الماركسية والفلسفة: حوار مع لوي آلتوسير


هشام عقيل
2016 / 10 / 18 - 07:30     

الماركسية والفلسفة: حوار مع لوي آلتوسير

ترجمة: هشام عقيل صالح



الحوار التالي أجرته معي ( فيرناندا نافارو) وهي أستاذة شابة للفلسفة الماركسية، تطرح علي مجموعة من الأسئلة لأجيب عليها. لم أطلب من ( فيرناندا) أن تسألني الأسئلة التي أردت سماعها كي أعطي الأجوبة التي تناسبني، بل ( فيرناندا) هي من اختارت الأسئلة، وهي من وضعت الأجوبة على شكل مكتوب.

اضطرت أن تأتي للقائي في باريس شتاء 1983-84، تحدثنا لوقت طويل جداً، ثم كانت لدي الراحة لأشرح لها مواقفي بإسهاب، وكانت لديها الفرصة لتقرأ عدداً من مخطوطاتي غير المنشورة المخزنة بعيداً التي كتبتها في فترة تمتد من الستينيات إلى 1978: وقامت بتسجيل أحاديثنا المطولة في شريط أو شريطين، ومن ثم عادت إلى المكسيك، تاركة عندي انطباعاً إيجابياً حول فهمها الفلسفي.

طبعاً كانت نية ( فيرناندا) التوصل إلى فهم أفضل لأسباب وموضوعات تدخلي الفلسفي في فرنسا منذ 1970 إلى 1978، لم ترد فهم الأهمية الفلسفية والسياسية لما حاولت فعله وحسب، بل أيضاً في مثل الوقت، الأسباب للاهتمام المفاجئ من البعض الذي تولد في فرنسا وباقي أنحاء العالم، والدوافع للحيوية المتساوية، أحياناً حاقدة، ودائماً عدائية عنيفة التي أثيرت عند الكثير من قرائي، أولهم الشيوعيين.

في مثل الوقت، كانت ( فيرناندا) تلاحق مشروعاً آخر كذلك: أرادت أن تنشر على شكل مقابلة نصاً صغيراً لطلبة جامعة ميتشواكان، وبذلك أرادت شروحات مبسطة، ودعنا نقول، نصاً موجزاً لغير المختصين.

قبل شهرين أرسلت لي مقابلة ذات سبعين صفحة بالإسبانية، ككل رأيت هذا النص يدخل صلب الموضوع، ووصلت إلى استنتاج ليس طويلاً بعدما بدأت القراءة أن النص ممتاز جداً إلى درجة ضرورة استخدامه لغاية غير التي كانت هي تسعى إليها. كتبت إليها فوراً مقترحاً أن تصحح عدة تفاصيل، وبالأخص، تحويل هذه المقابلة إلى كتاب صغير. سينشُر هذا الكتاب، واضعاً في ذهني، صديقي ( اورفيلا)، مدير مؤسسة النشر القرن الحادي والعشرين (Siglo XXI) في مدينة المكسيك، أولاً بالإسبانية وثانياً بالبرتغالية، لأجل القراء طلبة الفلسفة والناشطين السياسيين في أمريكا اللاتينية (ضمنهم البرازيليين)، وحصراً لهؤلاء القراء، أحتفظ بالحق في نشر هذا النص بالفرنسية في الوقت المناسب. [1]

لوي آلتوسير

يوليو 1986

-فلسفة من أجل الماركسية، “على نهج ديموقريطوس”-

لقد أظهرت خلال عملك اهتماماً خاصاً بالفلسفة وعلاقتها بالسياسة، هل يمكننا البدء بالحديث عن هذه المسألة؟

بكل تأكيد. هذا الاهتمام لم يكن محصوراً بالمستوى النظري، حيث بدايةً منذ نهاية الأربعينيات، كنت فيلسوفاً وناشطاً سياسياً. أحد اسباب ذلك نتيجة الظروف التاريخية التي كانت من نصيبي العيش فيها: الحرب العالمية الثانية، الستالينية، الحركة العالمية للسلام، نداء ستوكهولم للسلام. هذه الأيام كانت الولايات المتحدة هي الوحيدة التي تمتلك القنبلة الذرية؛ كان علينا تفادي حرباً عالمية ثالثة بأي ثمن. كنت أبذل عشر ساعات يومياً في العمل السياسي.

