هل استطاعت التنسيقيات إرساء ممارسة بديلة عن البيروقراطيات النقابية؟

وائل المراكشي
2019 / 9 / 4 - 14:11     



أدت عقود تعاون البيروقراطيات النقابية مع أرباب العمل ودولتهم، إلى تراجع مصداقية النقابة كأداة نضال. اضطر المتضررون من هجوم الرأسماليين ودولتهم، إلى ابتداع أشكال يعتبرونها بديلة للنقابة: إضرابات عفوية في القطاع الخاص، بعض التنسيقيات في الوظيفة العمومية.

حاول البعض معارضة النقابة بالتنسيقيات. جرى نعي النقابة واعتبار “التنسيقيات بديلا محترما وجب الحفاظ عليه والنأي به عن البيروقراطية”. وانتشرت كما النار في الهشيم عبارات مثل: “لم نعد نعول على النقابات لدفع ضرر أو جلب مصلحة، كل ما يهمنا الآن هو عدم السماح بتسلل البيروقراطية إلى التنسيقية..”.

ما هي البيروقراطية؟

البيروقراطية فئة اجتماعية، شريحة عمالية راكمت امتيازات مادية ومندمجة- إلى هذا الحد أو ذاك- في الدولة البرجوازية المفترض أن تناضل ضدها. أصبح الحرص على هذه الامتيازات يأتي في المقدمة بدلا من النضال من أجل مصالح مجمل طبقة الشغيلة. لكن “البیروقراطیة” ليست محض حرص علی امتیازات مادیة وأشکال محددة من الفساد. إنها خط سیاسي أقصى ما يسعى إليه هو إصلاح النظام الرأسمالي لأن مصالحها مرتبطة به، خط سياسي قائم علی:

– حصر النضال العمالي في تحقیق مکاسب آنیة دون السعي لتقويض مجتمع الاستغلال الطبقي.

– الإیمان بأن خفض سقف المطالب واستجداء الحوار وعزل المطالب سیقنع الدولة/ أرباب العمل بالتنازل عن المطلب.

– تنبیه الدولة/ أرباب العمل بأن التعنت سیدفع النضال إلی التطرف والتجذر، وبالتالي المطالبات المتکررة بفتح “حوار جاد ومسؤول”.

– استبعاد الجماهیر عن القرار والتسییر واعتبارها محض منفذة لما تقرره القیادات (التفویض)، والحرص علی بقاء الجماهیر سلبیة وإدامة اتکالیتها.

فهل استطاعت التنسيقيات فعلا أن تشكل “بديلا محترما” وهل استطاع مناضلوها- لاتها “النأي بها عن البيروقراطية”؟

الجواب واضح من الممارسة الفعلية لهذه التنسيقيات: “رفض النقابة بمبرر بقرطتها والحرص علی نقاء التنسیقیات کأشکال تنظیمیة جدیدة للنضال الجماهیري”، لم یمنع تسلل ممارسات بيروقراطية یجري انتقادها، إلی هذه التنسیقیات.

السياق العام للمشكل

تناضل الشغيلة في ظروف معطاة سلفا، هي نتاج مجمل التطور الاقتصادي والاجتماعي والسياسي للبلد. لهذا، لم تظهر هذه “الأشكال الجديدة للنضال الجماهيري” من فراغ، بل نبتت من تربة مطبوعة بتقاليد سياسية ونقابية رسختها عقود من الهيمنة الليبرالية والبيروقراطية على أدوات نضال الشغيلة. هكذا، لم تجد أجيال الشغيلة الشابة أمامها ممارسة نقابية كفاحية وديمقراطية تستلهم منها ما يقوي التنسيقيات و”ينأى بها عن البيروقراطية”. لذلك، ورغم أوجه الاختلاف الذي يفرضه النضال من تعبئة مستمرة للقواعد (عقد جموعات عامة)، فقد أعادت هذه التنسيقيات إنتاج ما انتقدته من ممارسات البيروقراطية.

شكل هذا السياق (تقالید النضال السائدة/ الموروثة عن فترات سابقة، جزر نضالي عمیق أو فترة ردة رجعیة، تجارب أو انعدام تجارب أفراد الحرکة الجماهیریة)، “لاوعي” الحرکة الجماهیریة الذي ینبعث أو یعمل في الخفاء معدلا هکذا- إلی هذا الحد أو ذلک- الممارسة الواعیة لهذه الحرکة.

