اليسار الفلسطيني والعربي ... عوامل التراجع والنهوض


رشيد قويدر
2007 / 7 / 15 - 10:51     

( 1 / 2)
مقدمة:
يستثير العجز العربي عن اللحاق بركاب التحرر والتقدم الكثير من الأسئلة، بعضها بأقلام يسارية تذهب إلى أسئلة "أزمة اليسار"، وأخرى تطال مقارباتها ما آلت إليه حالة النظام العربي الأنظمة الطبقية والمجتمعات، وتحجر البنى واستعصائها في البلاد العربية أمام تحولات الحداثة والتطور التي نجحت في بلدان العالم ومنها ما هو ثالثي. وبالإجمال فهي إحالات على "أسئلة اليسار الديمقراطي العربي"، وهو موضوع نقدي هام بالتأكيد من المفترض أن يأخذ حيزه الجدي، ومنه اليسار الديمقراطي الفلسطيني، وآفاق استنهاض الفكر والفعل اليساري الديمقراطي عموماً.
على الصعيد العربي؛ لا بد من العودة إلى تلاشي وعود النهضة، التي بدأت طلائعها أواخر القرن التاسع عشر، وانهارت تجارب التحديث التي سعت القوى الطبقية البرجوازية والعمالية الناشئة نحو ترسيخها. وفي القرن العشرين وعلى الخصوص بعد الحرب العالمية الثانية ونكبة فلسطين 1948، وسلسلة التحولات الكبرى الطبقية، الاجتماعية والاقتصادية، التعلمية والثقافية والسياسية، والمقصود تحديداً حركة التحرر العربية الديمقراطية، وتحقيق أهدافها في الاستقلال والتقدم، لقد فشلت مشاريع التنمية الاجتماعية، وبات العالم العربي على العتبة الأولى في سلم البطالة والفقر والأمية رغم غنى الموارد، كما تلاشت وعود الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية النسبية، وفي بديل أنظمة مستبدة بأجهزة قمعها فوق المجتمعات، وبديلاً عن وعود التحرر القومي وتحرير فلسطين، ودون أن نحمل "الخارج" وحده مسؤولية الإخفاقات، وأمامنا إسرائيل التوسعية الصهيونية والإمبريالية الأمريكية في المنطقة، وصيغتها للهيمنة العالمية الإمبراطورية الجديدة.
من أسئلة النهضة إلى أسئلة مستقبل اليسار الديمقراطي العربي، وضرورة تحوله إلى أحزاب المستقبل العربي فإن المهمة كبيرة وشاقة، ترتبط بالعمق بدراسات جادة في كل قطر حول أزمة المؤسسات الديمقراطية، والمقصود هنا التمثيلية وآلياتها وتطبيقاتها، ودراسات أخرى تبدأ بالهيمنة العالمية الجديدة، والتجربة العالمية لليسار، والنقابات وحركات اليسار، والحركات الأممية المناهضة للعولمة، بل والأهم في خصوصية عربية هو دور الدين والموروث المتخلف الاجتماعي التاريخي وكافة البنى التحتية السابقة للرأسمالية، وحل مجموع هذه العناوين شروط لاستنهاض المشروع التنويري في المنطقة العربية، بتعيين الأسباب البنيوية للفشل والتراجع القهقري، والتقدم بكامل أبعاده الوطنية والإنسانية.