هذا يذكرني بما كتبته في مقدمة كتاب (إلى ماركس) حول سنوات ما بعد الحرب، دعني أقتبسك:

“التاريخ: لقد سرق شبابنا منا مع الجبهة الشعبية والحرب الأهلية الإسبانية، وفي حرب كهذا قد دمغت فينا الدرس الرهيب للأفعال، قامت بمفاجئتنا حالما دخلنا العالم، وحولتنا نحن الطلاب ذوي الأصول بورجوازية أو بورجوازية صغيرة إلى رجال ندرك وجود الطبقات، وصراعها وأهدافها؛ من خلال الدليل الذي فرض علينا توصلنا إلى الاستنتاج الوحيد، وزحفنا نحو المنظمات السياسية للطبقة العاملة، والحزب الشيوعي .. كان علينا قياس قرارنا وتحمله…

تبقى في ذاكرتنا الفلسفية فترة المثقفين المسلحين، يصطادون الخطأ من كل مخابئه، كنا فلاسفة من دون كتابات خاصة بنا، ولكننا نصنع السياسة في كل كتابة، ونقوم بتشريح العالم بشفرة واحدة، والفنون، والأدب، والفلسفات، والعلوم – بفصل طبقي قاس..

لاحقاً تمكنا من رؤية إن كانت هناك بعض المحدوديات في استخدامنا للمعيار الطبقي، وأجبرنا أن نعامل العلم، هذه المكانة التي ادعاها ماركس في كل صفحة، كمجرد شيء له حضور مبكر ما بين الأيديولوجيات. كان علينا أن ننسحب في شبه- تشويش، ونعود إلى المبادئ الاساسية.“

عندما انضممت للحزب الشيوعي الفرنسي في العام 1948، أردت التدخل في الحزب وفي فرنسا؛ من أجل الصراع ضد الستالينية المنتصرة وآثارها المأساوية لسياسات حزبي. في ذاك الوقت، لم يكن لدي أي خيار: إذا كنت قد تدخلت علناً في سياسات الحزب، الذي رفض حتى أن ينشر كتاباتي الفلسفية (حول ماركس) التي اعتبرت هرطقات خطيرة، سيتم على الأقل حتى 1970، طردي فورياً وسأظل مهمشاً بلا أي قوة في التأثير على الحزب إطلاقاً. الطريقة الوحيدة المتبقية لأتدخل سياسياً في الحزب: هو عن الطريق النظري المحض – الذي هو الفلسفة.

على خلفية هذا الخلاف، حمل نقدك على عدة مفاهيم والتي ساعدت على مساندة المناصب الرسمية في الأحزاب الشيوعية، أنا افكر في المادية الديالكتيكية على سبيل المثال.

نعم، أردت أن نتخلى عن الأطروحات اللامعقولة للمادية الديالكتيكية أو “الدايمات”. في ذاك الوقت، كانت لها سطوة لا شك فيها على كل الأحزاب الشيوعية الغربية، باستثناء -جزئي فقط- إيطاليا (بفضل جهد غرامشي الجبار لنقد وإعادة إعمار النظرية الماركسية).

على ماذا بنيت نقدك للمادية الديالكتيكية؟

بدا لي من المهم جداً التخلص من المادية الواحدية وقوانينها الديالكتيكية الكونية، التي تعود إلى الأكاديمية السوفيتيية للعلوم، إنها مفهوم ميتافيزيقي ضار حيث جعل “ المادة” مكان “ الروح” الهيغلية أو “الفكرة الشاملة”. اعتبرتُ من غريب الإعتقاد، وفرض هذا الاعتقاد، أن الواحد منا يستطيع أن يختزل العلم، وحتى الأيديولوجية والسياسة الماركسية اللينينية، من خلال تطبيق مباشر لـ “ قوانين” وهمية للديالكتيك المزعوم على العلوم والسياسة. رأيت أن الفلسفة أبداً لا تتدخل مباشرة، إلا عن طريق الايديولوجيا.

