«العَهْدُ الجَديد» هل انتَهَى زَمَن الانْتِشَاء؟


ادريس الواغيش
2019 / 3 / 25 - 08:12     


لا أنكر أننا كنا نعيش إلى وقت قريب انتشاء غير عادي بانتمائنا إلى مغرب وعهد جديدين، نُـجاهر بأننا نعيش فعلا "عهدا جديدا": توسُّع في نطاق الحُـرِّيات ونشاط الجمعيات، تراكُـمٌ في الإنتاج الأدبي والفني مع حُـرية في الإبداع، بنيات تحتية في الطرقات والمطارات وملاعب كرة قدم بمواصفات عالمية، قطار"البُـرَاق" فائق السرعة...إلخ. لا ننكر أننا كنا نفاخر أشقاءنا في المَـشرق بذلك جهرا، وكانوا هم يصدقوننا في ذلك لأكثر من سبب، بل ويغبطوننا على ما نحن فيه، هذا واقع حال لا ينكره أي عاقل.
لكن ظلت مشاكل التعليم دائما وأبدا منذ إضراب 1979 وما تلاه من تعسفات وتوقيفات وإلى اليوم، هي المُختبر الوحيد لنوايا الدولة المغربية وجدِّيَـتها، هكذا وجدت الدولة المغربية نفسها مُتورطة مرة أخرى، لكن هذه المرة فيما سُـمِّي "استراتيجية كُـبرى" في مجال التعليم، وسواء فرضتها الصناديق الدولية الكبرى المتحكمة في السياسة الدولية أو خططت لها هي نفسها كدولة ذات استقلالية وسيادة، تفتقت عَـبقرية المُخططين الاستراتيجيين "الكبار" للدولة وسموها: "التَّـعَاقد"، هذا المولود الجديد أسال حتما الكثير من الكلام والمداد، دون أن ننسى بعض الدم المُسال في شوارع الرباط مؤخرا.
تخرَّج الفوج الأول من الأساتذة المتعاقدين ثم تلاه فوج آخر جديد، ليكتمل عَـقد "التَّعاقُـد" الذي فجر قضية تعليمية أطلق عليها اسم: "الأساتذة المُتعاقدون"، لكن تسريبات وتحليلات كثيرة أفضت كلها إلى أن المقصود من القضية برُمَّـتها هو المدرسة العمومية وليس الأستاذ المتعاقد. وأمام تقاعس أو تواطؤ، لا تهم التسميات هنا، عن مهماتهم، التجأ هؤلاء إلى تأسيس تنسيقية وطنية، انضمت إلى التنسيقيات الأخرى الوطنية السابقة: الزنزانة (9)، ضحايا النظامين، حاملو الشهادات العليا ثم حاملو شهادة الدكتوراه.
هكذا بدأوا يحجون تباعا إلى الرباط للمطالبة بحقهم في الإدماج في الوظيفة العمومية، بحكم أن التعاقد فرض عليهم فرضا، في مقابل وجهة النظر الرسمية التي تقول بأن نظام التعاقد أخرجهم من البطالة، كان آخر هذه الهجرات الجماعية إلى الرباط في 23 مارس الجري أو 24 منه، حتى لا نعطي للقضية بعدا سياسيا، وهي الهجرة التي أفاضت الكأس العامرة أصلا.
ولأنهم رُسُـلُ علم ومعرفة، مُبشرين لا مُنذرين، ارتأت الحكومة والدولة المغربية العميقة، في ليلة السبت/ الأحد 24 مارس2019م، أن تنظم للأساتذة المتعاقدين حفل تكريم "ليلي"على طريقتها الخاصة، بتكسر عظام جماجمهم وأياديهم وتلطيخ وزراتهم البيضاء بالأحمر القاني، منهية بذلك زمن الانتشاء بـ:"العهد والمغرب الجديدين"، انتشينا بهما لفترة لم تعمر طويلا.
مارس، كما نعرف جميعا، هو شهر الربيع والأزهار وخرجات البهجة والفرح الجماعي، له رمزية خاصة في جميع أنحاء المَعْـمور، شهر يتزامن مع أعياد عالمية كثيرة: عيد الأم، عيد النصر، عيد المكتبة، عيد الحب، عيد المسرح وعيد الشعر...إلخ، بمعنى آخر أنه شهر العلم والحكمة والفرجة والاحتفاء بالربيع والأستاذ، لكن الدولة المغربية لها منطقها وتصورها الخاصين، هكذا تكون رسالتها قد وصلت بالواضح: لسنا في حاجة إلى أعيادكم وربيعكم وشعركم وعلمكم وحكمتكم وحنانكم وأدمغتم أو حتى طبشوراتكم..!.
يكفينا فخرا: "نجوم الأولى" و"نجوم الثانية"، وبرامج علمية رفيعة:"رشيد شو" و"كي كونتي كي وليتي"، وكأن الدولة المغربية تقول لنا بالواضح:
- علمكم اتركوه في جماجمكم، وهراوات شرطتنا وخراطيم مياهنا، نستعملها ليلا أو نهارا، "ماشي شغالكم"..!!..
آلاف الأساتذة والأستاذات كانوا اليوم في الرباط وأهينوا، وغدا ستكون آلافا مؤلفة وليست فئة صغيرة. نجحتم اليوم في إهانة أسرة التعليم وتفوقتم في تفرقتها وتشتيتها، حتى أصبحت قبائل وعشائر وطوائف: الزنزانة(9)، ضحايا النظامين، حاملي الشهادات العليا، حاملي الدكتوراه، وها هي فئة جديدة أخرى تعدادها آلاف مؤلفة من المتعاقدين تناديكم...!!.
مؤلم ما رأيناه من قمع مبالغ فيه ليلة البارحة، جراح غائرة ودم يسيل على وزرات بيضاء يحملها شباب وشابات يجرون ويصرخون ويهتفون في شارع محمد الخامس بالرباط، كأن قدر هذا الشارع هو الآخر مع البرلمان الواقف على جنباته أن يكونا شاهدين أخرسين على أسوأ مرحلة يجتازها مغربنا الحديث في عهد حكومة "التنمية" و"العدالة"، مغرب استفاق من قيلولة "سنوات الجَمْـر" ونومَة "الرصاص" العميقة فجأة، واقتحمه الحنين إلى زمن قديم، وإذا به يخرج إلى الشارع حاملا معه خريطة طريق جديدة، عتادها هراوات وكلاب مدربة ودراجات رياضية لملاحقة المطالبين بحقوقهم، مغرب يمارس هواية كنا نعتقد واهمين أنه استغني عنها، لكنها في الحقية ظلت مفضلة لديه على الدوام: "تكسير الجَـماجم والعظام"!!.