الاشتراكية كنظام اقتصادي اجتماعي 4 من 4


مصطفى العبد الله الكفري
2003 / 11 / 15 - 04:11     

 (أزمة النظام الاشتراكي)
تراجع التجربة الاشتراكية والتحول إلى اقتصاد السوق

 لقد تركت الممارسات البيروقراطية أثراً سيئاً ، انعكس بشكل قصور مريع عن تحقيق الإنجازات الاشتراكية التي كان ينبغي تحقيقها في الدول الاشتراكية خلال فترة زمنية طويلة تزيد على سبعين عاماً . " ولقد سلبت البيروقراطية ، في الأنظمة الاشتراكية ، وفق مفاهيمها التي أشرنا إليها جماهير العمال حقهم التاريخي في ملكية وسائل الإنتاج ، وتوزيع الإنتاج لمصلحتهم ، وحولتهم إلى مجرد إجراء يعملون لدى مالك وسائل الإنتاج الجديد (وهو الدولة) بديلاً للرأسمالي أو الإقطاعي. لقد تغير الشكل وأنماط الإنتاج ، ومردود الإنتاج دون أن يتبدل الوضع الحقيقي والجوهري للعامل بما يتناسب مع دوره في عملية الإنتاج ، لأن الاشتراكية ، والفكر الاشتراكي ، يجعلان من ملكية وسائل الإنتاج ، وانتفاعهم ، وشعورهم بمردود وعائدية إنتاجهم عليهم ، كجماعات وأفراد ، قضية لا يجوز، ولا يحق لأحد ، أن يجعلهم بطريقة أو بأخرى يتنازلون عنها . [1]

 

لقد نجم عن هيمنة الفئات البيروقراطية وتسلطها ، وطبيعة تكوين هذه الفئات ، أوضاع اقتصادية انعكست في صور متعددة منها :

                        –   تراجع الإنتاج الاجتماعي ، كماً ونوعاً .

                        –   تدني نسبة النمو الاقتصادي ، وما يرافقها من تدني نسبة النمو الاجتماعي .

              –  اختـلال الموازين الأساسية للاقتصاد الاشتراكي ، وقد توضح هذا في عدة مظاهر (ندرة المـواد ، عدم تلبية حاجات المستهلكين ، سوء التوزيع) وهذا أدى إلى استغراق الفرد في هموم الحياة المعيشية .

إن بـروز هذه المظاهر على سطح الحياة الاجتماعية في الدول الاشتراكية ، وامتداد جذورها في أعماق المجتمع الاشتراكي ، بعد سنوات طويلة من قيام النظام الاشتراكي ، يعكس بالضرورة الدور التخريبي ، للبيروقراطية ، وفشلها في إنجاز أي تطور تاريخي للمجتمع الاشتراكي ، لا بل يعكس بصورة لا يرقى إليها الشك أن الفكر الاشتراكي ينبغي أن يواجه في المرحلة المقبلة مهمة حل مشكلة البيروقراطية ، وتجاوز الأزمة ، التي تعاني منها الأنظمة الاشتراكية . [2] وفي بداية الثمانينات أعلن الرئيس السوفييتي غورباتشوف برنامجاً لإعادة البناء يسمى البيروستريكا .

1- برنامج إعادة البناء " البيروستريكا " : البيروستريكا هي برنامج نموذج شامل لمواصلة تطوير المجتمع الاشتراكي من خلال نمو اقتصادي نوعي جديد وإشاعة الديمقراطية الاشتراكية وتوسيعها في سائر الميادين والأصعدة . وتتركز جميع التحولات المتحققة والمرسومة بالاستناد إلى برنامج إعادة البناء الجديد حول الملكية الاشتراكية لوسائل الإنتـاج فقد كانت الملكية الاشتراكية سابقاً تضم نوعين من الملكية ، الملكية التعاونية وملكية الدولة . (ومع مرور الزمن فقدت ملكية الدولة الأهمية التي اكتسبتها بادئ الأمر وصار الشغيلة يشعرون كأنها ملكية مجهولة الصاحب لا تعود لأحد وبدت غريبة عنهم) ، لقد ترك هذا الأمر أثراً سلبياً في النمو الاقتصادي في مجموعة الدول الاشتراكية وفي مصالح الشغيلة المنتجين أنفسهم .

