حافظ على جوهره. فاليوم لا يتم تبرير تفوق الغزاة بالنقاء العرقي، ولكن بالمعارف العالية والممارسات النوعية.
VI – إمبراطورية عبر وطنية  
Transnationalisation impériale
معتبرين أن العولمة تذيب الحدود بين العالم الأول والعالم الثالث، يضع طوني نيغري ومايكل هاردت نظرية الإمبريالية في موضع المساءلة بجدية. فهما يعتبران أن هناك رأسمالا معولما، يعمل ـ عن طريق الأمم المتحدة ومجموعة الثمانية والمنظمة العالمية للتجارة ـ على خلق سيادة إمبراطورية تربط بين الأقسام المسيطرة، في المركز والأطراف على السواء، في نفس منظومة الإضطهاد العالمية.
هذا التخصيص يفترض وجود تجانس ما للتنمية الرأسمالية، الشيء الذي يصعب التحقق منه. فجميع المعطيات المتعلقة بالاستثمار، الادخار والاستهلاك تؤكد العكس: تضخم الفروق بين اقتصاديات المركز ونظيراتها في الأطراف، وتؤشر على أن عملية التراكم والأزمة يتقاطبان، ليس فقط لكون النجاحات الأمريكية للعقد الأخير تتقاطع مع الانحدار المعمم للأمم المتأخرة، ولكن كذلك لأن الأزمة الاجتماعية في الأطراف ليس لها نظير في أوروبا. وبالمثل لا نجد أي مؤشر للتقارب في وضع البورجوازية الفنزويلية والأمريكية، ولا للتشابه بين الأزمتين الأرجنتينية واليابانية. فالعولمة لا تزال بعيدة عن تنميط إعادة إنتاج الرأسمال حول أفق مشترك، فهي تعمق ازدواجية وتعاكس هذا المسلسل على صعيد الكوكب.
واضح أن إشراك الشركات الكبرى للطبقات السائدة في الأطراف ضعيف للغاية، كما أنه من الواضح أن الفقر امتد إلى قلب الرأسماليات المتقدمة. لكن لا نرى لحد الآن تحول بلد تابع إلى بلد ينتمي إلى المركز، ولا نرى تحول آخر من المركز إلى بلد ثالثي. فالتداخل الوثيق بين الطبقات السائدة يتعايش مع تعمق الهوة التاريخية التي تفصل البلدان المتقدمة عن المتأخرة. فالرأسمالية لا تتعادل ولا تتكافأ، ولا يمكن الزعم بأنها تتمفصل حول محور "عبر وطني" جديد، لكنها تزيد في التقاطب الذي عرفه القرن الماضي.
السلطة المجموعة في يد رأسماليي 20 دولة على المائتين المتبقية هي المُسَلَّمَة الرئيسية المستخلصة من التنظيم التراتبي للسوق العالمي. فمن خلال مجلس الأمن يمارسون السيطرة العسكرية، وعن طريق المنظمة العالمية للتجارة يفرضون هيمنتهم التجارية، بينما يؤمن لهم صندوق النقد الدولي التحكم المالي على الكوكب بأكمله.
في تحليلها للروابط السائدة بين الطبقات المسيطرة، تخلط موضوعة "العبر وطنية" بين "إشراك في السلطة" و "تقاسم السلطة". فإذا زاد قسم من المجموعات البورجوازية في الأطراف من اندماجه مع حلفائه في المركز، فذلك لا يمنحه مقعدا داخل نادي السيطرة العالمية، ولا يلغي ضعفه الهيكلي. هكذا نرى أنه بينما تستغل الشركات الأمريكية العمال اللاتينو ـ أمريكيين، لا تشترك البورجوازيات الإكواتورية أو البرازيلية في استغلال البروليتاريا الأمريكية. فبرغم كون القفزة المسجلة في اتجاه تدويل الاقتصاد جد مهمة، فإن الرساميل لا زالت تعمل في إطار النظام الإمبريالي الذي يُرَسِّم انقسام المركز والأطراف.
VII – الطبقات والدول ـ أ ـ
بعض الكتاب يدعمون الفكرة القائلة بكون تدويل الرأسمالية توسع نحو الطبقات والدول، خالقا بذلك قطيعة أفقية جديدة من السيطرة الكلية التي تعبر كل البلدان والشرائح الاجتماعية.
هذه الفرضيات، تماثل عمليات الإندماج الجهوية مع "العبروطنية" الاجتماعية والدولتية، دون رؤية الفرق الكيفي الذي يفصل إشراك مجموعة إمبريالية لأخرى عن إعادة استعمار الأطراف. فالإتحاد الأوروبي والZLEA مثلا، لا ينتميان لنفس الميل "العبروطني"، فهما تعبيران عن عمليتين مختلفتين كليا. فلا يجب الخلط بين تحالف بين قطاعات مسيطرة على السوق العالمي، وبين مخطط نيوكولونيالي لقوة ما.
في الواقع، فقط الشرائح العليا من بيروقراطية دول الأطراف، والتي تنتمي كذلك للمؤسسات الدولية، تشكل مجموعة اجتماعية "عبروطنية" بشكل كامل. فولاء هذه الشرائح لصندوق النقد الدولي وللمنظمة العالمية للتجارة، أكبر بكثير من ولائها للدول التي يقودونها. ويمكن اعتبار أداء ورؤى هؤلاء الموظفين استباقا للسير القادم الذي ستسيره الطبقات السائدة في العالم الثالث. لكن مثل هذا التطور يمثل الآن احتمالا فقط، ولا يمثل حقيقة ناجزة، خاصة في "الأطراف العليا" (مثل البرازيل أو كوريا ج) التي توجد فيها الطبقات السائدة متعلقة أكثر بالتراكم المرتبط بالسوق الداخلي. ومن جهة أخرى نجد وضعا مختلفا في البلدان الصغيرة (مثل أمريكا الوسطى) المندمجة بشكل كبير في سوق دولة عظمى. هذه التمايزات تنفي إذن وجود مسلسل عام ونمطي لل"عبروطنية".
بعض المدافعين عن موضوعة الإمبراطورية يقولون بأن درجة إشراك الطبقات المركزية للطبقات الطرفية هو أكبر بكثير في الواقع من النتائج المستخلصة من الإحصائيات الوطنية. حقيقة أن هذه الفئات قد غدت غير كافية للحكم على المجرى الحالي للعولمة، لكنها تُكَمِّل مؤشرات أخرى مؤكدة حول الإنقسام بين المركز والأطراف. فتعمق التفاوتات يتجلى أكثر على صعيد الإنتاجية، المداخيل، الاستهلاك والتراكم.
من جهة أخرى، من الخطأ افتراض أن "الدولة العالمية الجديدة" محت التمايز بين الدول المسيطرة، وبين تلك التي أعيد استعمارها. هذا التمايز يقفز إلى الأنظار عندما نرى التأثير الضعيف لبورجوازيات العالم الثالث على قرارات ال ONU و FMI وOMC و BM. فالطبقات السائدة في الأطراف ليست ضحية التخلف وتربح كثيرا باستغلال عمال بلدانها، لكن لا يسمح لها بتاتا بالاقتراب من السيطرة العالمية.
موضوعة الإمبراطورية تجهل هذا الدور الهامشي لبورجوازيات الأطراف، وتتجاهل سيطرة الإمبريالية على قطاعات العالم الثالث الاستراتيجية. والموضوعة لا تسجل أن هذا الإلحاق ليس استعماريا خالصا ولا يتمحور فقط حول أخذ المواد الأولية أو التدبير المباشر للتراب، لكنه (الإلحاق) يستمر كإوالية للتحكم الميتروبولي في قطاعات البلدان المتأخرة الاستراتيجية.
هذه السيطرة لا تمارس من خلال "حكم عالمي" خفي، ولكن من خلال العمليات العسكرية والديبلوماسية التي تمارسها كل قوة في مناطق نفوذها الأساسية. فدور الولايات المتحدة أكثر وضوحا في كولومبيا منه في البلقان، ومهام أوروبا محددة أكثر في الأزمة المتوسطية منها في تطور ZLEA . هذا الاختصاص مرده مصالح كل مجموعة إمبريالية، تلكم المصالح التي تمر وراء الستار في الممارسات ذات الحجم الجيوستراتيجي التي تختص بها الدول، وهذا ما لا يمكن لمنظري الإمبراطورية رؤيته.
