الرقابة العمالية والإستراتيجية الثورية


إرنست ماندل
2015 / 7 / 23 - 20:50     

تمهيد

بات المناضلون العماليون بكل مكان بأوربا مدركين ضرورة مطالب انتقالية لاقتياد الطبقة العاملة إلى مواجهة شاملة مع النظام الرأسمالي بفضل ارتقاء وعيها الطبقي. وبواسطة ذلك وبدعم من حزب العمال الثوري المقبل، الجاري بناؤه، سيأخذ مجمل العمال شعار الرقابة العمالية .
لكن أرباب العمل سارعوا إلى الرد على الصعود العمالي الجديد، إذ يجري الحديث عن "التشاور" و "التسيير المشترك" و " المشاركة"، الخ وممارستها. وتحاول البيروقراطية النقابية، بعد أن استشعرت الخطر المحدق بدورها بما هي موفق اجتماعي، أن تتكيف، رافعة رغم ممارستها القائمة على التعاون الطبقي شعار "الرقابة العمالية". وحتى رئيس اتحاد النقابات المسيحية C.S.C أعلن "تأييده للرقابة" ( لـ " رقابة معينة")، هذا بينما ورد في أنظمة منظمته ذاتها مبدأ التعاون الطبقي.
يجب النظر إلى الرقابة العمالية بما هي عنصر أساسي في إستراتيجية تفضي إلى استيلاء الطبقة العاملة على السلطة وإقامة مجتمع اشتراكي. هذا ردنا الأول على التشويه الإصلاحي لشعار الرقابة العمالية. و على هذا النحو يتناول رفيقنا ارنست ماندل المشكل في هذا الكراس، بعد دراسته بكيفية ملموسة أكثر فيما يخص وضع الحركة العمالية ببلجيكا(1).
هكذا جرى بإيجاز وتتابع تناول دور الوعي الطبقي، وأهداف الرقابة التي تقطع مع التعاون الطبقي، وأمثلة حية عن هذه الإستراتيجية الثورية، وأخيرا ما يستدعيه تطبيق الرقابة العمالية من أشكال تنظيمية.

هذا النص، المعدل شيئا ما، عرض القي في مدرسة لأطر الحرس الاشتراكي الفتي في ابريل 1970.

يمثل المشكل الذي نحاول حله بالحديث عن الرقابة العمالية إحدى اكبر المشاكل الأساسية بتاريخ الحركة العمالية، أي كيفية الانتقال من مطالب الطبقة العاملة الآنية إلى الثورة الاشتراكية؟
لقد شهدنا تحركات عمالية عديدة خلال الفترة الأخيرة كانت تدور بوجه الدقة حول مطالب اقتصادية. انه من صلب طبيعة الرأسمالية ذاتها أن تنفجر الحركة العمالية بشكل دوري. المشكل الذي ينطرح إذن هو معرفة ما هي الوسائل التي تتيح تجاوز هذا الطور الاقتصادي المحض من النضال في حين أن الطبقة العاملة تربت طيلة سنوات على النضال من اجل رفع الأجور وحده.
لاحظنا خلال كل الإضرابات الكبرى في السنوات العشر الأخيرة أن العمال يريدون غريزيا "الذهاب أبعد". لكن نلاحظ أيضا أنهم لا يدرون بوجه الدقة أي مطلب يقدمون للتمكن من السير أبعد. وانه من الطوباوية اعتقاد أن العمال، الذين لا يعرفون أي مطلب يقدمون، سيتمكنون من احتلال المصانع وحتى تسييرها.

