من أجل يسار جديد الجزء الثاني


منير العبيدي
2007 / 10 / 4 - 12:19     

قضايا اليسار المعاصر
بعد الهزة التي تعرض لها اليسار بسقوط المنظومة الاشتراكية و انتقال دولها الى شكل جديد من الانظمة السياسية قام الكثير من أحزاب اليسار و خصوصا اليسار الماركسي بمراجعة مواقفهم وفلسفتهم و كان من ابرز تلك المراجعات موضوع الموقف من ديكتاتورية البرولتياريا و الموقف من التعددية و استبعاد المسعى المعلن او غير المعلن لإقامة نظام الحزب الواحد و اعلنت صناديق الاقتراع كطريقة وحيدة في تحديد خيار الشعب بدلا من الانتفاضة المسلحة .
كانت التغييرات قد شملت تقريبا جميع الاحزاب الماركسية بما في ذلك الحزب الشيوعي العراقي الذي هو الممثل الاقوى و الاكثر تجربة لليسار العراقي اضافة الى العديد من كتل اليسار الماركسية التي تعاني من التشظي و الانقسامات ، و صعدت الى الصدارة مهمتان :
1ـ تعميق التغيير و التجديد و عدم الاكتفاء بإبقائه ضمن اطار التسميات و انما السعي لتحويله الى نمط تفكير و جعله شاملا لكل تفاصيل الحياة الداخلية للحزب .
2 ـ العمل على لم شمل اليسار او توفير اطار واسع للتنوع اليساري او شكل من اشكال التنسيق بين اطراف اليسار و تحديد الثوابت المشتركة و تغليبها على الخلافات التفصيلية و جعل ذلك من المهمات عالية الأولوية .
****
الماركسيون خارج الحزب هم الاغلبية
إن حقيقة ان اليساريين و الماركسيين و الشيوعيين السابقين الذين هم خارج الحزب اكبر بكثير من عدد أعضائه الفعليين قد بات حقيقة ينبغي عدم التهرب منها و الاعتراف بها و التعامل معها بجدية ، و ليس من النافع الاستمرار في الطروحات المترفعة و المتشنجة التي يتعامل بها البعض مع هذا الوسط الواسع من المناضلين . و بسبب الفجوة الفكرية بين الحزب و هذه الأوساط فقد أصبح فتح حوار معها ذا أهمية كبيرة و متزايدة لما لهذه الاوساط من تاريخ نضالي عريق و خبرة و حنكة تصطدم للأسف بالمواقف المترفعة و فرض الشروط المسبقة و التقليل من شأن الفرد إزاء مفهوم الحزب ـ بإهمال حقيقة ان الحزب نفسه هو مجموعة افراد ـ و باتت العزلة عن الأصدقاء ظاهرة جديرة بالملاحظة أكثر من أي وقت مضى .
و كما ذكرنا في مقال سابق فان فاعلية إطار الحزب في بلدنا بالذات و في ظرفنا الحالي بالذات يقتضي تفعيل المشتركات مع القوى الاحتياطية من اليسار " الخامل " و تفعليه بإعادة تحديد الاولويات و الاصطفافات و تحديد التناقض الرئيسي بين خياري الدولة الدينية أو الدولة العلمانية و جعله معيار الاصطفاف الجديد لما فيه مصلحة الحزب و الوطن و أن يتم تحجيم الخلافات التي لا ترقى الى مستوى المشتركات بين الحزب و الكتل الماركسية الأخرى و كذلك الأفراد من المثقفين و من كوادر الحزب السابقة .
و المقصود بإطار الحزب الذي نشأ تاريخيا و منذ التأسيس هو ان الحزب الشيوعي العراقي مؤهل لأن يلعب دورا يمثل وحدة الشعب العراقي متعدد الاديان و المذاهب و القوميات و الطوائف ، و هذه النقطة بالذات هي ما يحتاجه الشعب العراقي في محنته الحالية . و لكن الاطار هذا لم يأخذ فاعليته الكاملة بسبب اصطدامه بمعوقات كثيرة و أطر ايديولوجية و خوف غير مبرر لدى بعض كوادر الحزب الحالية من الديمقراطية و التعددية الفكرية .
