ستبقى منارة ثورة أوكتوبر .. شامخة .. متوهجة


بدر الدين شنن
2007 / 11 / 7 - 11:46     

ما يشهده العالم اليوم من بربرية إمبريالية منفلتة ، يعبر أصدق تعبير عن أن ثورة أوكتوبر في روسيا عام 1917 ، كانت جواباً مطابقاً على سؤال لحظتها التاريخية . لم تكن مبكرة .. كما لم تكن متأخرة . لم تأت قبل أن تتوفر شروط موضوعية معينة .. أو بعد أن ولت تلك الشروط .
كان المجتمع الروسي يتآكله البؤس ودمار الحرب وغباء وجشع وتخلف السلطات . كان العالم كله مسرحاً للإمبرياليين الضواري ، يتذابحون في حرب كونية طاحنة ، لاستعباد الشعوب ، ولإعادة اقتسام عوائد جهود الكادحين في كل مكان .
كان الضمير العالمي يبحث عن بديل .. عن فجر إنساني جديد .. عن رجال شرفاء يوقفون ذلك المسار الحقير المتوحش ، الذي يفتك بالإنسانية كالوباء .
فكانت ثورة أوكتوبر .. التي قدمت وعدها السلمي الاشتراكي .. الذي شق طريقه في حقول النار حتى النهاية .

إن ثورة أوكتوبر أعظم من ملحمة أ سطورية .. أعظم من كل الملاحم والأساطير .. تلك التي صنعها فعل الإنسان ومخياله . ذلك .. لأنها لم تكن ا ستجابة لرد فعل محدود أو حدث عابر .. لأنها تجاوزت منذ انطلاقتها حدود الزمان والمكان ودخلت التاريخ بجدارة .. ولأنها وجهت ضربات مطارقها .. ومناجلها .. وصرخاتها .. وبنادقها .. النبيلة المتمردة لأول مرة في التاريخ ..إلى الملكية الخاصة " المقد سة " التي كرست ا ستغلال الإنسان للإنسان .. وكرست ا ستعباد الشعوب الضعيفة . ولأنها كسرت تفرد الضواري الإمبرياليين بتقرير مصير العالم . وأقدمت على محاولة بناء عالم آخر بديل ا شتراكي لأول مرة في حياة الشعوب ، وحاولت أن تأخذ من النظرية الماركسية وتعطي من خلال التجربة الحية رؤية لإنسانية بديلة شاملة منزهة عن كل أنواع القهر والظلم والاستغلال .

كل الأرقام ، عن الإنجازات والنجاحات ، مهما كبرت تبقى أقل شأناً من تلك الإرادة الثورية التي تصدت لتحطيم قلاع الإقطاع الروسي الرهيب ، ووقف الحرب الكونية الوحشية ، ومقاتلة أربعة عشر دولة ا ستعمارية وطامعة ، من أجل بقاء فجر الثورة والحلم متوهجاً ..

كل الأخطاء والانحرافات ، التي وقعت نتيجة حداثة التجربة ، أو وقعت سهواً أوا ستهتاراً ، تسقط من الحساب ، أمام أهمية انتشار أفق التحرر والانعتاق في كل قارات الأرض ، أمام عظمة أن تقدم دولة ثورة أوكتوبر للشعوب المضطهدة .. حلماً .. وخبزاً .. وسلاحاً .. ومصانع وسدوداً .. بينما الدول الإمبريالية تأخذ من هذه الشعوب وتنهب ، وأن تقدم دولة ثورة أوكتوبر للعالم كله حصناً يعزز السلم العالمي ، ويحد من وحشية الدول الإمبريالية العظمى .
أي ثورة تحرر وطني .. أي ثورة كادحين .. انتصرت في العالم بدون دعم مباشر أو غير مباشر من وطن ثورة أوكتوبر ؟ . أي عملية تنموية على امتداد آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية ، قد أ سست أو تقدمت بدون دعم مباشر وغير مشروط من وطن ثورة أوكتوبر ؟ .

