الصراع الطبقي أساس التغيير


باسم شيت
2007 / 11 / 30 - 11:01     

كلّما تحدثنا عن التغيير، يأتي أحدهم، ويبدأ بالدفاع عن واقع الحال، يبدأ بالشرح وبالعرض والتحليل "إن الواقع والمجتمع الذي نعيش فيهما غير قابلَين للإصلاح أو التغيير". ثم يخطو ميلاً إضافيا ليرمي بغضبه وسخطه على الناس، كونهم يتلهون بأمور "ثانوية" ولا يهمهم مصلحتهم أو مصلحة "البلد".
المرهق في الموضوع أن علينا أن نسمع هذا الخطاب من كثير من اليساريين والشيوعيين، الذين يثورون يومياً، ولكنهم في نفس الوقت يركعون أمام الواقع ويبررون الخنوع والانهزام. وكما قال ممثل أحد الأحزاب اليسارية العريقة في أحد المؤتمرات الأممية، إن "الناس ملهيين بالخبز والملح ونسوا القضايا الأساسية".
ولكنني ظننت دائماً أن القضية هي الخبز والملح؟! أليس هذا هو المطلب الذي رفعه عمّال وشعوب العالم مطالبين بحياة وعالم أفضل؟

وجهان لعملة واحدة

غريب أن يُعَرَّّف اليسار في هذه الأوقات إما كملحق بالسلطة أو كملحق بالنظام. الفرق بين الالتحاقين هو فرق لوجيستي، ولكن الهدف هو نفسه. مثلاً، كل من اليسار الديمقراطي والحزب الشيوعي يسعيان بشكل واضح إلى عملية تغيير من خلال النظام نفسه، أحدهما التحق بالقوى المسيطرة على السلطة، والآخر ما زال ينتظر لأن يدخل السلطة بطريقة من الطرق.

وما يبدو واضحاً هو أن اليسار اللبناني قد فقد الأمل من الشارع والطبقة العاملة، وقرر تحقيق العدالة الاجتماعية والديمقراطية من خلال النظام نفسه، أي من خلال تحالفه المباشر والنظري مع الطبقة الحاكمة.

فكل من الحزب الشيوعي واليسار الديمقراطي، في نظرتهما إلى عملية التغيير، يشكّلان وجهان للحالة ذاتها. كلاهما يريان التغيير كعملية فرض لواقع جديد وأفضل من خلال السلطة. كلاهما يريان بشكل علني أو ضمني أن الشارع فقد القدرة على التغيير أو أنه غير قادر أن يعي مصلحته، لذا، يحتّم عليهما بأن يقوما بهذا الدور نيابة عنه.

بالنسبة للطرفين، تشكل الانتخابات الوسيلة المباشرة من أجل تحصيل الشرعية النظمية للتغيير، فالثورة تحولت في مضامينها وشكلها، إلى عملية تلتزم بالقانون، تلتزم بالنظام وبنيته. وإن أراد أحد إثباتات لهذا النهج، فما عليه سوى قراءة أو سماع الخطابات والبيانات الصادرة عن التنظيمين.
اليسار الديمقراطي يجاهر بالتغيير "الديمقراطي"، أي من خلال البرلمان وينظّر يومياً عن أهمية بناء الدولة واسترجاع حقها في احتكار العنف والنظام. أما الحزب الشيوعي فما زال ينادي بالحكم "الوطني الديمقراطي"، أي بنظام تقطنه برجوازية وطنية ونظام ديمقراطي في آن معاً، أي برلماني، ولكنه يشترط أن تكون هذه البرجوازية غير طائفية.

قد يبرر البعض إن الطبقة العاملة حاولت في الـ75 وفشلت، ولذا يحتّم العمل على عملية "إنقاذ" للشعب بدل أن يقوم هو بالتغيير. لكن تجربة الحركة الوطنية بلورت نفسها آنذاك تحت قيادة البرجوازية الوطنية، لا الطبقة العاملة، وذلك لأن اليسار ذهب إلى تصعيد الخطاب القومي العربي على حساب التعاضد الطبقي ما بين الطبقة العاملة اللبنانية والفلسطينية والعربية والعالمية. لذا، لا يمكن أن نقول أن التغيير من خلال الطبقة العاملة فشل، طالما أن اليسار سلم قيادتها للبرجوازية الوطنية.

الموقف من الطبقة العاملة

يقول زياد ماجد نائب أمين سر حركة اليسار الديمقراطي سابقاً: "حتى وإن كان ليس باستطاعتنا تحقيق الدولة العلمانية، هناك أهداف يمكننا السعي وراءها، يمكننا تحقيق برلمان غير طائفي، يمكننا العمل على تأسيس معايير من أجل تأمين استقلالية القضاء، يمكننا العمل على اللامركزية".