هناك فجوة بين الحزب و جماهير واسعة من المناضلين القدامى و خصوصا المثقفين و حملة الشهادات العليا ، من الذين بقوا مستقلين عن التنظيمات السياسية او من الذين انخرطوا في تكتلات حزبية ماركسية أخرى ، تقوم هذه الفجوة ، من جهة ، على اعتقاد البعض بأن الحزب لم يذهب بعملية التجديد و التحديث الى الحد الكافي و بأن الكثير من الامور بقيت على حالتها القديمة من حيث الجوهر و على أن الديمقراطية الداخلية لم تتطور بالقدر الكافي و على أن اوساطا محافظة ترفض الأخذ بتعددية المنابر التي ستوفر امكانية جذب اوساط واسعة من المفكرين و الكتاب و المثقفين و عامة الناس ، مما يرسي لإمكانية معالجة افتقار ادبيات الحزب و صحفه و نشرياته الى الحيوية السابقة و عدم قدرتها على ان تلعب دورا طليعيا كما كان عليه الحال في فترة السبعينات و ما قبلها ، و لقد رفضت المقترحات البناءة من أجل توسيع طيف اليسار المنظم و كل ذلك من أجل ارضاء جيل من الحرس القديم من المفتونين بالنوستالجيا و الجمود اكثر من مواكبة المتغيرات . لقد تغير عالمنا كثيرا و لكن هناك أوساطا في الحزب لا ترغب للاسف في أن تدرك هذه الحقيقة و لا زالت تقف من النقد موقفا سلبيا مطلقا و تحارب بشكل شرس كل الاتجاهات النقدية و الحداثية و تقصي ذوي الميول النقدية .
و تتعمق الفجوة من جهة اخرى بسبب الرؤية الضارة لممثلي الحرس القديم التي تقوم على الترفع و اعتبار ان على الافراد ان يسعوا نحو الحزب و ان ليس لدى الحزب ما يقوم به . و تقوم ايضا على تبني النظرة القديمة بأن الكتل الماركسية الاخرى ما هي الا انشقاقات غير شرعية في الوقت الذي ينبغي اعتبار نشوئها امورا طبيعية في اختلاف الرؤى و بمثابة رد فعل على الاخفاقات السياسية المتكررة ، و ما يترتب على ذلك من ضرورة العمل على فتح حوار مع كل الكتل القريبة من مواقع اليسار على قدم المساواة و بروح الاخوة الرفاقية و الود و الحرص . لقد اصبح التنوع احدى خصلات عصرنا الراهن و من الضروري استيعاب المتغييرات و تفهم التشظيات في الأحزاب و المنظمات باعتبارها انعكاسا لتطور الحريات و انتهاء عصر الوحدة الفولاذية و الواحدية ، و العمل في الوقت نفسه على توفير اطر التفاعل و التعامل و الحوار ضمن العديد من المؤسسات و المنظمات .
*****
الخضوع المطلق و غير المشروط للقيادة
إن الخضوع غير الواعي للقيادة و التسليم بما يصدر عنها اوتوماتيكيا بدون قيد أو شرط مناقض للديمقراطية الداخلية و هو في غير مصلحة القيادة نفسها و هو شكل من اشكال العلاقة الابوية التي تخضع لها مجتمعاتنا ( مثل علاقة الأب بالأسرة ، الرجل بالمرأة، المرجع الديني أو الشيخ بالرعية ... الخ ) و يتمظهر في الاعتقاد المطلق لدى أعضاء القاعدة الحزبية بحكمة أو عصمة القيادة . هذا الأمر لا علاقة له بالثقة بين القيادة و القاعدة الذي هو ظاهرة ايجابية ، وانما بالتسليم و الأيمان الاوتوماتيكي بكل ما يصدر من فوق ، و غالبا ما تكون الاوساط التي ترفض النقد و تستاء منه و تتشنج في التعامل معه هي نفس الاوساط التي تمنح ثقتها العمياء للقيادة .
ان الشكل الأسلم للانضباط هو المعالجة الواعية و الإيمان المدرك للقرارات و السياسات والتكتيكات و هذا الموقف هو الذي يخلق العلاقة الصائبة بين القاعدة والقيادة و يجعل من القاعدة رقيبا واعيا و مصححا امينا للكثير من الميول الضارة ، و به تستبعد العلاقة وحيدة الجانب و تنشأ بدلا عنها علاقة ديناميكية بين القيادة والقاعدة في عملية اخذ و عطاء كما العملية البيولوجية بين أجزاء الشجرة في عملية النسغ صعودا و نزولا فيما تكون الاوساط الكسولة و الخاملة في القاعدة الحزبية و القيادات الحزبية على الضد من ذلك مستسلمة لكل ما يصدر من فوق و مجاملة في تحديد موقفها و بذا لا يكون لها ، كما يفترض ، دور في رسم سياسة الحزب .