إن تسييس الدين وتحويله إلى أداة قمع حرية الفكر والإبداع والبحث العلمي، ثم اختزاله إلى وجود إقصائي للمناهج الأخرى في نزعات تسلط؛ الرحم الذي انبثقت منه التيارات التكفيرية والإقصائية، وذلك لنصرة مصالح ضيقة ومتخلفة وأخرى تكتيكية. الاستخدام المغرض الذي سخرته قوى متخلفة، ارتبطت على امتداد النصف الثاني من القرن العشرين، بأحد قطبيّ النظام الدولي الثنائي القطبية، وفي مواجهة القيم الإنسانية والحداثة السياسية ممثلةً بمبدأ الفصل بين السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية، الخطوة الأساسية التي ميّزت عصر الأنوار الأوروبي في القرن الثامن عشر، باعتبارها مذهب فلسفي يضع القيم الإنسانية فوق كل اعتبار. والتي تشكل محددات تعريف كلمة اليسار، بما تعني تحرراً من عقائد الانتماء السائدة في العصور الإقطاعية. ولم يأتِ هذا في أوروبا نتاجاً للفكر وحده، بل أيضاً نتاجاً للكفاح التاريخي المديد، وكخلاصة لحروب مديدة دامية داخلية، بسببٍ من الولاءات الإقطاعية والدينية والطائفية. لقد وضع فكر الأنوار الإنسان فوق أي اعتبار وانتماء، متقدماً نحو عقيدة إنسانية، تهدف إلى تحقيق خير الإنسانية جمعاء، فأقصى هذا الفكر استخدام الدين بقيم كوسموبوليتية وأممية، بالدعوة إلى تحرير جميع الأمم، ومن هذا الرحم الأنواري كان شعار "يا عمال العالم وشعوبه المضطهدة اتحدوا"، إحدى محاولات ذلك الزمن في صهر الأمم نحو حقوق تقرير المصير والاستقلال والدمقرطة والتنمية المستدامة بآفاق عوالم التحولات الوطنية الديمقراطية الليبرالية، وباتجاه المرحلة الأرقى على طريق عالم اشتراكي يتوحدون به، وفي قراءة يسارية لقيم ومفاهيم الأنوار.
ونقصد من هذا الاقتضاب دور قوى التغيير، طالما أن الواقع المادي بإفرازاته هو مقدمة للأفكار السائدة والنظام العقلي المسيطر. فالوضع العربي الراهن هو نتاج الجزء المتخلف من النظام "المعرفي" المتوارث، وعبره مجموعة من الأمراض المزمنة التي تشكل فجوة جادة تراكمية أبعدته عن المعرفة العلمية والمعاصرة، ثم أفقدته توازنه أمام إعصار الحداثة، منها ما نشهده بالارتدادات السلفية، والتي يقصد بها العودة إلى مناخ عقلي يشابه الذي شهدته تلك القرون القديمة، التي كانت معاصرة في زمنها، لكن بالتأكيد لم تعد كذلك في زمننا المعاصر. والارتداد نحو السلف بما تعني القطع مع الصيرورة التاريخية وروح الصعود التاريخي، بالعودة القهقرية بالتاريخ واتخاذه نموذجاً معاصراً، وهو ما تشهده من سقوط وتمزق ودوغما، كمحاولات للسيطرة على مجرى الصيرورة، باستعادة رموز أحداث ووقائع وقعت في القرن الأول الهجري. أما النتيجة فالعقل يخسر معركة التطور وتقرير المصير، و"الدوغما" تدمر كل ما حولها تعبيراً عن الجمود، والنتيجة انحطاط حضاري ما بعده انحطاط. وحتى الآن دولة واحدة صغيرة من 58 دولة في العالمين العربي والإسلامي دخلت عصر الثورة الصناعية "ماليزيا فقط".
ويطال النكوص القهقري المرأة وتحررها، فالإنسانية تعني مباشرةً الإنسان؛ أي الرجل والمرأة، وتزداد نسبة المرأة التي بلا عنوان في كبريات العواصم العربية، وأقصد بذلك جيوش النساء المجللات بالأكياس السوداء، بلا عنوان لأن الإنسان وجه وصورة واسم، وهن أحد الأبعاد الهامة لمعركة التحرير والتطوير، وهذا الابتلاء تنحله تيارات مزعومة باسم الدين. لقد سبق للغرب الأوروبي أن خاض نضالاً شاقاً ضد الكنيسة وسلطتها، ما ينفي أن النهضة في الغرب قد وقعت بسببٍ من الإطار الحامل أو الوعائي للدين المسيحي، وقد سبق للبابوية في القرون الوسطى أن عممت باسم المسيحية محاكم التفتيش، وصكوك الغفران، واضطهدت العلماء والمفكرين، وأقامت المجازر الطائفية الكبرى خاصةً بين الكاثوليك والبروتستانت ...