ماذا برأيك كانت العواقب السياسية لهذا الموقف؟

أعتقد أن هذا الخداع الفلسفي قد سبب للاتحاد السوفيتي خسائر فادحة، لا أعتقد أننا نبالغ في القول بأن الإستراتيجية السياسية لستالين وكل التراجيديا الستالينية كانت جزئياً مبنية على “المادية الديالكتيكية”، بشاعة فلسفية مصممة لشرعنة النظام ولتخدم كضمان نظري – تفرض نفسها بقوة على التفكير.

تجدر الإشارة أيضاً إلى أن ماركس لم يستخدم أبداً مصطلح “المادية الديالكتيكية”، هذا “اللوغراثم الأصفر”، كما حب أن يسمي السخافات النظرية.

(إنجلز) هو من -في ظروف معينة- قام بتعميد المادية الماركسية بـ “ المادية الديالكتيكية”، ندم ماركس على فشله في كتابة عشرين صفحة حول الديالكتيك، كل ما هو معروف عن الذي تم إنتاجه حول هذا الموضوع (جانباً من اللعبة الديالكتيكية بمفاهيم نظرية العمل حول القيمة) هو كائن في هذه الجملة: “الديالكتيك، الذي عادة ما يخدم القوة القائمة، هو أيضاً نقدي وثوري”، عندما يتم طرح “قوانين” الديالكتيك، إنه إما يطرح بشكل محافظ (إنجلز) او خجول (ستالين)، لكنه عندما يكون نقدياً وثورياً، الديالكتيك هو ذو قيمة بالغة، في هذه الحالة لا يمكن الحديث عن “قوانين” الديالكتيك، مثلما لا يمكن الحديث عن “ قوانين” التاريخ.

المفهوم المادي الحقيقي حول التاريخ يعني ضرورة التخلي عن فكرة أن التاريخ مسيطر ومحكوم بقوانين التي يكفي معرفتها من أجل الانتصار على اللا-تاريخ.

مما تألف تدخلك النظري والفلسفي في الحزب؟

بدأت أتفحص في نص (رأس المال)، لما يمكن أن تكون عليه الفلسفة الماركسية، كي تكون الماركسية شيئاً غير “الصياغات الشهيرة”، إما غامضة أو واضحة جداً، التي يتم اقتباسها بشكل لا نهائي من دون توليد أي تقدم حقيقي، أو لا حاجة لنضيف أي “ نقد ذاتي”.

هل كان بمقدورك من دون أية مخاطر كبيرة، تفسير فكر ماركس النظري الحقيقي في حزب كالذي وصفته؟

رغم أن الحزب كان ستالينياً وصارماً جداً، إلا أنه كان بمقدوري ذلك لأن الحزب جعل ماركس مقدساً. تقدمتُ بطريقة ما -إذا أردنا أن نقارن الأشياء الكبيرة بالصغيرة- مثل سبينوزا عندما، من أجل أن ينتقد الفلسفة المثالية لديكارت والأساتذة، بدأ من الله نفسه، بدأ شروحاته في كتاب (الأخلاق) بالجوهر المطلق الذي هو الله، بذلك يضع خصومه في زاوية حيث لا يستطيعون رفض التدخل الفلسفي الذي يدعي قدرة الله الكلية، حيث جميعهم، ومن ضمنهم ديكارت، سلموا أن هذه القدرة الكلية هي مسألة إيمانية و”حقيقة بديهية”. بالنسبة لهم، كانت هي الحقيقة الجوهرية يكشفها نور البشر الطبيعي.

ولكن كما قال ديكارت: “كل فيلسوف يتقدم متستراً”.

بالضبط، ببساطة فسر سبينوزا هذا الإله بطريقة إلحادية.

