بأي معنى تم التخلي عن اللينينية


منير العبيدي
2007 / 9 / 15 - 12:36     

في مجال الفكر كما في مجال الفيزياء و العلوم فإن الفكر كالمادة او أيٍ من أشكالها : " لا يفنى و لا يستحدث من العدم " .
و لم ينشأ أي فكر من لا شيء و إنما تأسس على ما قبله ، ليس بأخذه للفكر السابق له على علاته و لكن بتفحصه نقديا : ما شاخ منه و أثبت انه اصبح غير مصيب من جهة ، و ما بقي منه حيا قادرا على المواصلة من جهة اخرى ، فماركس أسس فكره بشكل مباشر على فيورباخ و هيغل ، و بشكل غير مباشر على كل الفكر السابق له. و لكن هذا التأسيس كان :
1 ـ نقديا . أي ان ماركس نظر الى ما هو من فكر كلا المفكرين لا زال ذا قيمة ، فأعاد إنتاجه ، و الى ما هو شائخ فنبذه.
2 ـ إدرك نسبية بعض الحقائق و أطلاقية بعض اطر التفكير المنهجية وهي طبعا قليلة في كل فكر كما في فكر ماركس نفسه .
و لكننا حين نشدد على أن ماركس أسس فكره بشكل مباشر على فيورباخ و هيغل أنما نقصد بذلك أنه قد اسس فكره في الواقع على كامل التراث البشري بمعنيين . ذلك أن فيورباخ و هيغل و كل الفلاسفة و المفكرين قبل ماركس و بعده قد اسسوا فكرهم على كامل التراث العالمي فورث منهم بشكل غير مباشر، و إن ماركس قد اعتمد على افكار عشرات و مئات المفكرين الاخرين في كافة المجالات هنا و هناك .
و من هنا قلنا أن الفكر كما المادة لا تخلق من العدم .
و لكن الفكر ايضا يشبه المادة في صفة أخرى من صفاتها : أنه لا يفني ، و لابد أن تبقى الكثير من عناصره ، خفية كانت أم معلنة ، في فكر الأجيال التالية حتى لو لم نشر اليها او نحس بوجودها أو أن نستطيع تتبع مناشئها .
على أن العنصر المهم في عمل الفكر البشري هو أن التخلي عن فكر ما لا يقوم على رمية بالكامل . فعملية فكرية مثل هذه غير موجودة على الاطلاق . و أن مفكرا مثل لينين لا يمكن التخلي عنه بقرار كما لو كنا نرمي قميصا قديما .
من الممكن أن يكون صحيحا التخلي عن فكر لينين بإعتباره مرشدا دون غيره بسبب تقادمه و بسبب انفتاحنا على كل الفكر البشري . و عندها تثار عدة نقاط ، أهمها تساؤل جدلي يلح و يطالبنا أن نوضح ما يلي : من أية زواية تنقد الفكر الشائخ و ما هي تلك العناصر الفكرية التي تراها قد شاخت . و من الذي يحدد ما هو الشائخ و القديم في فكر مفكر ما ترك آثارا لا تمّحي مثل لينين ؟
أما أن ترمي الفكر بكامله في سلة المهملات فهذا عدا كونه خطوة غير حكيمة فانها غير ممكنة عمليا ، فكما قلنا فان الفكر كالمادة لا يفنى . بل اننا لا نستطيع ان نعزل العناصر الفكرية التي تعود الى لينين من تلك التي تعود لغيره في ظل اشتباك الافكار و تراكمها التاريخي .
امس قامت بعض الأحزاب بالتخلي عن اللينينية و أبقت على الماركسية ... لماذا ؟
من أية زاوية تم التخلي و ما هو البديل ؟ بأي فكر يتم ردم الفجوة الناشئة ؟
هل نقد فكر لينين تم من الخلف ام من الامام ؟
بمعنى آخر ان نقد فكر او ظاهرة يمكن ان يتم من وجهة نظر مستقبلية تقدمية او من وجهة نظر رجعية . تهدف النظرة النقدية التقدمية للينين و لكل فكر بشكل عام الى : اقصاء افكاره الشائخة و العتيقة و الداعية الى احتكار السلطة مثلا و تأسيس سلطة الحزب الواحد .
أو وجهة نظر نقدية رجعية محافظة تود العودة الى و ضع ما قبل اللينينية .
و بالرغم من أن لينين قد وضع تصورات نظرية و نسخة تطبيقية لدكتاتورية البروليتاريا بعد نجاح ثورة اكتوبر الا أن لينين ليس مكتشف ديكتاتورية البروليتاريا بل ماركس هو الذي فعلها في اعقاب كومونة باريس .
فاذا المقصود بالتخلي عن اللينينة هو التخلي عن ديكتاتورية البروليتاريا فإننا عندئذ ينبغي أن نتخلى عن الماركسية ايضا و الا سنكون انتقائيين و لسنا علميين .