لمطلب الرقابة وظيفة بيداغوجية مزدوجة

إنه من واجب الطليعة إزاء الطبقة العاملة طرح مشاكل العلاقات الطبقية التي تتجاوز طور المطالب الآنية. وتمثل الرقابة العمالية المشكل الرئيس ضمن تلك المشاكل. ويشكل تطبيقها مدرسة إجمالية مشتركة لكل العمال تحضيرا للتسيير الذاتي العمالي.
تلزم ما بين الدعاوة العامة والتطبيق الجزئي ومن جهة أخرى التطبيق العملي للرقابة العمالية حلقة إضافية، إنها حلقة بعض حالات التطبيق النموذجية الوجيزة. هذا لأن السواد الأعظم من العمال لا يتعلم بدعاوة عامة بل بمثال التطبيقات الملموسة لا غير.
لكننا نصل على هذا النحو إلى خلاصة متناقضة إلى هذا الحد أو ذاك: يتعذر تطبيق الرقابة العمالية سوى في فترة ازدواجية السلطة في حقبة ثورية.
لكن لا بد، لإمكان هذا التطبيق في حقبة ازدواجية السلطة، من أنشطة مثالية في الحقبة غير الثورية، حتى ونحن ندرك عدم قابلية تلك الأمثلة للحياة. إن المقصود تطوير وعي العمال الطبقي بأن يتعلموا في الممارسة وضع سلطة أرباب العمل والرأسمال على الآلات والبشر موضع تساؤل.
جلي أن هذه السيرورة لن تنطلق فجأة، بين عشية وضحاها، بالنسبة لمجموع الطبقة العاملة دون أن يكون قسم الطبقة العاملة الأفضل وعيا قد جرب عمليا تطبيق الرقابة العمالية. يقول الماويون إن الرقابة العمالية طوباوية ولا جدوى منها: طوباوية طالما عجزت الطبقة العاملة عن إطاحة الرأسمالية، وعديمة الفائدة لان العمال لن يكتفوا، إذا استولوا على السلطة، بالرقابة العمالية بل يتعين عليهم إمساك زمام وسائل الإنتاج بأيديهم.
نجيبهم أنهم لا يفهمون تطور الوعي الطبقي، ويفوضون الأمر بشكل آلي إلى يوم مقبل حيث ستحدث فجأة طفرة كبيرة في الوعي العمالي، مثلما ينتظرون وضعا ثوريا سيسقط ذات يوم من السماء. لا يفهمون أن إحدى مهام الطليعة تتمثل بوجه الدقة في تربية هذا الوعي الطبقي وإنمائه، من مستواه المنخفض جدا اليوم إلى مستوى خلق وضعية تكون فيها السلطة الرأسمالية موضع سؤال.
تقوم الدعاوة والتحريض من أجل الرقابة العمالية، في سيرورة تطور الوعي العمالي هذه، بدور هام وأساسي. ومن المحتمل، إن سارت الأمور كلها على نحو جيد، أن تكون حقبة تطبيق الرقابة العمالية وجيزة جدا، أي انتقالا وجيز جدا حتى التشريك الكلي لوسائل الإنتاج و التسيير الذاتي العمالي القائم على التخطيط.
يكمن منطق مطلب الرقابة العمالية في إيجاد نقاط عبور بين انشغالات العمال الآنية ومشاكل السلطة الطبقية. المقصود أن توضع سلطة أرباب العمل موضع سؤال انطلاقا من انشغالات الطبقة العاملة اليومية.

بعض الأهداف المطلوب بلوغها بالرقابة العمالية

1- فتح سجلات الحسابات

أول المشاكل التي تتيح الربط مشكل فتح سجلات الحسابات، وقد جرى إطلاق هذا الشعار انطلاقا من المفاوضات حول الأجور. فكلما طولب برفع الأجور، ثمة اعتراضات من أرباب العمل منطلقين من انشغالات تتعلق بمردودية المقاولة.
يجب أن يساعد الرد على تثقيف الطبقة العاملة، يجب أن يوقظ الحذر إزاء حجج أرباب العمل. عندما يقول هؤلاء:" لا تسمح أرباحنا برفع الأجور"، أو " يجب أن نرفع الأسعار لأسباب اقتصادية، لدينا الكثير من الضرائب الواجب دفعها"، أو " نريد إعانات من الدولة، وإلا أغلقنا المصنع"، نرد عليهم:" نحن لا نصدق أقوالكم". يجب إذن أن نطالب بفتح سجلات حسابات المقاولة.
وهذا القسم من البرنامج الانتقالي هو الذي لقي أكبر نجاح لحد الآن، ( على الورق بوجه أخص). فقد تبنت نقابات عديدة بالعالم هذه المحاجة. لقد بات من الرتابة أن يقوم حتى قادة اصلاحيون، خلال طور أول من مفاوضات حول الأجور حادة شيئا ما، باستعمال هذه الحجة:" ضعوا الأوراق على الطاولة" ( لاروك وقادة النقابات بالسويد ، الخ).

