الماركسية أفق مستقبلي لكل الثقافات


خليل الميّاح
2007 / 10 / 11 - 11:38     


أنّ الفلسفة هي تصور ما للعالم ، وهذا تعريف شائع والأخذ به يعني إن ثمة أفكارا نأخذ بها تدور حول الإنسان والمجتمع والتاريخ والعالم ، بشرط أنْ ينتظمها تصور واحد .
والتأويل الماركسي يتناول أن البشر يعون مشاكلهم عن طريق أدراك التعارض بين القوى المنتجة وعلاقات الإنتاج على صعيد الايديولوجيا ، لكنها أي الفلسفة الماركسية تنوي أنجاح المشروع الإنساني بتغيير الشرط البشري ولا تكتفي بتأويل التاريخ .
وهنا يتحقق لها المشروع الديمقراطي التحرري بعد أن تتجاوز التأويل التاريخي لكي تـُدخل الناس إلى ملكوت الحرية الحقيقي .
والفلسفة الماركسية تعتبر نظرية مطلقة للتأريخ مؤنسنة لكنها ترفض كل فلسفة أخلاقية تـُطلب في حياة أخرى ، أي بمعنى البحث عن مغزى لهذه الحياة الأرضية !
وحتى لا نقع في شباك النظرة المادية العاميّة مثل أولئك الذين نبذوا نظرية القيمة وتناسوا أنّ (( قوة العمل )) التي يبذلها الإنسان هي التي تنتج (( القيمة )) فعلينا أدراك أن المفهوم الأساسي في الفلسفة هي (( البرا كسيس )) التي تجعل البنية الفوقية تولــّد منجزات جديدة وبالتالي تشكل عصب الجدل التاريخي الذي يبحث في نمو التناقضات بين الإنسان والمادة .
ولو إنّ المـُصلح (( لوثر )) يظهر لنا في عصرنا هذا ، فهو بلا شك سيـُدين التأويل الماركسي بأعتباره ميلا أحمق يخالف الكتاب المقدس الذي يشير أنّ (( يوشع )) قد أمر الشمس أنْ تستقر !
والماركسية كمنهجية حديثة في علم التاريخ تنفي التعالي ( الترانسندنتالية ) وهي تأخذ الأحداث ضمن مشروطيتها المادية الثقيلة .
وحيث أن الماركسية كعلم أجتماعي يقودُنا إلى الأستبصار النقدي ، تجدنا مؤمنين ومتفائلين بغدنا الاشتراكي .
والطرح الديمقراطي الراديكالي ، سيـّما وأن المستقبل بات حقلا مفتوحا للأكتشاف والتجريب وبالتالي لن يتهمنا أحد بأن تركيبنا الفكري السياسي هو واحد موحد وفريد !
وحيث أن الرؤيا والسرديات المتعددة أتت بسبب من العولمة التي يراها البعض أنها قد سفـّهت الاعتقاد بأن الحلول قائمة وإنّ مناهج البحث الاجتماعي باتت عقيمة وتعاني أزمة عميقة ، فإننا نقف إلى جانب هيجل
بها الصدد إذ نراه يقول (( أن بومة منيرفا لا تحلق إلا عند الغسق ))
عليه نرى أن عقلنا الاستطلاعي المستقبلي الذي هو عقل ما بعد الحداثة ومنهجنا العلمي لا يثير الشفقة ولا الأزدراء وله القدرة على تفسير الظواهر التي نعيش .
وتأسيسا على ما جاء آنفا تجدنا لا نستجيب للفوبيا من الانطولوجيا الشيوعية أبدا وسنبقى مسكونين بهاجس الأفق الاشتراكي حلا ّ لأشكالياتنا البشرية .
والجميع يعلم إننا كمثقفين ننظر إلى الدياليكتيك من الداخل خلافا للنظرة البرانية لأنشتاين إذ إتخذ في فلسفته مواقف مثالية على غرار(( أرنست ماخ )) وينتهي إلى ذاتية الزمان إذ لازمان قبل الإنسان وساعاته !!
لكن يبقى صحيحا إنّ زمننا البرجوازي هذا هو زمان مضطرب والكيد العولمي يحيق بنا ويبقى قدرنا تصحيح المسار الكوسموبوليتي الكوني اللعين !
ومعلوم أن جوهر الممارسة الإيديولوجية البرجوازية هي أعتيادها قلب السبب أثرا والأثر سببا في تحليلها للواقع الاجتماعي ... وهكذا راحت تـُخفي سيطرتها الطبقية وصدعت بالقول أن التراث هو الذي يحي ويميت لتغطي بهذه الأطروحة على موضوعة الإنتاج الرأسمالي وبالنتيجة تغطي على الأسباب الفعلية لمظاهر التخلف !
وعموما فالمنطق المثالي يرى في الفكر عامل النهضة وأيضا عامل التخلف وهو المبدأ التفسيري لحركة التأريخ الاجتماعي والعقل العربي كلما حاول الوثوب إلى العلمية سقط في الجدلية الهيجلية المغلقة ، في حين أن الماركسية ترى انه ما من واقع ينفصل عن النمو الجدلي للتناقضات بين الإنسان ووسطه المادي .
والوسط المادي هنا هو الطبيعة ، كما يراها ((غرامشي)) وقد أنسنها الإنسان وسيطر عليها بالقوى المنتجة .
وهنا نجده مناسبا التطرق إلى رؤية علي الوردي (( بإصلاح الأذهان قبل البدء بإصلاح البلاد ))
وهو يرى أن البشر سيديمون النزاع حتى بتوفر الموارد وهي محاولة للتفلسف خارج نطاق كل علم !
