قراءة نقدية في كتاب عزيز سباهي -عقود من تاريخ الحزب الشيوعي العراقي- (20)


جاسم الحلوائي
2007 / 11 / 20 - 10:23     

أحداث كركوك في تموز 1959
(2 ـ 2)
ويتوقف سباهي عند شهادة هامة جداً، وهي شهادة الرفيق عزيز محمد السكرتير السابق للجنة المركزية. وكان في حينها عضو المكتب السياسي للحزب ومسؤولاً عن لجنة إقليم كردستان. التى تتخذ من كركوك بالذات مقراً لها، وكان قد شاهد بعينه ما جرى، وأفاد بالتالي:

"كانت علاقتنا بعبد الكريم قاسم جيدة طوال السنة الأولى من عمر الثورة، غير أنها بدأت تنتكس بعد ذلك بسبب خوفه من تنامي نفوذ حزبنا وتأثيره في مجرى السياسة العراقية، ربما خلافاً لما يريده هو من الإنفراد بالقرارات المهمة، ولكبح التطورات الإقتصادية والإجتماعية التي كنا ندعو اليها، وهي، بطبيعة الحال، أكثر مما كان هو مستعداً لقبولها".

"وإستُُغلت أحداث كركوك أبشع إستغلال لتعكير العلاقة بيننا وبين عبد الكريم قاسم. كنت مسؤولاً عن منظمة حزبنا في كردستان، ولهذا استطيع أن أعطي شهادة دقيقة عما حصل. كان الجو في كركوك عشية الذكرى الأولى للثورة متوتراً. وتقرر إقامة موكب موحد للإحتفال بالذكرى. الأخوة التركمان أرادوا موكب مستقل. وهو من حقهم، غير أنه في الأجواء المتوترة تلك بدا غير مقبول لأطراف أخرى لسنا من بينها".

"تعرض الموكب لإطلاق رصاص، ولم تعرف الجهة التي أطلقت منها وسببت الفوضى، بل الهستيريا، حتى الآن. فقدت السيطرة على الوضع. وحدثت إنتهاكات، وأعمال تصفية ضد التركمان، ولم يكن لنا فيها، كمنظمة، أي دور. بالعكس بذلنا أقصى ما نستطيع من جهود لحقن الدماء ولم نوفق".

"ومع ذلك وجه الإتهام الى حزبنا وكانت هناك أوساط مستعدة لتقبل هذا الإتهام، إن لم تكن مستعدة لتلفيقه والنفخ فيه. ولفقت فعلاً صور عن فظاعات، وأرسلت الى الزعيم امرأة على مستوى عال من البراعة في التمثيل. وزعمت أنها عُذبت، وشرعت بالتعري أمامه لتريه آثار التعذيب المزعومة. فأستثير الزعيم أيما إستثارة ومنعها من ذلك. ولابد أنه صدّق ما زعمته. والقى بعدها خطاباً في كنيسة مار يوسف إستخدم فيه نعوتاً قاسية ضدنا. وبعد هذا الوقت الطويل الذي مر على الأحدات أستطيع أن أؤكد أن منظمة حزبنا لم تكن لها يد في ما حدث، ولا أستطيع أن أنفي ممارسات قد يكون أعضاء أو مناصرون لنا قد إرتكبوها بخلاف موقفنا" (1).

66

وقبل التعليق على ما قاله الرفيق عزيز محمد، نعود الى مقدمة سباهي التى وعدنا القارئ بتناولها. يبدأ الرفيق سباهي الموضوع على النحو التالي: "هذه مسألة الحقت بسمعة الحزب الشيوعي ولا تزال ضرراً بليغاً، ولم يقف هو منها الموقف الأخلاقي ولا السياسي الذي تتطلبه. بل إن بعض قادته السابقين، تعامل معها بلا موضوعية وبلا شعور بالمسؤولية (2). وفي أفضل الأحوال فإن الحزب لم يجر طوال العهود، تحرياته الخاصة، بالكشف عن الأدوار التي لعبتها الجماعات المختلفة فيها، وتحديد مسؤوليته الخاصة فيها، إظهاراً للحقيقة أولا، ولتحمل مسؤوليته فيها، ومكاشفة الشعب بها. وما صدر عن بعض قادته، أو بعض كوادره، لا يعدو أن يكون تصريحات عابرة، أو عامة، لا تفي بما يحدد أو يرفع المسؤولية فيها عن الحزب، سواء كان مساهماً فيها أو غير مساهم. وما صدر عن الحزب منها لتبييض صفحته لا يضاهي ما وضعه كتاب منصفون وموضوعيون عنها أمثال حنا بطاطو وجورجيس فتح الله" (3).