من جهة أخرى، يقول الحزب الشيوعي في بيان له في 26/1/2007 "إن حزبنا، يدعو كل شباب لبنان وكل عماله وكادراته ومثقفيه وفنانيه للانخراط في نشاطات تضغط على بقايا الحكومة لتسريع رحيلها، وعلى المعارضة لتصحيح برنامجها باتجاهين متكاملين: مقاومة مفاعيل المشروع الأميركي في المنطقة ولبنان، وصياغة برنامج للإصلاح الديمقراطي ينقذ الشعب اللبناني مما يتخبط فيه من أزمات ويتهدده من مخاطر".

كلا القراءتان تنظران إلى عملية التغيير كمسار إداري ضمن النظام نفسه. فالأول يرى من مكان تواجده في الدولة إمكانية إنشاء مسار تدرّجي للإصلاح الديمقراطي، يبدأ بالقليل والمستطاع. أما الآخر، فيرى أن على المعارضة استلام الحكم بعد إسقاط الحكومة الحالية ثم تنفيذ "مشروع ديمقراطي وإصلاحي".
كلاهما لا يرى في موقفه أي دور للطبقة العاملة في تقديم نفسها كحركة تفرض مطالبها على الواقع السياسي، بل يرونها مناصرةً لطرف برجوازي على آخر، الطرف الذي "تتقاطع مصالحهم" معه، ويُترجم هذا بشكل واضح في خطابهما السياسي. فلدى الحزب الشيوعي يبرز مفهوم "إنقاذ الشعب"، وفي خطاب اليسار الديمقراطي تبرز مهادنة النظام الحاكم "والعمل من خلاله".

المشكلة الأولى هنا أن الخطابين يغيّبان الطبقة العاملة ويعيّنان نفسيهما ممثلين لها، ويعيقان بناء حركة تتمثّل الطبقة العاملة فيها. سبب ذلك هو نظرتهما إلى النظام الرأسمالي اللبناني وكأنه رأسمالية "مشوهة" يجب "تصحيحها". وهنا يأتي تبريرهما لعدم وجود حركة عمّالية في لبنان، فالحاجز الأكبر لتبلور الصراع الطبقي هو النظام الطائفي. وينطلق اليسار اللبناني لمساعدة وتوعية البرجوازية الوطنية حول أهمية إلغاء النظام الطائفي حتى يمكن له (اليسار) بعد ذلك تطوير الصراع الطبقي الذي، حسب ما نعرفه، يهدف إلى تدمير البرجوازية!
هذا المنهج يحدد أدواراً للاعبين الخطأ. يحدد للبرجوازية أهدافاً تتناقض مع مصالحها المباشرة، استغلال العمال من أجل الربح. بالتالي، فمن مصلحتها السيطرة على الصراع الطبقي والطبقة العاملة لا العمل على تحريرها.

حدود الحداثة

هنا يكمن أساس الخطأ في نهج اليسارَيْن، إذ يعتقدان أن الحداثة ومفهوم الدولة الحديثة تحتّم إلغاء الأنظمة الطائفية والتمييزية، ويرونها كشرط أساسي في استنهاض الصراع الطبقي. عند بناء الدولة الحديثة فقط، يصبح الصراع الطبقي مجدياً لأن الدولة الحديثة تحتم النظر إلى الجميع كمواطنين من دون تمييز طائفي.

في كلام لزياد ماجد عن سمير قصير (أحد مثقفي اليسار الديمقراطي) يقول ماجد: "كان معنياً بقضية النهضة في العالم العربي من مفهومين: يستعيد الأول عبد الرحمن الكواكبي وأحمد فارس الشدياق في رفضهما الاستبداد وفي سعيهما إلى مصالحة مجتمعاتنا بالحداثة، والثاني هو مفهوم الجمهورية الفرنسية وما أرسته الثورة الفرنسية من مفاهيم الحرية والمواطنية والتنوّع والعلمنة والتنوّر".
من جهة الحزب الشيوعي يقول كريم مروّة: "بعكس ما ينظِّر له عتاة الرأسمال المعولم، هي (أي الدولة) حاجة موضوعية لتأمين الانتظام الاجتماعي، لكن بشرط أن تتحول بصورة كاملة إلى دولة ديمقراطية حديثة، دولة مؤسسات وقوانين، لكي تكون مؤهلة للتعامل مع المجتمع في تحقيق تلك المهمات المشار إليها. ولن يتم ذلك في بلداننا على النحو الصحيح إلا بفصل الدين عن الدولة" (كريم مروة، عشية أفول الإمبراطورية، أسئلة حول موقعنا في عالم الغد، دار الفارابي، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 2003، ص 44).