بعد هذا الضوء؛ يمكن القول أن قوى اليسار الديمقراطي في العالم العربي، قد تعرضت لقمع متوالي وعلى مدار النصف الثاني من القرن الماضي، وتوافقت على قمعها القوى الدولية المهيمنة والنُظم الطبقية الإقطاعية وشبه الرأسمالية المحلية، إثر تحولات ما بعد الحرب العالمية الثانية.
لقد لعبت الولايات المتحدة دوراً في استخدام الدين، بدعوى محاربة "الإلحاد" الاشتراكي، حين وجدت في استبداد الأنظمة التابعة فوائد هامة لها، فضلاً عن كونها مصدراً للطاقة ومستهلكاً كبيراً للسلاح، بحجة مواجهة العدو القومي، وتزايد الدعم الأمريكي في السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات، لجماعات الإسلام السياسي، وبتعاون كثيف ومع نظم عربية، لمحاصرة وضرب الطبقات والقوى الحيّة داخل البلدان العربية، المناضلة على طريق التحرر الوطني والتقدم، نحو الحداثة والعصرنة والدمقرطة، والانتقال من عالم العصور الوسطى إلى عالم القرن العشرين، وكذلك لحشد جيوش "المجاهدين" للقتال في أفغانستان والبوسنة والهرسك وألبانيا ... الخ تحت الأجندة الأمريكية، تلك الحروب التي خلفت جيوشاً جرارة، عادت إلى بلدانها العربية حاملةً تجربتها وقوتها التدميرية ضد بلدانها، وتحولوا إلى مشروع عبثي دموي يمكن استخدامه هنا وهناك.
وقد خاضت واشنطن معاركها في المنطقة تحت راية السلفية الإسلامية والقوى الظلامية ضد كل ما هو يساري ووطني ديمقراطي، وسبق لها أنها ذاتها من قضى على التغيير الديمقراطي والعلماني التقدمي في أكبر بلد إسلامي عام 1965 ألا وهي أندونيسيا، ذلك عبر انقلاب دموي ومجازر أودت بحياة أكثر من نصف مليون إنسان، تماماً كما فعلت في تشيلي عام 1973، حين وصل سفادور الليندي وحزبه الاشتراكي إلى السلطة، وعبر مسيرة التغيير الاجتماعي لصالح عدالة نسبية، فسحقها الجنرال الديكتاتور بنيوتشيه عبر مجازر دموية، في مرحلة بداية صعود النيوليبرالية.
بعد التحولات الكبرى التي وقعت في التسعينيات وانهيار المنظومة الاشتراكية، وتفكك الاتحاد السوفييتي، لا جدال حول الحاجة الماسة لدراسة التجربة، وفتح ملفات ذلك الفكر الاشتراكي، والنظر في الكثير منها ارتباطاً بالواقع الراهن، واستيعاباً لدروس الماضي، واستشرافاً لآفاق المستقبل، ومنه صياغة مفهوم راهن لليسار انطلاقاً من برنامج محدد، ينطلق من التحرر الوطني والتنمية والتقدم، والديمقراطية التعددية الفكرية والاجتماعية والسياسية، والتغيير المجتمعي، ومفاهيم العدالة الاجتماعية.