الرفيق عزيز سباهي الذي قسى على الحزب هذه القساوة الى الحد الذي إعتبر موقف الحزب من أحداث كركوك على الصعيد الأخلاقي والسياسي ليس بمستوى ما تتطلبه. وما صدر عن بعض قادته وكوادره لا يعدو أن تكون تصريحات عابرة أوعامة...الخ هو نفسه يعلق، على ما قاله الرفيق عزيز محمد قبل حوالي ربع قرن من صدور كتاب سباهي، تعليقاً ينسف جُل، ولا أقل كل، إنتقادات سباهي للحزب، عندما يقول: "واضح مما يؤكده عزيز محمد، تهافت التهم التي كيلت للحزب الشيوعي العراقي، أو للجنته المحلية في كركوك بشأن ما قيل عن تدبيره للأحداث" (4).

أما إن ما قاله الرفيق عزيز محمد وغيره ممن كتبوا حول هذا الموضوع لا يضاهي ما كتبه حنا بطاطو أوجرجيس فتح الله، فهذا صحيح وطبيعي. فلا عزيز محمد ولا أي من قادة الحزب وكوادره هم مؤرخون ممتهنون، فهم سياسيون ويهتمون بهذا الجانب أكثر من غيره. والسياسي يجب أن يكون دبلوماسياً أحيانا (والدبلوماسية لا تعني الكذب)، وإلا فسيكون سياسياً فاشلاً، لا يراعي مصلحة حزبه وقضيته عند تصريحه، حتى لو كان ذلك حول أحداث تاريخية. اما المؤرخ فسيكون، بإعتقادي، فاشلاً إذا تناول الأحداث التاريخية بطريقة دبلوماسية (*). وإذا ضربنا صفحاً عن كل ذلك، فإن الحزب الشيوعي بكل إمكانياته ومنظماته، لم يملك يوماً ما إمكانية حنا بطاطو ومن يماثله في الحصول على الوثائق والمعلومات من أكثر الدوائر حساسية.

والقول بأن هذه القضية لا تزال تضر الحزب، أمر غير دقيق فقد إنصرف ذهن الجمهور عنها بعد 11 إسبوع على الحادث وتحديداً بعد محاولة إغتيال قاسم في 7 تشرين الأول 1956. ويؤكد ذلك بطاطو في قوله: "وكانت إحدى النتائج الأخرى لمحاولة الإعتداء على حياة قاسم هي إنكفاء إنتهاكات كركوك عن الذاكرة العامة " (5). إن الشهادات المحايدة الكثيرة التي صدرت لصالح الحزب، هي أقوى من أي شهادة ممكن أن تصدر عنه. وإن صدور مطبوع جديد يكرر نفس التهم الباطلة تجاه الحزب، فهو لا يدعو الى الشعور،غير المبرر، بالتقصير. فهذا الأمر يعود الى طبيعة التاريخ ذاته، والذي هو "سجال لا ينتهي".

ويعلق سباهي على تصريح الرفيق عزيز محمد بالقول: "ومع ذلك، فالتصريح بحد ذاته، يضعنا أمام عدد من التساؤلات. من هو الطرف أو الأطراف التي كانت ترفض أن ينفرد التركمان بموكب مستقل؟ ثم يستطرد ليطرح بعض الأسئلة التي تنطوي نفسها على أجوبة وإنتقادات، وهي بإختصار شديد تتعلق بمدى جدية التثقيف بالأممية داخل الحزب، والعمل الذكي والمسؤول للكشف عن العناصر المندسة في صفوف الحزب، وعن مغزى وقيمة التوسع الهائل في عضوية الحزب، وعن دور قيادة الحزب في مواجهة مخاطر كانت محتملة في أوضاع كهذه (7).

إن الشهادات المحايدة التي صدرت تؤكد ما ذهب اليه الرفيق عزيز محمد "بأن منظمة حزبنا لم تكن لها يد في ما حدث"، هذا فضلا عن أن قادة الحزب قد "فوجئوا بها مثل غيرهم"، كما مر بنا، على لسان جرجيس فتح الله. ومع الإقرار بدور دسائس الدوائر الإستعمارية وشركة النفط في أحداث كركوك، فللأحداث أسبابها الذاتية في المجتمع الكركوكلي"وعلى العموم، وبشكل عام، كما يقول بطاطو، عن حق، كانت جذور الضراوة الوحشية التي أمسكت بتلابيب المدينة تعود الى العداوة المتأصلة بين الأكراد والتركمان" . إن معالجة هذا الجذر وما نشأ عنه يتحمل مسؤليته قادة الأكراد والتركمان في المدينة. وكان للشيوعيين دورٌ في الأحداث "لا كشيوعيين بل كأكراد" على حد تعبير بطاطو، عندما تصرفوا "خلافاً لموقف المنظمة". وهنا بالذات تكمن مسؤولية المنظمة. فقد كانت منظمة كركوك بالذات تحتاج الى جهود مضاعفة، أكثر بعشرات المرات من أية منظمة أخرى من منظمات الحزب في العراق، في تثقيف المنظمة بالثقافة الأممية. وتحتاج الى اليقظة والحذر تجاه العناصر المندسة أوالمتعصبة إزاء التركمان أكثر من أي منظمة أخرى. فهل قامت قيادة المنظمة بهذه المهمة وعلى الوجه المطلوب؟ إن تصرف بعض اعضاء المنظمة وأنصارها خلافاً لموقف المنظمة، دليل بيّن على تقصير قيادة المنظمة والإقليم، وهذا مالم يشر اليه الرفيق عزيز محمد في مقاله. أما مسؤولية التصرفات الخاطئة للجماهير، وحتى الوحشية أحياناً، فهي ليست مسؤولية محلية فحسب، بل وتتحمل مسؤوليتها الحكومة والأحزاب الوطنية كافة ويتحمل حزبنا قسطه منها، بإعتباره حزباً جماهيرياً كبيراً، وهذا ما عالجه تقريرالإجتماع الكامل للجنة المركزية في تموز والذي نشر بشكله الكامل في 28 آب 1959.

