دفاعا عن إستقلالية النقابات والمجتمع المدني في الجزائر


رابح لونيسي
2017 / 2 / 25 - 00:44     




يحتفل الجزائريون كل 24 فبراير بذكرى تأسيس الإتحاد العام للعمال الجزائريين في 1956 على يد الشهيد عيسات إيدير وذكرى تأميم المحروقات في 1971 على يد الرئيس هواري بومدين الذي أعطى للجزائر 51%، ممايسمح لها بقرارات سيادية في مسائل المحروقات بعد ماكانت ناقصة جدا بحكم إتفاقيات إيفيان، لكن نعتقد أن الجزائر بعد 1962 لم تكن تمتلك الموارد البشرية والتقنية للتحكم في تسيير المحروقات، مما دفع إلى تكليف بلعيد عبدالسلام بإنشاء شركة سوناطراك والتكفل بتكوين الإطارات، وهو ما سمح للجزائر من الإستقلالية في 1971، فمن المؤكد أن 24 فيفري جدير بالإحتفالات والتخليد، لكن عادة مايغلب عليها البهرجة دون أن نطرح يوما نقاشا جادا حول المسائل المتعلقة بالعمال ومداخيل المحروقات والأجور التي تعد مسائل جوهرية لبناء مستقبل الجزائر.
أن أكبر قضية يجب أن تشغل العمال اليوم هو إستقلالية النقابات، إضافة إلى النضال اليومي من أجل رفع الأجور للعمال وتحقيق التوزيع العادل للثروة، فإستقلالية النقابات والمجتمع المدني مهم جدا، فحتى لو أن الإتحاد العام للعمال الجزائريين أنشا لدعم الثورة، إلا أنه حافظ نوعا ما على إستقلاليته آنذاك كي يسمح له بدخول المنظمة العالمية للنقابات، لكن فقد هذه الإستقلالية بعد إسترجاع الإستقلال، فرغم حرص قياداتها على إستقلاليتها إلا أن نظام بن بلة رفض ذلك، وسارع لإلحاقه بحزب الآفالان، وأستخدمت ضغوطات عدة عشية مؤتمر الإتحاد المصيري في 1963، ومنها إعتقال بن بلة لهذه القيادات بشكل مضحك بعد أن دعاها إلى مأدبة عشاء، إلا لكي يضغط عليها عشية مؤتمرها، والتي أنبثقت عنه قيادة تابعة، فمنذئذ أنتهى الإتحاد، ووصل إلى درجة منع الإضرابات في عهد بومدين، وإعتبارها جرما، فهو ما يعني منع أحد الأساليب النضالية الأساسية للدفاع عن حقوق العمال، ونعتقد أن هذا هو الخلاف بين الجزائر وتونس التي حافظ فيها الإتحاد العام للشغل التونسي على إستقلاليته، وهو التنظيم الذي أسسه الشهيد فرحات حشاد، والذي تعلم عنه عيسات إيدير أساليب النضال النقابي، فقد حافظ الإتحاد التونسي على إستقلاليته، ودخل كقوة معارضة سواء للرئيس بورقيبة ثم بن علي، وبرز دوره بشكل كبير اثناء الثورة التونسية في 2011، كما لعب دورا رئيسيا في الضغط على القوى السياسية بعد الثورة للتوصل إلى توافق دستوري وديمقراطي، مما مكن تونس من تجاوز المصاعب السياسية والنجاح نسبيا في إنتقالها الديمقراطي بعد 2011.
لكن فقد الإتحاد العام للعمال الجزائريين دوره، عندنا أصبح مجرد تابع، ويخضع لما يأمره به النظام، وهو ما ينطبق على كل تنظيمات المجتمع المدني، خاصة في عهد بومدين، ونستثني من ذلك الإتحاد الوطني للطلبة الجزائريين الذي أخذ مكان "الإتحاد العام للطلبة المسلمين الجزائريين" بعد مؤتمر1963، وقد حرص هذا التنظيم الطلابي على إستقلاليته بحكم سيطرة القوى اليسارية والديمقراطية عليه، فأضطر بومدين إلى إستخدام بعض القوى الدينية ضد هذا التنظيم، والذي تم حله في 1968 بالقوة بعد محاصرة مكاتبه ومقراته وإعتقال الكثير من قياداته، فقد كان هذا التنظيم الطلابي آنذاك من أشد المدافعين عن العمال ذاتهم، ومعروف بنقده لنظام بومدين وإشتراكيته التي أعتبروها آنذاك "رأسمالية دولة"، وستنتج طبقة برجوازية بيروقراطية إستغلالية ستقضي على كل المكاسب الشعبية، وهو ما وقع فعلا فيما بعد، فقد كانوا طلبة بوعي سياسي كبير، لكن القضاء على هذا التنظيم بتوظيف القوى المستغلة للدين، مهد ووضع بذور ما وصلت إليه جامعاتنا اليوم من ضعف الوعي السياسي والإستقالة من شؤون الأمة وسيطرة الرداءة والدروشة والأفكار البلحمرية والبلخضرية والجنية وغيرها.
أن أخطر ما تخشاه الأنظمة الإستبدادية هي النقابات المستقلة خاصة، والمجتمع المدني المستقل عامة، لأنه سيشكل قوة مضادة توازن الطغيان في أي دولة كانت.
إن المجتمع المدني والأحزاب السياسية هي في الحقيقة وسيلة للحفاظ على التوازن في الدولة بين السلطة والمجتمع الذي يجب أن يتهيكل في مختلف الجمعيات والأحزاب، مما يمنع ويحد السلطة أو أي حزب وصل إليها عن طريق الانتخابات من استعمال أجهزة الدولة ضد المجتمع ومصالحه.