اليسار الفلسطيني ... علامات على الدرب
على الصعيد الفلسطيني يجري التعبير عن اليسار الديمقراطي في تيار وبرنامج يجمع قوى الحداثة الليبرالية، والمحدد في التحرر والاستقلال والتنمية ودولة القانون والمؤسسات الحديثة، التي تعمل على التخلص من الاحتلال والاستعمار الاستيطاني الصهيوني والتخلف، انطلاقاً من الاقتناع العميق بالحاجة الموضوعية للاستنهاض الوطني عبر ائتلاف وطني واسع، ونحو التحول إلى تيار مؤثر في الساحة السياسية، يبدأ من ترسيم قوانين موضوعية لأزمة المؤسسات الديمقراطية والتمثيلية الفعلية. كما أن مسألة توازن قوى هذا التحالف لا يمكن حلها في إطار مقاربة برامجه، بقدر ما تعني استعادة العقل لمكانته الكبيرة في التنوير والحشد ونثر بذوره، نحو انتصار العقلانية العلمية في المجتمع، وانتصار سلطة القانون ومؤسساته. وانتصار الديمقراطية الليبرالية وحقوق الإنسان التي أصبحت قيمة كونية، وهو ما يتوفر في عموم البلدان المستنيرة. فالعقل البشري هو واحد لكن الأديان متعددة، وهي تقوم على اعتقاد إيماني تسليمي، والتنوير لا يعني أبداً القضاء على الدين، إنما أخذ مكانه داخل المجال الخاص للفرد، ورفض تسييسه أو استغلاله والخلط بين السياسة والدين، أو نشر أفكار التعصب الأعمى والدفاع عنها كأنها حقائق إلهية.
وطالما أن العلم هو حقيقة جرى برهنتها علمياً، والأمر ذاته حول الديمقراطية والتعددية وحق الاختلاف في الرأي وحرية الضمير والمعتقد، فهو صورة مخالفة للأوساط الأصولية المتزمتة، والتي محصلة حركتها هو التشاؤم، أما التنوير فهو متفائل بتقدم الإنسان والقضاء على الفقر والجهل والأمية والمرض، والدخول في جنة الحداثة عبر العلاقات الحضارية المدنية بين المواطنين، ونشر حرية الوعي والضمير في الفكر البشري، وهذه الأقانيم كلها هي أسس حضارية ومادية ومعنوية، جرى نظمها في أوروبا عبر نظريات "العقد الاجتماعي"، قطعت مع الرؤية الغيبية الإقطاعية للعالم، لسلطة نازلة من السماء ذات حق إلهي مقدس، بل هي الإرادة العامة للشعب السيد المستقل، وللمساواة بين الشعوب وحقوق الإنسان والديمقراطية.
إن خصوصية الحالة الفلسطينية والصراع مع احتلال استيطاني، يملي على القوى الوطنية بمختلف اتجاهاتها الفكرية والإيديولوجية والشخصيات الوطنية، والنقابات العمالية والحرفية والفلاحية والمختلفة، والجمعيات الثقافية والمهنية والنسوية، الانضواء في برنامج الاستقلال الوطني ومهامه المطروحة وهي متعددة وكبيرة، وصولاً إلى التحرر الوطني والاستقلال الناجز، والديمقراطية وتحقيق التنمية المستقلة، وهذه المهام الكبيرة لا يمكن لفصيل أو حركة وحدها القيام بها بمفردها، مهما كانت الإيديولوجيا التي يرفعها أو يعمل تحت لوائها.
إن برنامج القوى اليسارية والديمقراطية مفتوح لضم جميع القوى الفاعلة في المجتمعات الفلسطينية في الوطن والشتات، نحو تحالف وطني جديد يتحول إلى كتلة تاريخية بحجم الأهداف التاريخية المطروحة، كما تحقق فكراً وممارسةً على الأرض وفي الميدان، منذ الرد على هزيمة حزيران/ يونيو 1967 حتى عام 1991، حيث تفككت جبهة الصمود العربية، وانهار التضامن العربي تحت راية حرب الخليج الثانية بعد احتلال النظام العراقي الكويت، وتفكك وانهيار الاتحاد السوفييتي والكتلة الاشتراكية في شرق ووسط أوروبا، وعليه كسر يمين منظمة التحرير برنامج وقرارات الإجماع الوطني، واندفع نحو وعود الحل الأمريكي كما فعلت الدول العربية، وتم منذ عام 1991 تفكيك الائتلاف الوطني وتهميش منظمة التحرير، ومحاصرة اليسار الفلسطيني سياسياً ومالياً على يد أهل أوسلو والعواصم العربية.