VII – العودة إلى الرأسمالية الصناعية؟
أغلب نقاد الليبرالية الجديدة في الأطراف يقرون بكون التبعية تبقى السبب المركزي للتخلف. لكن يقترحون تجاوز هذا الإلحاق ببناء "رأسمالية مغايرة"، موضحين أنه لم تبق المسألة اليوم مسألة مشروع اقتصادي وطني مستقل ومتمحور حول "تعويض الواردات" (كما تصورته في السابق اللجنة الاقتصادية لأمريكا اللاتينية والكارايبي la CEPAL )، ولكن القضية هي إيجاد نموذج جهوي مبني ومتلائم مع السوق المحلي. ويرتكزون في هذا التصور على الخطاطات الكينزية، من أجل بناء "دولة رعاية في الأطراف"، مدعومة بتغييرات قانونية ومؤسساتية (اقتلاع الرشوة، إعادة تركيب / بناء المشروعية) وبتغييرات تجارية كبرى (وقف الانفتاح)، مالية (التقليص من دفع الديون) وصناعية (إعادة توجيه الإنتاج نحو النشاط المحلي).
لكن كيف يمكن بناء "رأسمالية فعالة" في بلدان تقع تحت طائلة تجفيف منهجي لمواردها؟ كيف سيتحقق الآن هدف تخلت عنه الطبقة السائدة في منتصف القرن 19 ؟ ما هي المجموعات التي ستتبنى إذن هذا النظام الذي يجمع بين المعايير الاجتماعية وتحقيق أقصى الأرباح؟
أنصار "الرأسمالية الجديدة" في الأطراف لا يعطون أجوبة لكل هذه الأسئلة الأساسية. إنهم يجهلون أن الهوامش الموجودة لتحقيق مشروعهم أصبحت أكثر تقلصا، مع الإلحاق المتنامي للطبقات السائدة في الأطراف برأسمال الميتروبول. هذه العلاقة هي عائق للتراكم الداخلي: تُضاعف هروب الرساميل وتجعل من الصعب تطبيق سياسات هادفة إلى تنشيط الطلب المحلي. فالبورجوازيات التي لم تحاول في الماضي بناء رأسمالية مستقلة لم تعد لها حتى إمكانيات ذلك الماضي للاقتراب من هذا الهدف حاليا.
طبيعة هذه البورجوازيات، القريبة أكثر من الإمبريالية، تَحُدُّ حتى من إمكانيات الحياة للمشاريع الجهوية كالميركوسور. هذا التعاون المتداعي بعد عقد من الإخفاقات عصفت بهدف بناء مؤسسات سياسية واقتصادية مشتركة. فجميع مشاريع العمل المشترك (عملة ـ مؤسسات ـ قوانين ـ هيئات تحكيم) ذهبت نحو الأرشيف، في الوقت الذي امتدت فيه الأزمة نحو المنطقة. هذا الإفلاس تعمق أكثر بالسياسات الهادفة إلى "التميُّز" التي اتبعتها الحكومات كعربون لصندوق النقد الدولي يفيد بكونها "ليست بالحكومات الغير مسؤولة". الانقسام الجهوي يعيد بذلك تاريخ البلقنة اللاتينو ـ أمريكية، ويؤكد مرة أخرى عجز البورجوازيات المحلية عن امتلاك آليات التراكم المتمحور حول الذات.
العديد من الكتاب يفسرون هذه النتيجة بالطبيعة التقليدية "الريعية" للبورجوازيات في المنطقة، وبالتالي بغياب مقاولين قادرين على الاستثمار والمغامرة. إذن علينا استنتاج بأن غياب دوافع المقاومة تقوى أكثر، لماذا إذن المراهنة على مشروع أفرغ من محتواه؟ ماذا يعني بناء رأسمالية دون رأسماليين معنيين بالمنافسة والتجديد؟
أن نقترح على العمال أن يحلوا محل الطبقة السائدة في هذه المهمة يعادل أن نطلب منهم صناعة سلاسل استغلالهم بأنفسهم ! والأمل بأن تعوض شرائح اجتماعية أخرى المقاولين في إتمام مهمة بناء رأسمالية ناجحة (طبقة متوسطة ـ بيروقراطية) ليس له أساس، ولم يسبق تجربته.
أولئك الذين يأملون بناء "رأسمالية أخرى" عليهم أن يتذكروا بأن النموذج السائد في كل بلد هو نتيجة عوامل تاريخية بعينها، وليس ناتجا عن اختيار حر لقادته، فهناك دينامية موضوعية لهذا المسلسل، هي نفسها التي تفسر لماذا تُعمق تنمية المركز تأخر الأطراف. فمن البديهي أن كل مواطني العالم الثالث كانوا يرغبون أن يكونوا قوة متقدمة، لكن في السوق العالمي هناك مقاعد محدودة للمجموعات السائدة والباقي هو للاقتصاديات التابعة. لهذا ف"اقتصاديات السوق الناجحة" في الأطراف هي إما استثناءات أو ذات طبيعة انتقالية. ومن أجل الخروج من التخلف لا تكفي سياسات معادية لليبرالية، بل يجب كذلك الارتباط بالعمل المعادي للرأسمالية، عبر بناء المجتمع الاشتراكي.
IX ـ ثلاث نماذج في نقاش
إن قوة النظرية الكلاسيكية للإمبريالية في شرح علاقات السيطرة بين المركز والأطراف مستعصية على الدحض، لكن راهنيتها في توضيح العلاقات المعاصرة بين القوى العظمى تثير المزيد من النقاش. وفي هذه الحالة، لا يعتزم مفهوم الإمبريالية إضاءة أسباب التأخر الهيكلي للبلدان المتأخرة، لكنه يريد توضيح نوع التحالفات والمنافسات المهيمنة داخل المعسكر الإمبريالي. مجموعة من الكتاب انتبهوا لأهمية التفريق بين المعنَيَيْن، مشيرين إلى أن أشكال الهيمنة في الأطراف وأشكال العلاقات بين القوى العظمى اتبعت سبلا تاريخية مختلفة.
التمييز بين المرحلة الإمبريالية، ومرحلة التبادل الحر، في الرأسمالية، المقترح من قبل منظري الماركسية لبداية القرن XX ، هو نقطة البداية التقليدية من أجل تحليل المظهر الثاني. فباعتماد هذا التفريق أرادوا تمييز مرحلة جديدة للنظام، متميزة بتقاسم الأسواق بين القوى العظمى عن طريق الحرب.
عزى لينين هذا الميل، نحو النزاع المفتوح بين الإمبرياليات، إلى مكانة الاحتكارات والرأسمال المالي. روزا لوكسمبورغ عزته إلى ضرورة إيجاد منافذ أجنبية أمام تناقص الطلب. بوخارين عزاه إلى التصادم بين المصالح التوسعية وتلك الحمائية. وتروتسكي رده لتعمق التفاوتات الاقتصادية الراجع للتراكم نفسه. هذه التأويلات حاولت تفسير لماذا انتهت المنافسة بين المجموعات الاحتكارية بنزاع دموي، بعد أن بدأت بمواجهة تجارية وبإقامة مناطق نقدية.
بعد الحرب العالمية الثانية، أصبحت هذه الخاصية تظهر كجزء من الماضي، بعد أن مالت نحو الاضمحلال إمكانية نزاعات عسكرية بين القوى العظمى. مثل هذه الفرضية أصبحت غير محتملة إن لم تكن مستحيلة. في الوقت الذي تركزت المنافسة الاقتصادية بين مختلف الشركات ودولها في سباقات أكثر قارية. هذه التغيرات بدلت مفردات تحليل المظهر الثاني في نظرية الإمبريالية.
على امتداد السبعينات، ركَّب ارنست ماندل الوضع الجديد عن طريق تحليل النماذج الثلاثة الممكنة لتطور الرأسمالية : التنافس البين إمبريالي، العبر وطنية (المسماة أصلا الأولترا إمبريالية)، الفوق إمبريالية. اعتبر ارنست ماندل أن الخط المسيطر في التراكم هو ازدياد التنافس، فأعطى النموذج الأول الاحتمال الأكبر. وتنبأ كذلك بكون المنافسة البين قارية ستتعمق بتشكيل تحالفات جهوية.