الأيدولوجية البرجوازية أكثر رسوخا بفعل قوة العادة وامتلاك وسائل نشرها [إعلام، مدرسة… إلخ]، لذلك يكرر مناضلو/ ات التنظيمات العمالية آراء هذه الأيديولوجية دون وعي، وأيضا عن وعي من طرف حزبيين/ ات منخرطين/ ات في تنظيمات النضال العمالي.

يؤدي هذا إلى عدم كفاية الإرادة أو التصريح المسبق برفض الممارسات البيروقراطية للتغلب عليها داخل التنسيقيات. الأمر أصعب من ذلك وأشبه بتنظيف اسطبلات أوجياس، تلك المهمة المستحيلة التي كلفت بها آلهة اليونان هرقل. صعوبة المهمة طبعا لا تعني أنها مستحيلة.

سنناقش في هذه الورقة بعض أوجه “تسلل” الممارسات البيروقراطية إلى التنسيقيات، والغاية هي المساهمة في جهود “النأي بها عن البيروقراطية” إلى جانب كل المناضلين/ ات الكفاحيين/ ات داخل هذه التنسيقيات.

حلول الأجهزة محل القواعد
لا وجود للجماهير كقوة نضالية خارج تنظيماتها، ولا يمكن للتنظيم أن يشتغل بفعالية دون أجهزة للتقرير والتنفيذ والتسيير والرقابة. إلى هذه الحدود الأمر مقبول ومطلوب. لكن الأمر يتحول إلى كابح عندما تحل هذه الأجهزة محل القواعد، فتنتهي هذه الأخيرة إلى اتكالية عمياء مضخمة قدرة الأجهزة والقائمين عليها.

تنتفي العلاقة الحية والمباشرة بين القواعد وجهاز تنظيمها، يحقق هذا الأخير استقلالية عن القاعدة وتنقلب العلاقة إلى تحكم في الاستعداد النضالي لمجمل الحركة وقواعدها الجماهيرية. ويمهد هذا الأرضية لنشوء تقسيم غير سليم نضاليا إلى قيادة تقرر وقواعد محض منفذة.

ظهر هذا بشكل كبير في هاشتاغات وتدوينات تحيل إلى إلزامية تنفيذ برامج النضال المقررة دون نقاش والهجوم على أي منتقد وقدحه (“الذباب الالكتروني”).

ربما تشكل تنسيقية طلبة الطب استثناء في هذا الجانب برفضها صيغة التفويض الذي طالبت به الوزارة، وحرصها على عرض خلاصات الحوار مع الوزارة على الجموع العامة والتصويت عليها.

قيادة تقرر… قاعدة تنفذ
كتب مناضل من التنسيقية الوطنية للأساتذة الذي فرض عليهم التعاقد في إحدى تدويناته: “التنسيقية الوطنية للأساتذة تحتاج لبناة التصورات النضالية الصحيحة في المرحلة وعلى الجماهير الأستاذية اللالتزام والالتفاف القوي”.

طبعا، ليس هذا موقفا شخصيا بل رأيا عاما سائدا في كل تنسيقيات شغيلة التعليم (وبقية شغيلة الوظيفة العمومية): تفويض القرار للأجهزة (خاصة المجلس الوطني) واعتبار الجماهير محض منفذ دون الحاجة إلى “استشارتها” حتى.

إن ألف باء الديمقراطية هو حق الجماهير الحصري في تقرير مصير نضالاتها (القرار، التنفيذ، الرقابة والمحاسبة)، وأي رأي آخر يتحجج بعدم نضج الجماهير، يعبر عن نزعة إحلال الأجهزة (إن لم يكن الأشخاص) محل الجماهير. يشكل هذا التربة الخصبة لظهور ممارسات غير ديمقراطية تتحول مع الزمن إلى بيروقراطية قائمة.

تتعدى خطورة الأمر إقصاء الجماهير إلى التضييق على منتدبيها داخل الأجهزة. فكل من يعارض هذا الواقع يصبح منبوذا ويتعرض للتجاهل أو المضايقة والمحاربة في أسوء الأحوال. تظهر “تجمعات” موازية للهياكل التي تنص عليها القوانين الأساسية لهذه التنسيقيات، وغالبا ما تكون تكتل أشخاص يلتقون للتفاهم حول أفضل السبل للتحكم في الجماهير وأدوات نضالها.