الآن النضال يدور لإعادة بناء الكتلة التاريخية لقوى التقدم، تحت راية برنامج التحرر الوطني والقواسم المشتركة ... برنامج الوحدة الوطنية ووثيقة الوفاق الوطني، فضلاً عن تجسيدها لوفاق وطني في هذه المرحلة المتعينة، فهي ليست مجرد جبهة بين فصائل، بل هي كتلة تتكون من القوى التي لها فعل في المجتمع وقادرة على ممارسة ذلك الفعل، ولا يستثني منها إلا ذلك الذي يضع نفسه خارجها، ومفتوحة للجماعات الإسلامية في سياق العمل المبرمج والمشروع مثلما غيرها، بديلاً عن اتفاقات "المحاصصة والصوملة والانقلابات العسكرية"، في سياق الأهداف الوطنية السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وترسيخ وحدة الوطن ووحدة الشعب ووحدة الانتماء والمصير والهدف الوطني.
إن السبيل إلى تحقيق ذلك هو بإقرار قوانين ديمقراطية حقيقية، تقوم على التمثيل النسبي، ووضع برامج تكافل اقتصادي تلبي حاجة الجماهير الشعبية، والعمل على تنمية مستقلة إلى حد ما بفعل ظروف الاحتلال، وهذا هو فعلاً المضمون الثابت للحركة المطلبية الشعبية التي هي قوام الكتلة التاريخية التي ينبغي تفعيلها في إطار برامج اليسار الديمقراطي، الأمر الذي من شأنه العمل على تدشين الانتظام الفكري حول الأهداف، وقطع الطريق على التشرذم الفكري والانقسامي الدموي والفراغ أو الغلو الإيديولوجي الديني الطائفي العشائري. أي ربط هذه الحركة بأهداف وطنية سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية، عبر جهود شعبية فاعلة، نحو المهام التاريخية المطروحة، التي لا يمكن لفصيل منفرد أن ينجزها.
حول تطور اليسار الفلسطيني، ومرحلة الخمسينيات والستينيات والتحولات العاصفة الكبرى، يمكن العودة إلى هذا الفصل من كتاب "نايف حواتمة يتحدث"، للوقوف على تلك المرحلة التاريخية، كمرحلة معقدة ومركبة، والمناخات العربية والعالمية التي أسهمت في تأسيس وانطلاقة اليسار الفلسطيني ممثلاً في الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين في شباط/ فبراير 1969، حاملةً معها مفاهيمها اليسارية ومنهجها ونظام نظراتها، ودورها المؤثر والقوي في مراحل تلك الحقبة، وصولاً إلى الانتفاضة الفلسطينية الكبرى التي اندلعت عام 1987، والتي شهدت حضوراً كثيفاً للتيار اليساري في الأطر القيادية للانتفاضة وفي الميدان، حين شكل اليسار وشكلت هذه الانتفاضة حدثاً بالغ التأثير على الوضع العالمي، وإحداثها انعكاسات كبيرة على الحركات اليسارية في العالم.
( 2 / 2 )
اليسار الديمقراطي ... النقد ... برامج التقدم والكتلة التاريخية
في العودة إلى مرجع يركز على جذرية النقد وتحديد المفاهيم ومضمونها، يمكن متابعة الانتظام الفكري التحليلي والنقدي وخلاصة رؤية اليسار الديمقراطي، والأخذ بكل ما فيه من تعدد وتنوع وائتلاف واختلاف بعيداً عن الحالة الظرفية، ونحو المصلحة الموضوعية لتدشين مرحلة تاريخية جديدة، تضمن تحقيق الأهداف الوطنية والنمو والاستمرار والاستقرار، عبر إقرار ديمقراطية فعلية تقوم على التمثيل النسبي، وقد ارتأيت أن أقدم تلخيصاً وتحليلاً مقتضباً للأفكار والمنهجية.