كان الإقتصادي البلجيكي قد وضع تحت المساءلة الرؤية الثانية، التي وضعها كاوتسكي والتي يدافع عنها الآن الكتاب الذين يعتبرون أنه تم تكوين مجموعات عبر وطنية متحررة من الأصول الجغرافية لمكوناتها. اعتبر ماندل أنه برغم أن تدويل الشركات المتعددة الجنسية يضعف جذورها الوطنية، يبقى من غير المحتمل توالي الإندماجات بين مالكي الشركات ذوي الأصول المختلفة. وواضعا في الحسبان الطبيعة المنافساتية للإنتاج الرأسمالي، اعتبر أنه من المستبعد دعم مسلسل مثل ذاك بإقامة "دول عالمية". الأكثر من ذلك، اعتبر ماندل بأنه من غير المحتمل أن تبقى الشركات غير مهتمة بالعناصر المميزة للحالة الاقتصادية لبلدانها الأصلية، التي على ضوئها يمكن لها عمل ما يلزم لمواجهة وضعيات قد تخلقها سياسات وطنية.
نحَّى ارنست ماندل سيناريو "العبر وطنية" مستخلصا بأن التطور اللامتساوي للرأسمالية وأزماتها يخلق توترات لا تتحملها التحالفات العبر وطنية.
الرؤية الثالثة : الفوق إمبريالية، تفترض تمتين سيطرة قوة واحدة على باقي القوى العظمى وإخضاع الخاسرين لعلاقات مشابهة لتلك التي تخضع لها بلدان الأطراف. اعتبر ماندل في هذه الحالة أن التفوق الذي وصلت إليه الولايات المتحدة لم ينتج عنه نفس مستوى التبعية الذي توجد فيه أوروبا واليابان من جهة، والبلدان المتخلفة من جهة أخرى. وأكد ماندل على أن الهيمنة السياسية والعسكرية لأمريكا الشمالية لا تؤدي إلى تفوق اقتصادي هيكلي على المدى الطويل.
كيف يمكن أن نحلل الرؤى الثلاث اليوم؟ ما هي الميول التي تسود عند بداية القرن الواحد والعشرين: المنافسة بين الإمبرياليات؟ العبر وطنية؟ أو الفوق إمبريالية؟
X – تغيرات المنافسة بين الإمبرياليات.
الطريقة التي كانت تُفهم بها الإمبريالية في البدء، كمرحلة من التنافس الحربي بين القوى الكبرى، لم يعد لها أنصار. على أنه لا تزال هناك نسخة معدلة من هذه الرؤية مرتكزة حاليا، ليس على الحل العسكري، ولكن على التنافس الإقتصادي.
بعض المحللين يؤكدون على التدخل الحيوي للدول الإمبريالية لدعم هذه المنافسة، ويرفعون من شأن السياسات الميركانتيلية الجديدة المتبعة من أجل إضعاف الشركات الغريمة. كتاب آخرون يلاحظون الانسجام الموجود في أصول مالكي الشركات والأهمية المعطاة للأسواق الداخلية في نشاطها. تبعية الشركات إلى قواعدها الوطنية تسمح، حسب بعض الدراسات، بشرح لماذا هناك نزوع نحو تشكيل تجمعات جهوية أكثر من الميل نحو العولمة التجارية أو المالية أو الإنتاجية. كذلك تم اعتبار أن نمو أمريكا الشمالية الذي تم في العقد الأخير، على حساب غريماتها، كتعبير عن العودة إلى المنافسة البين إمبريالية. ووجهات النظر هذه، تتلاقى في تقديمها للعولمة كمتوالية دورية بين أطوار التوسع وأطوار التراجع في درجة تدويل الإقتصاد.
هذا التنوع في الدلائل يؤدي إلى رفض الميثولوجية النيوليبرالية المبشرة ب"انتهاء الدولة" و "اختفاء الحدود" وب"حرية العمل اللامتناهية".
موضوعة "المنافسة البين إمبريالية" تبرهن على الكيفية التي يحصر بها التنافس عملية الانتشار الصناعي واللبرلة المالية والانفتاح التجاري، مولية أهمية خاصة لكون المنافسة بين التكتلات تحتم الاستقرار الجغرافي للاستثمارات، وتحصر بالتالي دوران الرساميل والسياسات الاقتصادية لكل دولة على حدة.
لكن، مع أنها تُكَذِّب بطريقة مُقْنِعة التبسيطية العولمية، لا تستطيع هذه المقاربات تسليط الضوء على الفروقات المتواجدة بين الوضع الحالي، وذلك الذي كان سائدا في بداية القرن العشرين. فالأكيد أن المنافسة البين إمبريالية تستمر في تحديد طريق التراكم، لكن لماذا لا تؤدي المنافسة بين القوى العظمى إلى انفجارات حربية مباشرة؟ فنفس المنافسة تجري حاليا في إطار تضامن رأسمالي قوي، حيث تتقاسم الولايات المتحدة وأوروبا واليابان نفس الأهداف في إطار الناتو، وتتصرف ككتلة متراصة للبلدان المسيطرة في مواجهة النزاعات العسكرية المختلفة.
يمكن إرجاع ذلك إلى كون المدى التدميري المتبادل الذي بلغه العتاد العسكري، ينزع فتيل النزاعات المباشرة. لكن هذا الاستدلال يفسر فقط ظروف تبدل وجهة الصراع بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي السابق، دون أن يوضح لنا أن القوى الإمبريالية الثلاث الغريمة تتحاشى هي الأخرى هكذا مواجهة. كذلك، إذا كان من المؤكد أن "الصراع ضد الشيوعية" قد أضعف من حدة المنافسة بين القوى الرأسمالية، فإن هذه الحدة لم تتبدل طبيعتها بعد نهاية "الحرب الباردة".
في الحقيقة، تم تخفيض احتمالات الصدام بين القوى الكبرى بتلك القفزة نحو العولمة: يميل النشاط الراسمالي الدولي للارتباط مع نمو التجارة الذي يتجاوز نمو الإنتاج. كما يروم تكوين سوق مالية عالمية. وأخيرا التدبير المعولم للأعمال بواسطة الواحد وخمسين شركة ذات اليد العليا من بين المائة شركة كبرى عالميا.
ترتكز الاستراتيجية الإنتاجية لهذه الشركات على الجمع بين ثلاثة توجهات : ـ تزويد عوامل الإنتاج بما تحتاجه ـ إنتاج موجه بالكامل نحو السوق المحلية ـ تجزيء مجموع الحصص المصنعة في بلدان مختلفة. هذا المزج بين الإنتاج الأفقي (الذي يعيد إنتاج النموذج الأصلي في كل منطقة أخرى) والإنتاج العمودي (تقسيم مسلسل الإنتاج بالتناغم مع تخطيط عالمي للتخصص الإنتاجي) يستلزم تشاركا أكبر بين الرساميل المدوَّلة (internationalisés)، فالشركات التي تضع استراتيجياتها على مستوى عالمي، تحاول بذلك السيطرة على الأقل تدويلا، مثلما يؤكده على سبيل المثال، وزن الشركات الأكثر تدويلا، في اندماجات العقد الأخير.
تَقَدُّم العولمة هذا يفسر كذلك لماذا لا تصل الميول الحمائية حاليا إلى المستويات التي كانت عليها في الثلاثينات ولا تفتح الباب لتكوين كتل مغلقة بالكامل. فالنيوميركانتيلية تتعايش مع الضغط الذي يدفع في اتجاه التحرير التجاري، لأن التبادل الداخلي بين المشاريع المتواجدة في مختلف البلدان تزايد بشكل ملحوظ. ولا يظهر هذا بشكل واضح في الإحصائيات الجارية، لأن العمليات بين الشركات المعولمة المنجزة في سوق وطنية تحتسب كمعاملات مالية داخل هذا البلد.
