كيف تمكن البعض من تطوير ماركس خلال سبعة أيام بدون معلم ؟


منير العبيدي
2007 / 8 / 9 - 04:51     


إن استبدال الفكر القومي بما هو أرقى ، كما رأى ماركس : أي الفكر العالمي المنفتح أو الفكر الاممي ، هو أمر مفهوم و مبرر فكريا بغض النظر عن مدى واقعيته و بغض النظر عما إذا كانت التطورات الأخيرة قد زكته أم لا . اما الهجوم على الانتماء القومي و الفكر العروبي كما يسمى أحيانا من باب الهجوم و السخرية من قبل اناس يدعون الماركسية و ذلك من أجل فكر بديل هو فكر طائفي أكثر انغلاقا بكثير مقارنة بالفكر القومي و أكثر رجعية منه ، فإن هذا الأمر لا علاقة له البتة و بأي شكل من الأشكال بنظرة ماركس الى العالم ، فليكف مدعي الماركسية عن مهاجمة الفكر القومي دون ان ينظروا او يعرفوا أي بديل رفيع وضع ماركس له ، و لينسبوا أنفسهم بدون خجل او استحياء للفكر الطائفي . اما المحافظة على ماركس و الفكر الطائفي في سلة واحدة فهو امر يدعو الى الرثاء و السخرية .
في دفاعي عن اللغة العربية كلغة جميلة و رائعة كانت لقرون عديدة حاملة للثقافة السائدة في العالم و كيف انها اللغة التي استوعبت آداب و علوم العصر الحالي و كيف أن خيرة مبدعي و مفكري و شعراء العربية قد كتبوا بها ...الخ أمام الازدراء المعلن للغتنا و ثقافتنا من قبل بعض الأوساط التي تتحكم في مؤسسة ثقافية عراقية ، يفترض ان تكون احرص مني على اللغة العربية . و بسبب موقفي هذا أتهمت بأنني قد أصبح قوميا بعد أن كنت ماركسيا ، إذ ينبغي ، من وجهة نظرهم ، إن لا يدافع ماركسي عن لغته أو عن المشرف و الإيجابي في تقاليد قومه .
بهذا المثال و بأمثلة كثيرة اخرى وجدت إن ماركس قد تمت الإساءة إليه في الغالب من قبل تلك الاوساط التي تدعي الماركسية و التي تدعي إنها من أنصاره أكثر بكثير من الاساءات التي تلقاها ماركس من خصومه الفكريين أو أعدائه المعلنين ، و رأيت كم أن بمستطاع " انصار ماركس " أن يفهموا ماركس و خصوصا في الموقف من القضية القومية.
و معها وجدت إن بعض الاوساط التي تهيمن على المؤسسات الثقافية و تدعي اليسارية و لو على خجل و على استحياءِ من ارتكب ذنبا ، تحتاج الى من يعود ليشرح لها مرة أخرى بأقصى درجات التبسيط من اجل أن يوضح موقف ماركس نفسه من الثقافة القومية و نقده لما هو سلبي فيها و : من أي زاوية وجه ماركس النقد للفكر القومي آنذاك و لمصلحة من و ما هو البديل ؟ و أن نبتدئ من أكثر الحقائق بداهة و نتوخى البساطة في الشرح بما يشبه ما سمعناه عن طرق التدريس لدى الكتاتيب في العراق العثماني لدى ( الملالي) التي كان أطفال ذلك الزمان يتعلمون فيها لغة القرآن على طريقة التهجي التركية العثمانية : ( زي زبر زَ ) .
بل إني رأيت انه كان على ماركس ان يتجاوز تحفظاته و خجله و يتجرأ على طلب المساعدة مستعينا بأموال صديقه انجلز من أجل فتح مدارس لمحو الأمية الماركسية مخصصة لمحو أمية الماركسيين انفسهم بالماركسية وفي بلد ماركس في القرن الواحد و العشرين ! .
كيف نقد ماركس الفكر القومي
لقد نقد ماركس الفكر القومي الأوربي الذي أسس الدولة القومية الأوربية التي حاولت حشد كل المجتمع تحت الشعارات القومية من أجل طمس الفوارق الطبقية و من أجل التغطية على الاستغلال و تمويهه و ذلك بعد أن و ضعت الثورة البرجوازية الفرنسية 1789 على الورق المساواة الحقوقية و الشكلية بين المواطنين دون وضع أسس للمساواة الاقتصادية و مساواة الفرص . و رأى ماركس أن الرأسمالية الناشئة تحتاج لكي تخدع العمال إلى أن تقول لهم إن هذا الوطن هو و طن الجميع ، و ذلك من اجل أن يقبل العامل بمزيد من الاستغلال دون تململ . بل سعى منظرو البرجوازية الى ما هو أكثر مأساوية من ذلك : فبما أن الحروب كانت ملازمة لنشوء الدولة القومية ، فإن الدفاع عن الوطن الذي هو وطن أصحاب رؤوس الأموال و مصدر أرباحهم في الوقت الذي لا يمتلك العمال في هذا الوطن شروى نقير ، قد استعمل لخداع العمال و زجهم في جبهات القتال في الصراع بين الرأسماليين من أجل اعادة اقتسام العالم و أعادة توزيع الثروات .. أي زج العمال في حرب لا ناقة لهم فيها و لا جمل و من اجل ارباح رأس المال .