يتطور الأمر إلى فقدان اللقاءات التقريرية لحماستها البدئية وتخفت حدة النقاشات مع الزمن، ويصبح هذا بدوره مبررا للتغيب عنها، فتتقلص قاعدة اتخاذ القرار لتصل إلى مستوى تقرر فيه الأقلية الحاضرة مصير المعركة وتسطر برامج النضال المفترض أن ينفذها مجموع قواعد التنظيم.

وبقدر ما ينخفض النشاط النضالي المباشر للقاعدة يتطور الاكتفاء البيروقراطي بالقمة، فتترسخ الآراء المزدرية للجماهير، وتصبح موقفا رسميا بالفعل.

الهیاکل والأجهزة دون نشاط جماهیري من أسفل مجرد قواقع فارغة، قد تعطي الانطباع بالقوة التنظیمیة، لکن الانطباع یظل دائما انطباعا ومجرد خداع بصر يتحول مع الزمن إلى خداع بشر (القواعد).

إذا كانت البيروقراطية النقابية تستفيد من اندماجها في جهاز الدولة (متفرغون بأجور، مقرات، ممثلون في مؤسسات الدولة مثل مجلس المستشارين واللجان… إلخ)، ما يجعلها غير مكترثة كثيرا بفقدان جزء من قاعدتها، فإن التنسيقيات عكس ذلك تماما.

ما أن تبرد حماسة القواعد حتى يتحول تنظيم التنسيقيات إلى أجهزة معلقة في الفضاء، وتجد القيادات نفسها في مأزق صنعته بيدها. تضطر القيادات للجوء إلى أساليب تستوجبها ها غريزة البقاء (التنظيمي أو السياسي):

* اللجوء إلى الفرقعات الكلامية:

إنها أساليب مألوفة من البيروقراطيات النقابية مثيل: “نحمل المسؤولية للدولة”، “نحتفظ بحق الرد”. إلى جانب المألوف أيضا من إنذار وتنبيه الدولة إلى خطورة الأوضاع ودعوتها للتعقل قبل انفجارها.

إن الدولة أدری بقوة حرکات النضال أکثر من المنخرطین فیها ذاتهم، لذلک فإطلاق التهدیدات- الجوفاء- لا يخیف الدولة بقدر ما يخدع القواعد المناضلة وينیمهم في العسل.

كتب أحد الأساتذة تدوينة تضمنت هذا التهديد: “وجود تنظيم بهذه القوة مهما حاولت [الدولة] احتواءه، [و] تزايد الأعداد كل سنة قد يؤدي إلى انفجار يعصف بوطننا الحبيب”. وهو استعارة لخطاب “الفتنة” الذي تخيف به الدولة الشعب من النضال.

وهذه أمثلة أخرى من تنسيقيات مناضلة:

التنسيقية الوطني لحاملي الشهادات بوزارة التربية الوطنية:
“الغريب، أنه رغم خطورة الوضع، والاحتقان الذي وصل مستويات قياسية، لا تريد وزارة التربية الوطنية… فتح حوار حقيقي يفضي إلى حل الملفات التعليمية…. وينزع فتيل الاحتقان الخطير…”. [بيان 15 يونيو 2019].

التنسيقية الوطنية للطلبة المهندسين بالمغرب
“إن هذه الممارسات الأمنية الطائشة تزيد من الاحتقان وسط الطلبة عموما، وتكرس فقدان الثقة في المؤسسات… إن مقابلة الصرخات السلمية بالعصى الغليظة لعب بالنار وسعي مشؤوم إلى مستقبل مجهول”. [بيان 3 ماي 2019]

الدولة لا تخاف من التهديدات. إنها الجهاز المنظم للطبقة السائدة (الرأسماليون) وهي مسلحة من رأسها حتى أخمص قدميها، وتملك تجربة مديدة في التعامل مع حركات الاحتجاج. ما تخافه الدولة هو التدخل الجماهيري الواعي المنظم، وهو ما يجب أن تتكاثف الجهود لإيقاظه وإبقائه متقدا، وليس إطفاءه.

* مغازلة الدولة

من عادة بيروقراطيات النقابة مخاطبة الدولة ولفت انتباهها بأن مطالبها لا تتناقض مع سياستها العامة، وأن رفض الاستجابة هو الذي سيؤدي إلى ذلك (تجذر القواعد الذي يجب تفاديه).

ظهرت أشرطة إعلامية لمتحدثين باسم بعض هذه التنسيقيات يحملون المسؤولية للوزارة منبهين إياها إلى تناقضها مع “الخطابات الملكية”. وهناك من تعدى ذلك كاتبا في تدويناته: “ثقتي كبيرة في جلالة الملك في أن يتدخل لحل هذا الملف قريبا وليخلصنا من حكومة مشؤومة تسير بنا إلى المجهول”.