في كتابه الأخير: "الانتفاضة ـ الاستعصاء ـ فلسطين إلى أين؟" يتناول حواتمة قضايا الانتفاضة الفلسطينية، وعوامل اندلاعها وتطوراتها وتفاعلاتها وتداعياتها الفلسطينية، الإقليمية، الدولية، والإسرائيلية. وفي فضاء فصوله المعنونة: "الانتفاضة.. تداعيات وتطورات الفرص الضائعة، مراجعة نقدية، حلول وطنية"، "القضية الفلسطينية ـ حقوق وطنية أم مشاريع إسرائيلية" "المأزق الفلسطيني ـ مخاض الولادة الخامسة" "الاستعصاء ... غياب المشروع الوطني الفلسطيني الموحد" "مطر المشاريع السياسية" والفصل السادس والأخير: "الوثائق ـ وقائع ملموسة".
وقد ورد في تعليق الناشر: «يتسم الكتاب بـروح نقدية جذرية، وبالوقائع والأسماء والوثائق. أين أصابت وأنجزت الانتفاضة الميدانية، وأين أخطاء وتقصيرات القيادة السياسية، فصائل وقوى وسلطة فلسطينية، وموقع هذا كله من (الفرص الضائعة) والنهوض الفلسطيني والعربي الواسع، نحو إعادة بناء عناصر القوة الفلسطينية والعربية الموحدة، وكيفية استثمار التطورات والتداعيات الدولية، وداخل المجتمع الإسرائيلي والانتقال إلى رحلة جديدة تستجيب للحلول المتوازنة (..)».
تطلق الحالة النقدية سهام النظرات على المشهد الفكري ـ السياسي العام، وإن لم تفِ كمصطلح بحالة التشريح للصراع التي أشبعها حواتمه بحثاً وتحليلاً في مشهد فكري ـ سياسي عام، أو بالأحرى مشهد نقدي عام؛ انطلق به إلى كل الآفاق الأخرى وفي سياق تاريخي قوامه المواجهة والتحرر. فبقدر ما كشفت أوسلو عن اختلال في البناء السياسي الفلسطيني ـ العربي بمجمله، فقد كشفت بالمثل عن اختلال لا يقل فداحةً في الوعي الفلسطيني والرسمي منه بالذات، وفي طريقة فهمه للمشكلات التحررية الكبـرى، وأسلوب البحث عن حلول لها. ولما كانت محنة العقل الرسمي لا تقل خطراً عن محنة الممارسة السياسية، بل لعل الأولى سبباً رئيسياً للثانية، فمن المفيد أن نرصد معاً معالجة مظاهر الاختلال الفكري والذهني الذي كشف عنه في السياق التاريخي بوضوح صارخ. فالكتاب فضاء أرحب من «روح النقد»، فهو فضاء مكونات فلسفية محددة يمكن تسميته بـ «الوعي النقدي»، والذي يفضي إلى مصب الاتجاه النقدي.
ويوضح الكتاب، كيف توسع مفهوم النقد ليشمل كل معطى متاح من وقائع ملموسة وأفكار وأشياء، الأمر الذي يخلص إلى الإفادة من عموم المدارس والاتجاهات النقدية واختلافها، وفي سياقها سلسلة كتبه المتداخلة بشكل بنيوي في وحدة واحدة.
ومن هذا المشهد النقدي العام ينطلق في الكتاب الأخير إلى كل الآفاق الأخرى، دون أن يعني ذلك شمولية «نظرية» منغلقة، بل موسوعية منفتحة لفهم ما يجري في تشريح الصراع، يحيطه ما يجري في هذا الكون الكبير، في جنيه لثمار التفاعل العريض بين شتى التفاعلات وشتى العلوم والاختصاصات، في التخطيط للمستقبل، وفي إحاطة موسوعية.
وإذا ما قفزنا أكثر لنتعرف على الخطاب النقدي الذي لازمه، يمكن القول؛ إن حواتمه ينتمي إلى هذا الفضاء الاجتماعي التنويري المتقدم و«الممكن» داخل المجتمع العربي عموماً والفلسطيني منه بالذات، موقع مركزية قضيته في الحالة العربية. أما النقد بالنسبة له فهو القصد البديل، والأدق: الفعل نظرياً وتطبيقياً، أي التزاماً فكرياً وسياسياً واجتماعياً وإنسانياً وثقافياً.