ما الذي حدث عندما تبنيت هذه الاستراتيجية؟

هذه الاستراتيجية نجحت كما توقعت؛ خصومي الشيوعيين، في الحزب وفي الدوائر الماركسية غير الشيوعية، كان هجومهم شرساً وبلا رحمة، ويتجدد بلا نهاية، ولكنه كان يخلو كلياً من أية قيمة نظرية. كل هذا الهجوم لم يحمل أي ثقل -ليس من وجهة نظر ماركسية وحسب بل ببساطة من وجهة نظر فلسفية، التي هي وجهة نظر الفكر الحقيقي. فكنت قد انخرطت أولاً على هذا الطريق المحدود والغريب ولكن الخصب، النتيجة كانت التي أرمي إليها. واضح أنني تبنيت الاستراتيجية الوحيدة الممكنة في ذاك الوقت: الاستراتيجية النظرية التي أدت (بداية من مؤتمريّ الحادي والعشرين والثاني العشرين، فيما يتعلق على سبيل المثال بديكتاتورية البروليتاريا) إلى تدخل سياسي مباشر، ولكن لم يكن بمقدور الحزب طردي؛ لأن تدخلي السياسي كان مبنياً على ماركس، الذي فسرته بطريقة “ نقدية وثورية”. كان ماركس يحميني حتى في الحزب، بفضل مكانته كـ “ الأب المقدس لفكرنا”.

هل اشتبهوا على أي شيء؟

أعتقد ذلك. أعلم على أية حال، كانوا يشكون بي بشكل لا يصدق، لدرجة أنهم قاموا بتهميشي وجعلوا بعض الطلبة في الجمعية الطلابية الشيوعية يتجسسون علي في مقر تدريسي ايكول نورمال سوبريور (مدرسة الأساتذة العليا)، كانوا مدهوشين بالخطر المتجسد في هذا الفيلسوف الاكاديمي الغريب، الذي تجرأ أن يقدم نسخة أخرى لتشكيلة فكر ماركس .. ضمناً بكل شيء. أكثر من ذلك، شكوا بكوني ملهماً شبه سري، ولكن في مثل الوقت مؤثراً، للحركة الماوية الشبابية في فرنسا، التي في تلك الفترة تطورت بشكل أصيل ومذهل.

-فلسفة ماركسية أم مادية تصادفية؟ –

حول قضاياك ونقدك، هل كان لديك مشروعاً بديلاً لتقدمه؟

ليس في ذاك الوقت، ولكنني الآن أملك البديل. أعتقد أن المادية “الحقيقة”، المادية المناسبة للماركسية هي “المادية التصادفية”، على نهج أبيقور وديموقريطوس. أريد أن أوضح أن هذه المادية هي ليست فلسفة يجب عرضها على شكل نسقي لتستحق اسم “ فلسفة”؛ لا حاجة إلى تحويلها نحو نسق، رغم أن هذا مستحيل. ما هو حقاً حاسم في الماركسية هو أنها تقدم “موقعاً” في الفلسفة.

عندما تقول “نسق” هل تقصد كلية منغلقة على ذاتها، حيث فيها كل شيء يتم التفكير فيه مسبقاً ولا يمكن مقارعة أي شيء فيها دون إسقاط هذا الكل؟

نعم. ولكنني أريد أن أؤكد أن ما يؤسس الفلسفة هو ليس القول البرهاني أو الشرعي؛ ما يُعرّف الفلسفة هو موقعها (باليونانية thezis) في ساحة المعركة الفلسفية (ساحة الحرب Kampfplazt لكانط): مع أو ضد هذا الموقع الفلسفي، أو مساندة موقع فلسفي جديد.

هل يمكنك أن تقول شيئاً عن ديموقريطوس وعوالم أبيقور من أجل أن تجعل مفهومك حول المادية التصادفية أكثر وضوحاً؟

نعم، ولكني أود أن أشرح ما دفع تفكيري حول، الفلسفة الماركسية، تحديداً في السنوات الأخيرة. توصلتُ إلى فكرة أن من الصعب جداً الحديث عن الفلسفة الماركسية، مثل صعوبة الحديث عن فلسفة الرياضيات، أو فلسفة الفيزياء، معطى أن اكتشاف ماركس كان أساساً علمياً بطبيعته، كان مكوناً من كشف عمل النظام الرأسمالي.

من أجل هذه الغاية، اعتمد ماركس على فلسفة – فلسفة هيغل- التي يمكن القول بأنها ليست مناسبة لهدفه… أو لتجعله يفكر أبعد. في أي حدث، المرء لا يمكنه أن يستنتج اكتشاف ماركس العلمي وفقاً لفلسفته. نحن من جانبنا اعتقدنا أنه لم يصرح بالفلسفة التي كانت متضمنة في عمله؛ هذا يفسر أن ما كنا نفعله هو محاولة إعطاء ماركس فلسفة ستجعل فهمه ممكناً: فلسفة رأس المال، لفكره الاقتصادي، والسياسي، التاريخي.