لكن يجب عند الكلام عن فتح سجلات الحسابات أن نضيف عنصر رقابة عمالية حقيقي. ليس المقصود تمكن خبراء حسابات، مؤدى لهم من النقابات، من إلقاء نظرة على الحسابات، ولا أن يقتصر أمر تفحصها على القادة النقابيين ( الذين ليسوا خبراء). إن المقصود ربط فتح سجلات الحسابات بتحقق فعلي في المقاولات من قبل جماهير العمال والمستخدمين.
ليست الطريقة الفعالة الوحيدة التي تتيح للرأسماليين تزوير حساباتهم متمثلة في عمليات تزوير صغيرة للأرقام ( هذا مميز للرأسماليين الصغار أكثر من الكبار). إن تزوير الحسابات يكون بصدد نقط مركزية يستحيل التحقق منها في السجلات الحسابات وحدها.
تقدير المخزونات
يسهل استعمال أرقام مزدوجة أو مثلثة ( بالمعنيين)، ولا يتأتى التحقق سوى في عين المكان. وبإمكان العمال القيام بذلك جيدا لأنهم يلاحظون توا أي تزايد أو تناقص في المخزونات ( هم من يناولها).
تمويه شراء آلات جديدة بتقديمها بما هي عمليات إصلاح، أي تمويه ارتفاع الرأسمال الناتج عن ارتفاع للإرباح بزيادة تكاليف عامة. وهذه كذلك عملية يمكن التحقق منها في عين المكان، إذ يعلم العمال جيدا ما إن كانت الآلات قد أصلحت أو هي آلات جديدة. بهده المنهجية تتطور الدينامية الحقيقية للرقابة العمالية، أي إحدى أصفى أشكال اعتراض العمال على سلطة الرأسماليين.
2- الرقابة العمالية على أشكال المكافأة
بات ترشيد أنماط المكافأة مدمجا حاليا في كل الصناعة الغربية. تمكن، دون دخول في التفاصيل، ملاحظة أن ثمة تقنيات عديدة لها الهدف ذاته، تذرير العمال، والتي تجعل حساب الأجور غامضا كليا.
في ليمبورغ بايطاليا جاء العمال خلال الإضرابات الأخيرة ببطاقة أجرهم التي كانت معقدة لدرجة عجزهم عن معرفة كم سيقبضون في الشهر التالي. كان الأمر ابسط بكثير قبل 60 سنة، كان عمال المقاولة كافة يعرفون بدقة ما يكسبون وبوسعهم التنبؤ بما سيكسبون في الشهر التالي، وكانوا بذلك واعين بإمكانات المطالبة. أنا الآن، يكاد يستحيل إيجاد عاملين من المقاولة ذاتها يكسبان الأجر عينه.
وثمة من جانب العمال رد غريزي إلى هذا الحد أو ذاك ضد أشكال المكافأة الجديدة تلك، وهو رد سليم جدا يتعين علينا دعمه. ويجب أن نضيف إليه شكلا جديدا للاعتراض على أرباب العمل، إما برفض اعتماد هكذا أشكال مكافأة أو المطالبة برقابة من مجموع العمال على حساب الأجور، رقابة يجب ألا تبقى سلبية بل تضم نوعا من حق الاعتراض ( الفيتو).
3- الرقابة العمالية على وتيرات العمل
يمكن أن نلاحظ منذ بضع سنوات ميلا إلى تسارع هام لوتيرة العمل. ردت النقابات الأكثر كفاحية على هذا الوضع بمأسسة نوع من التعاون النقدي، باعتماد أدوات قياس وقت chronomètre نقابية ضد أدوات قياس الوقت التي وضعها أرباب العمل. يؤدي ذلك إلى مواجهات ثم إلى اتفاقات.
يرى بعض "اليسارويين" بالنقابة في الأمر شكلا من الرقابة لكنه في الواقع مشاركة. ومع ذلك لا يصح الدفاع عن إلغاء أدوات قياس الوقت المضادة الخاصة بالنقابة، إذ سيكون ذلك عبثيا لأن وضع العمال سيسوء أكثر.
تبدأ الرقابة العمالية الحقيقية عندما يرفض العمال النتائج ويضبطون هم أنفسهم سلسلة الإنتاج على السرعة السابقة ( انظر الحالات الملموسة بايطاليا أدناه).
4- الرقابة على التسريحات ورفض إغلاق المصانع