و لفضح هذا المفهوم المضلل قال ماركس للعمال ان على العمال من مختلف البلدان ان يتضامنوا ضد الرأسماليين من مختلف البلدان من اجل عالم خالٍ من الاستغلال و الحروب ، و أن التضامن الأممي هو البديل الصحيح عن التعصب القومي . بمعنى أن مصالح العامل الألماني تتقارب مع مصالح العامل الفرنسي اكثر مما تتقارب مع مصالح الرأسمالي الفرنسي و الألماني . و على الجانب المعاكس فإن مصالح الرأسماليين على اختلاف جنسياتهم تتقارب مع بعضها البعض اذا ما تعرض رأس المال هنا أو هناك الى تحدٍ من قبل القوى المعادية لسلطة رأس المال .
لم يكن ماركس مخطئا في وقتها ابدا ففي أعقاب الحرب البروسية ـ الفرنسية 1870 التي شنها بسمارك من أجل تحقيق الوحدة الألمانية و توسيع سوق رأس المال ومجاله الحيوي و على إثر هزيمة فرنسا فيها و استياء الشعب من الحكومة المهزومة قامت ثورة كومونة باريس التي أقامت شكلا مبكرا من سلطة العمال ، فما كان من الحكومتين المتخاصمتين المانيا و فرنسا و اللتين كانتا تخوضان حربا ضروسا ضد بعضهما البعض إلا أن تصالحتا فورا لمواجهة الكومونة . وبسرعة مذهلة تحول القائد الفرنسي تيير و هو العدو اللدود لبسمارك الى صديق حميم له ، و تناسى الطرفان الحاكمان خلافاتهما و أرسل بسمارك ، عدو الامس القريب ، المساعدات الى تيير الفرنسي لكي يقضي على الكومونه و يغرقها بالدماء .
و هكذا اتضح أن الانظمة الحاكمة في اوربا كما توقع ماركس تخاف من الطبقة العاملة أكثر من خوفها من بعضها البعض حتى لو تعادت و دخلت في حروب فيما بينها . و الأمثلة كثيرة على ذلك و أكثر من وافرة . و كمثال معاصر نجد انه على الرغم من العداء الشديد بين نظام الثورة الإيرانية في زمن الخميني و النظام العراقي السابق اثناء الحرب العراقية الإيرانية و إيغال البعض في دماء البعض الآخر الا ان كلا النظامين كانا متفقين على معاداة الشيوعية و اليسار ، فإلى جانب الحرب المعلنة بين بعضهما البعض كانت هناك حرب غير معلنة على الشيوعيين أي ضد ممثلي الطبقة العاملة في كلا البلدين و هذا الأمر ما لم يكن النظامان رغم خلافاتهما الدموية يختلفان عليه كما أن ضحايا الحرب كانوا من الطرفين هم من الطبقات الفقيرة المضللة فيما تدبر الاثرياء امر اخفاء ابنائهم حيث يكونوا دائما في أمان .
و من هنا جاء شعار ماركس " ياعمال العالم اتحدوا" أي إنه قال لهم انكم اقرب الى بعضكم البعض ضد رأسمالية جميع البلدان و ضد الطغاة تحت أي مسمى كانوا .
بأي لغة كتب ماركس رأس المال ؟
و لكن ماركس في دعوته للأممية لم يوص العمال الفرنسيين أو الألمان أن يستهزئوا بثقافتهم و أن يتنكروا و يستخفوا بلغتهم و ادبهم ، بل على العكس كان ماركس إلى جانب تأكيده على على المضمون الاممي للثقافة التي تدعو الى تقارب ثقافات البلدان كبديل عن التعصب القومي يحترم الثقافات المحلية ولم يقلل من شكل الثقافة أي لبوسها اللغوية و قدرة اللغة على التعبير ، بل كان ماركس عارفا ضليعا باللغة الالمانية و مطلعا ممتازا على نتاجات الادب الالماني و الا ما أستطاع أن يصوغ افكاره العميقة في الفلسفة والاقتصاد و السياسة .