تَقَدُّم العولمة هذا، الذي يضعف التنافس التقليدي بين القوى الإمبريالية يُعَبر عن ميل مسيطر. فهو ليس فقط عملية ذهاب ـ رجوع دوري للرأسمالية. ففترات التراجع الوطنية أو الجهوية هي حركات تعاكس رغبات المركز في توسيع الدائرة الجغرافية لعمل الرأسمال. وكبح هذا الميل يجد مصدره في الاختلالات التي ولدها التوسع العالمي، وليس في دورية هذا المسلسل البنيوية.
أخيرا، إن الضغط في اتجاه العولمة، هو القوة المسيطرة والغالبة، لأنه يعكس العمل المتنامي لقانون القيمة على المستوى الدولي. فكلما أخذت المشاريع العبر وطنية أهمية أكبر كلما كبر مجال تثمير الرأسمال على المستوى الكوني برغم الأجواء الوطنية البحتة. هذا التأثير ينتج عنه النزوع إلى تكوين "أثمان عالمية" والتي بدورها تمثل معايير جديدة لحساب زمن العمل الضروري اجتماعيا لإنتاج البضائع.
إن التدبير المدول للأعمال يضعف من قوة النموذج الكلاسيكي للتنافس البين ـ إمبريالي. لكن هذا التحول لا يمكن إدراكه إذا اكتفينا باعتبار العولمة الجارية ك "مسلسل قديم قدم الرأسمالية نفسها". هذا الموقف يميل إلى تجاهل الفروقات الكيفية التي تفصل بين كل مرحلة في هذا المسلسل، وهذا التمييز هو أمر حيوي إذا ما أردنا فهم لماذا ليس لتدويل شركة الهند الشرقية في القرن 16 مثلا، قواسم مشتركة كثيرة مع الإنتاج المجزأ عالميا ل جينرال موتورز.
التنــافس المعاصر بين كبريات الشركات، يتم  ضمن إطـار عمل أكثر جماعية. فبداخل التنظيمــات الدولـية السيــاسـية (ONU – G8) ، الاقتصــــادية (OMC – BM – FMI) أو العسكرية (OTAN)، يتم التفاوض حول هذا العمل المشترك. فعلى عكس الماضي، تتعايش الأنشطة التقليدية للكتل المتنافسة مع النفوذ المتزايد لهذه المؤسسات، التي تتحرك بتناغم مع مصالح كبريات الشركات المدولة.
هذا ما يفسر كون إعادة التهييء الحالية للتراب، للتشريعات، وللأسواق يتم داخل هذه التنظيمات، وليس بطريق الحرب بين القوى العظمى. وإذا كان بديهيا أن المظهر الجديد للإمبريالية يتغذى من الحروب القاتلة الممنهجة، فإن هذا التقتيل يكون دائما في بلدان الأطراف. تضاعف هذه النزاعات لا يؤدي إلى حروب بين إمبريالية، وهذا التغير هو نتيجة للقفزة النوعية للعولمة، الشيء الذي لا يمكن للنموذج القديم "للمنافسة البين إمبريالية" أن يراه، فضلا عن أن يوضحه.
XI – مبالغة نموذج العبر وطنية.
بعض المدافعين عن الفرضية العبر وطنية يرون بأن كبريات الشركات الآن يتصرفن بشكل مستقل عن بلدانها الأصلية. آخرون يعزون ظهور "رأسمال عالمي (كوني)" إلى أعْلَمَتْ informatisation الإقتصاد، وإلى تعويض النشاط الصناعي بعمل الشبكات. إضافة إلى انتشار العمل الغير مادي. ويستنتجون من ذلك بأن هذا الإئتلاف يُنَحِّي الدور المركزي لمسلسل الإنتاج، ويشجع تكون سوق كونية ويقوي "تواجد الإمبراطورية خارج أرضها". (l’extra-territorialité de l’empire) .
هذه النظرة تميل إلى اعتبار الميول الجنينية كوقائع كاملة، وإلى استنتاج أن التجميع المتزايد بين الرساميل العالمية يمثل مستوى من التداخل: الشيء الذي لا يمكن التحقق منه البتة.
إن عملية جعل الرساميل عابرة للأوطان، لا تمثل حاليا إلا بداية مسلسل من التغير الهيكلي، الذي كان يستلزم في الماضي قرونا عدة. ولا توجد أي مُسَلَّمَة، مستخلصة في العقد الآخير، تفيد أنه من الممكن القول بوجود تسارع جذري لإيقاع الرأسمالية التاريخي.
"العبر وطنية" تبالغ في تقدير صعود الرأسمال العالمي، عاكسة بذلك ضغوطا إعلامية، لبناء مستجدات نظرية متماشية مع إيقاع الاستهلاك الصحفي. يكفي ملاحظة المتغير الذي أشار إليه ماندل ـ حساسية الشركات المعولمة لكل وضع اقتصادي وطني ـ لدحض موضوعة "الأولترا إمبريالية". إن الخطوط المركزية الأربعة التي ميزت المجرى الاقتصادي للتسعينات: النمو في أمريكا اللاتينية ـ الركود الأوروبي ـ الانحدار الياباني والانهيار في الأطراف، تشخص عدم وجود مسيرة تطور مشتركة ل "الرأسمال المعولم". فأرباح وخسائر كل مجموعة من الشركات كانت متعلقة بوضعها في كل جهة. وكون النمو في الولايات المتحدة تدعم بانهيار منافسيها يؤكد وجود كتلة رابعة مغايرة للشركات الأوروبية واليابانية.
بعض أشكال التجمع العالمي بدأت بالظهور، وللمرة الأولى ظهرت للوجود تحالفات بنيوية، عابرة للأطلسي أو عابرة للمحيط الهادي، بين شركات أوروبية، أمريكية شمالية ويابانية. هذا النمط من الترابطات يضعف انسجام الاتحاد الأوروبي. يُلزم الولايات المتحدة على ربط سياستها الاقتصادية بالتمويل الخارجي، ويدفع اليابان إلى مواصلة فتح أسواقها مرغمة. لكن هذه العلاقات لا تُنَحِّي بالمرة استمرار وجود كتل منافسة مهيكلة حول الدول الوطنية.
في بعض تنويعاتها المعتدلة، تجهل "العبر وطنية" بأن الألينا والاتحاد الأوروبي والآسيان تمثل أقطابا متنافسة. لكن في تنويعة نيغري المتطرفة يمتد هذا الفهم إلى تهيؤات خيالية حول موضوع "اللامركزة" الجغرافية، جاهلا بأن الأنشطة الاستراتيجية للشركات لا تزال قواعدها إما بالولايات المتحدة أو بأوروبا أو باليابان. فالترابط العالمي خلق إطارا جديدا للمنافسة دون أن يلغي بذلك الأسس الجغرافية لهذه المنافسة.
من جهة أخرى، من المؤكد أن التحول الإعلامياتي يتيح التشابك العالمي للرأسمال، لأنه يميل إلى مزج النشاط المالي، يسرع المضاربة التجارية ويعمق إعادة هيكلة قانون الشغل. لكن الثورة التكنولوجية تؤجج كذلك المنافسة وضرورة التكتلات الجهوية بين الشركات الكبرى التي تتنازع على الأسواق. ف "اقتصاد الشبكات" لا يوحد فقط، بل كذلك يقوي الكفاية الوطنية. كما أن تطبيق تكنولوجيات الإعلام الجديدة محكوم بالمتغيرات الرأسمالية: القدرة على انتهاز الفرص ـ المنافسة ـ الاستغلال؛ هذه المتغيرات تمنع التدفق الغير المميز للاستثمارات على المستوى العالمي، ولا تسمح بحركة لا محدودة لليد العاملة. تواجد هذه التكنولوجيات رهين بشروط تراكم وتثمير الرأسمال، الشيء الذي يدفع المئتي شركة المعولمة إلى تركيز عملياتها في عدد محدود من بلدان المركز.
XII – الطبقات والدول ـ ب ـ
البعض اعتبر بأن جعل الرأسمال عابرا للأوطان قد خلق مسلسلا مماثلا بالنسبة للطبقات المسيطرة والدول، منوهين إلى أن تعاظم الاستثمارات الخارجية، تدويل العمل، ووزن المنظمات الدولية، تشكل بديهيات هذا التغير. أكثر من ذلك، يعتبر نيغري بأنه قد تمت إقامة نظام قضائي جديد ـ مستلهَم من الدستور الأمريكي ـ يلوح من خلال تحويل للسلطات لصالح المركز الإمبراطوري ONU.