توجد تجارب هامة في بلجيكا، يتعلق الأمر بالتربية المنهجية للعمال في اتجاه رفض التسريحات. كانت التحركات في هذا الاتجاه في السنوات الستة أو السبع الأخيرة كثيرة ومصحوبة في الغالب باحتلال المصانع. أمر ممتاز أن يرفض العمال منهجيا إغلاق المصانع، وألا يعترفوا لرب العمل بحق الإغلاق، لكن التجربة دلت أن المشكل، في هذا الطور، غير قابل للحل في إطار المصانع المفلسة. عندما يحتل العمال مصنعا ينوي رب العمل إغلاقه، يرسمون شكلا أولا لعمل تمرد سياسي، لكنهم لا يمسون اقتصاديا أرباب العمل.
يمكن السير ، في حالة المصانع المفلسة ، في اتجاهين:
يأخذ العمال المصنع لحسابهم. و لا يمكن نظريا معارضة ذلك في جميع الحالات، لأنه قد يفضي إلى أعمال نموذجية. لكن في الأمر دينامية بالغة الخطورة. لأن اقتصار العمال على تسيير مصانع ميؤوس منها يضعهم في وضع اقتصادي مستحيل، ويضطرون لتطبيق تدمير ذاتي لشروط الحياة والعمل. و سيبقون على هذا النحو في تبعية لتمويل الدولة والمؤسسات الخاصة ( بنوك). لا تقام اشتراكية في مصنع واحد (علاوة على أنها مفلسة).
الحل الثاني منطقي أكثر. عندما يرفض العمال حق رب العمل في إغلاق المصانع، يتعين عليهم أن يبرهنوا على ذلك باحتلال مصانع لم تفلس بعد. وفي هذا الاتجاه سار شعار رفاقنا في لييج في 1967-1968 :" لنحتل المصانع ما دامت ذات مردودية".

المقصود إذن توسيع احتلالات المصانع في تلك اللحظة على صعيد محلي، وإقليمي وفي فروع الإنتاج. يظل امتداد الصراع الطبقي العنصر الأهم.

بعض الأمثلة الملموسة

جلي أن الأمر يتعلق بنشاطات نموذجية، ليس المقصود محاولة إقامة رقابة عمالية في حقبة غير ثورية. لكن سيكون من قبيل العصبوية رفض مساندة تلك النشاطات بمبرر انعدام وضع ثوري ومن ثمة استحالة بقاء الرقابة.
لن يِؤخذ من يعارض هذه الرقابة مأخذ جد. المهم هو الشروع في الدعاوة المنهجية للرقابة العمالية والعمل على نحو يشرع معه هذا الشعار في التغلغل في رؤوس آلاف العمال، وبعد انجاز هذا العمل يغدو حتميا أن تشرع شرائح الطبقة العاملة الأفضل وعيا في التطبيق الملموس، حتى قبل الحقبة الثورية، لأن ثمة تطور متفاوت للوعي الطبقي.

