نقاط صغيرة في تجديد العملية الثورية


المنصور جعفر
2007 / 11 / 24 - 11:37     

كان لإستقلال كل دولة معان من الحرية تتجسد في المجال الإقتصادي الإجتماعي وفي المجال السياسي وفي التركيب الثقافي العام لحياة الناس ، ولكن أحوال ما بعد إستقلال كثير من الدول لم تخرج لأسباب طبقية داخلية وخارجية عن كونها تحولت من حالة العبودية المباشرة للإستعمار القديم إلى حالة للإستعمار الحديث والإقطاع الرأسمالي الدولي لمواردها وقدراتها. ويمكن بحث ذلك في ثلاثة عناصر هي :
1- تركز تملك الموارد العامة للمجتمع في فئات شبه الإقطاع وفي الطبقة الرأسمالية
2- تركيز السلطة السياسية وما بقى في يدها من موارد عامة على خدمة مصالح شبه الإقطاع والرأسمالية المحلية منها والأجنبية،
3- سيادة مفهوم "الفرد" و"المصلحة الفردية" كمحور للحياة بدلاً عن مفهوم الجماعة والخير العام لها.

يهذه الوقائع الثلاث تحول الإستقلال من المعنى الراسخ الموجب الذي تلقنه المدارس إلى هلام وحالة من اللامعنى في حياة سواد الناس، وإن كانت دعاية دوائر الإستعمار القديم إنها قدمت خدمات جيدة إلى سكان المدن فبتجاهل إن 90% من السكان يعيشون في الريف ومناطقه المقفولة ، كما إن حالة الإندياح السكاني من الريف إلى المدينة بعد الإستقلال للإفادة بمزياتها الإقتصادية كشفت هزل النظام الإستعماري القديم وأسطورة إدارته الفاضلة، وخرافة جودة نظامه التعليمي ونظامه الصحي والناس يموتون من البؤس والجهل والعطش، مثلما كشف إندياح السكان من الريف إلى المدينة بعد الإستقلال طبيعة نظام الإستعمار الجديد وإرتباط تمويلاته ونشاطاته وتجارته وأسعاره وأرباحه بمصالح الطبقة الرأسمالية في تمركزاتها المختلفة في المدينة و في مدن الريف.


وقد أدت النظم الرأسمالية الدولية لإقرارعملات الدول وصلاحية نقودها وضمانات إصدارها وتداولها وكيفية تحديد أسعارها، مقرونة مع إجحاف وتطفيف التجارة الدولية إلى دمار أكثر من مآئة وثمانين دولة من الدول التي سارت في طريق التطور بالإسلوب الرأسمالي دماراً واسعاً سرى في مجتمعاتها وئيداً بطئياً: فبتركيز التنظيم الرأسمالي للسلطات والموارد في مصالح الطبقة الرأسمالية وحكوماتها نتجت أوضاع مأسآوية من البؤس والفقر البنيوي ومن الثراء الفاحش والإنفاق السفيه وما يتصل بهذا التناقض والفساد في الأرض من تركزات وتهميشات وتوترات وإنقلابات وحروب.


ومن تآكل معاني الإستقلال يمكن القول إن نفس التآكل سرى في الأسلوب القديم لإنجاز الثورة الوطنية الديمقراطية إذ قام وإستوى بكينونة تتابعية تتكرس أولاً بالإستقلال السياسي وتعزيزه ثم تتبلور بتصاعد النضال الطبقي وإرتقاءه للديمقراطية الإجتماعية والسياسية وحكم الأغلبية لوسائل عملها ومصالحها. مما لم يعد متاحاً: ذلك إن الإستقلال السياسي ثبت إنه إستقلال زيف لا أعمدة له في أسلوب وجود الدولة أو في معيشة المواطنين: فالسوق الرأسمالية الدولية تاكل المقومات المادية للسيادة الشعبية والمقومات المادية والثقافية لوجود الدولة والسيادة الوطنية لحكوماتها. وبإلتهام السوق هذين المقومين يضحى إرتقاء النضال الطبقي على قاعدة ما يسمى بالسيادة الوطنية ضرباً من الآمال. ولكن في جهة الحاضر يمكن حل هذه الأزمة بالنظر لتطور مهام نضال الطبقة العاملة وجموع الكادحين، فبدلاً من الأسلوب التتابعي القديم أضحت أمام قوى الكادحين ثلاثة مهمات مجتمعة معاً هي: مهمة تعزيز السيادة والوحدة الشعبية والوطنية، ومهمة تحقيق التنمية ،ومهمة التغيير السياسي ومهمة التغيير السياسي تواشج جميع هذه المهمات وعناصرها تضفرها في كينونة ثورية جديدة تلبي بنوعيتها الجديدة التطور العددي في القضايا الوطنية الديمقراطية وتكاثر عدد هذه القضايا وزيادة صلاتها ببعضها. ويطرح إجتماع هذه المهمات وتكثف مهامها إمكانية للقول بطرح أقوى للخيار الإشتراكي والتغيير الثوري كمهمة وطنية ديمقراطية أساسية على خلاف المنوال القديم لتأويل كل مرحلة سياسية بمفردها وفرز مهامها وتقسيم عملها وفق ذلك التأويل والتقعيد والفرز التتابعي القديم.