خطاطة كهذه مُقْحَمَة بالكامل، إذ لا وجود لأي مؤشر على عولمة كاملة للطبقة المسيطرة. فمهما تكن الانقسامات الداخلية، تشكل البورجوازية الأمريكية الشمالية تجمعا مختلفا بشكل واضح عن نظيراتها الأوروبية أو اليابانية.
هذه الطبقات تتصرف من خلال الحكومات، المؤسسات والدول لتدافع عن السياسات الجمركية، الضريبية، المالية والنقدية بحسب مصالحها. أكثر من ذلك، إن تَحَلُّق بعض البورجوازيات حول دولة فوق وطنية ـ مثل حالة الاتحاد الأوروبي ـ لا يحولها إلى "بورجوازيات عالمية"، باعتبار أنهم غير مرتبطين بطريقة مماثلة مع منافسيهم في باقي القارات داخل نفس الدولة.
إن التحول المحتمل للشرائح المسيرة لبعض الشركات والشرائح القائدة للمنظمات الدولية الى شرائح عابرة للأوطان، لا يؤشر على انبثاق طبقة مسيطرة عالمية، بل فقط على أنها بالكاد بدأت تلوح في الأفق. هذا الخليط من الموظفين الكوسموبوليتيين يؤلف بيروقراطية ذات مسؤوليات كبرى، لكن لا تمثل طبقة. فالمؤشر الرئيسي الذي يسمح بالقول بأن تشكيلة اجتماعية كتلك موجودة (تملك وسائل الإنتاج) يشير بوضوح إلى تجزؤ جغرافي للبرجوازية وفق البنية القديمة للأوطان. فمالكوا المقاولات العابرة للأوطان هم إما أمريكيون شماليون أو أوروبيون أو يابانيون وليسوا "مواطنين عالميين". وملكية ال500 شركة الأكثر أهمية تؤكد هذا الإرتباط الوطني: 48 % منها تعود لرأسماليين أمريكيين شمالييين، 30 % للأوروبيين و 10 % لليابانيين.
أكثر من ذلك، فإن FMI ، OMC أو WEF (المنتدى الإقتصادي العالمي) ليست بنيات متجانسة لدولة، بل مراكز للتفاوض بين مختلف الشركات التي تدافع عبر ممثليها الحكوميين، عن رؤاها للإتفاقيات التجارية والعقود الإستثمارية. فالشركات تستند على هذه البنيات لأجل الصراع ضد منافسيها. فحينما، على سبيل المثال، تتنازع بوينغ وإيرباص حول السوق العالمي للملاحة الجوية تلتجئ أكثر إلى لوبيات الولايات المتحدة وأوروبا أكثر من موظفي OMC.
ففي المنافسة البين إمبريالية تتصادم الدول والكتل الجهوية، وليس التجمعات بين الشركات كطويوطا ـ جينرال موتورز ضد كريسلر ـ ديلمر ـ بانز...
الدور الخاص الذي تحتفظ به الدول يبرهن على أن الوظائف الأساسية لهذه المؤسسات (ضمان حق الملكية ـ تهييء شروط تحقيق وامتلاك فائض القيمة ـ تأمين الخضوع والتوافق) لا يمكن أن تعولم بوتيرة أكبر من الأعمال. فعلى الرغم من أن دولة فوق قومية يمكن لها أن تجد الآن موارد وتجربة وموظفين كافيين للاضطلاع، مثلا، بالوظائف القمعية، فإنها تنقصها السلطة التي حازتها كل بورجوازية على حدة في وطنها، عبر قرون، لأجل ممارسة هذه المهمة.
يجهل نيغري هذه التناقضات حين يسلم بوجود سيادة إمبراطورية للONU، فهو يستخلص هذه السيادة من تحليل قانوني قاصر ومفصول كليا عن منطق اشتغال الرأسمال. لكن الذي يفاجئ أكثر هو تقديمه الساذج للأمم المتحدة باعتبارها نظاما قمعيا في القمة (مجلس الأمن) وديموقراطيا في القاعدة (الجمعية العامة)، متناسيا أن هذه المؤسسة ـ على جميع مستوياتها ـ تتصرف كدعامة للنظام الإمبريالي الراهن. هذه الشهادة الإيجابية ترتكز، من جهتها، على رؤية مدافعة عن الدستور الأمريكي الشمالي، وتتجاهل كيف تبني نخبة هذا البلد نظاما قمعيا ملطفا بميكانيزمات للسلطة ـ المضادة موجهة لإفشال التفويض الشعبي. هذه الرؤية للسيادة الإمبراطورية، تدفع لأقصى حد أخطاء وجهة النظر "العبر وطنية"، باعتبارها تبالغ في ارتكابها لخطئها الأساسي: تجهل كون التكامل العالمي للرأسمال يتم في إطار الدول والطبقات السائدة فيها أو تلك الجهوية.
XIII – أخطاء "الفوق إمبريالية".
خاصية السيطرة المطلقة للولايات المتحدة متضمنة جزئيا في موضوعة الإمبراطورية، بالرغم من أن نيغري يؤكد على كون الإمبراطورية "تفتقد إلى مركز ترابي" لكنه يفسر أيضا أن كل مؤسسات المرحلة الجديدة مشتقة من سوابق لها في الولايات المتحدة، وهي في تقدم مستمر بعكس الانهيار الأوروبي.
هذا التأويل يقترب من كل الخصائص التي تميز الزعامة الأمريكية الشمالية الحالية. "شبه السيطرة لقوة وحيدة"، "القطبية الواحدة"، تمتين "عهد الولايات المتحدة". هذه الرؤى تعيد لنظرية الفوق إمبريالية راهنيتها باعتبارها تفترض الهيمنة المطلقة لغريم واحد على باقي المتنافسين.
الدعامة التجريبية لهذه الموضوعة تلوح من خلال التقدم الأمريكي الشمالي خلال العقد الأخير، خصوصا في الميدانين السياسي والعسكري. وفي الوقت الذي أصبحت فيه الأمم المتحدة تتصرف وفق أولويات المصالح الأمريكية، امتد تواجد الدركي الأمريكي إلى كل أرجاء الكوكب، من خلال الإتفاقيات المبرمة مع روسيا، والتدخل في مناطق كانت خارجة حتى الآن عن نطاق مراقبتها (كآسيا الوسطى وأوروبا الشرقية).
تسجل الولايات المتحدة تفوقا تكنولوجيا وإنتاجيا على منافسيها. هذا التفوق تم التحقق منه في الإنكماش العالمي الحالي، فمستوى النشاط الإقتصادي موسوم بتبعية غير عادية للدورة الأمريكية الشمالية.
لقد استعادت الولايات المتحدة في التسعينات لواء الزعامة الذي كان بيد أوروبا في السبعينات، وبيد اليابان في الثمانينات.
ومنذ مجيء حكومة ريغن، والقوة الكبرى الأولى تستثمر المزايا التي يقدمها التفوق العسكري، من أجل تمويل تجانس اقتصادها مع موارد باقي العالم. ففي بعض الفترات تُخفض الدولار (لأجل دعم الصادرات)، وفي أحيان أخرى تُفضل رفع قيمة عملتها (من أجل امتصاص الرساميل الأجنبية). كذلك، تُناوب الولايات المتحدة دوريا اللبرلة التجارية مع الحمائية، في القطاعات التي تسجل فيها على التوالي تفوقا أو تأخرا على مستوى المنافسة. إستعادة الهيمنة هذه تُفسَّر بعاملين: انغراس الشركات الأمريكية على صعيد عالمي من جهة، ومن جهة أخرى، لأن الرأسمالية الأمريكية وجهت نفسها منذ قرون مضت إلى غزو الأسواق الداخلية لمنافسيها.
لكن كل هذه الوقائع لا تثبت وجود "الفوق إمبريالية"، ما دام التفوق الأمريكي لم يؤد إلى استتباع أوروبا واليابان. فالنزاعات التي تحدث بين القوى الكبرى تأخذ شكل نزاعات بين ـ إمبريالية، ولا يمكن بحال مقارنتها بالصدامات التي قد تحدث بين دول مركز وأخرى في الأطراف. ففي الخلافات التجارية مع الولايات المتحدة، لا تتصرف فرنسا كالأرجنتين، وداخل FMI لا تستجدي اليابان قروضا، ولكن تتصرف كبلد مانح، وألمانيا مشاركة وليست ضحية لقرارات G8.
