الاشتراكية حلمٌ وعِلمٌ

قدري جميل
2003 / 9 / 24 - 02:00     

د. قدري جميل

1 ـ أين تكمن المشكلة؟

     ـ هل تكمن المشكلة في  فكرة الاشتراكية نفسها، أم في الاشتراكيين أنفسهم الذين تبنوها ومارسوها؟!

     عندما كانت الاشتراكية حلماً فقط، كان يمكن أن نعزو فشل جميع الحركات التي دعت إليها خلال التاريخ إلى عدم نضج الفكرة نفسها، أي عدم توفر الظروف الموضوعية التي تسمح بتحقيقها على أرض الواقع، وهذا ما حصل فعلاً منذ ثورة العبيد التي قادها سبارتاكوس حتى كومونة باريس. لقد كانت القوى التي تواجه حَملة الفكرة الاشتراكية أقوى منهم بالمعنى التاريخي، لأن الظرف الموضوعي لم يكن قد نضج بعد لتحقيق هذا الحلم الذي ما فتئت البشرية تعود إليه الكرة بعد الكرة رغم كل الانكسارات والاخفاقات.

     بتطور الرأسمالية وتكُون الطبقة العاملة تحولت الاشتراكية في أواسط القرن الـ 19 لأول مرة بتاريخها إلى علم، وهكذا أصبح الحلم علماً، وعلى أرضية ذلك أمكن تحقيق كل الانتصارات التي حققتها هذه الفكرة خلال القرن العشرين، ومنذ أن أصبحت الفكرة الاشتراكية علماً أصبحت المشكلة لاتكمن في الفكرة نفسها، وإنما في من يتصدى لرفع لوائها، لذلك فإن  المشكلة اليوم في الاشتراكيين أنفسهم الذين لم يستطيعوا في بعض الأحيان الارتقاء إلى مستوى هذا العلم، بل قام بعضهم بمحاولات لكبحه أو لنسفه بحجة الأمانة له حيناً،  وبحجة تطويره حيناً آخر.

2 ـ هل هناك تناقض بين الحلم والعلم في الاشتراكية؟

     ـ إن قوة الحلم وضرورة الواقع حولت الفكرة الاشتراكية من حلم الى علم، وهذا العلم اليوم بعد مضي أكثر من 150 عاماً على نشوئه يمكن القول عنه إنه علم التحكم الواعي بالعمليات الاجتماعية لصالح الانسان.

    إن كون هذه الفكرة قد أصبحت علماً، لاينفي بل يتطلب الحفاظ على الحلم فيها، أما اختصار هذه الفكرة اليوم الى حلم فقط بعد كل ماجرى فيعني ذلك العودة مئآت السنين الى الوراء رغم كل ماحققه الفكر البشري في هذا المجال.

     لقد تطورت الفكرة الاشتراكية خلال تاريخها من خلال النضال ضد تيارين يتجليان حتى اليوم بهذا الشكل أو ذاك:

     التيار الأول: وهو التيار العدمي.

     التيار الثاني: وهو التيار الأصولي ـ النصوصي، ومشكلة هذين التيارين أنهما لايتعاملان مع الاشتراكية كعلم، وهي كأي علم، فيها الثابت والمتغير، فالتيار الأول، تحت ضغط الواقع، يعتبر كل شيء متغير في الفكرة الاشتراكية، أما التيار الثاني فعلى نقيضه، إذ يعتبر كل شيء ثابتاً في الفكرة نفسها. والمفارقة تكمن في أنه مع العداء الظاهري بين هذين التيارين، فكل منهما يتطلب الآخر، وإذا قوي أحدهما فإن الآخر يقوي الآخر أوتوماتيكياً، وإذا ضعف أحدهما فإن الآخر يضعف، فهما يستمدان جذور الحياة من بعضهما بعضاً على حساب الموقف العلمي الصحيح من الاشتراكية.

     إن قدرة التيار العلمي المبدع على التعبير عن نفسه وفرض مواقفه يضعف كلا من هذين التيارين بل يزيلهما. وفي كل الأحوال برهنت التجربة على أن التيار الأخطر بين هذين التيارين هو التيار الذي يتوقف النضال ضده كما يقول لينين. لقد كانت فترة البيروسترويكا مناسبة لانتعاش التيار العدمي الذي قامت القوى الاشتراكية الحقيقية بنضال جدي وقاس ضده، ومع انهزام هذا التيار، نتيجة تطور الحياة نفسها، يمكن أن يظهر على السطح خطر التيار الثاني، إذا لم تستطع قوى الاشتراكية العلمية الفعلية أن تملأ الساحة، وأن تجيب على الأسئلة التي تطرحها الحياة اليوم.

3 ـ  ما هو السؤال الأهم في تحديد خط الفصل؟!

     إن السؤال الأساسي في الدفاع عن الفكرة الاشتراكية يبقى اليوم في معرفة حدود الثابت والمتغير فيها، وهذا الموضوع يتطلب جهداً معرفياً وممارسة واقعية، وهو يعني ربط النظرية بالممارسة, فإذا كان التيار العدمي يقدس الممارسة، والتيار الأصولي يقدس النظرية، فإن الماركسية هي وحدة النظرية والممارسة.

     هل للاشتراكية مستقبل؟! هذا السؤال يجب أن يطرح بالعكس: هل للرأسمالية مستقبل؟! إن الحياة برهنت على أن الرأسمالية في العقد الماضي، بعد تحولها الى منظومة شاملة تلف الكرة الأرضية بكاملها، لم تبرهن على أنها قادرة على حل أي قضية من القضايا التي تطرحها الحياة، بل على العكس زادتها تعقيداً، ولكن هذه الرأسمالية، دون وجود اشتراكيين حقيقيين يناضلون ضدها، قادرة على تجاوز أزماتها, ولكن مرة أخرى على حساب الانسان والطبيعة. نعم أن المستقبل للاشتراكية، بشرط أن يكون الاشتراكيون على مستواها، لأن الاشتراكية بخلاف كل العمليات التاريخية التي تمت قبلها ليست عملية عفوية بل هي عملية يلعب فيها وعي البشر دوراً عالمياً.

     مرة أخرى تضعنا الرأسمالية أمام الخيار الذي تنبأ به أنجلز في أواخر القرن الـ 19: إما القضاء على الرأسمالية للحفاظ على البشرية، وإما قضاء الرأسمالية على الطبقات الأساسية المكونة للجنس البشري.

4 ـ  نحن والإشتراكية

     ملاحظات سريعة:

     1 ـ الاشتراكية بالنسبة لنا ليست فكرة مستوردة، بل بالعكس، لقد صدّرناها سابقاً، ولنا كامل الحق فيها اليوم وبإنجازاتها التي حققتها في أي مكان من الكرة الأرضية.

     2 ـ في خضم النقاش النظري العميق الدائر حول الاشتراكية، والذي ازداد بعد كل ما جرى في العقد الأخير يجب ألاّ ننسى أن جوهرها هو قضيتان: الملك، والحكم. و قد أكدت حقيقة قديمة قدم البشرية، من يملك يحكم، من لايملك لايحكم. لذلك فإن الحديث عن أن إزالة الملكية الخاصة أمر توتاليتاري شمولي وغير ديمقراطي هو موقف غير صحيح، لأن سيادة الملكية الخاصة لاتعني إزالة الملكية العامة فقط، بل تعني أيضاً، وهذا هو الأهم، إلغاء الملكية الفردية، إن سيادة الملكية العامة هو الذي يؤمن تطور الملكية الفردية. لقد تمركز الرأسمال الخاص اليوم الى درجة أن الحاكم بأمره أصبح صاحب الجلالة المال نفسه، وإذا نظرنا الى العالم كله من جنوب شرق آسيا حتى وول ستريت فنجد أن الذي يحكم هو الذي يملك المال. وإذا أردنا أن يكون الحكم لصالح الجميع، فيجب أن تكون الملكية والمال لصالح الجميع، هذه حقيقة بسيطة يجري تجاهلها تحت حجج مختلفة أهمها التعددية. إن التعددية تقتضي سيادة نمط من النمطين الأساسيين: الخاص أو العام، والمشكلة أنه بوجود الخاص يمكن أن يصبح العام خاصاً بالجوهر، وأن يحافظ على شكله العام، لذلك فالصراع بين العام والخاص هو صراع مستمر لن يتوقف الى أن تنتصر الأشكال الجديدة من العام التي تتناسب مع مستوى تطور اليوم.

الاشتراكية كعلم

     إن التراث الاشتراكي العلمي ذو جوانب متعددة، وهذه الجوانب تكّمل وتغني بعضها بعضاً ولا يمكن النظر إلى جانب من هذا التراث بمعزل عن الجوانب الأخرى، وهو يتألف من: النظرية ـ النشاط العملي، فلننظر إلى كل جانب على حدة.