النقد وحركة التاريخ
فهو أولاً يستند إلى مادية تاريخية ناقدة وضد عموم الدوغما بتلاوينها. والمتابع الفعلي الملتزم به وبنهجه؛ والقارئ المدقق لكتبه وخطابه، يخلص إلى درجات متواليه مع كتابه الأخير، لرحابة تطور هذا الاتجاه النقدي، والذي يستوعب فضاءً واسعاً، يفضي إلى مصب الاتجاه النقدي.
في المصب نعاود النظر إلى البدايات: المنبع، التيار وروافده التي يمكن أن تصنع في التحليل الأخير الوعي النقدي. أما مشروعه في كتبه؛ وفي بنية كتابه الأخير فهو بلوغ أغلى شيء يطمح إليه، أي التحرير. والكلمة تلخيص لموقعه الكفاحي في قلب الصراع، ومنها يمكن رسم مشروعه النقدي عبـر ثلاث متواليات تاريخية:
أ ـ الماضي وتواصله بالحاضر (وموقع الذات ـ اليسار).
ب ـ الحاضر ـ الواقع ـ الذات ـ التيار.
ج ـ الماضي ـ الحاضر ـ المستقبل.
وعلى هذا النحو نستطيع أن نتمثل الخط الرئيسي لمشروعه النقدي، ومن ثم بلغة سياسية: المشروع الوطني الاستراتيجي، بإدراك ملامحه النظرية، نحو كيف يتحول التنظير إلى تطبيق، وهي عناصر متداخلة تلتقي عند نقطة واحدة، «التحرير» وهي مركزية المشروع، وقد وسمت جُلّ كتبه، وكلّ مواقفه وخطابه في سياقاته التاريخية.
لقد بدأت البدايات التطبيقية العملية مع عمر الثورة الفلسطينية المعاصرة ومنذ ما قبل سبعينيات القرن الماضي، والتي شهدت دور هذا التيار في سياق مناخ يثور بالتحرر والتمرد على كل أنظمة المركز الواحد. أما منجزات مطلع السبعينيات فكانت هي التعددية الفلسطينية الراهنة والبـرنامج المرحلي الفلسطيني، وفي تأكيد حق الاختلاف في المركزية ونقدها. ومنذ ذلك التاريخ المتعين وحتى الراهن والخطاب النقدي الذي لازمه شهد تطوره مع حركة الواقع وعلى امتداد مراحلها وعمرها، وقد مثّل هذا التيار تمرد دائم على ما يحجر على أدوات إنتاج التاريخ، أدوات إنتاج المجتمع وعلاقاته في قيود الإستتباع التي تعني التخلف، ووعياً بالمستقبل الذي يعد بمتوالية التقدم اللانهائي.
أما القاسم المشترك للماضي ـ الحاضر ـ المستقبل، فهو جوهر الخطاب والتحليل الذي يتعرض بالمواجهة لكل أشكال الهيمنة الاستعمارية الجديدة، ودوغما الفئوية المتنفذة وهيمنتها ومركزيتها. وبالمقابل يعريها من أوهامها الأيديولوجية والسياسية الملازمة لها، بـرحابة النفس الكفاحية اللامحدودة لبلوغ اللازمة الهاجسة: أغلى شيء يسمو إليه، كلمة «التحرير»، وعليها يصفي بالنقد حساباته مع الواقع.
إن المنهج النقدي هنا أرحب من أن تحتويه نظرية بسياقاتها المحددة، أو أن يسيطر عليه عقل، فهو معنى التحرر من كل ما يعيق حركة الفكر النقدي ـ التاريخ ـ بشكلٍ عام. فالعقل الناقد بمعناه الفلسفي يتعامل مع معطى متاح، الأمر الذي أتاح له بناء صيغة أكثر جذرية في تعامله مع الواقع، طالما أن الواقع هو كيانه وعبـره الخروج من الخاص إلى العام.