وقبل الوردي وفي عالمنا الإسلامي كان الفقهاء والكتاب والصوفيون يؤكدون على نزعات دائمة وثابتة للفكر الإسلامي مع إنها حلول خادعه ولكنها فعـّالة بشكل مدهش بُغية إغراق وطمس معالم المأساوي في حياتنا !
أنهم كما أسلفنا ينظرون إلى الدياليكتيك الاجتماعي من الخارج بصورة تجريدية ولا يريدون الخروج من التخلف برفض الرأسمالية طريقا للحياة !
وفي مجتمعاتنا العربية يقف العقائديون الجُددْ من الماركسية موقف " ديكارت " ومنهجه ( الكوجيتو ) :
" أفكر إذا أنا موجود " فقد عرضه لكي يشد من أزر الديانة المسيحية غداة تحريم الكنيسة لمؤلفات غاليليه !
وعندما ثار المصلح كالفن ضد الذين أيّدوا كوبرنيكوس بالضد من الكتاب المقدس كان لابد للعلم الحديث أنْ يصطدم بسلطة الدين .
وهكذا سادت النزعة النقدية عصر التنوير كرد فعل لسلطة الدين وأخضعت الوقائع التاريخية المذكورة في الكتاب المقدس للنقد التاريخي .
وكان مونتيسكيو يقول : من السخف أن تـُرد وقائع التاريخ إلى الصدفة العمياء , فسلوك البشر تحكمه مبادئ مشتقة من طبيعة الأشياء .
وصار بأمكان المؤرخ أن يفسر أغتيال القيصر على غرار الجيولوجي إزاء الزلازل !
وحينما قال سقراط :. أن تحطم القيثارة لا يعني فناء النغم .
قال فقهاء برجوازيون : ربما كان للماركسية حظوظ ومستقبل في الدول النامية ..أنّ الشيوعية قد خسرت المعركة الفكرية مع الغرب !
وهاجم ريمون آرون الماركسية وقال ( بنهاية عصر الأيدولوجيا ) .
وكان ثمة أصوات في أوربا والولايات المتحدة تشير إلى إنّ الحقائق الاقتصادية والسياسية الجديدة تقدمت على طروحات أدم سمث وكارل ماركس!
لكن ثمة أصوات أخرى صريحة قالت أن موت الشيوعية ، المزعوم ، قد انتزع القوة من الراديكالية واضعف الليبرالية !
وحتى فوكوياما راح يناقض نفسه إذ أنهى مقالته بلون من الحنين ، بهذه الكلمات : ستكون نهاية التاريخ حدثا جد حزين ....
وهنا في ساحتنا الساخنة ينسى المتأسلمون أنّ الإسلام ليس كيانا جوهرانيا لا يتغير ولا يتبدل على مدار التاريخ ويصبح جديرا بالتفحص والتعرف إلى كيفية أنتاج ( المعنى ) في المجتمعات البشرية في التراث ذاته وأنه ليس أزليا بل يتعرض للتحول والتجدد بفعل العوامل التاريخية .
وتجدر الإشارة إلى أن الفكر العربي المعاصر المكتوب باللغة العربية ظل لاهوتيا حتى عندما كان يستخدم الفاظ الثورة والاشتراكية والتقدم ( مثلا فكر حزب البعث ) إذ الواقع أن النقد الجذري للبنية اللاهوتية المسيطرة على الفكر العربي منذ مئات السنين لم يحصل وبالتالي لم يدخل هذا الفكر إلى دائرة الحداثة الفعلية !
أمّا الأنظمة السياسية التي هيمنت بعد الأستقلال فقد أكدت ضرورة تعليم الدين في مدارسها بُغية بناء الشخصية الوطنية التي فككها الاستعمار سابقا ( الجزائر مثلا )
وفات تلك الأنظمة أمكانية أنْ يتحول التعليم التقليدي للدين إلى أيديولوجيا ظلامية !
وتجدر الإشارة إلى أن ثمة فريسيين ممن ركبتهم روحية الإقصاء المكارثية يريدون لنا البراءة من الإرث الإنساني الماركسي الممثل بالمادية التاريخية والمادية الجدلية لذا رأينا مجاهد عبد المنعم مجاهد يكتب : الماركسية فلسفة غير إنسانية !
وسبق لهرطقة مماثلة في عصر سلاجقة القرن الثالث عشر أنْ هدرت دم المعتزلة ببيان صادر عن الخليفة القادر آنذاك !
والكـُثر منـّا يعرف أن للماركسية أغراءآت متعددة لكن الأرأس من بينها ربما يكمن في أنها تعبر عن منظومة من القيم وتجيب عن السؤال : مالذي يجعل الحياة جديرة بأن تعاش ؟ .
أما قوة الماركسية فتكمن في تأكيدها على أستشراف الإمكانية السياسية بأعتبارها متجذرة في تطور قوى وعلاقات الإنتاج .
لكن ينبغي عدم إغفال إنّ ثمة ( شك أكــّال ) ينتاب مثقفين كـُثر محسوبين على اليسار الاشتراكي وهم غير منخرطين في العملية السياسية ويرون أنفسهم خوارج محاصرين بالأصولية البائسة التي يرفع شعارها الظواهري عن كون الإرهاب عقيدة إسلامية دونها الكفر !
وأصبح أولئك المثقفون عدمييّ النزعة مثل أقرانهم من أصحاب النظرة ( الكلبية ) اليونانية القديمة التي قوامها أن الأفكار تـُستخدم لمصلحة القوة والقهر وهي التي تقود العمل الثقافي فالحقيقة كانت دوما غائبة مهجورة !!
ومع ذلك ورغم الأقاويل المتعددة ترانا نهزج بحدوس أنْ : ليس ثمة مستقبل بدون ماركس !