هذه النقطة فرعية . و لكن النقطة الرئيسية أن ناقدا يوجه نقده لحزب ما او برنامجه من الممكن أن يكون ناقدا رجعيا اسلاميويا يرى أن كل الفكر الاشتراكي و الشيوعي هو كفر و خرافة و أن حقوق المرأة و التشريعات التي صدرت ليست سوى خروج عن الدين و إن الله خلق الفروق و ان علينا ان لا ندخل تعديلات على ملكية وسائل الانتاج و ان لا نوزع الارض على الفلاحين .. الخ .
أو أن يكون الناقد من الجهة المعاكسة ، من ا لذين يرون أن هذا الحزب او ذاك قد تخلى عن ديكتاتورية البروليتاريا و هو يؤيد الحزب في ذلك و لكنه يرى :
أما أن هذا غير كاف .
أما انه يرى أن هذا تم شكليا و لكن الجوهر بقي نفسه و لا يوجد تغيير حقيقي في السلوك السياسي .
و لكن الباعث على الأسى أن جميع النقاد يوضعون في سلة واحدة كمعادين و لا يتم النظر الى النقد و الى الزاوية التي ينطلق منها .
* * * *
كتب لينين كتابه الشهير " خطتان للاشتراكية الديمقراطية ... الخ "
أشار لينين الى ما يلي : أن الحكومات الرأسمالية هي ديكتاتورية المالكين و لكنها ديمقراطية فيما بين الطبقات المالكة ، وصاغ شعارا بديلا : " ديكتاتورية العمال و الفلاحين الديمقراطية الثورية " .أي أن الديكتاتورية و الديمقراطية وجهان لعملة واحدة .
ديكتاتورية ديمقراطية ؟؟!! تسائل الكثيرون .
أجاب لينين نعم ديكتاتورية على خصومنا الطبقيين مالكي وسائل الانتاج و ديمقراطية للعمال و الفلاحين و احزابهم و صحفهم و مناضليهم و كوادرهم ...الخ .
و ديمقراطية الرأسماليين ايضا ديمقراطية لمالكي و سائل الانتاج و البرجوازية و لكنها في الوقت نفسه ديكتاتورية على العمال و كل من يهدد اسس الملكية الخاصة .
و هل طبق لينين ديكتاتوريته الديمقراطية ؟
نعم كان لينين " كول وفعل " كانت السلطة السوفيتية شديدة على خصومها الطبقيين و المعادين للثورة ، و لكن لينين كان ديمقراطيا مع رفاقه و مع كل المفكرين الاشتراكيين و مع العديد من الكتل الاشتراكية و كل المناضلين ضد القيصرية الا اذا لجئوا الى العمل المسلح ضد السلطة السوفيتية ، لا بل أن لينين حين أصبح رئيسا لمفوضي الشعب " رئيس وزراء " في أعقاب الثورة كان يدعم الباحثين العلميين حتى من المعادين للثورة و المتعاطفين مع القيصرية طالما كانوا منغمرين في عملهم العلمي و لا يقومون بعمل مسلح ضد السلطة . فقد قدم لينين كل التسهيلات لبافلوف العالم الروسي الشهير و قد خصص مبالغ كبيرة في زمن المجاعة لإطعام الكلاب التي كان بافلوف يقوم باجرء الابحاث عليها حتى أن احد اصدقاء بافلوف من المشاهير قال حين رأى الكلاب الشبعانة وسط المجاعة التي عمت البلد : " اتمنى أن اكون كلبا من كلاب بافلوف " رغم أن بافلوف لا يتورع عن التصريح برأيه من أن ثورة اكتوبر هي ثورة اوباش و ان القيصرية هي الحكم الاسلم للشعب الروسي و لكن كل ذلك لم يجعل من لينين يقصيه أو يحاربه .
و كانت البرافدا صحيفة الحزب و الاجتماعات الحزبية تطرح و جهات نظر الكتاب و الخطباء ،و جهة نظر لينين اسوة بخصومه و اعدائه الفكريين ، و كانت مؤتمرات الحزب تمثل سجالا فكريا بين مختلف التيارات الفكرية على قدم المساواة و كانت التعددية الفكرية بأجلى صورها .
ثم جاء ستالين و نسف مفهوم لينين الطبقي عن الديمقراطية و الديكتاتورية فجعلها ديكتاتوية الحزب و ليست ديكتاتورية الطبقة ثم ألغى وجهها الديمقراطي ثم كرس ديكتاتورية الحزب لديكتاتورية الفرد و لجأ الى اقسى درجات القمع ليس فقط ضد الخصوم الطبقيين بل و ضد ممثلي الطبقة العملة و حزبها على حد سواء و صفى و قتل كما ذكرنا في مقال سابق جميع الخصوم الفكريين من رفاق السلاح ممن كان دورهم حاسما في انتصار ثورة اكتوبر .
و بذا فاننا نستطيع الى نصل الى نتيجتين :
1 ـ بالرغم من أن الستالينية جاءت تاريخيا بعد اللينينة الا ان الستالينية متأخرة عن اللينينة و رجعية و قمعية قياسا بها و معادية لحرية الرأي و بعيدة عن تطبيق الديمقراطية حتى بمعناها اللينيني الطبقي .