ويبـرز هذا الأمر في الفصلين الرابع والخامس من الكتاب «المأزق الفلسطيني ـ مخاض الولادة الخامسة ـ، والاستعصاء.. غياب المشروع الوطني الفلسطيني الموحد ـ مطر المشاريع السياسية ـ»، ويمكن القول تلخيصاً للنقد بالتركيز على عدم الخلط بين الأسباب والنتائج، إضافةً على ما هو أهم؛ وهو القدرة على إثارة القضايا الكبـرى في توقيتها المطلوب وبإلحاح وسياق تاريخي.
وبحكم وعي التيار النقدي المبكر، يقدم الحلول في سياق نقد الفكر، ثم نقد النقد، فهو يستلهم بما يؤثره منفتحاً على كل الاتجاهات، نحو الراهن الذي لا يمكن تجاوزه بأية حال، سوى بفهم الواقع المعادل للأسباب، تماماً كما يجري مع النص في واقعه المعادل أو انطلاقاً من سياقه التاريخي الذي عاش أو يعيش فيه، الأمر الذي يوصل إلى رؤية تنويرية لذاكرة المتصارع بمشكلاته الخاصة. وبلغة سياسية: إلى حلول وطنية، ومشروع وطني فلسطيني موحد، خلاصة البحث عن العلة والداء، واستنباطاً لحلول ممكنة من حركة الواقع، وطرحاً لأسئلة وتطلعاً إلى إجابات، ولكن من منظور يتطلع إلى المستقبل، لا يكفُّ من الحلم والإيمان به ومراكمة تحقيقه، وهي تنويعات ديدنها لحن واحد في سياق تاريخي هو هدف: المواجهة والتحرر. أما المستقبل فلا بد أن يكون «المتوازن» ومنه «المستقبل التاريخي» أي «الحل التاريخي»: «دولة ديمقراطية موحدة لكل سكانها من العرب الفلسطينيين واليهود الإسرائيليين» (..) «ولذلك ندفع مرحلة بعد مرحلة نحو دولة ديمقراطية موحدة لكل سكانها على قاعدة «المساواة في المواطنة» بدون تمييز في العرق والجنس والدين، أو بين الرجل والمرأة».
إنه النقد الواعي المُنتِج للأفكار، ليس كناية عن تحديد نسق بعينه، وإنما هو أبعد من ذلك في النظرية والممارسة ـ النقد والعالم. وهو يحتاج إلى تفصيل أكثر، يعمل على فتح النظرية على الواقع التاريخي والمجتمع والمطالب الإنسانية، معتمداً على تعيين الشواهد الملموسة المستمدة من الواقع الحي اليومي. أما الأهم، فهو تقديمه عناصر التغيير الجذري، في بناء معماري ينتهي إلى الواقعية، فلسفة متكاملة العناصر يمكن تمييزها منذ البداية وإلى الخلاصات؛ التي تفتح فوهات قماقم ـ الدوغما المقيّدة للفكر والإبداع، والتي تمنع انطلاق المردة ـ الانبثاقات النظرية الخارجة من رحم الواقع غير المنفصلة عنه.
خلاصات الوعي الفكري والموسوعي العميق، المرتبط ارتباطاً وثيقاً بالوعي النقدي اليساري الديمقراطي، الوعي الذي لا ينفصل قط في إطار أية مرجعية عن الوعي النقدي العربي، لكنه مشبوب العواطف بالتاريخ والتقدم وقيم العدالة اليساري ...

فتعالوا إلى كلمة سواء...
مراجع:
1 – راجع:- كتاب "حواتمة يتحدث".
2 – حواتمة: "الانتفاضة – الاستعصاء- فلسطين إلى اين؟".
3 - وفي سلسلة "من الفكر السياسي الفلسطيني المعاصر"؛ ثلاثية: "المقاومة الفلسطينية 1970 ... في ظل ازدواج السلطة"، و"حملة أيلول وما بعدها 1970 ـ 1971 ... في المراجعة النقدية للبدايات"، و"النهوض مرة أخرى 1972 ـ 1973 ... في المراجعة النقدية للبدايات".