     1 ـ النظرية:

      تعتبر نقاط الإرتكاز فيها: أ ـ المنهج ـ ب ـ القوانين ـ ج ـ الفرضيات النظرية.

     أ ـ المنهج: وهو طريق الوصول إلى الهدف والوسائل الفعالة لحل المسألة الموضوعة قيد البحث سواء أكان مجموع المبادئ في الطرق النظرية للبحث، أو في الوسائل العملية للممارسة. وكان لينين يرى أن أفضل مثال على منهج ماركس هو كتاب رأس المال الذي أعتبره تطبيقاً رائعاً لهذا المنهج على حالة خاصة وهي الرأسمالية. والواقع أن ماركس وأنجلس ولينين لم يتركوا كتاباً خاصاً عن المادية الجدلية يشابه "منطق" هيغل، هذا الكتاب الذي عرض فيه  نظرته الفلسفية للعالم بشكل مكثف. ومع أن كلاً من هؤلاء العلماء والقادة العظماء الثلاثة كان لديه مخطط مدروس لبدء عمل كهذا كما تثبت مخطوطاتهم، إلاّ أن مهامهم المباشرة وأعباءهم اليومية لم تسمح لهم أن ينفذوا الفكرة التي حلموا بها، فأصبح المنهج الذي اتبعوه موجوداً في كل تراثهم النظري والعملي.

إن نقطة الإنطلاق في تقدير قيمة هذا العلم أوذاك هو المنهج فعلاً ولكن أهمية المنهج وأهمية العلم تأتي من تطبيقه على الواقع. ومن خلال تطبيقه على الواقع، استناداً للمنهج، نستطيع اكتشاف هذا الواقع، اكتشاف قوانينه التي تفعل فعلها خارجاً عن إرادتنا. والنظرية الاشتراكية كعلم للمجتمع في خلال 150 سنة من تطورها استطاعت أن تكتشف قوانين موضوعية كثيرة تفعل فعلها في تطوير المجتمع.

     ماركس طبق منهجه على حالة محددة، وهي الرأسمالية. وخلال تطبيقه على هذه الحالة المحددة اكتشف عشرات القوانين، وأنا أظن أنه سيأتي ذلك اليوم الذي سيقوم به الباحثون بجرد القوانين التي اكتشفها ماركس.

     ولذلك حين نقول إن المنهج فقط هو الحي، معناه ضمناً أننا ننفي ما أنجزته الماركسية مستخدمة منهجها في خلال 150 سنة. هناك قوانين تفعل فعلها حتى هذه اللحظة، فما زالت الظاهرة موجودة، وما زال الموضوع الذي هو قيد البحث موجوداً أي الرأسمالية. إلى جانب ذلك فإن الماركسية، كأي علم آخر لديها منهجها وقوانينها، ويحق لها أن تفترض إفتراضات لم تتحقق نتيجة تغير الظروف. ولينين يعتبر أحسن من تعامل مع افتراضات ماركس نفسها.  فقد تعامل معها بشكل إبداعي. وقال عن بعضها إنها قد شاخت. لو تعامل لينين سيتعامل مع افتراضات ماركس على أساس أنها حقائق مطلقة لما كان سينفي إمكانية انتصار الثورة البروليتارية في مجموع أوروبا، وتكلم فقط عن إمكانية انتصار الثورة في بلد واحد.                                                                     

     إن لينين استناداً إلى رؤيته لتطور الرأسمالية في الظروف الجديدة، في الظروف الإمبريالية، اكتشف قانون التطور المتفاوت مما سمح له، بأن يستنتج استنتاجاً جديداً عبقرياً وهذا الاستنتاج هو إمكانية انتصار الثورة الاشتراكية في بلد واحد.

     وهذا يعني أن لينين استند على منهج ماركس، وعلى القوانين التي اكتشفها ماركس، حتى يفترض افتراضات جديدة، وحتى يكتشف قوانين جديدة، وكي يجدد رؤيته لأشكال تجلي القوانين القديمة.

     إن تقليص مساحة الماركسية إلى المنهج فقط لايضرها هي فقط إنما يضر أيضاً كل التراث الانساني التقدمي العالمي، و التي هي القمة الأعلى منه حتى هذه اللحظة في مجال علم الإجتماع. إنه تخلٍ عن جزء من هذا التراث عملياً.

     لقد كان لينين يقول: إن فضل القادة التاريخيين لا يقاس بما لم يقدموه مقارنة بمن أتى بعدهم، بل يقاس بما قدموه مقارنة بمن سبقهم. وهو ما يمكن قوله على الإنجازات العلمية النظرية والسياسية، بما فيها علم الإجتماع الماركسي ـ اللينيني. والخلاصة إن لينين كان يصر دائماً ليس على معرفة المنهج فقط بل كان يصرأيضاً على استخدامه عملياً في العلم والممارسة، أي كان يصر على عدم معرفة المنهج فقط بل على استخدامه في الواقع العملي، أي التحكم به بكل معنى الكلمة.

     ب ـ القوانين: لقد راكم هذا المنهج، نتيجة تطبيقه على الواقع، مجموعة من القوانين صاغها مؤسسو الماركسية ـ اللينينية، وهذه القوانين تم اكتشافها بفضل الاستخدام الصحيح للمنهج والمعرفة العميقة للواقع الموضوعي الذي عاصروه، والقانون كما هو معروف يعبر عن العلاقة الجوهرية والضرورية، العامة والمتكررة لظواهر العالم المادي.

     لذلك فمن المشروع أن نطرح سؤالاً: هل شاخت القوانين الأساسية التي اكتشفها ماركس وانجلز ولينين نتيجة تغير الواقع الموضوعي؟.

     نعم! لقد تغير الواقع الموضوعي في خلال عشرات السنين التي تفصلنا عنهم، ولكن  الشيء الجوهري لم يتغير، والتبدلات التي طرأت عليه أصابت أشكال الظاهرة وبقي الجوهرنفسه، فعلم الإجتماع الماركسي ـ اللينيني طبّق المنهج المادي الجدلي على ظاهرة ملموسة وهي الرأسمالية، ونفذ إلى جوهر هذه الظاهرة واستخرج قوانينها الأساسية، وما دامت هذه التشكيلة الاجتماعية ـ الاقتصادية قائمة فإن القوانين الأساسية للماركسية ـ اللينينية التي هي جزء أساسي من هذه النظرية تبقى صحيحة من حيث المبدأ. إن لينين في معرض حديثه عن ماركس قال عنه إنه كان: "أول من وضع علم الاجتماع على أرضية علمية، ووضع مفهوم التشكيلة الاقتصادية ـ الاجتماعية كمحصلة لعلاقات الإنتاج، وأثبت أن تطور تشكيلات كهذه هو عملية تاريخية ـ طبيعية".

     وفي كل الأحوال، كما أن الهندسة الحديثة لم تنف مفاهيم هندسة إقليدس وكما أن الرياضيات الحديثة لم تنف فيثاغورث بل عمّقت البحث في مكان وزمان آخر، وطورت مفاهيمها الخاصة بها، وكما أن فيزياء إنشتين لا تعطينا أي مبرر للقول عن فيزياء نيوتن قد شاخت بل بكل بساطة نقلت المسألة إلى إحداثيات أخرى، فكذلك يجب القول إن التطور اللاحق للفكر الاشتراكي العلمي بعد ماركس وانجلز ولينين لن يكون ناكراً لجميلهم،  وسيظل يستند إلى القوانين التي اكتشفوها، والتي ما زالت صالحة، ما دام موضوعها موجوداً والرأسمالية موجودة. فعلى سبيل المثال لا الحصر:

     ـ هل يمكن القول بأن قانون التناسب بين القوى المنتجة وعلاقات الإنتاج قد شاخ؟.

     ـ هل يمكن القول بأن قانون التناقض بين العمل ورأس المال قد شاخ؟.

     ـ هل يمكن القول بأن قانون تطور التشكيلات الاقتصادية ـ الاجتماعية قد شاخ؟.

     ـ هل يمكن القول بأن قانون الصراع الطبقي كمحرك للمجتمعات الطبقية قد شاخ؟.

     ـ هل يمكن القول بأن قانوني القيمة والقيمة الزائدة قد شاخا؟.

     ـ هل يمكن القول بأن قانون الوعي الاجتماعي كانعكاس للوعي الاجتماعي قد شاخ؟.

     ـ هل يمكن القول بأن الثورة الاجتماعية كقانون تطور المجتمعات الطبقية قد شاخ؟.

     ـ هل يمكن القول بأن القوانين الأساسية لنظرية الإمبريالية كمرحلة عليا من تطور الرأسمالية قد شاخت؟.

     ـ هل يمكن القول بأن قانون تغير التركيب العضوي للرأسمال وميل معدل الربح للهبوط قد شاخ؟.

     ـ هل يمكن القول بأن قانون ضرورة تطور المجموعة الأولى في الإنتاج (إنتاج وسائل الإنتاج) بوتيرة أعلى من وتيرة المجموعة الثانية ( إنتاج مواد الاستهلاك) قد شاخ؟.