مثال أول :"جنرال إلكتريك" في ليفربول

" جنرال الكتريك" تروست كبير للمعدات الكهربائية يتحكم بكل الإنتاج في هذا المجال ببريطانيا.
تشغل شركة "جنرال الكتريك" 150 ألف عامل ومستخدم (موزعين إلى عدد كبير من المقاولات).
منحت الحكومة الانجليزية، في إطار سياسة تنمية الجهات، منحا كبيرة يمكن نعثها بـ"منح الكسل". فعلا كبار الرأسماليين كسولون كثيرا في الاستثمار بالمناطق الآفلة وينتظرون إعانات الدولة للإقدام على ذلك.

هكذا حصلت " جنرال اليكتريك" على منح كبيرة لخلق منشآت جديدة في ليفربول حيث البطالة مرتفعة. أحدثت هذه الشركة زهاء 10000 فرصة عمل جديدة. لكن بعد بضع سنوات، صرح خبراء أن انتقال المقاولة إلى منطقة أخرى سيرفع أرباحها. طبعا ليس بوسع أي رأسمالي أن يقاوم إغراء زيادة أرباحه.، فقرر قادة التروست نقل الآلات إلى مكان آخر، مما سيؤدي إلى تسريحات عديدة بمنطقة ليفربول. وطبعا لم يعيدوا الإعانات.
رد عمال ليفربول فورا، لا سيما بعض المندوبين النقابيين الذي تثقفوا بحملة من اجل الرقابة العمالية. وحاولوا تطبيقها. قالوا:" سنحتل المصنع طالما لم نحصل على ضمانات بعدم نقل الآلات إلى مناطق أخرى".
وأعلنوا أسابيع قبل الأوان يوم الشروع في احتلال المصنع، وكان ذلك خطأ جليا. لأن من يحارب لا يعلم العدو بخططه الحربية. أتاح ذلك لكافة السلطات القائمة ( أرباب العمل، الصحافة، القيادة النقابية) التأثير على العمال لمنعهم من الانتقال إلى احتلال المصنع. جلي أن في الأمر إغفال لقوة خصومنا البالغة ولسعيهم بكل السبل إلى قطع طريق نجاح التحركات العمالية.
كانت مناورة أرباب العمل، في الحالة التي نحن بصددها، من النمط الكلاسيكي جدا، ونحن نعرفها منذ إضراب عمال المناجم في هاينو قبل عشر سنوات. تدخلت الحكومة فورا واعدة بمنح إعادة تصنيف خلال سنتين وتقاعد كامل في 55 سنة... وفي اليوم المحدد لاحتلال المصنع عقد تجمع عام بكيفية غير " كاثوليكية" جدا، إذ جرى إحضار أشخاص غرباء عن المصنع، ومورست أشكال عنف ضد المندوبين اليساريين الذين أرادوا تناول الكلمة، الخ. وكانت نتيجة التصويت: زهاء 60 بالمائة ضد الاحتلال وزهاء 40 بالمائة مؤيدة له.
لكن ليست نتيجة التصويت هي الأهم في هذه المسألة، ففي النضال من اجل الرقابة العمالية ستكون ثمة الكثير من الأخطاء التكتيكية والكثير من الهزائم الجزئية. الأهم متمثل في الجانب الدعاوي الذي يتيح رفع وعي العمال الطبقي.
لنتأمل ماذا جرى فيما بعد. في مؤتمر لكافة المندوبين النقابيين في ليفربول( ثاني مركز صناعي في بريطانيا) تم التصويت على مقرر يساند بعمق مبادرة المندوبين الذين قرروا احتلال المصنع. وفيما بعد اتخذ اجتماع لكافة مندوبي "جنرال الكتريك" الموقف ذاته (ممثلين لـ 150000 عامل). وفي الانتخابات النقابية جرت إعادة انتخاب المندوبين اليساريين.
ب – المثال الثاني : ايطاليا
