الحركة العمالية: صعود جديد يدفعه الإفقار ويعوقه القمع


مصطفى بسيوني
2019 / 4 / 10 - 18:36     

لا شك أن من تابعوا الحركة العمالية بشركة غزل المحلة في السنوات السابقة قد أُصيبوا بالإحباط بعد فشل محاولة الإضراب التي بادر إليها عمالُ عددٍ من مصانعِ الشركة في السابع من فبراير الماضي.

فقد نظَّم عمال عدة مصانع في شركة مصر للغزل والنسيج بالمحلة إضرابًا عن العمل في ذلك اليوم، وبلغ عدد العمال الذين دخلوا في الإضراب نحو أربعة آلاف عامل، وتركَّز الإضراب في مصانع الملابس الجاهزة والملايات والفوط، وهي المصانع التي تغلب عليها العمالة النسائية، ما أعاد إلى الأذهان إضراب ديسمبر 2006 الذي بدأته العاملات ورددن الهتاف الشهير “الرجالة فين الستات أهم”، وهو الهتاف الذي عادت العاملات إلى ترديده في فبراير 2017 مجددًا، ولكن لم يجد نفس الاستجابة من عمال الشركة، خاصةً بعد استدعاء إدارة الشركة لعددٍ من العاملات وتهديدهن.

رَفَعَ الانطباع العام عن الحركة العمالية في شركة غزل المحلة، والتي ألهمت إضراباتها في نهاية 2006 و2007 الحركة العمالية في مصر، ويمكن القول أنها أرست أسس جديدة للحركة العمالية وأدخلتها في مرحلة أكثر تطورًا، من سقف التوقعات تجاه محاولة الإضراب في فبراير الماضي.

ومن جانب آخر رفعت الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية التي تعيشها الطبقات الفقيرة في مصر من سقف التوقعات. فقد أدت الإجراءات الاقتصادية التي اتخذتها الدولة لاستيفاء شروط قرض صندوق النقد الدولي بقيمة 12 مليار دولار على ثلاثة سنوات، إلى تحميل الطبقات الفقيرة، وخاصة الطبقة العاملة، أعباء غير مسبوقة.

تضمنت تلك الإجراءات خفض الدعم على الوقود بنسبة تزيد على 40% في موازنة العام المالي 2016/ 2017، وهو ما أدى لموجة تضخم شديدة، أضيفت إليها أعباء تضخمية جديدة نتيجة تطبيق ضريبة القيمة المضافة على السلع والخدمات بنسبة 13%. ومع قرار تحرير سعر الصرف في الثالث من نوفمبر 2016، تزايدت الأعباء بشدة نتيجة تضاعف سعر الدولار أمام الجنيه، وهو ما أدى لارتفاع كافة السلع والخدمات، وامتد ارتفاع السعار للسع الأساسية والأدوية والخدمات الصحية والتعليمية. من ناحية أخرى كانت الزيادة في الأجور ضعيفة للغاية، مثلًا كانت نسبة الزيادة في مخصصات الأجور في الموازنة العامة للدولة 7.6% في العام المالي 2016/ 2017، مع نسبة تضخم متوقعة في الموازنة 11.5%، أي أن الموازنة تضمنت عمليًا انخفاض للأجر الحقيقي للعاملين بالدولة، والذين يبلغ عددهم أكثر من ستة ملايين. والحقيقة أن الانخفاض في الأجر الحقيقي كان أكبر بكثير من تقديرات الموازنة العامة للدولة، لأن نسب التضخم التي تحققت بعد قرار تحرير سعر الصرف فاقت بكثير تقديرات الموازنة العامة. فقد أعلن البنك المركزي المصري مؤخرًا ارتفاع معدل التضخم السنوي في فبراير الماضي إلى أكثر من 33% بينما كان أكثر من 28% في يناير الماضي، وأقل قليلًا من 24% في ديسمبر الماضي، مع توقعات بنسب أعلى في الربع الأخير من العام المالي 2016/ 2017.

الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية التي تعاني منها الطبقات الفقيرة في مصر تدفع بالفعل لصعود موجات احتجاجية، خاصة مع ضعف شبكة الضمان الاجتماعي، وانخفاض قيمة وتأثير الدعم السلعي والخدمي، وتقليص الدولة لدورها الاجتماعي. وهو ما بدا واضحًا في المظاهرات التي انطلقت في سبع محافظات في مصر في الأسبوع الأول من مارس الجاري ضد تخفيض حصص الخبز المدعم.

و جاء تدهور الأوضاع المعيشية وارتفاع الأسعار الذي تفاقم في نهاية 2016 على صعود للحركة العمالية والاحتجاجية. فقد شهد عام 2016، بحسب تقرير المركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، تزايدًا ملحوظًا للاحتجاجات بشكل عام وخاصة الاحتجاجات العمالية، إذ بلغت الاحتجاجات في 2016 حوالي 1700 احتجاج، أكثر من 700 منها احتجاجات عمالية، وأكثر من 600 منها احتجاجات ذات طابع اجتماعي، ما يعني تحولًا في المزاج العام عن الأعوام السابقة من 2013 وحتى 2015، والتي تراجعت فيها وتيرة الاحتجاجات بشكل ملحوظ، سواء نتيجة القمع الشديد، أو نتيجة التأثر بالدعاية الرسمية التي أعلت شعار “الحرب على الإرهاب” على أية قضية أخرى، أو بسبب التوقعات التي روَّجها النظام عن مشاريعه الاقتصادية بدءًا من مؤتمر شرم الشيخ الاقتصادي وحتى توسيع وتطوير قناة السويس والمنطقة المحيطة بها.