وتطـور المفهوم الجديد للملكية الاشتراكية ، حيث أصبحت هذه الملكية موحدة ولا تقبل التجزئة غير أن لها أشكالاً مختلفة من حكومية ، وتعاونية وبلدية وجماعية وفردية . ولا تعد ملكية الدولة أعلى من أنواع الملكية المتبقية ، وأن كل تعارض بين الأشكال المختلفة للملكية يعد باطلاً . إن البيروستريكا ، كمـا يوضح غورباتشوف ، تسعى لوضع كل شيء في مكانه . حيث تهدف إلى تطبيق مبدأ الاشتراكية من جديد وعلى أكمل وجه (من كل حسب قدراته ولكل حسب عمله) كما تسعى لتطبيق العدالة الاجتماعية لأجل الجميع ، وانضباط واحد يخضع له الجميع ، والتزامات واحدة بالنسبة لكل فرد. فالبيروستريكا تزيد من قائمة المسؤولية الاجتماعية والمتطلبات من المجتمع .

وإن برنامج إعادة البناء والتبدلات لا يريدها ذاك الذي يرى أنه قد أصبح لديه ما يلزمه فلماذا إعادة البناء ؟ ولكن إذا كان لدى الإنسان ضمير وإذا كان يعمل لتوفير الخير لشعبه فهو لا يستطيع ويجب ألا يحاكم الأمور بهذا الشكل ناهيك عن أن العلنية تلقي الضوء وتوضح الأمور فيما إذا كان هناك من يستخدم امتيازات غير مشروعة . ولا يجوز التهاون مع الركود بعد الآن.[3]

" وفي النصف الثاني من السبعينات ، حدثت أشياء يصعب تفسيرها . فالبلاد بدأت تفقد وتائر التقدم ، وتزايدت التوقفات في حركة الاقتصاد ، وأخذت الصعوبات تتكدس وتتفاقم الواحدة بعد الأخرى ، والقضايا والمشكلات غير المحلولة تتفاقم ، وظهرت ، في الحياة الاجتماعية ، ظواهر راكدة جامدة ، وغيرها من الظاهر الغريبة على الاشتراكية ، وتشكل نوع من ميكانيزم فرملة التنمية الاجتماعية والاقتصادية وفي تحليلنا للوضع في البلاد ، تناقصت وتائر النمو الداخلي في الخطط الخمسية الثلاثة الأخيرة إلى أكثر من النصف ، وهبطت حتى بداية الثمانينات إلى المستوى الذي قربنا فعلياً من الركود الاقتصادي ، وبرز سباق الكم ، بخاصة في الصناعة الثقيلة ، كمهمة قصوى وكهدف بحد ذاته، بينما سقط المستهلك عندنا تحت سلطة المنتج ، وهو مضطر إلى استخدام ما يتفضل به المنتج، وهذا أيضاً تكريس للكم . وبالنتيجة ، كان هناك كم ، وأما لسلع فلم تكن كافية " . [4]

كشفت الدراسات حول مسار التطور الاقتصادي في الدول الاشتراكية وبخاصة في الاتحاد السوفييتي خلال الفترة الأخيرة عن وجود بعض الاختلال والركود النسبي وأحياناً التراجع ، حيث تراجع المعدل السنوي لنمو الدخل القومي من 7.8 % في الخطة الخمسية الثامنة (1966- 1970) ووصل إلى 3.6 % خلال الخطة الخمسية الحادية عشرة (1981-1985) . فالمؤشرات التالية توضح ذلك :

              –  الوضع الحرج للاتحاد السوفييتي في مجال إنتاج الفولاذ والمواد الأولية ومصادر الطاقة بسبب تزايد الاستهلاك غير المجدي وارتفاع نسبة الهدر .

              –  اضطر الاتحاد السوفييتي إلى استيراد ملايين الأطنان من الحبوب مع العلم أن الاتحاد السوفييتي من أكبر منتجي الحبوب في العالم .

              –   تراجع الخدمات الصحية والطبية .

              –  التخلف التقاني وصناعة التكنولوجيا والتقدم العلمي المخصصة للأغراض الاقتصادية ، بحيث أصبح مستواها أدنى من مستوى مثيلاتها في الدول الغربية .