لقد لعبت مقولة " الحزب يعرف افضل منا " أي " أفضل مما نعرف " و التي انتشرت بشكل خاص في السبعينات بين قواعد الحزب تهربا من الإجابة على التساؤلات المشروعة المثارة في حينها ، أقول لعبت دورا كارثيا في تعزيز الإتكالية و تحويل قواعد الحزب الى أشبه بالموظفين أو بالجنود الذين يتلقون الأوامر و التعليمات من فوق ، و نزع عنهم الصفة التي ينبغي توفرها في أي حزب بإعتباره اتحادا اختياريا أي الدور الفاعل للقواعد في رسم سياسة الحزب .
لا زال هذا المفهوم موجودا للاسف فأوساط واسعة من قواعد الحزب تبرر سياسة الحزب في الغالب حتى لو كانت متعارضة مع حدسها و شعورها الداخلي و تبرر ذلك لنفسها بأن " الحزب يعرف افضل منا " . وبات ليس من النادر ان ترى منتميا يدلي برأيه في قضية معينة ثم ما يلبث ان يتبني موقف الحزب في اليوم التالي و يدافع عنها .
****
حزب شيوعي ام اشتراكية ديمقراطية
لعبت الاحزاب الاشتركية الديمقراطية دورا كبيرا في اصدار تشريعات مهمة في صالح العمال و الطبقات محدودة الدخل من الشغيلة و تشريع قوانين الرعاية الاجتماعية و الصحية تفوقت كثيرا على مثيلاتها في الدول الاشتراكية السابقة لأن المنجزات التي حققتها تقوم على المحافظة على معدلات عالية من التطور في القوى المنتجة و تطور مطرد في معدلات النمو حتى نهاية القرن الماضي خصوصا قبل التباطؤ الاخير في معدلات النمو التي اثرت على بعض هذه المكاسب ، و مع ذلك تبقى دولٌ مثل السويد و النرويج و الدنمارك و المانيا و هولندا من الدول التي تمتلك اكثر القوانين تطورا في مجال الرعاية الصحية و الاجتماعية و اذا ما اضفنا لها الجذور التاريخية للنشأة المشتركة سيكون من المنطقي اعتبار هذه الاحزاب الحليف المهم لقوى اليسار الماركسي . و على صعيد العلاقات الدولية و خصوصا مع المجموعة الاوربية و في تحديد مسارات السياسات العالمية يلعب الخضر و الاشتراكيون الديمقراطيون دورا مهما في السياسة العالمية و يضفون عليها تنوعا ضروريا . كما تشكل تجربة الاشتراكية الديمقراطية مصدرا مهما جديرا بالدراسة في طرق إعادة توزيع الدخل بالمزاوجة بين اعادة توزيع الدخل مع بقاء شكل الملكية الخاص ، و تحقيق نظام ضمان اجتماعي و صحي و مدفوعات للعاطلين عن العمل و المعوقين و العجزة يمثل احدى ذرى التطور في التعامل مع الانسان .
إن إدخال هذه الأحزاب و غيرها في ستراتيجيات التحالف مع احزاب اليسار الماركسي بدلا من تركها معزولة احيانا امام اغراءات التحالف مع اليمين دورا مهما في توسيع طيف التحالفات و تقوية نفوذ اليسار بقيامة بخطوة ضرورية نحو الوسط .
و بات من الضروري عدم بقاء احزاب اليسار الماركسي في العراق أسيرة للنظرة الستالينية القديمة في الموقف من الاشتراكية الديمقراطية .
****
اليسار و الدوغما
تعني الدوغما ببساطة تغليب النظرية على متطلبات الواقع ، وقيام حاملها بتكذيب الوقائع او اعادة تفسيرها بما ينسجم مع النظرية ، مما يجعله يعيش في الوهم و يبتعد عن الواقع . أدى تجاهل الواقع و السعي بموجب الدوغما الى العمل على إقامة موديل معد مسبقا و التمسك به رغم أن تطور الحياة الواقعية يجري باتجاه آخر تماما ، أدى هذا الى الفشل في وضع اهداف ملموسة واقعية . و الدوغما ، التي هي ابنة النظرية الشاملة ، هي العدو اللدود للتعامل السياسي الواقعي ، فالسياسي الناجح لا يمكن ان يكون دوغمائيا ، و الدوغمائي لا يمكن ان يكون إلا سياسيا فاشلا .
