|
غلق | | مركز دراسات وابحاث الماركسية واليسار | |
|
خيارات وادوات |
|
ما بعد الهوية ، جدل الثقافات ضمن حركة التاريخ (3)
راشد مصطفي بخيت
سنركز اهتمامنا في هذا المقال ، علي محاولة رصد أبرز التجليات الجديدة في حركة الثقافات السودانية وتداخلها العام منذ فترات قديمة ، والتي كما أسلفنا القول ، وَلَّدت نمطاً متميزاً من الثقافات الجديدة ، ولا بد أننا سنشير قبل ذلك كله إلي أن الأرضية التي قامت عليها الثقافة في السودان ، منذ الحضارات القديمة كانت إفريقية المنبت والتكوين في الأصل ، فقد " عرف العالم ميلاد ثلاثة مراكز ، نمت كلها مع الوقت وازدهرت ، لتحمل الثقافة والحضارة إلي داخل إفريقيا . وكان أول مركز من هذه المراكز هو ( كوش ) التي تمتعت بمكانة عالمية خلال القرن الثامن قبل الميلاد ، وظلت قويةً منيعةً في نفسها من بعد . بل أكثر من ذلك كانت في كثير من النواحي ، أكثر حضارات العهد القديم إفريقيةً . وما تميزت غيرها بما تميزت به ( كوش ) من طابع إفريقي خالص " بازل دافيدسون / أفريقيا تحت أضواء جديدة / ترجمة جمال محمد أحمد / دار الثقافة للنشر والتوزيع / بيروت / ص 79 . ذلك لأن الثقافات السودانية ، تعرضت في ماضيها الطويل إلي عدد من الموجات الثقافية المختلفة التي بدأت منذ القدم ولا ذالت مستمرةً إلي يومنا هذا . الشئ الذي أثر بدوره علي مسارات تكوين هذه الثقافات بدرجات متفاوتة . فقد تأثرت الثقافات السودانية القديمة بالثقافة العربية الإسلامية مثلاً وأثرت فيها في ذات الوقت ، الشئ الذي نلحظه جلياً في حالات أنماط التدين السائدة في العديد من مجموعاتنا الثقافية ذات الجذر العربي والإسلامي ، والذي خلق نوعاً مغايراً من نمط الثقافة والتدين المختلف كلياً عن وافده الأصل ، ووسمته الدراسات السودانية وخصوصاً الفلكور باسم ( الإسلام الشعبي ) الذي يكتسب تعريفه بواسطة مقارنته بسلبه الوافد (الإسلام الرسمي ) وهو الإسلام النصوصي أو الإسلام كما تقول به تفسيرات عصر التدوين الأولي . ففي حالة الدين مثلاً نجد أن الثقافات السودانية تعاملت بشكل أكثر إنفتاحاً مع ظاهرة الإسلام الصوفي الذي إنتشر بواستطته الإسلام في السودان . ويعود ذلك الأمر إلي أن ثقافة التصوف كشكل وكمحتوي ، تظل هي الثقافة الأكثر إقتراباً وتماثلاً مع شكل ومحتوي الثقافات الإفريقية .( فحلقة الذكر ) في شكل ممارسات التعبد عند المتصوفة ، تسقط نفسها أو تتماثل كلياً مع ( دائرة الرقص الإفريقي ) ذات الجذر الممتد في معظم الثقافات الأفريقية ، وترافق الطبول والترانيم المصاحبة لكلٍ تمثل قاسماً مشتركاً بين البنيتين . ومفهوم ( الولي ) في فكر وثقافة وإعتقاد المتصوفة ، يسقط نفسه هو الآخر ، أو يتماثل مع مفهوم ( الحكيم ) في الثقافات الإفريقية . وفكرة ( المهدي المنتظر ) الذي يأتي في غفلةٍ من الزمان ويلعب دور المخلص لآلام المسحوقين ومعاناتهم ، في الفكر الصوفي ، تقترب هي الأُخري من مفهوم ( الغريب الحكيم ) كما تقول به الثقافات الأفريقية ، وهكذا . إذن وجدت هذه الثقافات المحلية ضالتها المنشودة في التدين ، بواسطة ما وفرته خصائص هذا النمط المتماثل مع بنيتها شكلاً ومحتوي فأستقبلته بشكل مختلف عن وافده الأصلي وأضافت إليه العديد من موروثاتها المحلية . ولذلك فنحن عادة ما نجد أكثر من إسلام واحد بين هذه المجموعات الثقافية السودانية المختلفة ، لا يشبه نظيره الآخر في أي شئ في حالة توفره ضمن منظومات مجموعة أُخري . فمثلاً يختلف إسلام مجموعات النوبة التي تقطن شمال السودان ( دناقلة /حلفاويين / سكوت / محس ) والتي لا تري في شرب الخمر جرماً إجتماعياً خطيراً بينما يظل أكل لحم الخنزير بالنسبة لها من الموبقات ! عن إسلام مجموعات غرب السودان التي تمارس عادة إختطاف الأُنثي قبل الزواج وإرجاعها من بعد ذلك لتكملة مراسم الزواج وهي حبلي ، دون أن ينتقص ذلك من إسلامهم شئ . وفي ذات السياق تكمل قبائل البجا في بواديها معظم أركان الزواج الإسلامي بما فيها الإشهار ، لكنهم في ذات الوقت لا يأبهون كثيراً لأمر العقد الشرعي الموثق دون أن يتعارض ذلك مع إسلامهم في شئ أيضاً .
|
|