كما أصبح المجتمع الاشتراكي يعاني من إرباكات حادة على مستويات القيم الإيديولوجية والأخلاقية وبدأت تتوضح أكثر فأكثر مظاهر الاختلال والركود النسبي في اقتصادات الدول الاشتراكية .

يمكننا تحديد أهم الأسباب الرئيسة التي أدت إلى ظهور وتطور الاختلال والركود النسبي وفقاً لما يلي :

              1- عدم الإسراع بالتحول في الوقت المناسب عن طريق التطور الاتساعي الأفقي إلى طريق التطور المكثف .

             2- التشـوهات في مفهوم الملكية الاجتماعية والجماعية تجعل علاقات الإنتاج القائمة غير ملائمة للتطور المطلوب والممكن للقوى المنتجة ولإنتاجية العمل المجتمعي .

             3- التباطؤ في الجمع المتجانس بين الإدارة المركزية للاقتصاد الوطني واستقلالية اقتصاد المؤسسات واتساع الديمقراطية للعاملين فيها .

             4- التباين الكبير بين السعر والقيمة الحقيقية لبعض السلع الإنتاجية والاستهلاكية محلياً من التعامل مع العالم الخارجي .

وجاءت " البيروستريكا " كبرنامج من أجل القضاء على مظاهر الاختلال والركود النسبي في اقتصاديات الـدول الاشتراكية . والحلقة المهمة في عملية التغيير الجارية حالياً في الاتحاد السوفييتي تتمثل في زيادة معدلات النمو الاقتصادي على أساس تعديل البنية الهيكلية الاقتصاد الوطني ، واستخدام أحدث منجزات العلم والتقانة لرفع كفاية البلاد الإنتاجية وتحسين نوعية المنتجات ، وهذا يتطلب بالضرورة تحسين الإدارة وتحسين مجمل الآلية الاقتصادية . [5]

ومن خلال تغيير جوهر العلاقات الإنتاجية والملكية وفقاً لبرنامج إعادة البناء سيتم توزيع جديد للسلطة والحقوق والواجبات والمسؤوليات وسيتم رفع مستوى الديموقراطية الاشتراكية إلى مستوى جديد وعلى أساس مبادئ التسيير الذاتي . وبهذه الطريقة سوف يتم تعبئة الباعث الأقوى للسلوك البشري وهو المصالح الاقتصادية، بوصفها القوة المحركة للتطور الاجتماعي .

ووفقاً لمبادئ التسيير الذاتي ، تتولى مجموعة العاملين إدارة مشاريع الملكية الاشتراكية الممنوحة لها وتسييرها ، وتُعد هذه المؤسسات والمشاريع شخصية اعتبارية تعمل وفقاً لمبادئ المحاسبة الاقتصادية وهي التي تقوم بالإنفاق والتمويل الذاتي . ويتلخص دور الدولة في صياغة سياسة و استراتيجية التطور الاقتصادي والعلمي والتقاني . وتقوم المؤسسات والمنشآت والاتحادات والهيئات العامة بوضع خططها بصورة مستقلة . بيد أن التخطيط الحكومي المركزي والشامل يضمن تحقيق المصالح الوطنية العامة ومنحها أسبقية على المصالح الجزئية لذلك لم يجر إلغاء التخطيط المركزي الشامل وإنما جرى تغيير مضمونه وشكله .

لقد كان هدف حركة إعادة البناء ( البيروستريكا ) التي قادها ميخائيل غورباتشوف منذ عام 1985 إحداث تغيير جذري على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والقضاء عوامل الركود والضعف والفساد ، ومكافحـة آليات الكبح الاقتصادي والاجتماعي والسياسي التي ظلت سائدة في الاتحاد السوفييتي على مدى أكثر من خمسة عقود . وكانت تهدف أيضاً إلى دمقرطة الحياة السياسية والاقتصادية والثقافيـة ، وإعادة هيكلة الاقتصاد وتطويره بما يستجيب لمتطلبات ثورة العلم والتكنولوجيا واللحاق بالبلدان الصناعية المتقدمة. وإعادة بناء النظام الدولي على أسس أقل عدوانية وأكثر عدلاً، وتخفيض سباق التسلح ، وإعطاء وجه مشرق للاشتراكية الإنسانية . وبذلك أصبحت البيروستريكا "ثورة في الثورة".