2 ـ نحن الآن في القرن الواحد و العشرين و لدينا حقيقة أنه حتى الديمقراطية اللينينية النسبية و الطبقية أصبحت ضيقة جدا في التعبير عن متطلبات عصرنا و علينا حقا التخلي عنها .
و لكن لصالح من ؟ هل لصالح الستالينية التي كانت ترفض الرأي الآخر حتى لو كان من رفاق الحزب لصالح الستالينية التي كنست المنابر و وحدت الحزب قمعيا تحت راية القائد الواحد ؟
و اذا ما قال قائل لا بل اننا نرفض الديمقراطية اللينينة النسبية و الطبقية لصالح ديمقراطية أكثر شمولا و تطورا و تنوعا !
سأقول له أن لينين الذي لم تكفنا ديمقراطيته و نريد أن نطورها قد كان يعمل مع الرفاق المعارضين لوجهة نظره بود و بدون عداء او اقصاء او تصفية ، و كانت صحافة الحزب و الصحيفة المركزية البرافدا تسمح بالآراء المعارضة و المؤيدة على حد سواء لقرارات اللجنة المركزية و لشخص السكرتير الأول ، و لم يكن هناك شيء اسمه خط الحزب و لم تكن سياسة الحزب تتبلور الا بعد نقاش علني و امام العمال و جماهير الشغيلة و يطرح فيها كل راغب في الكلام رأيه .
فهل نرمي هذا الجانب و نتخلى عنه مع اللينينية أم نقيمه و نطوره ؟
و هنا ليس أمامنا سوى طريقين أن نستمر في التقاليد اللينينية و نطورها الى الأمام و نحدد ملامح تطويرها لا أن نلغيها لنستبدلها بالعدم او بالفكر الستاليني .
* * * *
كتب لينين العشرات من الكتب و المقالات و يمكن تلخيص اهتماماته في الاتجاهات التالية :
ـ سياسية تتعلق بتحليل الوضع السياسي في روسيا و العالم .
ـ اقتصادية و أهمها كتابته لكتاب الامبريالية اعلى مراحل الرأسمالية و التي اكتشف بها امكانية انتصار الثورة في بلد واحد
ـ فلسفية مثل كتابه الشهير " المادية و المذهب التجربي النقدي "
ـ تنظيمية تتعلق بشكل الحزب الثوري و طرق التنظيم .
و بذا يكون لينين قد عالج طيفا واسعا من المشاكل التي كانت روسيا و العالم يواجهانها تتعلق بشكل تنظيم الحزب و الدعاية و التحريض و فنون تحريك الشارع و تجنب الوقوع في يد رجال الامن و المشاركة في البرلمانات الرجعية و تحت أية شروط تكون ممكنة و استخدام المؤسسات البرلمانية البرجوازية أو حتى الرجعية لفضح السلطة . كما عالج لينين مؤتمرات الحزب و كيف تكون فاعلة ، الهيئات المتفرعة عن المؤتمر ، اللجنة المركزية ، المكتب السياسي و لجنة الرقابة المركزية ، الصلاحيات المناطة بكل واحدة منها و صحافة الحزب ... الخ . ثم كتب و عالج التكتيكات الثورية و تكتيكات الانتفاضة ، ما هي شروط انتصارها . العمل في النقابات و المؤسسات المهنية و الجماهير ، تنظيم العمل التعاوني و شكل تعاونيات الفلاحين و المزارع الجماعية . الامبريالية و ملامحها الجديدة في بداية القرن و هل كانت حقا بداية النهاية للأمبريالية ؟ الحزبية في الأدب . المرأة قضاياها . بصدد المساومة و سياسة التحالفات ما هي شروطها ؟ كيف يمكننا ان نعقد تحالفات دون أن نلحق الضرر بهويتنا ؟ الخ ... الخ
هل يمكن ان نرمي ذلك كله و برمته ؟ الا يوجد شي في ما كتبه لينين و عمله صالحا للاستعمال ؟ اذا ما تخلينا عن هذه النقطة أو تلك في الفكر اللينيني ما هي البدائل التي نردم بها الفجوة ؟
ان التخلي عن اللينينة هو مسار فكري طويل لدى الاحزاب الشيوعية في اوربا وخصوصا الغربية منها بدأت جذوره الأولى منذ السبعينات أو حتى قبل ذلك بواسطة الكثير من المفكرين و خصوصا تراث الشيوعية الاوربية التي عملت منذ ذلك الحين على ايجاد تواؤم بين الفكر الشيوعي و الديمقراطية الأوربية ، و كانت هناك فلسفات و بحوث لبدائل فكرية لسد الفراغات الفكرية الناشئة عن فكر متماسك و شامل . إن رفض اللينينية لا يمكن نقله حرفيا و انما ينبغي أن يكون بواسطة دارسة شاملة تتبع افكار لينين و ما شاخ منها . و لا يمكن استعباد اجزاء من فكره بدون تأسيس بديل نقدي يجيب على الاسئلة الملحة التي طرحها و لكن بروح معاصرة و حداثية .
فهل هذا ما نقوم به ؟