في هذه النقطة، أعتقد أننا لم نكن موفقين، بمعنى أننا فشلنا في إعطاء ماركس الفلسفة المناسبة لعمله، أعطيناه فلسفة تغلب عليها “روح العصر”، كانت فلسفة ذات إلهام باشلاري وبنيوي، التي رغم أنها تضع الاعتبار لعدة جوانب لفكر ماركس، لا أعتقد يمكن تسميتها بالفلسفة الماركسية.

موضوعياً، جعلت هذه الفلسفة التوصل إلى رؤية متماسكة لفكر ماركس أمراً ممكناً. غير أن، العديد من نصوصه تناقضها لاعتبارها فلسفته. بالإضافة على أسس أبحاث جديدة، مثل أبحاث جاك بييديه التي نشرها في كتابه (اكتشاف رأس مال ماركس – Que faire du “Capital”?)، نجد أن ماركس لم يحرر نفسه كلياً من هيغل، رغم أنه انتقل إلى حقل آخر، الذي هو العلم، وبنى المادية التاريخية عليه.

هل هذا يعني أن “ الانقطاع” لم يكتمل؟

لا، لم يكن مكتملاً أبداً. كان ميلياً وحسب.

كيف تحديداً توصلت لإدراك ذلك؟

مثلما قلت، بحث (بييديه) كان حاسماً، وضع عمل ماركس تحت ضوء جديد، تمكن بييديه من أن يصل إلى مادة كبيرة جداً، ضمنها مخطوطات غير منشورة، التي لم نكن نعلم بشأنها قبل عشرين سنة، هذه المادة هي فاصلة. منذ فترة قليلة أتى بيدييه ليزورني وكان لنا نقاشاً طويلاً.

ماذا ستقول اليوم عن وصف رايموند آرون لعملك بأنه”ماركسية خيالية”؟

سأقول إن آرون، إلى حد ما لم يكن مخطئاً كلياً، لقد فبركنا فلسفة “خيالية” لماركس، فلسفة لم توجد في عمله، إذا تمسك المرء بالحرف الواحد بكل دقة لنصوصه.

ولكن في هذه الحالة يمكن القول بأن قلة قليلة من الكتاب تمكنوا من اجتناب “الماركسية الخيالية”، خصوصاً عندما تتعلق المسألة بشيء (مثل الفلسفة في عمل ماركس)، إذا كان موجوداً يوجد فقط في حالة كامنة.

ربما. ولكن على حد علمي، أعتقد بأننا بعد هذه التجربة التنويرية، واجهنا مهمة جديدة، التي هي تحديد نوع الفلسفة التي تناسب ما كتبه ماركس في (رأس المال).

أياً كانت هذه الفلسفة، لن تكون “فلسفة ماركسية”، ستكون ببساطة فلسفة تتموقع في تاريخ الفلسفة، ستكون قادرة على أن تعتبر كل الاكتشافات المفهوماتية التي وضعها ماركس في (رأس المال)، ولكنها لن تكون فلسفة ماركسية، ستكون فلسفة من أجل الماركسية.

ألم تقم بتطوير هذه الفكرة سابقاً؟ في ( لينين والفلسفة) أنت صرحت أن الماركسية ليست فلسفة جديدة في جوهر النظرية الماركسية، أنت قلت إنها علم، ولكنها تتضمن فضلاً عن ذلك، ممارسة جديدة للفلسفة التي يمكن أن تساعد على تحويل الفلسفة نفسها.

هذا صحيح.

أنت بدأت بالإشارة إلى مفارقة الفلسفة الماركسية في محاضرة ألقيتها عام 1976 في جامعة غرناطة “تحويل الفلسفة”. اعتقد ماركس كما قلت، أن إنتاج الفلسفة كـ “فلسفة” حتى لو بشكل معكوس، كانت طريقة في الدخول إلى لعبة الخصوم، وبذلك مساعدة تعزيز الايديولوجيا البورجوازية من خلال تثبيت شكلها في التعبير النظري.