جاءت التطورات اللاحقة في الاتحاد السوفييتي لتؤكد أن مشروع إعادة البناء "البيروستريكا" قد تعثر بشكل خطير وذلك لأسباب عديدة أهمها : التركة الثقيلة للماضي الراكد من جهة ، والضغوط الدولية ، وأخطاء القيادة السوفييتية وأوهامها من جهة ثانية . ونتيجة للدعم الذي قدمته حركة إعادة البناء للتيار البرجوازي الرأسمالي في الاتحاد السوفييتي ، وتشجيع " اقتصاد السوق" بصورته الرأسمالية وانتعاش القطاع الخاص ، سقط غورباتشوف وسقط النظام الاشتراكي في الاتحاد السوفييتي ، بل سقط الاتحاد السوفييتي برمته ليصبح عدداً من الجمهوريات المتصارعة فبينما بينها . وتحولت روسيا بزعامة يلتسين من الاقتصاد المخطط إلى الاقتصاد الحر - اقتصاد السوق .

وعلى الصعيد السياسي تم إضعاف الحزب الشيوعي السوفييتي الحاكم ، وانتهى الأمر إلى حله ومصادرة أملاكه وملاحقة كوادره والاعتداء على رموزه التاريخية، مما وضع المجتمع في حالة فراغ سياسـي أو بالأصح فوضى سياسية ، فظهرت آلاف القوى الحركات السياسية والاجتماعية والدينية . كمـا تفجرت المشكلات القومية والأثنية بعنف هددت وحدة المجتمع وحدة الدولة بقومياتها المتعددة التي بدأت بالانفصال وأصبحت كل قومية جمهورية قائمة بذاتها ولها سلطتها ودولتها وسيادتها .

لقد أثبتت التجربة التاريخية أن بناء الاشتراكية هدف بعيد المنال دون الوصول إليه كثير من المراحل الانتقالية . ويستلزم بناء الاشتراكية تطويراً في القوى المنتجة شاملاً وكبيراً ، وفي درجة الرفاه الاجتماعي ، وفي مستوى الحريات وحقوق الإنسان ، وفي مستوى العلاقات السياسية ضمن الدول أو بين الشعوب والأمم .

2- هل فشلت التجربة الاشتراكية ؟ ما تزال المناقشات والطروحات التي قدمت، إلى الآن ، قاصرة عن تفسير فشل التجربة الاشتراكية في كل من الاتحاد السوفييتي السابق ودول أوروبا الشرقية . [6] وعاجزة عن الإحاطة بكل العوامل الكامنة وراء هذا الفشل . إن هذا الموضوع يستدعي المزيد من البحث والمناقشة ، والمزيد من التأني قبل التسرع في تقديم الأحكام والاستخلاصات . وعلى عكس التوجه السائد حتى الآن لعدد غير قليل من الباحثين والمفكرين والسياسيين الذين سارعوا لتقديم تحليلات بسيطة وأحياناً سطحية ، ترجع ما حدث من فشل للتجربة الاشتراكية إلى مؤامرات امبريالية خارجية ، أو ترجمة إلى دور فرد خارق "غورباتشوف"، استطاع أن يغير مجرى الأحداث ، إن هذا التوجه التبسيطي لتحليل ما جرى لا يكفي ، بل لا بد من الغوص في عمق الأحداث ، واعتماد منهج مناسب للاقتراب من حقيقة ما جرى وما يجري ، وتحليل التناقضات والتعقيدات التي اكتنفت تطور ثورة اكتوبر في عام 1917 في الاتحاد السوفييتي عبر مسار  على مدى أكثر من سبعة عقود ، وهذه مهمة ليست بالمهمة السهلة وبخاصة عندما يكون التاريخ الذي سيضعنا على تماس مع ما جرى خلال هذه الفترة لم يكتب بموضوعية وشمولية ويبقى تاريخاً ناقصاً فرض عليه أن يبقى في خدمة السلطة بشكل مباشر .