و اليسار يحتاج اليوم الى المهارات السياسية ، بمعنى التعامل مع الوقائع كما هي و تحديد السلوك و البرامج على ضوء حركتها . و قد اغرقت الدوغما الكثير من أحزاب اليسار بالمواقف العاطفية ، و تحديد السلوك السياسي من منطلقات الحب و الكراهية . بوجد الآن عالم قائم ليس كما نرغبه بل كما هو و علينا التعامل معه .
****
المطالبة بتأجيل النقد
يتعرض الشعب العراقي لهجمة ارهابية شرسة قلما تعرض لها شعب في التاريخ الحديث و يتزايد الشعور لدى ابناء الشعب بالعجز عن فعل شيء و عن ايقاف الإرهاب الذي يحصد ارواح الناس من مختلف الطوائف و الأديان و القوميات و تتراجع باستمرار الثقة بالمؤسسة السياسية و بالساسة عموما و لكن هذا الظرف الشائك و المعقد و المأساوي دفع البعض الى القول بأن الظرف الحالي يجعل من النقد في مصلحة الأرهاب و اعداء العملية السياسية و ان علينا في مثل هذا الظرف ان نتوقف عن النقد ، و نفس هذه الاصوات كانت تعارض النقد الحقيقي في كل الظروف حيث كان الحزب دائما يتعرض الى مواقف صعبة منذ تأسيسه عدا فترات لا تتجاوز سنة او سنتين فهل يعني هذا اقصاء النقد من الحياة الداخلية للحزب ؟ من الواضح ان النقد كقانون للتطور الذاتي لا علاقة له بالظرف الذي يمر به الحزب و انما له علاقة بتطور الحياة نفسها و بما ان الحياة لا تتوقف عن التطور فان النقد لا يمكن ان يتوقف .
النقد هو الطريقة الوحيدة لتجاوز الواقع نحو مرحلة اعلى . و يقوم الانسان بنقد نتاجه المادي و الفكري من اجل نتاج لاحق افضل . و لكن الاوساط المحافظة و خصوصا في مجال الفكر تحارب الجديد و تتحسس و تحارب النقد و تطلق على النقد اوصافا ليست فيه فتعتبر النقد تهجما مثلا أو انتقاصا من هذا الرفيق أو ذاك .
و من الحجج التي تنطلي على الكثيرين القول ان على المرء ان لا يمارس النقد في وقت الصعوبات التي يمر بها الحزب بقولهم مثلا : " ان كل ما قلت ، أو كل ما كتبت كان صحيحا و انا متفق معك و لكن الوقت الان ليس وقت النقد بسبب تعرض الحزب او المؤسسة او النظام ....الخ الى التحديات و الصعوبات " و هذه الحجة هي من الحجج الواهية لكنها الآن للاسف واسعة الاستعمال ، و سيرى المطلع على تاريخ الاحزاب الشيوعية و خصوصا حزب البولشفيك في روسيا في الفترة منذ بداية القرن العشرين حتى بعد انتصار ثورة اكتوبر أن الصعوبات التي كان الحزب يواجهها و المخاطر كانت على اشدها بما في ذلك الحرب الأهلية و التدخل الخارجي لكنها رغم ذلك لم تجعل من الحزب يتوقف عن النقد و اعادة التقييم بل لم تجعله يتوقف حتى عن الاعتراف القاسي بالاخطاء و كان النقد و تصويب المسيرة بواسطته على اشده كما كانت اكثر الكتابات التي كتبت في ذلك الوقت تقوم على النقد و التصويب و تجاوز الاخطاء .
و يحتاج الحزب الى ممارسة النقد بغض النظر عن الظروف بإعتباره قانونا من قوانين التطور ، مما يعني ان توقف النقد هو توقف للحياة . يبلغ النقد ذروته في المؤتمرات الحزبية ، و به تتم اعادة تقييم التجربة و استبعاد العوامل المعرقلة لاستمرار المسيرة .