العلاقة بين الولايات المتحدة ومنافسيها لا تقدم خطوطا عامة للسيطرة الإمبراطورية. فالتفوق الأمريكي منظورا إليه من زاوية العلاقات الجيوستراتيجية، غير قابل للنقاش، لكن "العلاقة العابرة للأطلسي" لا تؤدي إلى تبعية أوروبا، و"محور المحيط الهادئ" لا يتميز باستتباع اليابان لكل مصلحة أمريكية.
تبالغ موضوعة "الفوق إمبريالية" في تقديرها للزعامة الأمريكية، في حين تجهل تناقضات هذه الزعامة. يعتبر "غوان" محقا بأن شكل السيطرة "المتفوقة" (رغم أنف المنافسين) وليس "الهيمنية" (تقاسم مزايا السلط) للولايات المتحدة، يهدم أسس زعامتها.  إن قوة الولايات المتحدة مبنية، أكثر من ذلك، على التشابكات، وليس ـ مثل السابق ـ على دحر المنافسين عسكريا. وهذه الخاصية تفرض بناء تحالفات متميزة بالهشاشة ما دامت غير نابعة من حل عسكري. كذلك، فإن الطبيعة النخبوية للإمبريالية الحالية، أي الغير متوفرة على دعم جماهيري ـ شوفيني ـ قومي، كما كان الحال بداية القرن 20 ، تقلل من تفوق القوة الأولى.
تفوق الولايات المتحدة يمارس ميدانيا عن طريق الحروب، في المناطق الأكثر سخونة في العالم. لكن هذه النزعة الحربية تضعف الطريق "الفوق إمبريالي" باعتبار أن هذه التدخلات الممنهجة تزيد في انعدام التوازن. إن العقيدة الجديدة  "للحرب دون نهاية" التي تنهجها إدارة بوش، تعمق فقدان الضبط هذا، وتقطع مع تقاليد المواجهات المحدودة، وتناسب الوسائل المستعملة مع الأهداف المسطرة. في حملاتها ضد العراق، ضد "تهريب المخدرات" أو ضد "الإرهاب"، تبحث الولايات المتحدة عن خلق جو من الخوف الدائم، باعتداءات لا مدة لها ولا أهداف محددة.
هذا النوع من العمل الإمبريالي له نتائج تتعدى تفكيك الأوطان وتفتيت الدول وتدمير المجتمعات،الى توليد ظواهر مضادة ترتد إلى نحر الإمبريالية، بعد أن تكون هذه الأخيرة صانعتها. وقد خبرت الولايات المتحدة ذلك مع طالبان. ف"الحرب الشاملة" دون الخوف من عواقب قانونية تخل ب"النظام العالمي" وتضعف سلطة صانعيه. لهذا لم تتحقق الرؤية الفوق إمبريالية، وهي مهددة بأعمال السيطرة الأمريكية نفسها.
XIV – تركيب للنماذج الثلاثة:
لم يستطع أي من النماذج الثلاث البديلة عن النظرية الكلاسيكية للإمبريالية، تسليط الضوء على العلاقات السائدة حاليا بين القوى العظمى. فموضوعة التنافس البين إمبريالي لا تشرح الدواعي التي جعلت مواجهة عسكرية بين ـ إمبريالية مستبعدة، وتجهل التقدم الذي يسجله اندماج الرساميل. أما التوجه العبر وطني فيجهل أن المنافسات بين الشركات لا زالت تتم عبر الطبقات والدول الوطنية والجهوية. في حين لا تأخذ الرؤية الفوق ـ إمبريالية بعين الإعتبار عدم وجود علاقات تبعية بين الاقتصادات المتقدمة، مماثلة لتلك المسجلة مع بلدان الأطراف.
هذه النقائص تؤدي إلى التفكير في أن التنافس ـ الإندماج والهيمنة، في الوقت الحالي، يميلون إلى التراكب في نموذج جديد من العلاقات، أكثر تعقيدا من تلك التي تم افتراضها في السبعينات. دراسة هذه التداخلات له فائدة أكبر من التساؤل عن أي نموذج من النماذج الثلاث هو الأنسب للحظة. فبمرور العقود الأخيرة، حفز تقدم العولمة التجمع العبر وطني للرساميل، وكذلك أدى بقوة عظمى إلى تحمل مسؤولية الزعامة لأجل الحفاظ على تجانس النظام.
معرفة هذا التركيب يمكن من فهم الطبيعة الإنتقالية للوضع الحالي. فالآن، لا التنافس ولا الإندماج ولا الهيمنة، يشكل أحدها تقدما على الباقين. بل نلاحظ تبدلا في موازين القوى داخل كل قوة على حدة، بشكل يقوي موقع القطاعات العابرة للأوطان على حساب القطاعات الوطنية داخل كل الدول، وكل الطبقات، لكن بشكل يختلف من بلد إلى آخر (في كندا وهولندا القسم المعولم أقوى مما في الولايات المتحدة وألمانيا) ومن قطاع إلى آخر (العبر وطنية أكبر في صناعة السيارات منها في التعدين). فالرأسمال يتعولم بينما تواصل الدول الوطنية الهرمة ضمان إعادة الإنتاج العامة للنظام.
التراكب الجديد للإندماج، التكامل والتفوق الإمبريالي، هو جزء من التحولات الكبرى الحديثة للرأسمالية. هذه التحولات تأتي ضمن إطار مرحلة تتميز بهجوم الرأسمال على العمل (ارتفاع البطالة، الفقر، مرونة العمل)، مرحلة تتميز بامتداد الرأسمالية قطاعيا (الخوصصة) وجغرافيا (على البلدان "الإشتراكية" سابقا)، مرحلة تتميز بالثورة المعلوماتية وبفقدان الضبط المالي.
هذه التسلسلات بدلت في كيفية عمل الرأسمالية، وضاعفت عدم التوازن في النظام، بإضعاف قدرة الدول على ضبط الدورات الإقتصادية، وبتحفيز المنافسة بين الشركات، بينما تفقد المؤسسات السياسية القديمة السلطة، في الوقت الذي ينتقل فيه جزء من السلطة الفعلية إلى التنظيمات المعولمة الجديدة، التي تفتقد للمشروعية والدعم الشعبي. أكثر من ذلك يسبب التصعيد العسكري الإمبريالي في انهيارات بالجهات الطرفية، معمقة بذلك عدم التوازن العالمي.
هذه التناقضات هي من خصائص الرأسمالية، ولا تمثل البتة أية تشابهات مع الإمبراطورية الرومانية، كما يفترض ذلك عدد من الكتاب. مثل هذه المماثلات تعيد التأكيد على إواليات قبول أو طرد المجموعات المسيطرة في المركز الإمبراطوري: التشابه المؤسساتي (ملكية = بانتاغون، أرستقراطية = شركات، ديموقراطية = الجمعية العامة لل ONU)، بداية النهاية المشتركة في النظامين (سقوط روما = "تعفن" النظام الحالي).
لكن الرأسمالية المعاصرة ليست متضررة من توسع ترابي غير محسوب، ولا من نقص في الفلاحة، ولا من إنتاجية ضعيفة للعمل أو من تبذير الفئة المهيمنة. فعلى النقيض من نمط الإنتاج العبودي، لا تسبب الرأسمالية اختناقا لقوى الإنتاج، بل على العكس تولد تطورا غير مراقب لها، وبالتالي أزمات دورية.
فالتناقضات الناتجة عن التراكم، انتزاع فائض القيمة، تثمير رأس المال أو عن تحقيق القيمة، تؤدي إلى أزمات و لكن ليس إلى الاحتضار كما في القدم. لكن الاختلاف الجوهري يكمن في الدور الذي تلعبه الذوات الإجتماعية التي تتمتع الآن بقدرات للتغيير التاريخي لم تكن متواجدة إبان فترة الإنهيار الرومانية.
XV – مجالات المقاومة الشعبية.