     لقد لعب لينين دوراً هاماً في تطوير النظرية مكتشفاً قوانين جديدة مما سمح له بحق أن يحتل مكانة إلى جانب ماركس كصانع للنظرية التي تحمل إسميهما. ومرة أخرى على سبيل المثال لا الحصر فإن لينين هو الذي صاغ قانون وتيرة تطور المجموعة الأولى، وضرورة أن تكون أعلى من المجموعة الثانية في الإنتاج، وهو الذي صاغ نظرية الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية وانطلاقاً من قانون اكتشفه هو قانون التطور المتفاوت للرأسمالية استنتج إمكانية انتصار الثورة في بلد واحد أو عدة بلدان، وطبق هذا الاستنتاج ببراعة ونجاح في ظروف روسيا وهو الذي صاغ نظرية الحزب البروليتاري، وأسس بنائه التنظيمي.

     طبعاً ليس لأحد الحق في إيقاف تطور النظرية بقوانينها عند حدود ماركس وانجلز ولينين ولكن التطور اللاحق للنظرية لا ينفي التطور السابق الذي لعبوا دوراً أساسياً فيه، بل جاء أساساً على أرضيته، المعرفة والتجربة التي تكونت من خلالهم.

     ويجب القول هنا إن القوانين الأساسية في النظرية الماركسية ـ اللينينية لم يحدث فيها تبدل جوهري بسبب عدم تبدل جوهر الظاهرة التي تعالجها، ولكن الذي يجب بحثه بنشاط هو تغير أشكال تجلي هذه القوانين مع التطور الحاصل، وهي مهمة العلماء والبحاثة والسياسيين الاشتراكيين العلميين، وإلا فإن الأزمة ستصبح لا أزمة الماركسية ـ اللينينية كما يدعي البعض، بل أزمة بعض من يرفعون لواءها ممن لم يستطيعوا الارتقاء إلى مستواها ولا تطبيقها الخلاق على ظروفهم الملموسة.

     جـ ـ الفرضيات: إن الفرضيات في علم الاجتماع بالمقارنة مع العلوم الأخرى تشكل مشكلة كبيرة. فالفاصل الزمني بين الفرضية وتطبيقها في العلوم الدقيقة لايكون عادة كبيراً, أما في علم الاجتماع فهذا الفاصل يصل أحياناً إلى عمر تشكيلة اجتماعية ـ اقتصادية بكاملها، والفرضيات بحكم وضعها قابلة للإثبات أو النفي حسب تطور الواقع الذي هو معيار صحتها.

     وبالتالي ليس معيباً، استناداً الى المنهج والقوانين ، توقع أحداث معينة تأخذ شكل فرضيات. فماركس افترض انتصار الثورة الاشتراكية في كل المنظومة الرأسمالية ولم تتحقق هذه الإمكانية، بسبب انتقال الرأسمالية من مرحلة المنافسة الحرة في عصره الى مرحلة الرأسمالية الاحتكارية، مما سمح للينين أن يضع فرضية انتصار الثورة الاشتراكية في بلد واحد أو عدة بلدان وهو ماتحقق. لينين بدوره وضع فرضية انتقال البلدان التي تسودها علاقات الإنتاج ما قبل الرأسمالية إلى الاشتراكية مباشرة واشترط شروطاً معينة لهذه العملية إلا أن هذه الفرضية لم تتحقق  إلا جزئياً في آسيا الوسطى ومنغوليا. وأما اليوم فإن إمكانية تحقيقها غير ممكن بسبب تغير الظروف الموضوعية التي نشأت فيها هذه الفرضية.

     إن البلبلة في فهم النظرية الماركسية ـ اللينينية عند البعض سببها أحياناً الخلط الذي يجري بين القوانين والفرضيات. فحين نعتبر القوانين فرضيات يصبح الأمر مأساة، وعندما نعتبر الفرضيات قوانين يصبح الأمر مضحكاً، والسبب في هذا وذاك هو عدم التعامل مع هذا التراث كعلم، بل كنصوص جامدة كما يحدث في أحيان كثيرة، أو بشكل بسيط وهو القيام بتزوير للنصوص كي تبرر المتطلبات الآنية لهذا العالم أو السياسي أو ذاك.

     إن الممارسة والتطبيق هما معيار صحة النظرية، والنشاط العملي يشكل جزءاً لا يتجزأ من التراث اللينيني. إن لينين في خلال نشاطه العملي استخدم المنهج لتحليل الواقع، ومن ثم الخروج باستنتاجات وقوانين تغني النظرية. فقد كان قادراً، من خلال النشاط في ظروف محددة ملموسة، وخاصة على أن يستخلص من هذا النشاط ذلك العام الذي بتراكمه يغني النظرية ويدفعها إلى أمام. الخلاصة، إن النشاط العملي اللينيني أغنى النظرية الماركسية، وهي بدورها، ونتيجة لهذا، أعطت زخماً كبيراً للنشاط العلمي التطبيقي.

     إن جوهر الاشتراكية يبقى وحده النظرية والتطبيق. وهنا يمكننا أن نقول: إن التطبيق في نهاية المطاف هو حالة خاصة من النظرية، أما النظرية فهي محصلة مكثفة للنشاط العملي التطبيقي السابق. فكل تطبيق بتقادمه وإنجازه يتحول الجزء العام فيه، والذي أثبت صحته، إلى التراث النظري،و من هنا ،فإن اختصار الاشتراكية العلمية إلى كلمتين هما المنهج المادي الجدلي يعني:

     1 ـ عدم الاعتراف بالنظرية بحجمها الكامل.

     2 ـ عدم الاعتراف بالقوانين الأساسية.

     3 ـ جعل التطبيق الحالي في حلٍ من كل التجارب والتطبيقات السابقة التي أغنت النظرية.

     وهذا لايمكن القول عنه بأنه تطوير للنظرية، بل هو عودة بها إلى الوراء، إلى القرن التاسع عشر، بل إلى أوائله، لأن البعض لا يكتفي بالقول أن الحي من اللينينية هو المنهج المادي الجدلي، بل يكتفي بالأسلوب الجدلي، وفي هذا عودة إلى النقطة التي بدأ منها ماركس وأنجلز، أي هيغل.

     لقد كان لينين يستند في نشاطه العملي على تلك الحقائق الثابتة التي اكتشفها ماركس وأنجلز، ويستند إليهما في تحليل الواقع الملموس، يستند إلى ما أنجزاه في المجال النظري والعملي، كي ينطلق من نقطة النهاية هذه لتصبح بالنسبة له نقطة بداية، ويستند إلى الطرق التي استخدماها في تحليل واقعهما آنذاك، مستوعباً إياها ومستخدماً إياها بشكل إبداعي، وهو ما سمح له بلا شك بأن يحقق نجاحات هامة في النشاطات العملية وأن يضيف إضافات هامة إلى النظرية.

     فلنأخذ حالة ملموسة من تعامل لينين مع الماركسية في تحليل الواقع الملموس، فعندما أراد لينين تحليل الواقع الروسي قال:" إن نظرية ماركس تكمن في بحث وتفسير الأنظمة الاقتصادية لبلدان معينة وإن تطبيقها على روسيا يمكن أن يكون فقط من خلال استخدام أساليب المنهج المادي الجدلي والاقتصاد السياسي النظري للقيام بتحليل علاقات الإنتاج الروسية وتطورها". إن استخدامه لمجموع النظرية المتكونة في حينه، سمح له أن يحلل الواقع الروسي تحليلاً ملموساً وصحيحاً، وأن يخرج باستنتاجات أغنت النظرية بدورها. لقد استطاع الوصول إلى استنتاجات هامة حول تعدد أنماط الإنتاج المادي في روسيا القيصرية، وتابع تطور الرأسمالية فيها من خلال هذه الأنماط، وبالمقارنة مع مثيلاتها في أوروبا،فقد استنتج أنها تشكل الحلقة الأضعف.

    إن النصوص التي تركها لينين هي انعكاس في آن واحد، للنظرية وللنشاط العملي الذي مارسه، أي هي انعكاس للمنهج والقوانين والفرضيات والنشاط العملي. ومن هنا تأتي خطورة التعامل مع النص اللينيني.

     لقد تعرضت الحركة الاشتراكية العالمية في فترة من تطورها إلى خطر يمكن تسميته "بالنصوصية" أي إيجاد مقاطع من أقوال لينين لتبرير كل شيء، وهذا أمر ممكن الحدوث لأن لينين عمل وكتب في ظروف مختلفة، إن أخذ مقاطع من لينين بشكل انتقائي، دون فهم الظرف التاريخي الاجتماعي الملموس الذي كتب فيه، ودون فهم الظروف التي تحدث فيها، يحوله بكل معنى الكلمة، إلى أيقونة. لكن الأحداث الجارية تبرهن على أن النصوصية كخطر على التراث اللينيني قد تراجعت إلى الوراء، وظهر أمامها خطر أكبر هو خطر نفي هذا التراث ورفضه رفضاً كاملاً بحجج مختلفة، يمكن أن يكون أحدها ذلك الضرر الذي سببته النصوصية سابقاً.