و تقاس جدية أي حزب بمقدار تقبله النقد و تكريس آلية منظمة لممارسة التقييم و اعادة التقييم سواء داخل المنظمات الحزبية أو بالإستماع الى اراء عامة الناس و حتى بسطائهم . و كثيرا ما رأينا كيف كان لينين و قادة آخرون في الحركة الشيوعية العالمية يستمعون بصبر و تروي لما يطرحه العمال و الفلاحون و بسطاء الناس من مشاكل و من وجهات نظر . رغم ان القادة كانوا يحظون بمستوى عال في العادة من التعليم و درجة عالية ، كما يفترض ، من الاطلاع فانهم كانوا بحاجة الى الاطلاع على الكيفية التي تفكر أوساط اخرى من الناس و من مختلف الشرائح الاجتماعية من خارج الدائرة الحزبية المباشرة . إن الاكتفاء بالإستماع الى كوادر الحزب و الاستماع الى الآراء التي تطرحها الدائرة الضيقة المحيطة بالقيادة تجعل من قيادة الحزب تتداول المعلومات و التحليلات في دائرة ضيقة كما إن الآراء المطروحة غالبا ما تقوم على المجاملات و الترضية و الرغبة في التسلق و تحقيق المصالح الشخصية من اجل ارضاء القيادات .
****
من ليس معي فهو ضدي
إن من الأصوب أن نقول : من ليس ضدي فهو معي . هذه القاعدة الذهبية ادركتها بعض الأحزاب الشيوعية في اوربا الشرقية متأخرا و ربما بعد فوات الأوان . ففي محاضرة على حدائق اتحاد الأدباء العراقيين ألقاها رئيس اتحاد الادباء الهنغار في السبعينات أشار إلى ان الحزب و المؤسسات التابعة له ، و ضمن ذلك بالطبع اتحاد الادباء ، كانوا يعملون بقاعدة : " من ليس معي فهو ضدي " ثم أضاف : " إننا بعد ذلك أدركنا أن القاعدة الصحيحة يجب ان تكون : " من ليس ضدي فهو معي " .
و لكن كيف علينا ان نفهم كلمة " ضدي " هذه ؟ و من هم أولئك الذين يجب أن يحسبوا ضمن الاضداد في النظام الاشتراكي و من بعض احزاب اليسار ؟ هذه المسألة تتوقف على مدى انفتاح و تساهل الجهة المعنية بتحديد كلمة " ضدي " أي الحزب أو المؤسسة أو الفرد . فبعض رفاقنا إعتبر أن انتقاد صناعة سيارة المسكوفج هو بمثابة دعاية غربية مضادة وعمل معاد للاشتراكية و فكر اليسار! .
و على العموم فإن الموقف المتشنج من النقد او الملاحظات البريئة أو تلك المحكومة بأفضل دوافع الحرص تكون عرضة للموقف المعادي ناهيك عن العداء لمواقف النقد العميقة التي تعالج ما تحت السطح . وكل هذا التشنج و الحساسية يقلص باستمرار عدد الملتفين حول الحزب من الذين يريدون ، في آن واحد ، أن ينتموا للحزب و أن لا يفقدوا حرية التعبير و يريدون أن يمارسوا حرياتهم و يعكسوا وجهات نظرهم في احتمالات التطوير . على أن المفارقة تكمن بأن اشد الاطراف اشمئزازا من النقد و رفضا له هي تلك الأوساط من الساسة التي قادت الحزب سنوات طويلة اتسمت بالتراجع المستمر و الهزائم و التي تتحمل مسؤولية رئيسية أو جزئية عن الانحسار في فكر اليسار و لكنها في الوقت نفسه لم تفكر مرة واحدة بالقاء نظرة نقدية على سلوكها السياسي السابق و التي تقف في الوقت نفسه موقفا عدائيا جدا من النقد مستعملة كما لديها من سلطة ـ نحمد الله انها ليست سلطة الدولة ـ لمعاقبة الناقدين من الذين يمارسون حريتهم الانسانية في التعبير عن انفسهم مع علمهم انهم ـ أي الناقدين ـ لا يتجاوزون دورهم القائم على مجرد ابداء الرأي و انهم لا يمتلكون السلطة و لا يمتلكون مواقع قيادية قد تسبب اشكالات او كواراث سياسية .
****
العلاقة بالشباب
تعكس علاقة أي حزب بالشباب مدى ديناميكيته و قدرته على التجديد ، و يدخل احصاء نسبة الشباب في الحزب ضمن اهم التحليلات التي تهتم بها الاحزاب من أجل معرفة مدى تقبل الجيل الجديد لطروحات الحزب و تعامله مع القضايا المعاصرة . و لا يمكن جذب الشباب بدون التجديد و التحديث المستمر في الرؤية و البحث عن اشكال جديدة من النشاط المفتوح غير المسييس فمنذ عشرات السنين حافظت النشاطات الاحتفالية على سبيل المثال على نفس الايقاع . و بالرغم من التراجع في الدعوات الى فن " ملتزم " الا ان الفن الملتزم لا يزال يعني لدى الحرس القديم الفن و الادب المباشر الى يشير صراحة على سبيل المثال لا الحصر الى وجود صراع بين العمال والرأسماليين أو بين الاخيار والاشرار أو أي شيء يرمز الى ذلك مما يسقط الفن في المباشرة و الرتابة و هي متطلبات تفرض ولو ادبيا على المبدع المسييس و يتعرض فيها نتاجه الابداعي لنقد غير المتخصصين من القيادات الحزبية التي تنصب نفسها حكما على الأبداع لتحديد عناصره البناءة .