كانت رسائل ماركس الى زوجته التي احبها كثيرا تمثل قطعا أدبية رقيقة و ذات شاعرية عالية ، و لم يكن ذلك بمستطاعه لولا إلمامه باللغة الالمانية و اطلاعه على رائع الأدب الألماني . و لو انه كان على غرار ابطال مؤسساتنا الثقافية العراقية مزدريا للغته لما استطاع أن يكتب كتابا ذا قيمة ، واستعمل رقي اللغة الألمانية و دقتها في التعبير عن آرائه و كان مطلعا على أدب غوته و شيلر وغيرهم من كبار الكتاب الألمان و غير الألمان ، كما كان لينين ، فيما بعد ، واسع الاطلاع على الادب العالمي بقدر ما سمحت له مشاغله السياسية و قد أشاد اكثر من مرة ببوشكين و غوغول و ليرمنتوف و أقتبس الكثير من الصياغات الأدبية التي كتبها أدباء روس . و أعتبر السوفييت الأشتراكيون بوشكين المؤسسَ الحقيقي للغة الروسية الحديثة وافتخروا به .
و شرح ماركس ، و لكن ليس على طريق ( زي زبر زَ ) أن في كل تراث قومي ، مهما كان و أيَّ قومٍ مثل ، جوانب ايجابية و مفاهيم ثورية و أشكالا إبداعية أصيلة ليس المطلوب رميها او ازدراؤها و انما الاعتزاز بها و تطويرها و منها الفنون و الفولكلور و الأدب و طبعا اللغة ، فبدون اللغة لا يمكن لأحد أن يعبر و أن ينقل فكرة ، صالحا كان ام طالحا ، للاخرين ، و اذا ما حملت لغة ما مفاهيم قومية و شوفينية فان الذنب ليس ذنب اللغة بل هو ذنب مستعملها ، كما انك في سلة واحدة يمكنك أن تحمل ما صلح و ما طلح .
و لذا لا ينتقد الايجابيون في حركة اليسار و المعادون لحركة العولمة الرأسمالية المسار الموضوعي الاقتصادي للعولمة الذي يعتبرونه لا مرد له و الذي يتمثل في توسيع الأسواق العالمية و تعزيز المعلوماتية و الاتصالات ..الخ ، و انما يركزون نقدهم ، ضمن أشياء اخرى ، على ما يمكن أن تؤدي إليه العولمة من محو المحليات من تقاليد محلية ايجابية و من طرق تعبير و تلميحات خاصة ، الى امثلة شعبية الى ادب و ثقافة أو نمط معيشة بالكامل مع حاملها الطبيعي اللغة طبعا . و ينخرط المتعاملون الإيجابيون مع العولمة ( من الذين يرون تعذر تفاديها و لكنهم يعتقدون بامكانية التأثير على توجهاتها ) في كتابات و بحوث حول كيفية جعل العولمة أقل قدرة على مسح الخصوصيات لتفادي ما يحول عالمنا الى مجموعة نسخ مكررة مملة .
و هذا كله ، أي الاعتزاز بما هو محلي ، ليس له علاقة بالتعصب القومي .
و اليوم في الظرف الراهن يستغل بعض مثقفينا العراقيين الموقف المخيب للأنظمة العربية من مواقف ساندت الدكتاتوريات و القمع الدموي في العراق ، كما يستغل بعض مثقفينا موقف بعض المثقفين الشوفينيين العرب لكي يشنوا حملة شعواء على العديد من المفاهيم و منها مفهوم " العراق " لكي يضعوا نظريات بائسة ضد هذا الاطار الجميل للتنوع و الثراء منذ فجر البشرية و يحرضوا ضد مفهوم الحضارة العربية الأسلامية و ما حققته من منجزات جعلت من بغداد متروبول العالم ، و يتم الهجوم على اللغة العربية و إعتبارها لغة عاجزة لأغراض سياسية بعد أن أشاد بها كل عارف جيد بها حتى بين أولئك الذين لا يمكن أن يتهموا بأنهم متعاطفون مع العروبة .
و من الملاحظ أن أكثر الناس هجوما على اللغة العربية هم أكثر الناس جهلا بها .
و ان الذين يزعقون من اجل سلخ العراق عن محيطه العربي بالكامل بسبب مواقف بعض الحكام العرب هم انفسهم الذين يرحبون بحرارة بنفوذ دولة جارة مستبدلين الفكر القومي ، كما يسمونه ، ليس بفكر عالمي راق فكر يتجاوز الحدود الضيقة و يمثل ثقافة كل الامم ـ على إعتبار انهم ماركسيون ـ انما بفكر ظلامي ـ قومي أشد ضيقا و تعصبا وعزلة مكروه دوليا معاد لكل مسعى بناء و ايجابي في منطقة الشرق الاوسط .
إن بديل ماركس لما هو قومي ضيق لم يكن سوى ما هو عالمي متسامح و منفتح و ليس الانسلاخ عن القومية لما هو أشد ضيقا : الطائفية . و أن يكون ماركس نفسه ناقدا للفكر القومي لم يجعله بأي حال من الاحوال داعية لبديل طائفي انما بديل عالمي منفتح و تقدمي و علماني .
منير العبيدي
5. 8 . 2007