     من هنا فإنه تنتصب أمام من يعتبر نفسه أميناً على التراث اللينيني مهمة الدفاع عن هذا التراث وحمايته من التشويه،  لقد أصبح في كل الأحوال جزءاً لا يتجزأ من التراث التقدمي العالمي للبشرية جمعاء.

   إن تاريخ البشرية يبين أن  أي تراث يمكن أن يتعرض إلى خطر التزوير والتشويه إذا لم يدافع عنه.

     إن أسوأ شكل من أشكال التعامل مع النصوص  هو اقتطاعها من سياقها التاريخي الذي قيلت فيه أو تزويرها.

أين الحدود بين ما هو حي وما هو بالٍ؟!

   إن المشكلة تكمن في تحديد أين  ما الذي شاخ فيها و ما الذي لم يشخ؟ متفقون كلنا على أن الاشتراكية العلمية لم تشخ ومتفقون أن هناك  شيئاً ما شاخ ولكن الحدود بيننا في النقاش والتباين هي في:   ما الذي شاخ فيها و ما الذي لم يشخ؟

     هذه هي المشكلة الآن. ففي خلال تطور الاشتراكية العلمية فإنها كانت دائماً تعاني من خطرين وسيبقى هذان الخطران يتباين تأثيرهما من مرحلة إلى أخرى:

     الخطر الأول: هو خطر العدمية تجاه الاشتراكية العلمية. العدمية التي يمكن أن أسميها بالإنتقائية تجاه بعض أفكارها وقوانينها، والتي تسرّع البعض بنفيها بينما هي قابلة للحياة والاستمرار.

     الخطر الثاني: هو الأصولية النصوصية تجاه الاشتراكية العلمية. أي اعتبار كل ما كتب مقدس لا يجوز المساس فيه. وبين هذين الحدين تكمن الحقيقة…

     إن العدمية هي خطر  تجاه الاشتراكية العلمية ، وهي إحدى نتاجات النصوصية التي هي أيضاً أحد أشكال الأخطار التي تعرضت لها النظرية في الفترة السابقة، وكما قال لينين عن الإنتهازية اليسارية أنها ضريبة الإنتهازية اليمينية. فالعدمية هي ضريبة النصوصية أيضاً، لذلك  يجب أن نعرف دائماً أين هو الحي؟

     إن الجوهر ليس المنهج المادي الجدلي فقط، بل هو أيضاً كامل القوانين والمقولات التي تفعل فعلها رغماً عن إرادتنا، ويجب أن نعرف أين هي الافتراضات والأفكار التفسيرية لبعض القضايا التي ولى زمنها.

     عندما نعرف هذه الحدود نستطيع تخفيف تأثير النصوصية وتخفيف تأثير العدمية تجاه النظرية.

     إذا كان الفكرالاشتراكي العلمي قد وضع أسسه عباقرة عظام مثل ماركس وأنجلز ولينين فيجب أن نطرح على أنفسنا سؤالاً وهو: مهمة من تطوير هذا الفكر ؟ هل القضية توضع كما كانت موضوعة سابقاً في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين أو أنه  بجهود أفراد قلائل مهما كانوا عظاماً في عصرهم يمكن أن يحلوا هذه القضية؟.

     تجربة  ميادين العلوم كلها تثبت أن تطور العلوم يجري وخاصة في السنوات العشرين  الماضية من قرننا هذا على أساسا عمل مجموعات بحث، بكاملها، وإسقاطاً على ذلك، وانطلاقاً من ذلك فإني أعتقد أن مهمة تطوير الفكر الماركسي أيضاً هي مهمة جماعية، مهمة البحاثة والمفكرين والماركسيين بشكل عام.

     من هنا تأتي أهمية النقاش الجماعي والبحث الجماعي للمشكلات المطروحة أمامنا، ولذلك  توضع أمامنا بكامل حجمها قضية جوهر الماركسية، جوهر الماركسية هي علاقة النظرية بالممارسة، إن أي انقطاع بين النظرية والممارسة يلحق الضرر بالاثتنين معاً وهو ما جرى سابقاً، وإذا أردنا أن نتكلم بلغة أخرى، فإن الفكر والسياسة هما انعكاس للفكر والممارسة، أي انقطاع بين الفكر والسياسة   سيلحق الضرر بالطرفين في آن واحد، السياسة من خلال تطورها على أساس فكري سليم تضع كل المادة الخام الضرورية لتطور الفكر اللاحق، وتطور الفكر اللاحق يضع الأساس الصحيح لاستنتاجات سياسية صحيحة،  إن مهارة الاشتراكيين تكمن في حلهم الصحيح لهذه المعادلة الصعبة فعلاً بكل معنى الكلمة.

     يجب أن لايحدث الاغتراب بين الفكر والسياسة، وهذا الاغتراب كان محلولاً في أوائل القرن لأن جميع السياسيين الماركسيين الكبار كانوا مفكرين، وجميع المفكرين الكبار كانوا سياسيين، ولكن مع تعقد الحياة وتشابكها وظهور مشكلات أكثر فأكثر جرى تخصص، وأصبح هناك مفكرون، وهناك سياسيون. فهل هناك مبرر لذلك؟ لا! ولكن هذا ما حدث.

      يجب أن نجدالآن الصيغة الملائمة لعلاقة الفكر بالسياسة دون حدوث الاغتراب بينهما مع السماح للفكر بالتطور مع إيجاد الأرضية السليمة الفكرية لتطور السياسة، إن التطور السياسي بلا أرضية فكرية يمكن أن يوصلها إلى العدمية، وتطور الفكر دون علاقة بالسياسة يمكن أن يضعه في غرف مغلقة بعيدة عن الواقع. و بالتالي فهذه القضية أعتقد أنها بحاجة فعلاً لإعمال الفكر فيها من قبل الماركسيين، علاقة الفكر بالسياسة، علاقة النظرية بالممارسة، في ظل الظروف الجديدة وهذه قضية أصبح حلها أعقد من قبل.

ماذا يميز ظروفنا الجديدة اليوم؟!

     أعتقد أن ما يميزها، ما يميز الظروف الجديدة هي القضايا التالية:

     اشتدت عالمية الصراع الطبقي، فالصراع الطبقي كان عالمياً عندما أطلق ماركس  شعار"يا عمال العالم، اتحدوا!" أما اليوم فإن الحدود الجغرافية أصبحت لا معنى لها، تجاه العمليات الاقتصادية وتجاه العمليات الاعلامية التي تجري في  العالم كله، هذا الواقع الجديد يبرر أكثر من أي وقت مضى شعار "البيان الشيوعي" "يا عمال العالم، اتحدوا!" يبرره ويضعه على جدول الأعمال أكثر من أي وقت مضى. وتجربة الحياة تثبت أن الرأسمال أصبح عالمياً ولديه أمميته ومراكزه القيادية العالمية، وهذا يتطلب من فصائل الطبقة العاملة أن تجد حلاً لمشكلاتها العالمية بمواجهتها للرأسمال العالمي. و انطلاقاً من ذلك فقط تستطيع أن تحل مشكلاتها المحلية والوطنية، لأن المشكلات المحلية والوطنية ليست مجردة عن مشكلات العالم، إنها جزء وحلقة منها، في هذه السلسلة. إذاً اليوم الخاصية الأولى للظرف الجديد هي اشتداد عالمية الظواهر وبالتالي اشتداد الصراع نفسه.

     وأما الخاصية الثانية: فإن ماركس في "البيان الشيوعي" قد قال: عندما تدافع الطبقة العاملة عن مصالحها الخاصة، فإنها تدافع في الوقت نفسه عن مصالح البشرية جمعاء.

     ماركس كان يقصد بالدرجة الأولى أن الطبقة العاملة بدفاعها عن مصالحها الطبقية، بشكل غير مباشر تدافع عن مصالح الطبقات المتضررة من الرأسمالية كلها.

     إن الواقع العملي اليوم يثبت أن الرأسمالية بتطورها أصبحت عملياً بجميع مظاهرها عدواً للإنسانية، والإنسانية بمجموعها موضوعياً، وعت ذلك أم لم تع، أصبحت متضررة من الرأسمالية، ولذلك فإن الصراع الطبقي ضد الرأسمالية أخذ بعداً إنسانياً شاملاً أكثر من أي وقت مضى، وهذا يعني أن تحالفات الشيوعيين يمكن أن تتسع لتضم كل من له مصلحة في الوقوف بوجه الرأسمالية، وهو الذي يتضرر منها، الذي تضرر منها بلقمة خبزه، والذي يتضرر منها بالهواء الملوث من جراء الرأسمالية، والذي يتضرر منها بنتيجة المشكلات الأخرى التي تسببها الرأسمالية. بمعنى أن القاعدة الاجتماعية المعادية للرأسمالية موضوعياً قد توسعت إلى حد لم تشهد له البشرية مثيلاً من قبل، هذه الخاصية الثانية للظروف الجديدة، هي التي يجب في إطارها أن نبحث عن سبل تطوير الفكر الماركسي.    