وبناءً على هذا الأساس فإن أي إضعاف للمجتمع المدني وللأحزاب السياسية هو إضعاف للدولة، لأن ذلك سيسمح للسلطة بالتخلي عن وظيفتها، وهي خدمة المجتمع والأمة، وبذلك ينخر جسم الدولة، لأنها لا تجد من يكبح السلطة سلميا، مما يدفعها إلى الطغيان لأن ذلك طبيعة في أي سلطة مهما كانت، مما يؤدي إلى رد فعل فوضوي من المواطنين ضد طغيانها، مما يمكن أن يوقع الدولة في الفوضى وعدم الإستقرار وحتى إشعال حرب أهلية يمكن أن تكون سببا في زوال كيان الدولة ذاتها، ولهذا يمكننا وضع قاعدة أساسية في تسيير الدولة الحديثة، وهو أن قوة الدولة لا يمكن أن تكون إلا بقوة أحزابها السياسية ومجتمعها المدني ونقاباتها العمالية المستقلة، وأن أكبر خطر يهدد الدولة هو أن تحاول السلطة إضعافها أو تحويلها إلى أدوات في يدها أو إحتوائها.
وإذا كانت المهمة الرئيسية للمجتمع المدني في الديمقراطيات الغربية هي الحد من طغيان السلطة ومنعها من استخدام أجهزة الدولة ضد المجتمع، فإنه بإمكاننا أن نضيف وظيفة أخرى إلى مختلف هذه الجمعيات، وتتمثل في مراقبة وفضح كل من لا يقوم بواجباته المهنية والوطنية كما يجب، فمثلا لو نملك جمعيات قوية لأولياء التلاميذ هل يستطيع أي أستاذ أو إدارة مؤسسة تربوية التخاذل في العمل؟، ولو كنا نملك جمعيات للدفاع عن المرضى قوية في كل موقع، فهل بإمكان أي طبيب أو إدارة مستشفى أن يخل بعمله ومهمته النبيلة ؟، ولو كنا نملك جمعيات قوية للدفاع عن المواطن ضد بيروقراطية الإدارة، فهل يمكن لأي إداري مهما يكن أن يعرقل المواطن في أعماله؟، لو كنا نملك جمعيات قوية لحماية الاقتصاد الوطني، فهل يمكن للعمال وإدارات المصانع أن تشغل فقط أقل من ربع طاقتها في الإنتاج؟، ولو كنا نملك جمعيات قوية ضد الرشوة هل يتشجع أي كان أن يمد يده إلى المال العام بشكل أو بآخر؟ ولو كنا نملك جمعيات قوية للدفاع عن حقوق الإنسان هل يتجرأ أيا كان على المساس بحق المواطن؟ ولو كنا نملك جمعيات قوية للحفاظ على الدستور هل يمكن لأي كان أن يجرأ على إختراقه أو المساس بقوانين الجمهورية الصادرة عن ممثلي الأمة؟ وقس ذلك على كل نشاطات الدولة والأمة.
ونعتقد أن هذا النوع من الجمعيات يمكن أن تلعب دورا مهما في دفع كل مواطن مهما كان موقعه على القيام بعمله على أحسن ما يرام خوفا من رقابة مختلف الجمعيات عليه، خاصة إذا كان لهذه الجمعيات الحق في رفع دعوى قضائية أمام القضاء المستقل بوصفها تدافع عن مصلحة المجتمع، لكن هذا الأمر يستدعي تنظيما قانونيا فعالا يحفظ التوازن والمصالح، فكما نرفض أن يخل أي صاحب وظيفة بمهمته، فإننا نرفض أيضا أن تستعمل بعض الجمعيات لأغراض شخصية، ونعتقد بأنه بهذا الشكل يمكن أن نجعل كل طرف في المجتمع يدفع الطرف الآخر إلى إتقان العمل وإحترام القانون وخدمة الدولة والمجتمع بصفة مثلى، فنكون دائما في تقدم وازدهار بفعل تراكم الإنجازات مهما كانت بسيطة، ويشبه هذا التنظيم للدولة النظام الكوني أين نجد كل عنصر من عناصره كالكواكب والأقمار... وغيرها تجذب بعضها بعضا بتوازن عجيب مما يحفظ سلامة الكون وعدم اختلاله .
كما يمكن أيضا للحركة الجمعوية المساهمة في التنمية بكل أشكالها كالمساهمة في بناء المدارس والمستشفيات والمصانع والطرقات، خاصة الجمعيات الخيرية التي يجب أن لا تحصر مفهوم فعل الخير في بعض الأعمال فقط كشراء الأدوات المدرسية للتلاميذ الفقراء أو بناء مسجد مثلا، بل لا بد علينا من توسيع مفهوم فعل الخير إلى الكثير من المجالات مثل استثمار الأموال في بناء المصانع أو ورشات مهما تكن صغيرة مما سيدر خيرا وفيرا على المجتمع من خلال إنتاج السلع وتشغيل البطالين، كما تستغني الجمعية نفسها إذ تصبح قادرة على تمويل نفسها، ويمكن أن تصبح قوة اقتصادية تساهم في تنمية اقتصاد الدولة، ويمكن أيضا للأوقاف الإسلامية أن تساهم بقسط كبير في ذلك إذا عرفنا كيف نعيد تنظيمها في بلادنا تنظيما حديثا وفعالا، ونعتقد أنه بإمكاننا أيضا الإستفادة من تطوير وتحديث تجربة تاريخية جزائرية، وتتمثل في نظام الجماعة والعزابة التقليدي السائد في بعض قرانا ومداشرنا وتعميمها إلى مختلف الأحياء في المدن .


البروفسور رابح لونيسي
- جامعة وهران-