وكأن سياسة الدولة الاجتماعية تقررها حكومة واجهة لا حول لها ولا قوة، وليس مصدر القرار الرئيسي في البلد: المؤسسة الملكية.

أغلب البيانات تتحدث عن “سياسة التماطل والأذان الصماء من طرف اللأجهزة الحكومية”، وكأن الأمر لا يتعلق بسياسة قائمة بذاتها غرضها تدمير مكاسب النضالات السابقة لصالح أقلية برجوازية [محلية وأجنبية]: “مواصلة وزارة الصحة نهج سياسة الآذان الصماء والهروب إلى الأمام”. [بيان حركة الممرضين وتقنيي الصحة بالمغرب 17 غشت 2019].

* استجداء الحوار

تجعل البيروقراطيات من النضال محض ملحق بالحوار. تعلن أنها مضطرة للنضال لأن الدولة سدت في وجهها أبواب الحوار.

تتخلل بيانات التنسيقيات خطابات مثيلة، داعية الدولة إلى فتح “حوار جاد ومسؤول” معلنة استعدادها الكامل للدخول في هذا الحوار. وتلعب الدولة على هذا الوتر، فيخرج المسؤولون الحكوميون- بين حين وآخر- بتصريحات تزكي هذا الوهم القائم على أن المشكل قائم في غياب “الإرادة السياسية”.

* تضخيم الرموز

ساد رأي عام داخل التنسيقيات يقلل من شأن القواعد ويعلي من قدرة أفراد بعينهم، يجري تضخيم قدرتهم على “قيادة” النضال. تظهر تدوينات تنعت هؤلاء بالصناديد والأسود والأشاوس.

تترسخ هكذا نزعة “الكاريزما” التي تؤدي في نهاية المطاف إلى حلول الفرد/ الزعيم محل القواعد/ الجماهير. الزعيم المحتكر للتجربة والريادة والقرار والجماهير القاصرة الطفولية التي يجري استثارة استعدادها النضالي بأساليب التهييج والتجييش بعيدا عن كل نقاش عقلاني لخطوات النضال.

غياب النقاش
النقاش الجماعي والديمقراطي أوكسجين ضروري لبقاء جسم النضال حيا مشتغلا. حق القاعدة والمناضلين الأفراد أو المتجمعين حول رأي معين في النقاش أساس كل ديمقراطية داخلية. غياب هذا النقاش يؤدي إلى تكلس التنظيم وجموده، وتسييد الرأي الواحد يحرم حركات النضال من آراء ضرورية لتصويب بوصلة هذا النضال وتوجيهه نحو سكته الصحيحة.

أعدمت البيروقراطيات النقابية النقاش الداخلي (الديمقراطي والجماعي)، لأنه سيفتح أعين الجماهير ويساعدها على تجاوز سلبيتها واتكاليتها. وقد أعيد إنتاج هذه “الممارسة القاتلة لحرية التعبير” داخل التنسيقيات من خلال مسكليات مثل:

* تجاهل الرأي الآخر

تطرح آراء منتقدة لمسار النضال وتنشر إعلاميا، لكن يجري طمسها وتجاهلها، لأن نقاشها سيلقي عليها الأضواء ويلفت الأنظار إليها. انتشرت مسلكيات قاتلة لحرية إبداء الرأي خاصة في وسائل التواصل الاجتماعي: حذف التدوينات والتعاليق وفيدوات المباشر (اللايفات)، سحب الانخراط في صفحات الفايس.

* تجريم الرأي الآخر

عادة ما يهاجم الرأي الآخر بجريرة الوقوف في وجه تقدم النضال، وكأن النقد والنقد الذاتي والتقييم ليست طرقا لتقدم النضال، وكأن القواعد (جماعة وأفراد) مطلوب منهم السمع والطاعة فقط. جرى نعت من يعبر عن رأي مخالف لما هو سائد (أو ما جُعِلَ سائدا) بـ”الذباب الالكتروني”. وتلك طريقة لإسكات الأفواه ولجم النقاش، وهو ما دأبت عليه البيروقراطيات النقابية لإدامة سيطرتها على أدوات نضال الشغيلة (النقابة).