     وأما الخاصية الثالثة والظروف الجديدة فإنها حالة مؤقتة نشهدها، أنا أسميها حالة الإرتداد عن الاشتراكية في بلدان كان النظام الاشتراكي موجوداً فيها. حالة الإرتداد هذه على ما يظهر  يجب دراستها كذلك لأنها لها قانونيتها، ودراسة التاريخ تتطلب فهم قانونية الارتداد في الحركات الثورية، ليس في حركتنا فقط وإنما فيما سبق حركتنا وعلى مدى التاريخ،واعتقد أن فهم هذه القانونية أعتقد سيسمح لنا بمعالجة صحيحة لمظاهر الارتداد لموضوعيته ولظروفه الذاتية.

     الارتداد يعامل أحياناً كأنه ظاهرة خارجة عن الزمان والمكان وكأنها ظاهرة فجائية، ولكن الارتداد على ما يظهر من دراسة التاريخ له كذلك قانونيته التي يجب أولاً اكتشافها من أجل استيعابها.

     هذه القانونية إلى هذه اللحظة غير مكتشفة، وبما أن علمنا ـ ( الماركسية) ـ هي علم جديد نسبياً، فهناك قضايا كثيرة غير معالجة فيه، ويتطلب ذلك من الماركسيين بحث هذا الموضوع بحثاً جدياً.

     إذن هذه هي الظروف الجديدة التي يجب من خلالها الانطلاق لبحث إمكانيات تطوير الفكر الماركسي، وفي أي اتجاهات يمكن أن يتطور الفكر في بداية القرن الواحد والعشرين.

     التجربة الماضية تثبت أن هناك قضايا عديدة تتطلب الحل وستفرض الحياة  على الماركسيين إيجاد لها وهذا يتطلب  من قبل الماركسيين  إعمال عقولهم في هذا الاتجاه.

     المحور الأول: التطور المتفاوت: الذي يتطلب بذل جهد تجاهه هو محور "الرأسمالية في الظروف الجديدة". إن الماركسيين الممثلين بلينين في أوائل القرن العشرين استطاعوا أن يدرسوا الرأسمالية وأشكال تجلياتها الجديدة دراسة جيدة ولكن الماركسيين في النصف الثاني من القرن العشرين لم يدرسوا، بشكل كاف على مايظهر، الرأسمالية وأشكال تجلياتها الجديدة.

     إن القضايا الأهم التي يمكن أن تكون نقاط بحث في موضوع تطور الرأسمالية في الظروف المعاصرة  هي  التالية:

     1 ـ إن لينين اكتشف قانون التطور المتفاوت بعد ماكان ماركس قد قال بإمكانية انتصار الثورة في آوروبا لقد اكتشف لينين هذا القانون على أساس دراسته الميدانية والعلمية للتركيب العضوي للرأسمال، واستنتج قانون التطور المتفاوت.

    و في ظروفنا الحالية، التي نتكلم فيها عن عالمية جميع العمليات التي تجري ماذا نستطيع أن نقول عن قانون التطور المتفاوت؟

     هل هذا القانون مازال يفعل فعله كما كان يفعل فعله في أوائل القرن العشرين؟ أعتقد أنه بدأ يأخذ أشكال تجلٍ جديدة، فإذا كان قانون التطور المتفاوت يندرج على يلدان عديدة في أوائل القرن العشرين، وخاصة البلدان الامبريالية، التفاوت فيما بين تطورها، فاليوم نلحظ عملياً أن هناك قطبين في التطور: قطب الشمال أي الرأسمالية، "بلدان الرأسمالية المتقدمة" وهنا شيئاً فشيئاً تمحى الفروق بينها. وعندنا قطب الجنوب، البلدان المستغلة من قبل الرأسمالية العالمية المتقدمة. وهنا أيضاً تمحى فروق التطور مع إشارة (+) فالجنوب تنمحي بين بلدانه فروق التطور مع إشارة (-)، وبالتالي الظاهر فإن قانون التطور المتفاوت مازال يفعل فعله ولكنه يتجلى بشكل جديد، التفاوت أصبح بين الشمال والجنوب، وبالتالي استناداً الى هذه الفكرة،  أما زالت  إمكانية انتصار الثورة الاشتراكية في بلد واحد صحيحة في الظروف الحالية في ظل السوق الرأسمالية الواحدة عالمياً؟..  على الأرجح لا يمكن أن يكون الإنفلات اليوم من السوق الرأسمالية العالمية  إلاّ جماعياً، ربما ليس على مستوى الكرة الأرضية كلها، بل على مستوى الجنوب، وعلى مستوى الشمال، وهذا بحاجة لبحث على مستوى أقاليم بكاملها.

     إن الواقع الموضوعي يدفع إلى التفكير في هذا الإتجاه استناداً إلى ماأنتجه الفكر الماركسي في أوائل القرن العشرين. تلك هي القضية الأولى.

     2 ـ الطبيعة والقيمة الزائدة:  حينما تكلم ماركس عن القيمة الزائدة في القرن الـ 19 قصد أن يقول تحديداً: إن القيمة الزائدة هي الاستيلاء على كميات عمل الآخرين المنتجة الحالية.

    أما اليوم فمن خلال الإستغلال البشع الذي تمارسه الرأسمالية على الطبيعة نرى أن إصلاح الطبيعة في المستقبل من قبل الأجيال اللاحقة حتى تستطيع أن تستمر الطبيعة وأن تستمر البشرية يتطلب بذل كميات عمل من قبل الأجيال اللاحقة بلا مقابل عملياً، من أجل تعويض ماسببته الرأسمالية من كوارث تجاه الطبيعة، فهل يمكن أن نقول إن القيمة الزائدة بأحد أشكال تجليها الجديدة هي الإستيلاء على كميات عمل الآخرين اللاحقة التي لم تنتج بعد، إذا كانت الرأسمالية في المنافسة الحرة، في الرأسمالية الاحتكارية تعني الإستيلاء على كميات عمل الآخرين الحالية، فالرأسمالية رأسمالية أواخر القرن العشرين وبداية القرن الواحد والعشرين، هي مع الحفاظ على الأشكال القديمة، هي أيضاً الإستيلاء على كميات عمل الآخرين اللاحقة،  كان هذا أحد الاحتياطات التي استخدمتها الرأسمالية في صراعها من أجل البقاء، من أجل مايسمى "بالإزدهار".

     3 ـ العمل الذاتي:  ماركس تكلم بشكل عبقري عن أن الشيوعية تعني انتفاء التناقض بين العمل الجسدي والعمل الذهني، فماذا أثبتت الثورة العلمية التكنيكية الحالية؟ إنها تثبت أن هناك اندماجاً أكثر فأكثر بين العمل الجسدي والعمل الذهني، وهذا الإندماج بين العمل الجسدي والعمل الذهني يتميز بأن كميات العمل الذهني في كميات العمل الجديدة يزداد وزنها أكثر فأكثر. بمعنى آخر أن كميات العمل الذهني في القيم المنتجة مجدداً استناداً الى الثورة العلمية التكنيكية يزداد وزنها النوعي.

     وهنا يطرح سؤال يتعلق بتقدير قيمة قوة العمل. ماركس تكلم عن قيمة قوة العمل في فترة القرن الـ 19، والتي تتميز بالعمل الجسدي بالدرجة الأولى، وحينما تكلم عن قيمة قوة العمل قال بأن قيمة قوة العمل يحددها بالدرجة الأولى قيمة تلك المواد الأولية من أجل إعادة إنتاج قوة العمل هذه، من غذاء وملبس ومسكن.. إلخ. بمعنى آخر، أن العمل العضلي له مؤشرات كحد أدنى من أجل إعادة إنتاجه، ولكن هل يصح أن نقول الشيء نفسه  فيما يخص العمل الذهني؟! هل قيمة العمل الذهني تساوي قيمة العمل العضلي  بتقديرها في ظل الرأسمالية؟. إن العمل العضلي بحاجة فعلاً لإعادة إنتاجه الى حد أدنى من كميات المواد الغذائية من ملبس ومسكن .. إلخ.. ولكن العمل الذهني كعملية من نوع خاص جداً، فإن إعادة الإنتاج في مجاله تحتاج الى الحد الأعلى من الحاجات المادية والى ظروف معينة تؤمن حتى الحاجات الروحية، وهنا يبرز تناقض من نوع جديد: بين إمكانيات الرأسمالية على التجاوب مع حاجات العمل الذهني وبين مايتطلبه العمل من مستلزمات للتطور اللاحق.