سبقت كتابة مقالات بهذا الصدد في مجلة "الأزمة الحديثة " و جريدة "اليسار". خلال موجة الإضرابات بايطاليا في خريف 1969 جرت في بعض كبريات المنشآت تجارب رقابة عمالية،
- في مقاولة مونتيدسون في بورتو ماغيرا، قرب البندقية، قام العمال أنفسهم بتغيير تنظيم العمل في المصنع. لا بل بلغوا مستوى اتخاذ قرار أن يعمل المستخدمون أسبوعين في الآلة والعمال في المكاتب. جلي أن الأمر لم يدم طويلا، لكن الأهم هو المبادرة بحد ذاتها. إنها طبعا درجة عالية من الاحتجاج.
- في بيرولي، مصنع مطاط العجلات والمنتجات المطاطية في ميلانو، ضبط العمال سلسلة الإنتاج حسب الوتيرة الأصلية كلما أراد رب العمل تسريعها. ونجحوا طيلة أشهر عديدة في القيام بذلك بمساعدة من التقنيين والمهندسين. كانت حرب غوار حقيقية في المقاولة، وما زالت متواصلة.
وفي شركة فيات بمدينة تورينو، ولأسباب شبيهة ( تنظيم العمل وسرعة الوتيرة) لم يعترض العمال على سلطة رؤسائهم وحسب، بل شرعوا في إرساء تنظيم مضاد ( بداية ازدواجية السلطة على صعيد المقاولة). جرى انتخاب مندوبي سلسلة الإنتاج بالمئات (900 إلى 1000) واعترضوا بكل المستويات على السلطة والبنيات التراتبية. ويتمثل الوجه الأهم في الحالة التي تشغلنا في كون العمال رفضوا مأسسة كهذا أنظمة وهكذا تنظيم من قبل النظام. مثلا أثناء المفاوضات من اجل العقد الجديد الخاص بعمال التعدين، اقترحت النقابات اعتراف أرباب العمل بالمندوبين الجدد ( لم يكن ذلك سوى وسيلة لدمجهم في التنظيم النقابي المبقرط). أدرك أرباب العمل الأمر على ذلك النحو وقبلوا الاعتراف بهم (وهذا تنازل كبير مع ذلك). لكن العمال ردوا بانتخاب 600 مندوب جديد وتكوين هيئة من 1000 مندوب يشكل ضمنها الأربع مائة المعترف بهم من أرباب العمل أقلية. وليس هذا المجلس من 1000 مندوب مرتبطا بأي عقد، وليس بأي وجه مدينا لرب العمل. بإمكان النقابات أن توقع يوم الاثنين اتفاقا بزيادة 5 بالمائة في الأجور، ويوم الثلاثاء يطالب الألف مندوب بنسبة 6 إلى 7 بالمائة ، وبوسعهم في كل لحظة تجاوز القيادات النقابية. لكن هؤلاء المندوبين لا يقتصرون على تقديم مطالب بشأن الأجور، بل يسير نشاطهم بوجه عام في اتجاه الرقابة العمالية.
لكن حذار من إفراط التفاؤل، يمكن تماما أن تنجح النقابات في المدى البعيد في إعادة دمج هؤلاء المندوبين وتحويلهم إلى مندوبين عاديين، وهدا محتم إذا ظلت التجربة محصورة داخل شركة فيات، وإذا ركد النضال أو تراجع. لكن إذا امتدت تلك التجارب ( ثمة أمارات ذلك في ثلاث أو أربع مصانع) يمكن ألا يدمج هؤلاء المندوبين، بل بالعكس نشهد امتدادا للنضال في اتجاه ازدواجية السلطة. وسيفضى ذلك حتما إلى امتحان قوة لأن رب العمل لن يقبل الأمر.
وفعلا تتراجع بسرعة كتلة العمل الفائض الذي يقدمه العمال، قال مالك بيرولي في رسالة شهيرة بهذا الصدد:" اطلبوا ما تشاؤون، لكن اعملوا بالأقل لأن امتناعكم عن العمل سيخفض الإنتاج، وهو المهم، وإلا يتعين إغلاق المصنع."