العمال، المستغَلون والمضطَهَدون في كل الكوكب هم أعداء إمبريالية القرن الواحد والعشرين. عملهم غيَّر في السنوات الأخيرة مناخ الإستكبار النيوليبرالي الذي هيمن على نُخَب الطبقات السائدة منذ بداية التسعينات. فالإحساس بفقدان البوصلة بدأ يسكن أوساط  « l’establishment » المعولم. كما تؤكده الإنتقادات الموجهة للمسار الإقتصادي الحالي. هذه الإنتقادات صاغها باباوات الليبرالية أنفسهم.
سوروس، سيكليتز وساش يكتبون حاليا مصنفات عدة، كي يُدينوا غياب مراقبة الأسواق، الصرامة المبالغ فيها ومساوئ التقويمات الهيكلية المتطرفة. رؤاهم هي أكثر سطحية من ذلك المدح الجزيل الذي كانوا يقدمونه أمس للرأسمالية. فهم لا يضيفون أية فكرة لها قيمة، ولكن  يقدمون الدليل على التيه الذي تتخبط فيه قمة الإمبريالية، أمام الفوضى الإجتماعية التي أحدثتها السنوات التي مارسوا فيها سياسة الخوصصة وهم في راحة بال.
هذه الإتهامات ل"لرأسمالية المتوحشة" تعكس تقدم المقاومة الشعبية. فسادة العالم لم يعودوا قادرين على الإجتماع مع بعضهم بسلام، فلقاءاتهم واجتماعاتهم عليها أن تواجه مظاهرات الحركة من أجل عولمة بديلة (المسماة كذلك حركة مناهضة العولمة الليبرالية). لم يستطيعوا الإبتعاد في دافوس، أو الهروب من فضيحة القمع في جنوة، ولا تجاهل تحدي بورتو أليغري.
لم يعد هناك "تفكير وحيد" ولا "بديل أوحد". ومع تطور المساءلات الشعبية، أخذت صورة الإمبريالية كاملة القدرة تنحدر شيئا فشيئا.
المشاركون في الحركة من أجل عولمة بديلة، هم الصـانعون الأساسيون لهذا التغيير. هذه المقـاومة تجاوزت الصدمة الإعلامية التي خلفتها مقـاطعة قمم الرؤسـاء، أصحـاب الشركـات، والبنكيين. سيــاتل تمثل "قبل وبعد"                 (un avant et un après)  لتطور هذا النضال، الذي لم يهزم بعد 11 شتنبر 2001.
فتوقعات بتراجع كبير، تم تكذيبها بسرعة، والمضايقات "المعادية للإرهاب" لم تستطع إضعاف صفوف المتظاهرين.  فبين أكتوبر ودجنبر 2001 ، تظاهر 250000 شاب ببروجيا، 100000 بروما، 75000 بلندن و 350000 بمدريد. في فبراير 2002، إبان المنتدى الإجتماعي العالمي ببورتو أليغري، تم تجاوز حجم التمثيلية السابقة، وبعد ذلك بقليل ضمت مسيرة برشلونة 300000 متظاهر، ومظاهرة إشبيلية ضد "أوروبا رأس المال" ضمت 100000 شخص. هذه الأحداث تؤكد حيوية حركة تميل أن تضم إلى مجال عملها النضال ضد العسكرة، فحركة معادية للحرب أخذت ترتفع، على خطى النضالات ضد جرائم الحرب في الجزائر في الستينات والفيتنام في السبعينات.
الطبقة العاملة تنتصب كعدو آخر للإمبريالية، سواء بتقاربها مع الحركة من أجل عولمة بديلة (معبرة سياتل) أو بتجدد نضالاتها المطلبية. فمرحلة الجزر الحاد التي بدأت في الثمانينات (فياط ـ إيطاليا 1980 ، المنجميون البريطانيون 84 – 85) بدأن تنقلب منذ أواسط التسعينات، مطبوعة بتعبئات هامة بأوروبا (إضرابات فرنسا وألمانيا) وفي بلدان الأطراف الأكثر تصنيعا (كوريا، إفريقيا الجنوبية، البرازيل). وتأكد هذا الصعود بالمظاهرة الرائعة لمليون عامل إيطالي (ماي 2003) والإضراب العام القوي بإسبانيا.
تمثل الإنتفاضات الشعبية في الأطراف التحدي الثالث للإمبريالية. والأمثلة على هذه المقاومات في أمريكا اللاتينية غير قابلة للنقاش، حيث بدأت بالإمتداد المُعَبِّر للتمَرُّد في الأرجنتين. ففي نفس الوقت الذي كانت فيه "العدوى الإقتصادية" تصيب البلدان المجاورة (هروب الرساميل، إفلاسات البنوك، هبوط في الإستثمار)، انتشرت كذلك "العدوى السياسية" مع المظاهرات واحتجاجات الطناجر بالأوروغواي، التعبئات الشعبية الفلاحية الكبيرة بالباراغواي والإنتفاض القوي ضد الخوصصة بالبيرو.
من جهة أخرى، يمثل التدخل الشعبي ضد الإنقلاب بفنزويلا، بداية رد فعل جماهيري ضد السياسة الشبه ديكتاتورية التي تُلَوِّح بها الإمبريالية الأمريكية. ونجاح المضطَهَدين هذا يشكل فقط الجولة الأولى للمواجهة التي ستعرف حلقات متعددة، ذلك أن كتابة الدولة الأمريكية في الخارجية، بدأت في تصعيد التحرشات ضد كل حكومة، كل شعب و كل سياسة لا تنحني صاغرة أمام طلباتها.
على المستوى العالمي، تُمثل الإبادة الممارسة في حق الفلسطينيين الحالة الأكثر مأساوية. فمستوى الهمجية الإمبريالية في الشرق الأوسط، يُذكرنا بالهمجيات الكبرى للتاريخ الإستعماري، ولهذا تُمثل المقاومة الشعبية بهذه المنطقة، رمزا ومثالا معبرا، يستثير تضامن كل شعوب الأرض.
الحركة من أجل عولمة بديلة، صعود الطبقة العاملة والتمردات في الأطراف. هذه العوامل تُعيِّن حدود هجوم رأس المال. فبعد عقد من الهمجية الإجتماعية، بدأت موازين القوى تتغير، فاتحة بذلك فضاء إبديولوجيا للفكر النقدي، الذي سيعيد للأفكار الإشتراكية جاذبيتها. ففي الوقت الذي تفقد فيه الليبرالية الجديدة صَوْلَجَانَها، لم تبق الإشتراكية كلمة ممنوعة، والماركسية لم يعد ينظر لها كجزء من التراث. هذه الولادة الجديدة تضع من جديد على جدول الأعمال أسئلة متعددة حول الإستراتيجية الإشتراكية.
XVI – أربعة تحديات سياسية. 
سجلت حركة أممية جديدة دخولا ظافرا مع المسيرات الكوسموبوليتية من أجل "عولمة أخرى". هذه التعبئات المطبوعة بتشكيك حاد في المبادئ: الكفاية، الفردانية والربح، وَلَّدَت تقدما في الوعي المعادي للرأسمالية، ينعكس في بعض شعارات هذه المسيرات (العالم ليس سلعة). إن التوصل إلى تحويل هذا النقد الجنيني للرأسمال اتجاه مشروع تحرري، هو المهمة الأولى التي تواجه الإشتراكيين.
هذا البديل تمت مناقشته في المنتديات العالمية، عندما تم تحليل الآفاق الإجتماعية للأممية التلقائية للحركة.
في هذه الحركة تسود معارضة عقلانية على ردود الفعل السلفية ضد الشرور الإمبريالية، ورفضا مماثلا للمواجهات الإثنية بين الشعوب المستغَلة التي يستثيرها اليمين.
هذا التضامن الأممي لا يمكن أن يتجانس مع أي مشروع رأسمالي كيفما كان، لأن هكذا مشروع لا يمكن إلا أن يغذي الإستغلال، وبالتالي إثارة المواجهات الوطنية. وحدها الإشتراكية تقدم رؤية للتشارك الحقيقي بين عمال العالم.
