الاتحاد العام التونسي للشغل: مؤتمرات ومؤتمرات


مرتضى العبيدي
2017 / 1 / 23 - 16:41     

إن المتابع للاستعدادات التي تجري اليوم لعقد المؤتمر الثالث والعشرين للاتحاد العام التونسي للشغل يُصاب بنوع من الخيبة ، إذ أن المؤتمر الحالي حتى ولو كان مؤتمرا عاديا، يبدو وكأنه بلا رهانات حقيقية، والحال أنه مؤتمر أكبر منظمة اجتماعية في تونس، وأكبر وأقدم منظمة نقابية بإفريقيا والعالم العربي. وبالفعل فإن هذا المؤتمر يبدو وكأنه خال من كل رهان، والحال أن البلاد تعيش إحدى أعمق الأزمات التي عرفتها في تاريخها المعاصر، وأن مآلات هذه الأزمة غير واضحة ولا مضمونة العواقب. فهل كانت جميع مؤتمرات الاتحاد بلا طعم ولا لون ولا رائحة كهذا المؤتمر؟ قطعا لا. من ذلك أن النقابيين عموما ومؤرخي الحركة النقابية التونسية يكادون لا يذكرون البعض من تلك المؤتمرات ولا يركزون إلا على بعضها الآخر التي شكلت نقلة نوعية حقيقية في تاريخ الاتحاد.
فعلاوة على المؤتمر التأسيسي (20 جانفي 1946)، شكلت بعض المؤتمرات اللاحقة علامات بارزة في هذا التاريخ، ومن أهمها المؤتمر السادس (سبتمبر 1956)، لا فقط لأنه أول مؤتمر يُعقد بعد حصول البلاد على استقلالها، بل خاصة لما تمخض عنه من دراسات وتصورات سيكون لها شأن في تاريخ البلاد، لعل أهمها "البرنامج الاقتصادي والاجتماعي" المصادق عليه خلال المؤتمر المذكور. إذ أن هذا البرنامج سيصبح بعد بضعة سنوات فقط البرنامج الرسمي للدولة التونسية، بعدما تقلد أحمد بن صالح الأمين العام المنتخب في المؤتمرين الخامس (1954) والسادس (1956) مسؤوليات وزارية متعددة من أهمها "كتابة الدولة للاقتصاد الوطني والتخطيط والمالية"
فعندما تسلم حزب الدستور السلطة بمقتضى بروتوكول الاستقلال الممضى بتاريخ 20 مارس 1956، لم يكن لديه أي برنامج لتسيير البلاد والنهوض بها، كذلك كان الشأن بالنسبة لبقية الأحزاب والمنظمات الاجتماعية. فلم يكن لديه خيار إلا التعويل على كفاءات الاتحاد العام التونسي للشغل وتبني جزء من تصوراته للنهوض بالبلاد. فكانت سياسات تعميم التعليم ومجانيته وإجباريته (إلى حد ما) التي قادها بكل اقتدار الأستاذ محمود المسعدي عضو المكتب التنفيذي للاتحاد العم التونسي للشغل، والسياسة الصحية الشعبية التي توجهت لمقاومة الأمراض المنتشرة وعممت خدمات الصحة الأساسية في معظم أنحاء البلاد. وكانت محاولات توفير الشغل للتونسيين بخلق نواتات لأقطاب صناعية في أكثر من جهة من البلاد بما فيها الجهات الداخلية (معمل الحلفاء بالقصرين، معمل السكر بباجة، معمل الفولاذ بمنزل بورقيبة وغيرها)، وكانت سياسة التعاضد التي لم تُحض بتقييم موضوعي لتبين إيجابياتها من سلبياتها. كل تلك التوجهات كان حواها البرنامج الاقتصادي والاجتماعي للاتحاد العام التونسي للشغل.
وبقدر ما حقق ذلك المؤتمر من نجاحات، فإنه خلف كذلك بعض السلبيات التي سيعاني منها الاتحاد في فترات تاريخه اللاحقة. إذ أن بعض النقابيين الذين لم يسعفهم الحظ للفوز بمقعد في المكتب التنفيذي سارعوا، بقيادة الحبيب عاشور، إلى إعلان الانشقاق وتأسيس منظمة نقابية موازية تحت مسمى "الاتحاد التونسي للشغل". ولم يتم رأب الصدع إلا بعد تعيين أحمد بن صالح وزيرا للصحة وتعويضه بأحمد التليلي على رأس الاتحاد. فعمل هذا الأخيرعلى إعادة المنشقين وعرف الاتحاد أولى مؤتمراته "الاستثنائية" (أوت 1957) بعد أقل من عام على انعقاد مؤتمره السادس. لكن وكما يعلم الجميع، سيكون ذلك المؤتمر فاتحة لسلسلة من المؤتمرات الاستثنائية سيعرفها الاتحاد حتى أنها ستصبح هي حاملة الجديد بخلاف المؤتمرات العادية التي أصبحت تعقد في جو من الروتينية المقيتة، خالية من كل رهانات جدية باستثناء الجري وراء الاصطفاف وراء هذا المسؤول أو ذاك ضمانا لموقع ما تحت الشمس.