سيفضي هكذا امتحان قوة حتما إلى طرح مسألة السلطة في ايطاليا. تتمثل مهمتنا في متابعة هذا المثال عن قرب والعمل للتعريف به في أوربا بكاملها.
بعض التحذيرات
ضد اللامسؤولية:
يجب دائما تفادي الانتقال من الدعاوة إلى العمل دون حد أدنى من الضمانات بكون جماهير العمال ستتبع، كان ذلك الخطأ الذي ارتكبه مندوبو " جنرال إلكتريك" في ليفربول. ليس العمال مستعدين لتطبيق عشر مقررات حول الرقابة العمالية بصورة آلية وبكيفية معزولة لمجرد أنهم صوتوا لصالحها.
ضد بعض أشكال شطط البيروقراطيين النقابيين
نشهد في بلجيكا، فيما يخص الرقابة العمالية، وضعا متسما بالمفارقة.، فأكثرية البيروقراطيين النقابيين العظمى متفقة عمليا على تبني مطلب الرقابة العمالية. لا شك أننا اشتغلنا كثيرا بشكل جيد لأننا أقنعنا البيروقراطيين النقابيين قبل العمال.
وسيجري حتى تنظيم مؤتمر استثنائي لنقابة الفيدرالية العامة للعمل ببلجيكا F.G.T.B حول شعار الرقابة العمالية. يجب ألا نتخوف من ذلك، يجب بالعكس أن نرى في هكذا وضع مناسبة إعداد سياسي لشريحة جديدة من العمال. لكن يجب ان ندخل في الدعاوة الشروط التي تجعل دمج الرقابة العمالية من طرف البيروقراطية النقابية مستحيلا.
2- الإشهار التام للمعلومات
يجب ألا تقتصر الرقابة العمالية على القادة النقابيين وحدهم. ويتمثل مثال جيد عن ذلك في " لجنة الرقابة على الكهرباء" ( موسعة إلى الغاز). يلتقي القادة النقابيون مرة في السنة بالمدراء الوطنيين للصناعة الكهربائية. وبعد جملة كوكتيلات ونقاشات يوقع البيروقراطيون النقابيون سجلات الحسابات. إنها خديعة جلية. ليس ذلك رقابة عمالية.
تقوم الرقابة العمالية على مشاركة كافة العمال مع الإشهار التام وليس بالاقتصار على بعض البيروقراطيين النقابيين. إن مطلب الإشهار التام هو ما يرفضه أرباب العمل، لأنه يدمر مفاهيم الملكية الخاصة، وأسرار الأعمال والمنافسة.
الشرط الثاني: تعميم الرقابة العمالية: كما أسلفنا تستحيل الاشتراكية في مقاولة واحدة. الرقابة العمالية في مقاولة واحدة مسألة تحريض لكنها ليست رقابة عمالية حقيقية ويتعين فهمها على هذا المنوال.
الشرط الثالث: حفظ الاستقلال العمالي.
انه الفرق الأكبر بين الرقابة العمالية والمشاركة العمالية في التسيير في المقاولة. ما نطالب به هو الرقابة الشاملة وحق العمال في الاعتراض ( الفيتو). لكن نرفض أدنى ذرة مسؤولية في تسيير السادة الرأسماليين. و بوسعنا بهذا الصدد الاستناد على صيغة اندريه رونار:" في النظام الرأسمالي الرقابة دون غيرها، والمشاركة في التسيير والتسيير الذاتي في الاشتراكية فقط."
الشرط الرابع:
يجب تصور الرقابة العمالية بما هي حقبة انتقال وجيزة نحو تشريك المقاولة: منذ لحظة إضراب عام، لحظة يكون العمال عموما قد أدركوا مفهوم الرقابة العمالية، لحظة تصبح الرقابة العمالية مطلبا للحركة العمالية برمتها، في هذه اللحظة لم يعد المقصود بالنسبة لنا القيام بنشاطات نموذجية للرقابة العمالية بل نشاطات تملك للإنتاج.
المطلوب تطوير "الإضراب النشيط" ( حسب الصيغة الفوضوية النقابية القديمة). لنتناول مثالين من إضراب مايو 1968 بفرنسا، ليس المقصود تقليد آلي لهذه التجارب بل فهم دينامية تلك النشاطات النضالية ومنطقها.
ثمة إضراب عام. كل شيء متوقف، حتى نشاط مستخدمي البنوك، وصناديق الادخار. هل في مصلحة الإضراب أن تكف البنوك عن العمل كليا؟ نعم خلال الأيام الأولى، لأن ذلك يسهل تعميم الإضراب. لكن الأمر ينقلب فيما بعد ( أسبوعين أو ثلاث) ضد العمال، إذ يتعذر عليهم التصرف في الأموال التي وضعوا في صناديق الادخار. يتمثل الحل الملموس في الشروع في أداء أجور العمال المضربين، لكن يجب أن يقوم بذلك المستخدمون تحت سلطة قيادة الإضراب. إننا في تلك اللحظة ندخل حقبة ثورية، لا سيما عندا يتعلق الأمر بالمال وندرك منطق هذا الوضع. يصبح مستخدمو البنك الوطني ذاتهم متواطئين مع "الإضراب النشيط"، ويستأنفون العمل تحت إشراف قيادة الإضراب وليس تحت إشراف وزير المالية. عندما نبلغ ذلك الطور نكون دخلنا الثورة دون أن يتبين الناس الأمر.
لا غنى مطلقا لنجاح الإضراب عن إضراب النقل. الأمر عظيم في البداية لنجاح الإضراب لأن الحياة الاقتصادية متوقفة كليا. لكن ذلك ينقلب بعد أسبوعين أو ثلاث ضد المضربين. لأن إضراب النقل يؤدي إلى تعذر التعبير عن قوة المضربين الجماعية (يستحيل عمليا اقتياد كافة العمال إلى باريس سيرا بالأقدام لأجل مظاهرة مركزية). أمر أساسي إذن أن يستأنف عمال النقل العمل في لحظات بعينها تحت سلطة قيادة الإضراب. يعني هذا أن الهيئة التي اقتصرت في البدء على تنظيم الإضراب شرعت الآن في تنظيم قطاعات كاملة من الحياة العامة. تنتقل ازدواجية السلطة من صعيد المقاولة إلى صعيد الدولة، وهذا ما يسمى عادة في التاريخ بالسوفييت أو المجلس العمالي.
في 1917 كان المجلس العمالي لبتروغراد (بقيادة تروتسكي النبيهة) قد حقق عدم اعتراف كل فيالق الجيش القيصري في بتروغراد بسلطة قيادة المدينة، واعترافها بسلطة اللجنة العسكرية الثورية للسوفييت وحدها، وأتاح هذا القيام بثورة أكتوبر بأقل الضحايا لأن ما من أحد كان مستعدا للقتال في الجانب الآخر.
لم نبلغ بعد هذا الطور. لكن يجب أن نفهم جيدا المنطق المؤدي إلى تحول لجنة إضراب إلى مجلس عمالي، وتطور ازدواجية السلطة في المقاولة إلى ازدواجية السلطة في الدولة، وتحول إضراب سلبي إلى إضراب نشيط، وبالتالي الانتقال من الرقابة العمالية إلى تشريك كامل الإنتاج.
ارنست ماندل.
تعريب جريدة المناضل-ة
انظر ارنست ماندل " الرقابة العمالية" دفاتر الحرس الاشتراكي والثوري – عدد 1 منشورات "المناضل" بروكسيل 1969.