في الأجواء التي أحاطت بأحداث كركوك، إنعقد الإجتماع الكامل للجنة المركزية. وكرّس حيزاً واسعاً في التقرير الصادر عنه لمعالجة الحركة الجماهيرية بعد ثورة 14 تموز تحت عنوان " الإندفاعات الخاطئة في الحركة الجماهيرية، أسبابها وعلاجها". يلاحظ التقرير أن الجماهير إندفعت في بعض الحالات للدفاع عن نفسها، يحّفزها في ذلك، الحرص الشديد على مكتسباتها، وعلى الجمهورية. إلا أن الجماهير الغاضبة كانت تذهب أحيانأ، الى حد التجاوز والتنكيل المفرط، وهو أمر لا يمكن الإقرار به. ويؤكد التقرير أن من الضروري دراسة أسباب هذه الإندفاعات دراسة جديّة، بغية تحديد آثارها لبذل جهد تثقيفي مثابر لتوجيه ثورية الجماهير الوجهة الصحيحة، وإلا، فإن التدابير العقابية وأساليب الزجر، لا يمكن أن تعالج هذه الظاهرة معالجة صحيحة. وأن معالجة مشكلة التطرف تقتضي جهداً تثقيفياً مستمراً. تساهم فيه كل القوى الوطنية.

ثم يشير التقرير الى أن الحزب الشيوعي العراقي قد بذل جهداً خاصاً في هذا الشأن، إلا أن هذا الجهد لم يكن حازماً، ومن المحتمل أن تكون العناصر المندسة بين الجماهير قد إستثمرت بعض هذه الإندفاعات، وساقتها في إتجاهات تدميرية أحياناً. إن " لجوء بعض الجماهير المتأخرة سياسياً الى أساليب (السحل)، وتعذيب الموقوفين، ونهب الممتلكات، والتجاوزات على حقوق وحريات بعض المواطنين الأبرياء، هو اسلوب لا يجمعه جامع مع الكفاح الثوري الموجه ضد أعداء الجمهورية. وهو على النقيض تماماً من الأهداف النبيلة لحركتنا الوطنية، والسجايا الثورية الأصيلة لشعبنا وحزبنا"، "إن حزبنا ــ وهو يعمل في سبيل سعادة الشعب وطمأنينته وسلامته، ويتطلع الى سعادة إنسانية شاملة ــ يشجب بحزم كل مظهر من مظاهر الإنتهاك لإنسانية المواطن وحقوق الأفراد... ويؤكد على ضرورة إحترام قوانين الجمهورية" (8).

(1) مقابلة مع عزيز محمد أجرتها مجلة "الوسط" الصادرة في لندن العدد 280 التاريخ 4 ايلول 1979. عزيز سباهي، مصدر سابق، ص446 وما يليها. والهامش رقم 21.
(2) راجع سباهي. مصدر سابق، ص431، هامش رقم 1. يشير سباهي الى تناول الفقيد زكي خيري للحدث في مذكراته. اً
(3) سباهي. مصدر سابق، ص431 وما يليها. خطوط التشديد ليست في الأصل.
(4) سباهي. مصدر سابق، ص447 وما يليها. خط التشديد ليس في الأصل.
(*) عندما يقول الرفيق عزيز محمد في شهادته عن أحداث كركوك "لسنا من بينها" في عبارة "بدا غير مقبول لأطراف أخرى لسنا من بينها" فهو صادق في قوله، ولكنه دبلوماسي. فآنذاك (1979) كان الرفيق عزيز محمد السكرتير العام للحزب الشيوعي العراقي، وهو مسؤول عن عدم خلق مصاعب في علاقات الحزب العامة.
(5) حنا بطاطو. مصدر سابق، ص246.
(6) راجع سباهي. مصدر سابق، ص448 وما يليها.
(7) بطاطو. مصدر سابق، ص224.
(8) راجع سباهي. مصدر سابق، ص450 ـ 452. راجع كذلك ثمينة ونزار.مصدر سابق، نص التقرير، الملحق الأخير في الكتاب.

يتبع