بالضبط. إنها مخاطرة في الفلسفة للسقوط في قبضة حزب الدولة، المؤسسة التي لم يثق ماركس بها إطلاقاً. أما بالنسبة للفلسفة، فإنها تمثل شكلاَ لتماسك الايديولوجيا المهيمنة، الإثنان واقعان في مثل آليات الهيمنة.

أليس هذا سبباً آخر لتفسير امتناع ماركس عن إنتاج فلسفة كتلك، حيث بطريقة ما، إنتاج “ فلسفة” ستكون بمثابة الانتقال نحو “تمجيد ما هو قائم”؟

ضعي في البال عندما تحدث ماركس عن الشكل المستقبلي للدولة، استحضر دولة تُفهم كـ “لا دولة” ، باختصار شكلاً جديداً سيحفز اختفاؤها الذاتي. يمكننا أن نطبق هذا القول على الفلسفة. ما بحث ماركس عنه كان “ لا-فلسفة” التي وظيفتها كهيمنة نظرية ستختفي من أجل أن تسمح لأشكال جديدة للوجود الفلسفي.

هل هذا يساعدنا على استخراج مفارقة الفلسفة الماركسية؟

المفارقة تكمن في واقع أن ماركس، الذي تدرب على أن يكون فيلسوفاً، رفض كتابة فلسفة، رغم ذلك زعزع كل الفلسفات التقليدية في أساسها عندما كتب كلمة “ممارسة” في الأطروحة الثانية حول فويرباخ. هكذا في كتابة ( رأس المال)، عمل علمي، ونقدي، وسياسي، مارس الفلسفة التي لم يكتبها أبداً.

تلخيصاً لما قلناه إلى حد الآن، نكرر أن المهمة التي علينا العمل بها اليوم هي ليست فلسفة ماركسية، بل فلسفة من أجل الماركسية، تفكيري مؤخراً يسير على هذا الطريق. أنا أمحص في تاريخ الفلسفة، عن العناصر التي ستمكنا من فهم ماذا الذي فكره ماركس وفي أي شكل فكر فيه.

توضيح أخير: عندما أقول إنه من الصعب الحديث عن الفلسفة الماركسية، لا يجب أن يفهم هذا بشكل سلبي، ليس هناك أي سبب لِم على كل زمن أن يملك فلسفته الخاصة، ولا أعتقد أن هذا الأمر هو الأكثر ضرورة أو أساسي. إذا كنا نريد فلاسفة، لدينا أفلاطون، وديكارت، وسبينوزا، وكانط، وهيغل، وكثيرين غيرهم، يمكننا الاستفادة من أفكارهم من أجل تفكير وتحليل وقتنا الحاضر من خلال “فهمها” وتطوريها.

هل تعتبر أن المادية التصادفية هي الفلسفة الممكنة للماركسية؟

نعم، إنها تأخذ هذا المنحى. الآن يمكننا أن نعود إلى عوالم ديموقريطوس وأبيقور؛ لاستحضار الأطروحة الأساسية. قبل تشكل العالم كان هناك عدد من الذرات اللانهائية التي تتساقط موازية لبعضها في الفراغ، هذا التأكيد له تداعيات قوية: (1) قبل ان يكون هناك عالم، لم يتشكل شيء على الإطلاق، وفي مثل الوقت، (2) كل العناصر كانت كائنة بانعزال، منذ الأزل، قبل أن يكون هناك أي عالم.

هذا يعني أنه قبل تشكل العالم، لم يكن هناك أي معنى، أو سبب، أو غاية، أو منطق، أو لامنطق؛ هذا هو نقض لكل غائية، سواء أكانت منطقية، أو أخلاقية، أو سياسية، أو فنية. أضيف أن هذه المادية هي مادية، ليست وفقاً لذات (سواء أكانت إله أو البروليتاريا)، ولكنها وفقاً لسيرورة -من دون ذات- التي تطغي على نظام تطورها، من دون أي غاية معينة.

لا-أسبقية المعنى هي واحدة من أطروحات أبيقور الأساسية، بفضل معارضته لـ أفلاطون وأرسطو.

صحيح. الآن هذا الـ “ كلينامين” (Clinamen – انحراف الذرات) يتدخل: انحراف صغير جداً يحدث، لا أحد يعرف أين أو كيف أو متى، الشيء المهم أن الـ “ كلينامين” يدفع الذرة نحو “ الانحراف” عن مسار سقوطها في الفراغ، مما يسبب “ تصادفاً” مع الذرة التي قربها، ومن “تصادف” إلى “ تصادف” عالماً يولد – كل مرة هذه التصدفات تدوم بدلاً من ان تبقى لوقت وجيز.