إن مدارس الحداثة و ما بعد الحداثة لم تصل بعد الى الكثير من الذين يقررون مصائر الاتجاهات الفكرية لدى اليسار و لازال ممثلو ما قبل الحداثة معششين في المؤسسات الثقافية . و بما أن الحداثة مرتبطة الى حد كبير بالجيل الجديد من الشباب فان النتاجات الابداعية التي تهتم بها صحف اليسار و منابره الاعلامية ستكون من النوع الرتيب و الممل و لا تمتلك الجاذبية الكافية للشباب الذين اصبحت لديهم خيارات غير محدودة في ظروف عصر المعلومات وتوفر خدمات الاتصالات و الحاسبات و شبكة الانترنت . ان وجود خيارات غير محدودة في مجال الاعلام تتطلب دون شك نتاجات ابداعية و اعلامية من نوع استثنائي تجعل من الجيل الجديد بل و حتى من الجيل القديم راغبا في تكريس وقته لقراءة صحيفة او نشرة .
****
اليسار والعلمانية
شهدت موجة الأسلمة تراجع دور اليسار . و بالرغم من أن بعض الاطراف تحاول تحميل الظروف الموضوعية دائما مسؤولية التراجع و تنسب سببه في العادة إلى : القمع المستمر ، الإمبريالية العالمية ، سقوط الاتحاد السوفييتي ، العولمة ..الخ ، لكن الحقيقة أن اليسار و اليسار العراقي على وجه الخصوص يتحمل المسؤولية الرئيسية في تراجع نفوذه بين الجماهير . و لكي نناقش واحدة من هذه الحجج و هي دور القمع نسوق مثالين للرد على مثل هذه الادعاءات عندئذ سنجد أن القمع لا يلعب سوى دور جزئي في الحد من نفوذ الحزب و لو كان الأمر يتعلق بالقمع فقط لكان استعاد النفوذ و عززه أكثر بمجرد سقوط النظام الديكتاتوري بدليل أولا أن الحزب قد تعرض الى حملة ابادة شرسة في الثامن من شباط 1963 و لكنه عاد و تعافى بسرعة في ظروف بالغة الصعوبة و كان أكثر حزب يحرك الشارع لان سياسته و ثقة الناس بها كانت على أعلى درجاتها و كانت الجماهير تنظر اليه كمنقذ و حيد قادر على تخليص الشعب من الانقلابيين و استئناف المسيرة . و الدليل الثاني أن الاحزاب الاسلامية قد تعرضت هي الاخرى الى قمع شديد و لكنها سيطرت على الشارع بمجرد سقوط النظام و سدت الفراغ السياسي الذي سببه غياب دور اليسار .
إن الموضوع يتعلق بالدرجة الاولى بصواب السياسة واختيار الشعارات و دفعها الى الواجهة مهما كانت الصعوبات و سوء الفهم المؤقت الناشئ عنها . هناك من الشعارات ما يشكل جوهر الحزب و هويته مما يتطلب التمسك بها من أجل الهوية و أقصد على وجه التحديد التمسك و الاعلان عن ايمان الحزب بالعلمانية الذي كما ذكرنا في سطور سابقة سيعمل كما المرشح ( الفلتر ) في جذب الاوساط المدركة لأهمية فصل الدين عن الدولة هذه الاوساط التي تتعزز في العراق يوما بعد يوما .
و لكن اتجاهات المجاملة و السير وراء الجماهير بدلا من السير امامها ، الانقياد لها و ليس قيادتها ، هي التي جعلت من اوساط واسعة من المثقفين و من اوساط الناس المتنورين الذين يبحثون عن موقف شجاع يصابون بالاحباط ، في نفس الوقت لم تؤد سياسة المجاملة للاوساط الدينية التجهيلية سوى الى فقدان البوصلة والهوية .
إن هوية العلمانية للحزب يجب أن تعلن عاليا و بدون اية مواربة .
يتبع الجزء الثالث
منير العبيدي