     وهنا توضع على بساط البحث مرة أخرى، وبشكل جديد، قضية الشكل الجديد للتناقض بين القوى المنتجة وعلاقات الإنتاج في ظل الرأسمالية. فالقوى النتيجة التي تتمايز بتزايد كميات العمل الذهني فيها تدخل في تناقض مع شكل تملك القيمة الزائدة التي ما زالت الرأسمالية تعمل عليه.

     هذه القضية يحاول البعض أن يطرحها من زاوية أن الثورة العلمية التكنيكية تعطي أفضليات للرأسمالية، لكن الواقع العلمي يبرهن أن الثورة العلمية التكنيكية من زاوية التناقض العميق الذي تخلقه بين العمل الذهني في كميات العمل الجديدة، وبين تطور الرأسمالية، هو تناقض لا حل له، هو تناقض مستعص لا يمكن حله إلا بزوال الرأسمالية نفسها.

   فالمطلوب إذاً، ليس صياغة نظرية جديدة عن القيمة الزائدة بقدر ما هو مطلوب أن نرى أشكال تجلي القيمة الزائدة في الظروف الجديدة. إن فكرة القيمة الزائدة الجوهرية صاغها ماركس ومازالت صحيحة، هذه الفكرة مطلوب اكتشاف أشكال تجليها الجديدة.

     المحور الثاني: حول الاشتراكية هناك قضايا كذلك تتطلب البحث والتعميق فيها: سأضع ثلاث قضايا، ولكن قبل أن أضعها أريد أن أؤكد على قضية وهي: إن كل مشكلات الاشتراكية وبناءها كان سببه ضعف القاعدة المعرفية النظرية لهذه التجربة الجديدة التي سببها قلة أو انعدام المادة الخام التي يمكن على أساسها  استخراج الاستنتاجات النظرية وتعميقها.

     1 ـ التناقض الأساسي: القضية التي بحاجة إلى حل في الاشتراكية هي: ما هو التناقض الأساسي في الاشتراكية؟

     يمكن إذا نظرنا إلى الاشتراكية كمرحلة انتقالية بالمعنى الواسع الذي تحدث عنه ماركس، مرحلة انتقالية بين الرأسمالية والشيوعية، يمكن أن يكون التناقض الأساسي في الرأسمالية هو بين أشكال تجلي هاتين التشكيلتين في الاشتراكية نفسها، وخاصة في المجال الاقتصادي. وهذه الفكرة  حتى تتعمق أكثر أعتقد أننا  نحن بحاجة إلى إعادة الإعتبار إلى فكرة ماركس حول الإنتاج اللا بضاعي.

     فكرة ماركس حول الإنتاج اللا بضاعي عُتم عليها خلال الـ 30 سنة الماضية من تطور الفكر الماركسي. المعروف أن في المدرسة الاقتصادية الماركسية هناك اتجاهان:

     ـ الاتجاه البضاعي. والاتجاه اللا بضاعي.

     انتصر الاتجاه البضاعي عملياً في أوائل الستينات، وفرض وجهة نظره الأحادية في كل الكتب والمدارس والجامعات، وفي كل الأبحاث ووجهات النظر الأخرى المستندة إلى ماركس في قضية الانتاج اللابضاعي كمم فمها، ولذلك فإن الجيل الذي قرأ الماركسية في النصف الثاني من القرن العشرين يعرف القليل عن الانتاج اللابضاعي. بينما إذا عدنا إلى ماركس، إلى الأصول  فسنرى أن ماركس ومن ثم لينين ركزا تركيزاً جيداً على قضية الانتاج اللابضاعي واعتبرا أن من لا يعترف بالانتاج اللابضاعي ليس له علاقة بالفكر الاشتراكي. لينين لديه فكرة بهذا التحديد، وبهذه الحدة تماما. وبالتالي هذه القضية ليس مجالها هنا وليس لها متسع من الوقت للحديث عن الانتاج اللابضاعي وتفصيلاته، ولكن كفكرة أعتقد بعد كل التجارب التي مرت بها الحركة الاشتراكية العالمية في الفترة الأخيرة من تجاربها في البناء الاشتراكي أنها تستحق الوقوف عندها والعودة إليها لبحثها على الأقل، ولا أقول العودة إليها من أجل تبنيها، العودة إليها من أجل بحثها، كيف وضعها ماركس، ومن ثم كيف وضعها لينين. فإذا حلت هذه القضية نظرياً سيسهل جداً بعد ذلك حل القضية النظرية التي تحدثت عنها وهي قضية التناقض الأساسي في الاشتراكية، جميعاً قرأ ما هي تناقضات الاشتراكية التي كان يدور الحديث حولها، ولكن الأن إذا عدنا للذاكرة فلن نتذكر أي حديث في أي مرجع عن التناقض الأساسي.

     ماركسياً ومنهجياً هام جداً، كما علمنا ماركس، تحديد نقطة الإنطلاق في معالجة أي ظاهرة. نقطة الإنطلاق في معالجة أي ظاهرة هو تحديد التناقض الأساسي فيها، وحله يسمح بحل التناقضات الثانوية الأخرى. هذه قضية أعتقد بحاجة إلى حل، إذاً قضية التناقض الأساسي مرتبطة بقضية الإنتاج اللابضاعي.

     2 ـ الدولة: القضية الثانية التي هي بحاجة إلى حل. أثبتتها الحياة نفسها وهي قضية الدولة، الدولة حسب ماركس ولينين، مع تطور القوى المنتجة في ظل الاشتراكية، تسير الدولة نحو التلاشي وصلاحياتها كإدارة للاقتصاد تنتقل شيئاً فشيئاً إلى المجموعات العاملة من خلال ما سمي بقضية التسيير الذاتي والإدارة الذاتية. هذا صحيح. ولكن العملية تمت بالاتحاد السوفييتي، في ظرف عالمي فيه نظامان، الصراع مستمر بينهما وهذا الصراع يتطلب تطوير الدولة ومهامها. هنا نشأ تناقض من نوع جديد بين ضرورة تلاشي مهام الدولة أي تغيرها في قضية البناء الاقتصادي، وبين تعاظم دور الدولة لحل مهامها الموضوعة أمامها عالمياً، هذا التناقض موجود على أرض الواقع كيف تتم معالجته وحله في التجارب الحالية وفي التجارب اللاحقة أعتقد أنه من مهمة الفكر الماركسي في أواخر القرن العشرين وأوائل القرن الواحد والعشرين أن يعالج هذه المشكلة. إن عدم الحل الصحيح لهذه المشكلة سابقاً كان أحد الأسباب التي أدت إلى الانهيارات التي جرت. لقد تحدثنا كثيراً عن قضية الدولة والفئة الإدارية وخروجها من تحت المراقبة. مراقبة الجماهير الشعبية، وأعتقد أن هذه القضية ليست خارج هذا الإطار.

     المحور الثالث:  في ظروف بلادنا الحالية ما هي المهام الفكرية الملقاة علينا.

     المهمة الأولى أمامنا تتطلب بحثاً وعملاً نظرياً جاداً لم نكن معتادين عليه سابقاً.  وهي مهمة فضح مختلف أشكال الاستغلال الإمبريالي التي تتعرض له بلداننا. إلى بحثه وفضحه ونقله بشكل ملموس للجماهير الشعبية، من خلال بحثنا العميق وشرحنا البسيط، تلمس الجماهير الشعبية مدى تضررها من الاستغلال الإمبريالي العالمي، هذه القضية كنا سابقاً نحلها بشكل بسيط، كان هناك اتحاد سوفييتي وكانت هناك مراكز بحث عالمية، تمد الجميع بالمعلومات والوقائع والأرقام، وكانت هذه المهمة سهلة، مهمة تعبئة الجماهير ضد الإمبريالية ومختلف أنواع تجلياتها.

    أما في الظروف الحالية فكيف يجب حل هذه القضية؟ في الظروف الحالية على الماركسيين أنفسهم وفي أماكن تواجدهم،  أن يدرسوا بشكل ملموس الظواهر الملموسة لاستغلال الإمبريالي وأن يعبئوا الجماهير الشعبية.

     هذه القضية ليست مهمة سياسية و من أجل حلها بشكل صحيح يتطلب عملاً فكرياً. عمل فكري عميق، تجميع معلومات، تحليل معلومات، استخلاص مهمات على أساس هذه المعلومات، وهذه المهمة عملياً كانت تحلها سابقاً معاهد بكاملها ومجموعات بحث بكاملها، كيف يمكن أن تحل اليوم في بلدان العالم الثالث، في البلدان العربية، في سورية،  مهمة معقدة من هذا النوع.