لكن الأنظمة الطائفية المعروفة كلبنان، وايرلندا وفلسطين والعراق، لم تنشأ في عصر ما قبل الحداثة، بل كانت نتيجة امتداد التيار الحداثي في العالم، في شكله الكولونيالي والإمبريالي.

في لبنان، كانت حرب 1860 الطائفية أولى نتائج سياسات فرض الحداثة على جبل لبنان، وكانت الطائفية مقاومة عفوية للمفاهيم الصهرية للحداثة (في دمج مختلف الهويات المجتمعية ضمن انصهار قومي وولاء للدولة). يقول أسامة مقدسي في كتابه "ثقافة الطائفية": "بكلمات أخرى، الطائفية هي معرفة حداثية فيما معناه أنها نتجت في سياق السيطرة الأوروبية والإصلاحات العثمانية، لأن منظريها على المستوى الكولونيالي (الأوروبي)، الإمبراطوري (العثماني) وعلى المستوى المحلي (اللبناني) كانوا ينظرون إلى أنفسهم كحداثيين يستعملون الماضي لإثبات الحاضر والتطورات المستقبلية" (صدر بالعربية عن "دار الآداب").

دور الإمبريالية

في ايرلندا، المثل أوضح، إذا إن الطائفية نتيجة للسياسات المباشرة للسيطرة البريطانية الإمبريالية على ايرلندا، والعمل على التفرقة المنظمّة بين الكاثوليك والبروتستانت. ولم تزل هذه التفرقة موجودة حتى الآن في المجلس النيابي وفي قوانين الدولة، إذ فرضت الإمبراطورية البريطانية على ايرلندا الشمالية الانضمام للدولة البريطانية البروتستانتية، ونشأ الفصل الطائفي كردّ مباشر على محاولة فرض هوية موحدة على مجتمع تعددت فيه الهويات المجتمعية، ففعل "فرض الحداثة والرأسمالية على المجتمع هو الذي أسس للدولة الطائفية في ايرلندا" (أيمون مكّان في ندوته حول النظام الطائفي في ايرلندا، مركز تيّار المجتمع المدني، بيروت في 1/8/2007).

فلسطين مثال حيّ ويومي، فالسياسات البريطانية والأميركية لاحقاً، اعتمدت على فرض "الدولة الإسرائيلية الحديثة" على الواقع الفلسطيني، مما أنتج النظام العنصري الإسرائيلي، وما زالت مفاعيل "التحديث" هذا، واقعاً يومياً يعيشه ملايين الفلسطينيين.

وفي العراق، كان اللاعب الأول في إنشاء الدولة العراقية الحديثة هو الاتحاد السوفيتي، فكانت دولة الحزب الواحد الحديثة، وجاء بعده الأميركيون، فكانت الدولة الطائفية الحديثة. الحرب التي أتت تحت راية "الديمقراطية والحداثة والحرية" هي اليوم التي تبني النظام الطائفي، وهي اليوم التي تفصل ما بين كردي وسني وشيعي.

تحقيق الاشتراكية

في سعي اليسار اليوم إلى إنتاج دولة "الحداثة" يبدو وكأنه ينادي ببقاء الحال كما هو. نحن اليوم نعيش عصر الحداثة، ولسنا متخلّفين عنه. ما يرددونه من مراسيم أخلاقية حول وصف الدولة الحديثة هو ما ردده الاشتراكيون الطوباويون في القرن السادس عشر، أمثال توماس موور وهو "أن الاشتراكية هي أخلاقية وان الأسس الاشتراكية يمكن تطبيقها من دون إبعاد أو استغلال احد" (http://www.marxists.org/subject/utopian/index.htm)، وقد برهن طرح الاشتراكية الطوباوية عن فشله في الثورة الفرنسية في تحقيق الاشتراكية الفعلية.

لا يمكن إنتاج تنظيم للمجتمع يمثّل مصالح الطبقة العاملة من دون أن تكون الطبقة العاملة هي من تبنيه وهي من تفرضه من خلال صراعها المباشر ضد البرجوازية. إن هذا الأمر تم برهنته مراراً وتكراراً عبر التاريخ. ففي الاتحاد السوفيتي، مثلاً، لو كان النظام يمثّل حقاً الطبقة العاملة، فلماذا لم يدافع عنه العمال بعد سقوط حائط برلين؟ الواضح هو أنه كان نظاماً رأسمالياً كما هو الآن. الفرق هو بين رأسمالية الدولة ورأسمالية السوق، فعلاقات الاستغلال كانت موجودة خلال الحكم الستاليني، وهي ذاتها اليوم في عهد رأسمالية السوق في روسيا.