الصَّحْوَة المُعَمَّمَة للنضال المعادي للإمبريالية في الأطراف، يمثل ثاني تحدي أمام الإشتراكيين. بعض المنظرين يجهلون ذلك، حيث أنهم قرروا لوحدهم نهاية الوطنية، ويحتفلون بذلك دون أن يُميزوا بين التيارات الرجعية والتقدمية في هذه الحركة. هؤلاء الكتاب يعتبرون، أكثر من ذلك، عدم فعالية كل تكتيك أو استراتيجية أو أولوية سياسية أمام "النضالات الأفقية" الجديدة. لأن الأمر، بحسبهم دائما، هو النضال بين رأس المال والعمل دون أية أشكال وسيطة.
هذه الرؤية تمثل تبسيطا هائلا للنضال الوطني، فهي تضع الطالبان والفلسطينيين في نفس الدرجة، منفذي الإبادات العرقية في إفريقيا أو البلقان مع مبدعي حروب التحرير للعقود الأخيرة (كوبا، فيتنام، الجزائر). هذه الرؤية لا تسمح بتمييز التقدم من الرجعية، لهذا السبب لا تفهم لماذا يناضل شعوب العالم الثالث من أجل إلغاء الديون الخارجية، وتأميم المواد الطاقية، ومن أجل الحماية الجمركية للإنتاج المحلي.
وضع التكتيكات وتحديد الإستراتيجيات له نفس أهمية المطالب الوطنية المرفوعة من قبل مستغَلي الأطراف الغير مفهومة بالنسبة لعمال بلدان المركز. ووجهة النظر "العبر وطنية" تُرَدِّد، باستعمال خطاب أكثر جذرية، المعارضة الليبرالية القديمة للأشكال المُجَسِّدة للمقاومة الشعبية في البلدان المتأخرة، وعدم الدقة هذا يخلق إحساسا معمما بالعجز أمام السيطرة الإمبريالية. لأن العالم الذي يصفونه ـ دون حدود، دون مركز، دون أراضي ـ من المستحيل أن تحدد فيه أين المضطهِد ولا أن تعرف طريقة مواجهته.
التحدِّي الثالث أمام السياسة الإشتراكية هو وضع استراتيجيات أخذ وتحويل الدولة تحويلا جذريا، حتى تنفتح الطريق أمام التحرر. هذا الهدف يفرض تغيير الحكم الذي أعطته النيوليبرالية لجدوى تدخل الدولة والإيمان بحياد الدساتير التي تخفي سيطرة الطبقة المسيطرة على هذه المؤسسة. وبشكل خاص المعارضة المنتشرة بين أنصار اللاضبط النيوليبراليون، وأنصار الضبط المعارضين لليبرالية، هذا التعارض الظاهر يخفي التدبير الرأسمالي المشترك للدولة. هذه اللعبة هي السبب في الطلاق المتنامي بين المجتمع والدولة. فكلما ارتهن الشأن العام بالأرباح المقاولاتية، كلما كبر الوزن الذي تأخذه الأجهزة والبيروقراطيات البعيدة كل البعد عن هموم وحاجات أغلبية السكان.
لكن تجاوز هذا الإنفصام الدولتي، يفترض البدء بتدبير جماعي يسمح بالتقدم إلى الأمام حتى إضعاف الطبيعة النخبوية والمضطهِدة للدولة. هذا الهدف لا يمكن الوصول إليه عبر عمل سحري يفسخ المؤسسات التي تجذرت منذ القدم، و لا يمكن تحقيقه باتباع طريق تحرري غير مفهوم وغير واضح، كما يقترحه أولئك الذين يفترضون تغيير المجتمع دون الحاجة إلى أخذ الدولة وممارسة الحكم.
بعض المنظرين يستنتجون بأنه في "مجتمع الرقابة" الحالي، تنتشر أشكال السيطرة بشكل كبير لا يسمح بأي تحويل اجتماعي على قاعدة التدبير الشعبي للدولة. لكن افتراض وجود سلطة هلامية (موجودة في كل مكان، و لا توجد في أي مكان) تُحَوِّل كل نقاش واقعي حول النضال ضد الإستغلال إلى تفكير ميتافيزيقي حول عدم صبر الفرد أمام واقعه المضطهد. فإذا وضعنا جانبا تحليل الجذور الموضوعية والأسس الإجتماعية لهذا الإستتباع، يصبح مستحيلا إبداع طرق واقعية لتجاوز السيطرة الرأسمالية.
تحديد من هم حاملوا هذا المشروع، مشروع التحويل المعادي للرأسمالية، هو التحدي الرابع الذي سيواجه الإشتراكيين. فلو شاهدنا العمال في إضراب، شباب الحركة من أجل عولمة بديلة، الجماهير المعبأة في الأطراف، لأصبح من السهل التعرف على صانعي التغيير التحرري. هذا الدور الرئيسي الجديد للتعبئات الشعبية، يُكَذِّب الخطاب النيوليبرالي حول نهاية زمن العمل الجماعي، لكنه لا يعطي بعد اعترافا بالدور المركزي للطبقات المضطهَدة (خاصة العمال الأجراء) في عملية التغيير الإجتماعي.
هذا النقص يرجع، في جزء منه، إلى الوزن المعطى لل"المواطنية" في التغيرات السياسية، مع نسيان أن هذه الفئة تساوي المضطهِدين بالمضطهَدين عبر إعطائهم نفس الوضع، وتخفي أن "المواطن ـ العامل" ليس له أي سبيل لممارسة الوظائف التي يمارسها يوميا "المواطن ـ الرأسمالي" (تسريح، توظيف، مراكمة، تبذير، سيطرة). وحتى في التحديدات الأكثر جذرية التي تتحدث عن "المواطنية المنتفضة" أو "المواطنية العالمية"، تم محو الحدود الطبقية، واستُبْعِدَ التناحر الإجتماعي إلى مستوى ثانوي.
طريقة أخرى لتمويه التحليل الطبقي، تكمن في إبدال مفهوم العامل أو الأجير بمفهوم "المتعدد" ـ multitude ـ، هذا التجميع يقدم كجنين "معارض للإمبراطورية" يخلق من القدرة على تجميع "طموحات التحرر" للرعايا الكوسموبوليتيين، الرحل والمهاجرين".
ورغم أن واصفي هذه الفئة يعطونها مدلولا شعريا أساسا، فإنهم لا يستنكفون عن استعمالها في ميدان العمل السياسي. هذا التحويل يولِّد العديد من المغالطات، فنفس "المتعدد" يمكن أن يعني تجمعا غير محدد لأفراد (الرحل)، ويمكن أن يستند في أحيان أخرى على عمل قوى خاصة (المهاجرين). وفي الحالتين معا، لم يتم شرح لماذا تمثل هذه الفئة مكانا هاما في النضال الإجتماعي داخل إمبراطورية ما، فهي غير محددة، ولا تواجه منافسين محددين. لكن الأصعب في هذا اللغز هو معرفة بماذا يمكن أن تفيد هذه الفئة؟ !!!
وإذا تركنا جانبا اللعب بالكلمات، وبتحليلنا أولا للطاقة التحريرية للطبقة العاملة، لأجل توجيه مشروع اشتراكي، يمكن أن نصل إلى استنتاجات أكثر فائدة. هذا التفكير يمكن أن يبدأ من "بلترة العالم" المتزايدة، أي الوزن الإجتماعي الإستراتيجي الذي أخذه العمال، في معناهم الواسع، أي مجموع الأجراء. هذه القوة الهائلة يمكن أن تتحول إلى سلطة معادية للرأسمالية على الأرض، بشرط تحقيق قفزة نوعية للوعي الإشتراكي للمستغَلين.
شروط هكذا تقدم سياسي أضحت مجتمعة، كما يشهد به النقاش الجاري حول الأممية، الدولة، موضوع التغيير الإجتماعي. وبإعادة ما وقع خلال 1890 ـ 1920 ، يُوضَع نقاش الإمبريالية في مركز هذا النضج السياسي.
هل ستمتد هذه التشابهات إلى نمو للحركة الإشتراكية؟
يمكن أن يكون ظهور أحزاب، قادة ومنظرين في مستوى الماركسيين الكلاسيكيين للقرن الماضي، مفاجأة العقد الجديد.
بوينس أيرس. يونيو 2002
أنبركور Inprecor
شتنبر 2002 ـ العدد 474