     المهمة الثانية: بما أن هنالك اندماجاً أكثر فأكثر بين مهام الطبقة العاملة الطبقية المباشرة والإنسانية العامة، كيف يمكن للاشتراكيين الذين يحملون عملياً فكر الطبقة العاملة أن يصوغوا بشكل ملموس المهام الإنسانية العامة التي تعكس مصالح إنسانية عامة، وإن التخلف عن هذه القضية في أوروبا أفسح المجال لظهور قوى جديدة  على الساحة مع أن هذه المهمة من الناحية الموضوعية هي مهمة الطليعيين في المجتمع، الذين يحملون الفكر الطليعي. هذه هي أحد مهامنا مع أن هذه القضية غير ملحة الآن في بلداننا مثلما هي ملحة في  أوروبا الغربية ولكن الحبل على الجرار، والعالم كله سائر تجاه اشتداد الأزمة البيئية، والمدن الكبرى في العالم الثالث أصلاً وضعها ليس أفضل من وضع المدن الكبرى في البلدان الرأسمالية.

     المهمة الثالثة: ضمن مهامنا والتي بحاجة إلى حل، هي قضية التركيز على دراسة كل ما هو تقدمي في تراثنا  للإستفادة منه في النضال العام الحالي. وهذه القضية ليست تحريضية فقط، بل يجب النظر إليها من  زاوية حل قضية العلاقة في النضال من أجل تلبية الحاجات المادية و الروحية للجماهير الشعبية، فإذا استطعنا أن نستفيد من كل ما هو تقدمي في تراثنا. نستطيع أن نجد الشكل الصحيح للربط بين النضال من أجل الحاجات المادية في الوقت نفسه إيجاد الربط بين القضايا المادية والقضايا الروحية.

بعض الدروس الأساسية
     دروس التجربة الأولى، دروس الطبعة الأولى من الاشتراكية، برهنت على أنه كان لديها شحنة قوية هائلة لتحطيم العالم القديم وهو ما قامت به ولكن تبين من خلال التجربة أن شحنتها لبناء العالم الجديد لم تكن بقوة الشحنة لهدم العالم القديم. هذا أول درس من دروس التجربة السابقة.

     الدرس الثاني: برهنت التجربة على أن القاعدة المعرفية ـ النظرية للتجربة الأولى كانت ضعيفة وهذا طبيعي، فالماركسية اللينينية التي استندت إليها هذه التجارب بمجموعها كونت في حينه علم تحطيم الرأسمالية، إن كل ما فعله ماركس هو أنه وضع علم الرأسمالية ولينين جاء فطور هذا العلم في الظروف الجديدة للرأسمالية الاحتكارية. وأهمية لينين شمولية كونية وليست روسية مع أنه نظريته في روسيا.

     ولكن الجيل الأول ـ ماركس وأنجلز ـ كما الجيل الثاني ـ لينين ـ كانا قادرين على أن يصوغا نظرية الاشتراكية، ببساطة لأن أي نظرية لا توضع  من فراغ وإنما  تنبت من الأرض على أساس التجربة السابقة.

     حتى تمكن ماركس من وضع علم الرأسمالية نفسها كمادة خام، درسها وعمم نتائجها وخرج باستخلاصات نظرية منها. فكيف يمكن الحديث عن نظرية بناء اشتراكية كاملة متكاملة في الظروف الجديدة إذا لم تكن هناك خبرة تاريخية في هذا الموضوع؟!! أي إذا لم تكن هناك خبرة سابقة مما يسمح بالتأكيد أن 70 سنة من تجربة الاشتراكية الأولى هي تلك المادة الخام الضرورية لصوغ نظرية بناء الاشتراكية، وهذا ما يقوم به الآن العلماء والمفكرون الماركسيون في أقطار بناء الاشتراكية.

     كان التصور عن بناء الاشتراكية عاماً أما قوانينها فلم تكن معروفة. وماركس كان قد اكتشف في "الرأسمال" حوالي السبعين قانونا.ً

     كما أن لينين اكتشف قوانين جديدة في عصر الإمبريالية وطور بعض القوانين القديمة في الظروف الجديدة. ورغم الجهود التي بذلت بعد ذلك في خلال عملية بناء الاشتراكية إلا أنه لم تتكون نظرية متكاملة حول هذا الموضوع، وهذا مفهوم.

     إن ضعف القاعدة المعرفية ـ النظرية لبناء الاشتراكية هو الذي خلق أرضية التجريب عبر الخطأ والصواب في عملية البناء نفسه، وظهر ذلك بالدرجة الأولى عند اللحظات الإنعطافية التي تتطلب حلولاً جديدة للمشكلات المستجدة "الجديدة".

     بما أن هذه الحلول غير موجودة في الكتب فإن التجريب كان يتم عبر الخطأ والصواب. لقد كان السير في طريق الخطأ أو الصواب أمراً لا بد منه، وهذا ما جرى فعلاً .

     الدرس الثالث: يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار أن الاشتراكية بنيت في عالم فيه تناسب معين بين القوى. وكان في هذا العالم قوة كبيرة مضادة للاشتراكية هي قوة الإمبريالية العالمية. لذلك لا يمكن تصور الصراع بين الاشتراكية والرأسمالية والذي جرى عالمياً، خارج إطار توازن القوى العالمي، وبمعنى آخر فإن العملية الثورية العالمية خطت بانتصار الاتحاد السوفييتي بانتصار أكتوبر، خطوة للأمام، وخطت كذلك بانتصار الحرب العالمية الثانية خطوة أخرى إلى الأمام.

     إن توقف هذه الخطوات،إن توقف  العملية الثورية العالمية بعد الحرب العالمية الثانية عن السير خطوات كبرى استراتيجية إلى الأمام كخطواتها السابقة، قد انعكس سلباً على تطور الاتحاد السوفييتي نفسه، لأن توازن القوى العالمي كان لا بد أن يؤثر على  العمليات الاقتصادية ـ الاجتماعية نفسها التي كانت تجري في نفس بلد الاشتراكية الأول.

     وبمعنى آخر لايمكن فصل تطور الاشتراكية في بلد واحد ، عن تطور العملية الثورية بمجموعها. لأن توقف العملية الثورية بمجموعها عن التطور أدى الى انعكاسات سلبية على التطور في  بلد الاشتراكية الأول نفسه. إن توازن القوى العالمية هام جداً فيما يتعلق بصيرورة الاشتراكية نفسها.

     الدرس الرابع: كما أن للثورة قوانينها فقد تبين أن للردة قوانينها أيضاً. وليس من قبيل المصادفة أن كل الحركات الثورية في التاريخ تعرضت للإرتداد في مرحلة ما من تاريخها، فثورات البرجوازية ارتدّت كلها حتى عادت النسخة الثانية أو الطبعة الثانية المعدلة من هذه الثورات البرجوازية لتثبت مكتسبات الموجة الأولى.

     والاشتراكية ليست خارج هذا الإطار. وهذا يستدعي منا التفكير ووضع القضية موضع بحث، هل الارتداد ظاهرة موضوعية أم لا؟! الظاهرة عندما تتكرر وتحدث يصبح التساؤل مشروعاً عن موضوعية أو لا موضوعية هذه الظاهرة. فإذا كانت موضوعية فعلينا أن نبحث عن قانون اسمه قانون الارتداد. وإن هذا القانون ليس خارج إطار الديالكتيك نفسه الذي بنيت الماركسية على أساسه.

     الدرس الخامس: برهنت التجربة على أن تجاهل الصراع الطبقي في الاشتراكية أدى خدمة سيئة جداً للاشتراكية، فقد تبين أن الصراع الطبقي لا ينتهي في الاشتراكية، وهنا أظهر التاريخ أن أصحاب هذا الرأي كانوا على  حق. كان معهم حق من حيث المبدأ. ولكنهم لم يكونوا في عصرهم قادرين على اكتشاف ذلك الشكل لتجليات الصراع الطبقي في الظروف الجديدة. الاشتراكية كما تصورها كل من ماركس وانجلز ولينين هي مرحلة انتقالية واسعة كبيرة من نظام إلى نظام ولكنها ليست نظاماً بحد ذاتها وبالتالي فإن الصراع الطبقي يظل ساري المفعول في هذه المرحلة الانتقالية. ولكن ليس حتمياً أن تكون أشكاله هي  أشكال الصراع الطبقي نفسه في ظل الرأسمالية وإنما يتجلى هذا الصراع بأشكال جديدة.

     ولم يستطع الفكر أن يعي أو يحل مسألة ما هي هذه الأشكال الجديدة للصراع الطبقي في خلال تطور الاشتراكية. لم يستطع حلها بنجاح. وهي الآن موضوعة أمامه. وقد بدأ يقترب من حلها أي أنه بدأ يقترب من حل قضية: ما هي أشكال الصراع الطبقي في ظل الاشتراكية. والصراع الطبقي الذي نتكلم عنه يعني صراع مصالح وايديولوجيات.. إلخ

     إن ذلك واقع موضوعي موجود، واكبر دليل هو ما جرى في الاتحاد السوفييتي وأوروبا الشرقية. فهل هناك دليل أكبر من أن الانهيار نفسه كان نتيجة صراع طبقي.