* إعلان مواقف دون نقاشها

الاستفراد بالقرار له وجه آخر هو الإدلاء بتصريحات تتضمن مواقف لا تعبر عن حقيقة مواقف القواعد، أو بالأحرى جرى تصريفها دون فتح نقاش جماعي ديمقراطي: موقف مقاطعة انتخابات لجنة الأطر بالنسبة لتنسيقية المفروض عليهن/ هم التعاقد، ادعاء أن مطالب التنسيقية لا تتناقض مع الخطابات الملكية.

التعاون الطبقي/ السلم الاجتماعي
رسخت البيروقراطيات النقابية أوهام “التوافق” مصالح لا يمكن التوفيق بينها: بين البرجوازية ودولتها من جهة والشغيلة من جهة أخرى. انتقل وهم هذا التوافق إلى التنسيقيات بقبولها لمنطق مبادرات الوساطة القائم على تفادي تأجيج النضال والحرص على الاستقرار السياسي.

ورد في بيان تسيقية طلبة الطب- على سبيل المثال لا الحصر- ما يلي: “تثميننا لجميع مبادرات الوساطة الصادقة التي تهدف إلى العمل على حل الأزمة والاستجابة لمطالب الطلبة الأطباء المشروعة”. [1 يونيو 2019].

تقدمت أحزاب تتحمل جزءً من مسؤولية تنفيذ سياسة تدمير الوظيفة العمومية والقطاعات الاجتماعية بمبادرة وساطة بين الدولة وهذه التنسيقيات. وهو قبلته هذه الأخيرة بدون رؤية نقدية: اتخاذ مسافة من الأحزاب الوسيطة، واعتبار الوساطة والحوار حلا بحد ذاته.

ولفرض هذا الحل استوجب الأمر مواجهة القواعد الرافضة او انتقاد كل من يدعو للرجوع إلى القواعد. لاحظنا هذا أثناء انعقاد الجموعات العامة المنعقدة بعد جولة الحوار الأولى المنعقدة في أبريل بين تنسيقية المفروض عليهن/ هم التعاقد والوزارة)، كتب أحد المنسقين: “تسلط البعض وتجييش الأساتذة بدافع كلام القواعد أسقطت بوصلة النضال من أيدينا، إنه الحماس الزائد”.

انتشرت أوهام أن تعليق الإضراب “تعبير عن حسن النية” وأن “الوزارة الوصية مدعوة الآن لإيجاد حل جذري لملف التعاقد”. وكأن ما يمنع الدولة من الاستجابة للمطلب هو غياب حسن النية لدى التنسيقية، وليس لأن “التعاقد خيار استراتيجي” كما تصرح الدولة بشكل دائم، جاعلة من “التوظيف الجهوي” سقف أي نقاش حول الملف.

خاتمة

لقد تبين -بالملموس والممارسة العملية- أن رفض النقابة لم ولن يحصن التنسيقيات من ظهور ممارسات غير ديمقراطية/ بيروقراطية.

إن البيروقراطيات ليس فقط مشاكل تنظيمية وتدبيرية نحلها بإجراءات تنظيمية وتدبيرية أخرى. البيروقراطية خط سياسي قد يخترق كل تنظيمات النضال لذلك:

* کل تنظیمات النضال فیها میول للتحول البیروقراطي، إن لم يجر مواجهتها منذ البداية.

* ضمانة الحفاظ علی نضالیة التنسیقیات هو الحرص علی الدیمقراطیة الداخلیة وحق القاعدة في التقریر والتسییر ومراقبة الهیاکل ومحاسبتها وعزلها.

* إرساء خط نضالي قائم علی النضال الطبقي ولیس السلم الاجتماعي والتماس الحوار.

* استقلالیة التنسیقیات عن کل الأحزاب وعن الدولة، مع ضمان حق الانتماء السیاسي لأعضائها ما دام لا یضرب مبدأ الاستقلالیة.

ما عدا هذا ستکرر التنسیقیات تجارب الفشل البیروقراطي، الذي انتهت إلیه نقابات العمال، بما فیها من بدأ مشواره بکفاحیة مشهود لها.

إن التربة الخصبة لظهور الممارسات غير الديمقراطية/ البيروقراطية في تنظيمات النضال هي سلبية الجماهير واتكاليتها. وكل من يحافظ على هذه السلبية وهذه الاتكالية سينقل الممارسات القاتلة للديمقراطية المنتقدة لدى بيروقراطيات النقابات إلى داخل التنسيقيات التي يجري الادعاء أنها “بديل محترم للعمل النقابي”.