تحقيق المساواة وإلغاء التفرقة العنصرية والطائفية لا يمكن أن يتمّا من خلال الطبقة البرجوازية، لأن هذه التفرقة تصب في خانة المصلحة المباشرة للبرجوازية. "فعدم المساواة، الاستغلال والقمع يبقون طالما يبقى هناك أقلية تسيطر على الثروات، ومن دون الملكية المشتركة لوسائل الإنتاج، سوف يبقى هناك هوة ما بين الفقير والغني، وبسبب التنافس على العمل والمسكن والتعليم، سوف يبقى هناك عدم مساواة في الطبقة العاملة نفسها، الظروف الخصبة لنشوء العنصرية والتفرقة الطائفية والجنسية" (توني كليف، الماركسية في الألفية الجديدة).

"إن تحرر الطبقة العاملة هو فعل الطبقة العاملة نفسها" (كارل ماركس) وقد تم إثبات أن كل محاولة انتداب للطبقة العاملة أو لـ"تحريرها" من خلال الطبقة البرجوازية أو فرض الدولة الحديثة، سوف تؤدي إلى امتداد للحداثة نفسها، والمحافظة على واقع التفرقة ضمن الطبقة العاملة وسيبقى القمع والاستغلال، وهذا بالتالي يؤخّر عملية تبلور الصراع الطبقي.

الصراع الطبقي

إن أيّ عملية تغيير يجب أن تبدأ بتأجيج الصراع الطبقي ليكون صوته أعلى من أصوات التفرقة داخل الطبقة العاملة، هذه العملية تبدأ أيضا باعتراف إننا ضمن نظام رأسمالي وتقسيم طبقي. لذا، فأن الصراع الطبقي موجود، وإن الطائفية والعنصرية والتفرقة الجنسية هي من صلب النظام الرأسمالي ومن ضمن خصائص الدولة الحديثة، وليسوا خطأً في تكوّنها يمكن تصحيحه.

لا يمكن التخلص من الوجع دون التخلص من المرض، ومحاولة إصلاح الحداثة أو التصالح معها هو ما سيبقي الحال كما هو. الإصلاح هو وسيلة لإضعاف النظام وفرض قوانين عليه لا تتماشى مع مصالحه، وسوف يقوم النظام، في أي فرصة لاحقة تأتي، بإلغاء هذه الإصلاحات كما يحصل اليوم في الدول الصناعية. الإصلاح لا يقوم به البرجوازيون بفعل الشفقة على الطبقة العمالة، بل عندما يكونوا مجبرين عليه من قبل الطبقة العاملة.

على اليساريين والاشتراكيين والشيوعيين رؤية الإصلاح كوسيلة لتأجيج الصراع الطبقي، ولبناء حركة الطبقة العاملة ضد الرأسمالية والدولة البرجوازية، في سعيهم إلى بناء نظام اشتراكي. الإصلاح ليس جسراً للعبور نحو الاشتراكية، وهو ليس شرطاً مسبقاً للصراع الطبقي، بل نتيجة له.

إن الصراع الطبقي هو أساس أي عملية تغييرية، أمّا فرضه فوق الصراعات الفئوية هو الذي سيؤدي إلى إلغاء التفرقة، وليس من خلال مهادنة البرجوازية الوطنية أو السعي لبناء الدولة الحديثة.

نعيش اليوم محاولة البرجوازية إسكات الصراع الطبقي، إما من خلال حروب مبتكرة كـ"نهر البارد" ونشر العنصرية ضمن الطبقة العاملة اللبنانية والفلسطينية، وكما نُشرت في انتخابات المتن حين قام أمين الجميّل بهجومه العنصري ضد الأرمن، أو خلال مظاهرة 10 أيار 2006، حين وَصَفت السلطة العمال المتظاهرين بأنهم قادمون من ريف دمشق لأنهم يطالبون بإلغاء مشروع التعاقد الوظيفي، أو من خلال إيقاف قيادتا المعارضة لمظاهراتها والإضراب العام خوفاً من استلام المليونين لزمام الأمور. كل هذه المحاولات كانت لتفرقة وشرذمة الطبقة العاملة ومنعها من بلورة حركة تمثّل مصالحها.