كل الانتقادات المبدئية أو المغرضة ، الصديقة أو المعادية ، لأخطاء عملية وضع النظرية الاشتراكية قيد التطبيق ، لاتستطيع أن تشطب على ، أن وطن ثورة أوكتوبر ، الذي تصدى لكسر أ سلوب الانتاج الرأ سمالي العبودي ، وبناء أ سلوب إنتاج إنساني أخوي ا شتراكي ، قد نقل النظرية من التداول النخبوي وغرف المؤتمرات والمناقشات ، من بين دفات الكتب ومن على رفوف المكتبات ، إلى رحاب العالم كله .. من أوربا إلى الأمريكتين .. إلى سهوب وجبال آسيا وغابات أفريقيا .. إلى القرى والمصانع والشوارع الشعبية والثقافية ، ووضعها قيد التطبيق والقناعة والدرا سة ، وحولها إلى سلاح فكري وسياسي لمقاومة الظلم بكل أ شكاله الطبقية والاستعمارية ، وقدم إ سهاماً ثميناً ، من خلال التجربة بنجاحاتها وأخطائها ، في إغناء النظرية الاشتراكية .. وخاصة النظرية قيد التطبيق .
ولاتستطيع كل تلك الانتقادات بوجهيها الإيجابي والسلبي ، أن تجري حتى مجرد مقارنة شكلية بين مضامين الحرية والعدالة والإنسانية ، التي سادت وطن ثورة أوكتوبر ، بما رأيناه ونراه من مضامين حرية وعدالة وإنسانية " العالم الحر " ولاسيما تجلياتها الأكثر بشاعة في أفغانستان والعراق ولبنان وفلسطين ، والتي تتجلى في كل مكان حروباً ونهباً وخداعاً وتدميراً لكيانات الشعوب . ولاتستطيع مهما ا ستخدمت من فنون كار الكلام ، أن تجري مفاضلة بين لينين الذي قاد ثورة أوكتوبر ووضع أسس بناء الاتحاد السوفييتي الذي أصبح القطب الدولي الثاني الأعظم في العالم وبين غورباتشوف ، الذي تذاكى وخادع وتآمر فدمر الاتحادالسوفييتي ، وكذلك بين ستالين الذي قاتل على كل المستويات ، سواء أصاب أم أخطأ ، من أجل انتصار الاشتراكية والانتصار على النازية ، وبين يلتسين اللص القميء ، الذي لعب أقذر الأدوار في تدمير الاتحاد السوفييتي . ولاتستطيع أن تقارن بين نزاهة القيادات الثورية لثورة أوكتوبر ومن ثم قيادة عملية الانتقال إلى المجتمع الجديد ، وبين لصوصية ودناءة الذئاب في الداخل والخارج ، الذين انقضوا على الاتحاد السوفييتي تدميراً ثأرياً وتمزيقاً ونهباً .

والسؤال المشروع هنا ، هل كان باستطاعة السيد بوش ونظامه الإمبريالي المتوحش ، أن يحقق ما حققه من اعتداءات وحروب ونهب على امتداد العالم ، لو أن الاتحاد السوفييتي كان قائماً ؟ . التاريخ المعاصر مازال طرياً في الذاكرة ، والأدلة أكبر من أن يشوهها الإعلام الإمبريالي ، أو يطمسها الخداع " الأيديولوجي " . فبمساهمة وطن ثورة أوكتوبر الباسلة سقطت النازية وتحررت أوربا من عبوديتها . وبدعم أممي من وطن ثورة أوكتوبر انتصرت الثورة الصينية وكوريا الشمالية وفيتنام وانتصر الكثير من حركات التحرر الوطني وانهار النظام الاستعماري العالمي .

ولوطن أوكتوبر بصمات مضيئة على تاريخ الشعوب العربية المعاصر ونضالها من أجل تقرير مصيرها . فقد أوقف إنذار الدولة السوفياتية العدوان الثلاثي البريطاني الإسرائيلي على مصر عام 1956 ، وأجبر المعتدين على الانسحاب من الأراضي المصرية . وقام بكسر حصار حلف بغداد عام 1957 لسوريا ، وساند ثورة 14 تموز 1958 في العراق . وسلح الجيش السوري مرتين بعد حرب حزيران وبعد حرب تشرين . وسلح الجيش المصري ثلاث مرات في أعوام 1956 و1967 و1973 . وقدم للثورة الفلسطينية كل أ شكال الدعم . وقام بتدريب وتعليم آلافاً مؤلفة من أبناء الشعوب العربية في الاتحاد السوفييتي في كل الاختصاصات والمجالات . وقدم مساهمة اقتصادية هامة جداً في مجال بناء السدود والمصانع والسكك الحديدية .. ألخ .. التي ساعدت على إقلاع عمليات تنموية واعدة وأمنت العمل لملايين العاطلين عن العمل ، وخاصة في مصر وسوريا واليمن الجنوبي والجزائر .

من أجل ذلك ، وهذا قليل جداً مما يمكن أن يقال عن إرث ثورة أوكتوبر .. ووطن ثورة أوكتوبر .

ستبقى منارة ثورة أوكتوبر عملاقة .. شامخة .. متوهجة .. على أفق العالم في قاراته الخمس .. وستبقى مصدر إلهامات ثورية نبيلة .. نقية .. على مدار الزمان كله .