أساس الإنتقال من المرحلة الأولية من النضال الشيوعي إلى مرحلة أكثر إشتراكية وتقدماً يتجسد كجواب موضوعي لحالة زيادة ما تتطلبه ضرورات الحياة والعيش ومهمات تحسين أسباب المعيشة: فهي تتطلب إقتصاداً جديداً وهو بدوره وحاجاته وأسسه يتطلب سياسة جديدة يتطلب تكوينها وإقرارها تغييرات متنوعة وعميقة وشاملة في طبيعة وفي تكوين الدولة والحكم والحكومات. وهنا في مسالة الحكم والحاكمية والخروج بالبلاد من دمار شمولية السوق وحريتها قد ينشأ سؤال عن طبيعة التحول الديمقراطي إلى مصالح غالبية الناس وطبيعة إنجاز هذا التحول في دوائر السودان الجديد الثورية أو في دوائر السودان الرأسمالية؟ ولكنه سؤال قيد الإتجاه من الحالة البسيطة القديمة إلى الحالة المعقدة الكثيفة للتطور الوطني الديمقراطي وأهمية تبلوره في خط ثوري إشتراكي جديد يجمع بحذق بين مهام وضرورات التغيير الشامل وأبعاده الإقتصادية السياسية والإمكانات الماثلة للثورة الشعبية في أنحاء السودان.


إن كان الخط الوطني الديمقراطي القديم قد إرتبط بالتخلص من الإستعمار القديم وآثاره فقد تفادته قوى الرأسمالية بالتحول إلى أشكال جديدة للإستعمار، ولكن الخط الوطني الديمقراطي الجديد يرتبط في تخلصه من قيود الإستعمار الجديد بحل التناقض الرأسمالي في أشكاله الطبقية والإقليمية وإزالة إزدواجية الإقتصاد وتمركزاته وتهميشاته ووزن تجارته الدولية المطففة وإنجاز هذه المهام بعلاقات عمل سياسي جديدة وبعلاقات نشاط ثوري جديدة: وجه الجدة والحداثة فيها هي تواشج مهمات الحرية الوطنية ومهمات الحرية الطبقية وإتصالها معاً بعد عشرات السنين من تجزئتها وفصلها مما إنتهى في بعض جوانبه إلى تشرذمات دينية وقبيلية. وقد وضح من سير الأمور ومن تقارير التنمية البشرية والتقارير المتعلقة بحق التنمية والمتعلقة بأحوال حقوق الإنسان إنه من المتعذر حل قضايا المعيشة والخدمات العامة دون حل قضايا العمل والإنتاج، وإن حل قضايا هيكل وأسلوب الإنتاج يتطلب بالضرورة حل قضية علاقات الإنتاج وملكية موارده ووسائله وجهوده وطبيعة تنظيمها وتوزيع أصولها وفوائدها المادية والمالية والثقافية، كما ثبت بوقائع حالة بلادنا المأسآوية إن تغيير الوضع الإقتصادي الإجتماعي محال دون تغيير الوضع السياسي وهو بدوره محال ما لم نغير تاكيتيكاتنا وأعمالنا السياسية ونغير تاكيتيكاتنا وأعمالنا الثورية نخرجها من ظلمات الحالة الجزئية المفردة الدنيا القديمة إلى حال شمولية للقضايا والقوى المصيرية والأدوات الثورية الضرورة لحلها مما ينير طريق الثورة بعيداً عن مظالم الإجتماعات المغلقة والتسويفات والمماحاكات والمساومات المبكرة في غير وقتها، وبعيداً عن التدخلات الأجنبية القاهرة التي تفجر وتنسف الأصول والروابط الوطنية والطبقية والديمقراطية.


إن تعزيز الإستقلال والوحدة الشعبية والوطنية يرتبط بتعزيز مقومات العدالة الإجتماعية والسلام بتغيير النظم المركزة للموارد والسلطات والمهمشة لمصالح وإرادة غالبية الناس، وهو تعزيز يرتبط بالتغيير السياسي الذي يتطلب بدوره تغييراً ثورياً شاملاً في كيان الحزب وفي كيان الوطن، فمن الخطل تصور تحقيق تغييرات كبرى متنوعة وجذرية بتنظيرات وأوضاع أحدية مستهلكة، ولعل إستلهام ماثور ((كيفما تكونوا يولى عليكم)) يمكن أن يطرح سؤالاً مثلثاً داعماً لإتجاه التواشج والترابط والتنسيق بين الأعمال الثورية مثل إتجاه التواشج والتنسيق بين الاعمال السياسية المتنوعة:
• كيف نرفض الجزئية والتناولات الأحدية في حل القضايا ونحن نفرد ونجزئي قضايانا وقوانا الثورية الوطنية والديمقراطية؟
• كيف نرفض موالاة الإحتكارات الدولية عالمياً ونحن في الوطن نتوالي مع الإحتكارات المحلية والدولية بأثواب نيفاشا ؟
• كيف نعزز ثورات الشعوب ضد المظالم ونحن مترددين أمام ضفر المصالح والقوى والسياسات الثورية داخل مجتمعاتنا؟

نهج الإجابات المنطقية على الأسئلة الثلاثة السابقة قد يوضح للنقاش إن إمكانات التغيير الجذري الشامل في الحالة العامة للبلاد وسياسات حكمها تتصل عبر مقتضيات التغيير الإقتصادي الإجتماعي الثقافي بتأجيج النضال لإشتراكية الناس في الموارد والسلطات ولا تنفصل عنه.