الطبقة العاملة تنتفض

إن البرجوازية في لبنان كما في المنطقة العربية كافة والجوار لا تستطيع ولن تكون من رواد التغيير، وهي غير قادرة على كبت الصراع الطبقي لوقت طويل، "فعلى أنظمة الشرق الأوسط أن تخلق 80 مليون وظيفة في الـ15 سنة القادمة (...) وأما في العالم، فمنذ 1995 حتى الآن، زاد عدد العاطلين عن العمل 34 مليون شخص، ليكون عدد العاطلين عن العمل في بداية العام 2006 يقّدر بـ192 مليون شخص". (بيان صادر عن المدير العام لمنظمة العمل الدولية في خطابه خلال المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس، سويسرا، في 25 كانون الثاني 2006).
صوت الصراع الطبقي يعلو يوماً بعد يوم في كافة دول المنطقة، وهو حاضر بشكل جدي. وإن كان الإعلام والساسة يغيّبونه، فنحن نسمعه في أصوات العمّال المحليين والمهاجرين في الجزيرة العربية التي تطالب بزيادة الرواتب وغيرها من الأمور (الصراع الطبقي واقع يتبلور بتزايد الحركة العمالية، هبة عباني المنشور عدد 8)، والإضرابات العمّالية في مصر والاحتجاجات في إيران...

"على مدى ستة أشهر بلغ عدد العمال الذين أضربوا عن العمل ورفعوا مطالب واستطاعوا تنفيذ أغلبها أكثر من 200 ألف عامل، وهو رقم هائل في بلد يحكمه قانون الطوارئ منذ أكثر من ربع قرن، ويقيّد قانون العمل فيه حق الإضراب ويفرض على العمال تنظيم نقابي واحد موال للدولة" (مصطفى البسيوني، إضرابات العمال في مصر: مرحلة جديدة للحركة العمالية، المنشور عدد 9).
كل هذا يشير إلى نهوض الصراع الطبقي على الساحة السياسية العامة في المنطقة، وخاصة ضمن حالة غلاء الأسعار وازدياد نسب الفقر والبطالة في العالم، ونسب الاستغلال والنقص الواضح في القدرة الشرائية. حدة الصراع الطبقي سوف تتسارع، وسيكون شكل تبلورها السياسي إما في حالات شغب، كما حصل في فرنسا في العام 2006 وفي لبنان عام 2004 في حي السلم و2006 في التباريس. أو بشكل منظّم يعتمد على وجود حركة عمالية ونقابية. وعدم وجود الحركة هو الذي يسبب نشوء الشغب كمخرج وحيد للتعبير عن الصراع الطبقي.

نعيش اليوم في لبنان حالة سكون ما قبل العاصفة، وعلى اليسار أن يبني نفسه حتى يواكب مسارات المعارك القادمة. عليه أن يبقي نبض الصراع الطبقي يقظاً، وأن يضيء على التناقضات الطبقية الحالية، ويكسب ثقة الطبقة العاملة من جديد. عليه أن يواكب الصراع النقابي المنظم وغير المنظم كي يستطيع أن يجاريه، وأن يتمركز داخل حركة الطبقة العاملة وليس كوصي عليها، عليه أن يؤمّن الوسائل التي تحتاج إليها الطبقة العاملة للتعبير عن مصالحها، من النشرات والاعتصامات والبيانات. هذا الدور ليس بالدور التقني، بل هو انخراط مباشر في الصراع الطبقي، هو عملية لبناء الحركة من ضمن الطبقة العاملة وليس من خارجها.

اليوم، قد تبدو الصورة متشائمة، ولكننا في هذه الأوقات بالضبط، علينا البناء والتنظيم أينما وُجدنا، في أماكن العمل، في الجامعات، في النقابات. علينا أن نؤسس للخطاب السياسي والنقابي للفترة القادمة من خلال التفاصيل اليومية للصراع الطبقي (غلاء الأسعار، التفرقة العنصرية، الدولة البوليسية...)، والقضايا النقابية المشتركة (رفع الحد الأدنى للأجور، التعاقد الوظيفي، الخصخصة...)، حتى نصل لخطاب سياسي عام حول تغيير النظام.

هذه السيرورة هي التي يمكن من خلالها تدمير النظام الطائفي والقوانين العنصرية والقوانين التي تدعو إلى التفرقة الجنسية. المسألة هنا هي تحطيم النظام الطائفي وإلغائه، لا مهادنته أو انتظار "اضمحلاله".

النظام لن يجري بنفسه نحو الهاوية، علينا نحن أن ندفعه نحوها.