أين تكمن نقطة الانكسار (لحظة الانعطاف) والتراجع ، في التجربة الاشتراكية التي انهارت في الاتحاد السوفييتي وباقي دور أوروبا الشرقية ؟ لتحديد نقطة الانكسار أهمية كبيرة . يُعد بعضهم أن لحظة الانكسار تبدأ مع انتصار ثورة 1917 في الاتحاد السوفييتي، وآخرون يرون أنها تبدأ مع استلام ستالين للسلطة في أواخر الثلاثينات ، وفئة ثالثة ترى أن الانعطاف بدأ عندما تسلم غورباتشوف السلطة في نيسان 1985. وهناك من يرى أن نقطة الانعطاف تبدأ مع انقسام الحركة الشيوعية العالمية (الخلاف السوفييتي – الصيني) . وهناك من يجعل المحور الاقتصادي داخل الاتحاد السوفييتي هو المسؤول عن الفشل ومع بداية تراجع الاقتصاد بدأت لحظة الانعطاف والتراجع وبخاصة عندما وصلت القوى المنتجة إلى نقطة تتطلب حلولاً جذرية وجديدة للمشكلات الاقتصادية الجديدة التي ظهرت .

ولفهم ما جرى من فشل للتجربة الاشتراكية في الاتحاد السوفييتي ودور أوروبا الشرقية يجب أن نفهم عالمية الصراع بين القوتين الأساسيتين الموجودتين على كوكبنا (الرأسمالية والاشتراكية) . ذلك لأن الكـرة الأرضية اليوم واحدة أكثر من أي وقت مضى . وهذا يسمى الظرف الخارجي المحيط بالتجربة . إن إمكان الفشل للتجربة الاشتراكية ما كان ليتم دون وجود الظرف الخارجي (التآمر) والتآمر الخارجي لم يكن قادراً على تحقيق أهدافه لولا وجود الإمكانات والتربة التي تسمح له بذلك .

إن ما حصل في الاتحاد السوفييتي ودول أوروبا الشرقية من فشل للتجربة الاشتراكية ليس شيئاً مفاجئاً أو طارئاً . انه تراكم طويل ومعقد لمشكلات عديدة ظهرت ولم تواجه أو ظهر عجز في مواجهتها أو حلها ، الأمر الذي أدى في النهاية إلى الانهيار السريع المريع الذي حدث في المعسكر الاشتراكي . إن فشكل التجربة الاشتراكية في الاتحاد السوفييتي لم يكن يعني فقط تغيير الخيار من نظام اقتصادي اجتماعي قائم إلى نظام اقتصادي اجتماعي آخر ، وإنما يعني أيضاً تغيير البنى والإدارات الاقتصادية ، وتغيير الاختصاصات الإدارية للدولة ، وكذلك التراجع عن دور القوة العظمى وترك الساحة للنظام الرأسمالي والرأسمالية الدولية بقيادة الإدارة الأمريكية .

" لذلك انهار حلف وارسو ، والأنظمة الاشتراكية في دول أوروبا الشرقية ، وتمزق الاتحاد السوفييتي ووصل التمزق والحروب الأهلية على نطاق ضيق أو واسع إلى جمهورياته ، ودخلت عمليات التخريب الرأسماليـة الدولية إلى كل أراضي الكتلة الاشتراكية السابقة ، فانهارت العملات وهدرت الثروات ، التي بنيت بعرق وتضحيات أجيال عديدة من شعوب تلك البلدان ، ومن جملة ذلك بيعت بأبخس الأثمان 11000 مؤسسة من أكبر المؤسسات الصناعية في روسيا، وتستمر تصفية الملكية الجماعية بمعدل 800 مؤسسة في الشهر ، وتجري حركة مشابهة في بولونيا وهنغاريا وسلوفاكيا وتشيكيا، الخ…) . [7]

لقد كان لانهيار التجربة الاشتراكية في الاتحاد السوفييتي ودول أوروبا الشرقية الدور الأول في إنتاج نظام اقتصادي عالمي جديد بدت السيطرة فيه لثلاثي مؤلف من الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي واليابان وبزعامة الولايات المتحدة . وتسيطر النخبة في هذه الدول على النشاط الاقتصادي العالمي والأدوات الاقتصادية الممثلة في البنوك المركزية ، والبورصات، والبنوك الخاصة ، والاحتكارات الإنتاجية والتجارية على الصعيد العالمي من خلال صندوق النقد الدولي والبنك الدولي للإنشاء والتعمير ، ومنظمة التجارة العالمية التي ظهرت إلى الوجود حديثاً. ويمكننا توضيح السيطرة الاقتصادية لهذه الدول بالمؤشرات التالية: يسيطر على الاقتصاد العالمي حالياً نحو 37000 شركة متعددة الجنسية إضافة إلى فروعها التي يبلغ عددها في مختلف أنحاء العالم نحو 170000 فرع تعمل في المجالات كافة . وتستحوذ خمسة بلدان رأسمالية متطورة على نحو 172 شركة من أصل 200 شركة من أكبر الشركات المتعددة الجنسية موزعة كما يلي :