    إن هذه القضية بحاجة إلى تعميق وفهم اكثر. لماذا  يكون الصراع الطبقي موجوداً في ظل الاشتراكية وكيف يمكن التحكم به؟.

     سادساً:  لقد تبين أن الاشتراكية كنظام انتقالي بين الرأسمالية إلى ما بعد الرأسمالية، أي إلى  الشيوعية لها مشكلاتها الاقتصادية الخاصة بها، والتي لم تمر بها البشرية سابقاً وإن حل مشكلات الاشتراكية بطرق رأسمالية لا يؤدي إلا إلى انبعاث الرأسمالية. هذه كانت مشكلة الاتحاد السوفييتي والاشتراكية منذ بداية الستينات.

     إن كل المشكلات الجديدة التي نبعت من تطور الاشتراكية نفسها، من مستوى تطور القوى المنتجة الذي وصلت إليه الاشتراكية، لم تحل بطرق إبداعية. بل حلت بطرق قديمة أي بطرق رأسمالية  مما أدى عملياً إلى فرملة التطور الاقتصادي الاشتراكي وإدخال عناصر رأسمالية ـ النبتات الرأسمالية ـ التي كانت موجودة ضمنها.

     سابعاً: تكلم ماركس عن الدولة كجهاز في النظام البرجوازي وظيفته قمع الطبقات المستغلة، ومن المفروض أن يتلاشى هذا الجهاز في الاشتراكية شيئاً فشيئاً ويحل محله نظام إدارة ذاتية للاقتصاد.

     ولكن ما الذي جرى؟..

     في الاتحاد السوفييتي جرى تناقض ومفارقة فردية من نوعها وقد أصبحت الآن ظاهرة للعيان وهي التالية: التطور الاقتصادي تطلب إيجاد أشكال جديدة للمركزية الديمقراطية تتجه نحو الإدارة الذاتية. ومن الطبيعي بادئ ذي بدء أن يدار الاقتصاد الاشتراكي على طريقة هرم له رأس وقاعدة.

     ولكن مع تطور الاقتصاد وتوسعه شيئاً فشيئاً تصور لينين وماركس وأنجلز أنه يجب أن يصبح ذا إدارة ذاتية يختفي فيها الهرم لتحل محله دائرة لها مركز وكل جزء من هذه الدائرة هو مركز بحد ذاته، أي جهاز ذاتي للتنظيم والتنسيق بين الأطراف، بين أجزاء هذه الدائرة. وبمعنى أخر الدولة تتلاشى بفعل ظروف موضوعية هي مستوى معين من تطور القوى المنتجة.

     والاقتصاد السوفييتي كان قد وصل إلى مرحلة ودرجة تتطلبان إعادة النظر بأشكال المركزية الديمقراطية والانتقال إلى أشكال أولى من الإدارة الذاتية.

     ولكنفي الوقت ذاته كان يجب أن تبقى الدولة لأن الصراع العالمي يفترض بقاءها.

    إن إشكالية الدولة بين بناء الاشتراكية في بلد واحد، وبين الحفاظ على الاشتراكية في بلد واحد في مواجهة الحصار الكبير عليها خلق مشكلة: مشكلة الدولة: هذا الجهاز الذي يظهر أحياناً وكأنه فوق الطبقات والذي هو بحاجة للمراقبة دوماً.

     وخروجه عن المراقبة في لحظة من اللحظات. سيؤدي إلى تفسخه وظهور فئة وشريحة لها مصالحها الخاصة المستقلة.

     إن الاشتراكية في النسخة، الطبعة، اللاحقة المعدلة المنقحة منها لكي تحل هذه الإشكالية يجب أن تكون عملية الانتقال، عملية عالمية، حتى يحدث توافق بين تلاشي دور الدولة كجهاز  يدير الاقتصاد وتلاشي دور الدولة كجهاز حماية وقمع ضد الأعداء الخارجيين.

     بمعنى أخر يجب إيجاد أشكال الربط بين المهمتين السابقتين. وبدون تطور العملية الثورية على النطاق العالمي لا يمكن أن تأخذ العملية في بلد واحد  كامل أبعادها.

الآفاق..

     في بادئ الأمر يجب التأكيد أن الاشتراكية العلمية كأي علم أخر ليست علماً منتهياً بل هي علم، كما أكد مؤسسوها، يغتني ويتطور مع اغتناء الحياة بمضامين جديدة، ولكن هذا التأكيد يجب أن لا يذهب إلى النفي السلبي لما أنجزته الماركسية سابقاً، أي يجب أن لا يذهب إلى القطيعة مع الماضي لأنه في ذلك يفقد الحاضر نفسه، نقطة استناده الرئيسي وخلال وجود الفكر في اللحظة في الفراغ (أي عند فقدان نقطة استناده) ينشأ خطر الارتداد الكامل إلى ما وراء الماركسية، وهو ما حدث دائماً مع كل من حاول ذلك.

     كما يجب الإشارة أيضاً أن الحدود من الناحية الفلسفية  ـ شكلية ـ إلى حد ما بين النظرية والتطبيق. فالنظرية هي ذلك العام في التطبيق السابق الذي أثبتت الحياة ضرورته. أما التطبيق فهو شكل خاص من ممارسة النظرية.

     فأين تكمن المشكلة إذاً؟

     إن الماركسية كنظرية قد تكونت من حيث الأساس على يد مؤسسيها الأول وقد استطاعوا أن يحلوا بنجاح في النظرية والتطبيق قضايا كبيرة هي:

1)    ـ صاغوا نظرية الرأسمالية كظاهرة وصولاً إلى حتمية انهيارها.

2)     ـ صاغوا نظرية الثورة الاشتراكية.

     وهم بذلك استندوا إلى تحليل مادة عمرها مئات السنين من تطور الرأسمالية نفسه تضمنت عدة ثورات فاشلة كانت أشكال احتجاج عفوي على هذا النظام الاستغلالي وسمح لهم  هذا أن يخرجوا بتعميمات نظرية هامة بعد دراسة الواقع نفسه وتطوره.

     أما المهمة التي تعثر على أساسها  سير الحركة الاشتراكية في الفترة الأخيرة، التي هي مهمة بناء الاشتراكية، فقد كانت من مهام من أتى من ماركسيين بعد ماركس وأنجلز ولينين أن يحل موضوع تكوين نظرية البناء الاشتراكية وهو ما لم يتم ولأسباب عديدة.              

     والأرجح أن الأهم بين الأسباب هو:

     ـ انعدام أو قلة المادة الخام العملية التي يجب أن تصاغ هذه النظرية على أساسها ويبدو أنه إذا كانت نظرية الرأسمالية بحاجة إلى عدة مئات من السنين من تطور مادتها نفسه حتى تظهر هذه النظرية إلى الوجود من سني تطور الاشتراكية كتجربة هي ضرورية لصياغة قوانين بناء الاشتراكية كنظرية مكتملة؟ هذا السؤال ستجيب عليه الحياة نفسها. وهذا واقع الحال فكل تجربة جديدة لا بد لها من أن تمر عبر تجربة الخطأ والصواب كي تكّون في نهاية المطاف ذخيرتها النظرية الضرورية لتطورها اللاحق.

     فهل يجب أن نلوم من تصدى لمهمة اقتحام السماء، مستعملين تعبير ماركس حين وصف أبطال كومونة باريس؟ إن الموقف من التجربة الماضية اليوم ليس له مغزى عملي فقط، لاستخلاص الدروس للمستقبل، وإنما له أيضاً  مغزى أخلاقي ومعنوي إنه موقف تجاه من عبّد الطريق لغيره، تجاه من حكم عليه التاريخ أن يكون الأول على هذا الطريق.

     فلينين حين نقاشه مع البعض حول الموقف من الاشتراكيين الطوباويين وتخصيصاً حول سيسموندي قال لهم: بما معناه أن الموقف من الشخصيات التاريخية لا يصاغ  على أساس ما لم يقدموه قياساً بمتطلبات اليوم، بل يصاغ على أساس ما قدموه مع من سبقهم.

     فتجربة بناء الاشتراكية الأولى في التاريخ، قدمت الكثير للبشرية، ولكنها قدمت، وهذا هو الأهم، تلك المادة الخام التي ستقوم على أساسها  تلك الأنظمة الاشتراكية الجديدة، هذه الأنظمة ستكون حتماً أرقى من التي سبقتها. والخلاصة إذاً أين  المشكلة؟ أهي في النظرية أم في التطبيق؟ لقد أثبتت التجربة أن الخلل ليس في النظرية إنما في البشر الذين لم يستطيعوا استخدامها بشكل جيد في التطبيق، أو لم يستطيعوا تطويرها حسب مقتضيات الحياة، أي لم يستطيعوا الارتقاء إلى مستواها، وهذا وذاك تم بسبب عوامل موضوعية خارجة عن إرادة البشر أنفسهم أو بسبب عوامل ذاتية.