فالمؤتمرات الاستثنائية هي التعبيرة القصوى على احتداد التصادم بين السياسي والنقابي، أي بين الرغبة في الهيمنة على المنظمة النقابية من قبل الحزب الحاكم، وتمسك أعداد متزايدة من النقابيين باستقلالية منظمتهم. وهو ما فرض مثلا بصفة مبكرة على أحمد التليلي الأمين العام للاتحاد مغادرة تونس بلا رجعة لما خمن أن بقاءه في البلاد قد يكون فيه خطر على حياته، خاصة بعد اغتيال الزعيم صالح بن يوسف في صائفة 1961. وقد صدق حدسه لما رأى ما آلت إليه وضعية الحبيب عاشور الأمين العام الجديد الذي سرعان ما تمت تنحيته وتقديمه للمحاكمة بتهم ملفقة واستبداله على رأس الاتحاد بالبشير بلاغة الذي كان يشغل حتى تاريخ عقد المؤتمر الاستثنائي (31 جويلية 1965: المؤتمر 10) خطة وال على تونس. وسيتم التخلي عن هذا الأخير بعد فشل سياسة التعاضد، و الالتجاء مجددا إلى الحبيب عاشور في مؤتمر استثنائي جديد (المؤتمر 12: 1970)، المنعقد سنة فقط بعد المؤتمر التاسع العادي.
ولن تتوقف سلسلة المؤتمرات الاستثنائية، بل سيعقد الاتحاد مؤتمره الخامس عشر الذي مازال يطرح إشكالا لدى النقابيين والمؤرخين على حد السواء: فهل هو المؤتمر الذي عقده المنقلبون (زمرة التيجاني عبيد) في فيفري 1978 بعد الزج بقيادة الاتحاد في السجن على إثر الإضراب العام ليوم 26 جانفي 1978، أم هو مؤتمر قفصة 1981 الذي أعاد جزءا من القيادة الشرعية على رأس الاتحاد؟ كما أن الاتحاد سيشهد مؤتمرا استثنائيا جديدا (مؤتمر سوسة 1989) بعد أزمة "الشرفاء" والزج بقيادة الاتحاد مجددا في السجن. فكان مؤتمر سوسة عبارة عن مؤتمر للمصالحة تحت رعاية "العهد الجديد" في محاولة منه لتطويع الاتحاد ووضعه نهائيا تحت سيطرته وهو ما مكنه منه اسماعيل السحباني الذي لم يشفع له ذلك لما أتى عليه الدور. فعرف نفس مصير سابقيه بإزاحته عن طريق المحاكمات المفبركة، وبمباركة من "إخوته أعضاء المكتب التنفيذي" الذين سارعوا إلى تنظيم مؤتمر استثنائي جديد (مؤتمر جربة 2002) الذي حقق فيه التيار النقابي الديمقراطي مكسب تنقيح الفصل العاشر الشهير، والذي لم يسلم من المناورات قصد التراجع عليه خاصة خلال مؤتمر المنستير 2006. إلا أن المعركة بشأنه مازالت متواصلة خاصة من أجل تعميمه على كامل هياكل الاتحاد القاعدية منها والوسطى والعليا (جامعات، نقابات عامة الخ...)
وخلاصة القول، فإن مؤتمرات الاتحاد لم يكن لها جميعا نفس الوقع ونفس النتائج ولا نفس الرهانات. وهو ما يجعل الرهان الوحيد القائم اليوم بخصوص المؤتمر القادم يتعلق بمن سيأخذ مكان من أقصاهم الفصل العاشر ولا حديث في بطحاء محمد علي وفي الأوساط النقابية إلا عن هذا الأمر، في تغييب كلي للقضايا الحقيقية للشغالين وللبلاد التي يحتل فيها الاتحاد مكانة محورية منذ تأسيسه سنة 1946.