الدولــة

عدد الشـركات

حجم أعمالها (مليار دولار)

 

1982

1992

1982

1992

الولايات المتحدة

80

60

1302.5

1720.1

اليابان

35

54

657.3

2095.4

فرنسا

18

14

264.7

310.0

 

المصدر: وقـائع الندوة الفكرية "حـول الأزمة في الحركة الثورية العالمية واتجاهات التغيير في عالمنا المعاصر" ص81 - دمشق 1994 .

إن التوزيع الراهن للدخل العالمي ينطوي على اختلال هائل يتفاقم مع مرور الزمن ، فبينما كان نسبة دخل الخمس الأغنى من سكان العالم إلى دخل الخمس الأفقر لا تزيد على 30 ضعفاً في عام 1960 أصبحت في بداية التسعينات في هذا القرن تتجاوز 150 ضعفاً . ويصبح التفاوت أكبر بكثير إذا تمت المقارنة بين أغنى دول الشمال بأفقر دول الجنوب . ففي سويسرا بلغ نصيب الفرد من الدخل القومي عام 1989 أكثر من 29800 دولار فقي حين لم يتجاوز الثمانين دولاراً في موزمبيق.

" إن النظام الرأسمالي في مراكزه يعيش جملة معقدة من الأزمات العميقة التي لا قبل له، بسبب من طبيعته ، بعلاجها ، وبالأحرى تجاوزها:

أزمات داخل كل بلد تضغط باتجاه تفجير أزمات فيما بين الدول والمراكز الإمبريالية الكبرى، أزمات إذا لم تكن تهدد الآن أو في المستقبل المنظور مصير هذا النظام ، إلى أن خطورتها التي تتركز على شعوب الأطراف ، بما فيها اليوم شعوب الاشتراكيات المنهارة، لا حدود لها ، من حيث قتل هذه الشعوب بالحروب والمجاعات والأمراض والتمزق وغيرها".[8]

كما يبدو التناقض والصراع داخل الرأسمالية ، داخل النظام الرأسمالي تشتد المنافسة والمزاحمة بين الأقطاب الثلاث (أمريكا ، الاتحاد الأوروبي، اليابان) وبين الأقطاب وأنصاف الأقطاب (منها النمور السبعة) ، وبين الأقطاب وأنصاف الأقطاب من جهة ودول العالم الثالث والعالم الرابع من جهة ثانية . هذه المنافسة التي تتحول غالباً إلى حروب اقتصادية ، منها ما حصل بين الولايات المتحدة واليابان فيما يتعلق بتصدير الرز الأمريكي إلى اليابان وتصدير السيارات اليابانية إلى أمريكا . والاختلاف التجاري بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية.

                                                       الدكتور مصطفى العبد الله الكفري

                                                         جامعة دمشق – كلية الاقتصاد

[email protected]

----------------------------------------------------------------

[1] - البيروستريكا : اضمحلال النظام العالمي ، المصدر السابق ص126 .

[2] - مجلة الاقتصاد العدد 327 - دمشق نيسان 1991 .

[3] - م. غورباتشوف البيروستريكا، ترجمة زياد الملا ، دار الشيخ للدراسات والترجمة والنشر دمشق 1988، ص30.

[4] - المصدر السابق ص119 .

[5] - د. مجيد مسعود ، حول الاتجاهات التمدينية المعاصرة في الاقتصاد السوفييتي، مجلة النهج العدد (21) لعام 1988 ص497

[6] - انظر : "حول الأزمة في الحركة الثورية العالمية واتجاهات التغيير في عالمنا المعاصر، دمشق 1994 ص26.

[7] - وقائع الندوة الفكرية "حول الأزمة في الحركة الثورية العالمية واتجاهات التغيير في عالمنا المعاصر" دمشق1994.

[8] - د.عارف دليلية، من وقائع الندوة الفكرية "حول الأزمة..." مصدر سابق ص126.