ارتفاع وتيرة الإضرابات العمالية والاحتجاجات الاجتماعية في 2016 صاحبه أيضًا ارتفاعٌ في وتيرة القمع والملاحقة للإضرابات. ففي تطورٍ ملحوظ لقمع الحركة العمالية، أُحيلَ عمال من الترسانة البحرية بالإسكندرية للمحاكمة العسكرية بتهمة التحريض على الاحتجاج، كذلك أُلقيَ القبض على قيادات عمالية من هيئة النقل العام بالقاهرة بتهمة التحريض على الإضراب، وأُحيلِ عمال بشركة إفكو للمحاكمة بتهمة الإضراب. فضلًا عن تدخل قوات الأمن لفض احتجاجات عمالية وقمعها.

إذا عدنا لمحاولة الإضراب في شركة غزل المحلة في فبراير الماضي، والتي انعقدت حولها الآمال فور إعلانها، فلا يمكن تقييمها إلا ضمن الظروف العامة التي تعيشها الحركة العمالية بالفعل في مصر. فتطور الملاحقة الأمنية للعمال في الإضرابات تلقي بظلالها على المواقع العمالية وتجعل أية خطوة في اتجاه تنظيم الإضراب محفوفة بالمخاطر. ولكن الشرط الذاتي في شركة غزل المحلة أيضًا يلعب دورًا هامًا، فالشركة التي قادت صعود الحركة العمالية في نهاية 2006 وما بعدها هي أيضًا من أكثر المواقع العمالية التي تعرَّضت للملاحقة الأمنية والإدارية، فأغلب القيادات العمالية التي لعبت دورًا ملموسًا وسط العمال في الفترة السابقة جرى التخلص منها، سواء بالفصل من الشركة أو بالنقل إلى فروعٍ نائية بعيدًا عن التأثير وسط العمال، ومن بقي منهم يُحاصَرون للسيطرة على حركتهم بالشركة، ما جعل إمكانية تنظيم إضراب ناجح أصعب كثيرًا مما كان عليه الوضع من قبل. وهو أيضًا ما يجعل مجرد المحاولة التي انضم إليها ما بين 2500 إلى 4000 عامل خطوة هامة في حد ذاتها حتى مع عدم اكتمالها، وكونها جرت عقب محاولات للاحتجاج في مواقع أخرى تدخل الأمن فيها باعتقال القيادات العمالية فإنها لا تخلو من الجرأة والبطولة.

الواضح الآن أن هناك عاملان يتسابقان للتأثير في مسار صعود الحركة العمالية. العامل الأول الذي يدفع الحركة العمالية للصعود وهو تدهور الأوضاع الاجتماعية للعمال وانخفاض الأجور الحقيقية بنسبة تتجاوز قدرة العمال على الاحتمال، وهو ما يدفع العمال للتحرك للمطالبة برفع الأجور وتحسين أوضاع العمل. أما العامل الثاني فهو سياسة القمع التي تتبعها الدولة وتسعى من خلالها لإجهاض أي تحرك عمالي في بدايته عبر اعتقال القيادات وتقديمهم للمحاكمة، ويزيد من تأثير هذا العامل ما فقدته الحركة العمالية من قدراتها التنظيمية في الفترة السابقة سواء عبر السياسة الأمنية المنظمة أو بانفراط الجماعات القيادية وسط الحركة العمالية.

ولكن ما يمكن ملاحظته هو أن العامل الثاني المتمثل في القمع والملاحقة الأمنية والذي يكبح صعود الحركة العمالية، قد بدأ تأثيره يتراجع بعدما كان قويًا وحاسمًا، بدليل التصاعد في وتيرة الاحتجاجات العمالية والاجتماعية وحتى الاحتجاجات ذات الطابع السياسي، مثل الاحتجاجات على اتفاقية تسليم جزيرتي تيران وصنافير للسعودية، بينما العامل الأول المتمثل في الظروف الاجتماعية والاقتصادية والذي يدفع الحركة العمالية للصعود هو الذي بدأ يتزايد تأثيره مع تزايد معدلات التضخم وانكشاف تعهدات النظام بنجاح مشاريعه الاقتصادية. لذا فإن محاولة عاملات المحلة الإضراب في مطلع فبراير والتي لم تُكلَّل بالنجاح لا يمكن النظر إليها كمجرد محاولة فاشلة، ولكن يمكن اعتبارها أحد إرهاصات وبوادر صعود جديد للحركة العمالية قد يعني تغير العديد من المعطيات في الواقع المصري، تمامًا مثلما غيَّر صعود الحركة العمالية في 2006 معطيات الواقع المصري عشية ثورة يناير.