هل علينا أن نستنتج أن أصل كل عالم أو واقع، كل ضرورة أو معنى، يعود إلى انحراف تصادفي؟

بكل تأكيد. يفترض إبيقور أن هذا الانحراف التصادفي هو أصل العالم، وليس المنطق أو السبب الأول. يجب أن نفهم مع ذلك أن هذا التصادف يصنع لا شيء من واقع هذا العالم، ولكنه يمنح الذرات بذاتها حقيقتها، التي من دون الانحراف والصدفة، ستكون لا شيء سوى عناصر تجريدية ينقصها التماسك والكينونة. إنه فقط بعدما يتأسس العالم يتبعه سيادة المنطق، والضرورة، والمعنى.

هل يمكننا التفكير في أي فيلسوف متأخر تبنى هذه الأطروحات، رافضاً مسألة الأصل؟

أفكر في هايدغر رغم أنه ليس أبيقورياً أو ذرياً، إلا أن فكره يحمل نزعة مماثلة. من المعروف إنه يرفض مسألة أصل، أو غاية، أو نهاية العالم، ولكننا نجد عند هايدغر سلسلة طويلة من التطورات تتمحور حول تعبير ( es gibt) – “ ما هو كائن”، “ أو ما هو معطى” – مما يتقارب مع إلهام أبيقور. “هناك وعالم وأشياء، هناك بشر…” فلسفة (es gibt) لما “هو معطى”، تدحض كل المسائل الكلاسيكية حول الأصل، الخ. وأنها “ تنفتح” على احتمالية في استعادة نوعاً من ترانسندتالية تصادفية للعالم، الذي “القينا” فيه، ولمعنى هذا العالم، الذي بالمقابل يشير إلى افتتاح الوجود، الدافع الاصلي له، الذي هو “تخصيصه”، حيث لا يوجد ما وراءه أي شيء لتفكيره فيه أو البحث عنه . هكذا العالم هو “ الهدية” التي تم منحنا إياها.

هدية يمكننا أن نضيف، لم نطلبها أو نختارها، ولكنها تفتتح لنفسها لنا في كل واقعانيتها وتصادفيتها.

نعم، ولكن فضلاً عن الاعتقاد أن الصدفة هي إحدى مشروطات الضرورة، أو استثناء بالنسبة لها، يجب علينا أن نرى الضرورة بوصفها الصيرورة-الضرورية لصدفة الحوادث.

نيتي هنا، الإصرار على وجود تقليد مادي لم يتم إدراكه في تاريخ الفلسفة. الذي ينتمي إليه ديموقريطوس، أبيقور، ماكيافيلي، هوبز، روسو ( روسو الخطاب الثاني)، ماركس وهايدغر، في المقولات التي دافعوا جميعاً عنها: الفراغ، الحدود، الهامش، غياب المركز، انزياح المركز نحو الهامش ( والعكس بالعكس)، والحرية. مادية الصدفة، الحادثة – باختصار، التصادفية، التي تقف حتى ضد الماديات التي تم اعتبارها كتلك، من ضمنها التي ما يشاع أنها تنتمي إلى ماركس، وإنجلز، ولينين، التي، مثل كل مادية من التقليد العقلاني، هي مادية الضرورة والغائية، هي شكل مقنع للمثالية.

من الواضح جداً أن بسبب إنها مثلت خطراً قام التقليد الفلسفي بتفسيرها وتحريفها نحو مثالية الحرية: إذا كانت ذرات أبيقور، تمطر في الفراغ متوازية مع بعضها البعض، تتصادف مع بعضها البعض، من ذلك سنشهد – في الانحراف التي أنتجها الكيلنامين- وجود حرية إنسانية في العالم تابعة للضرورة نفسها.

هل يمكن إذن، للمرء أن يقول إن هذه الفلسفة، على قدر ما هي ترفض كل المفاهيم حول الأصل، تأخذ اللاشيء ( le néant) كنقطة انطلاقها؟

نعم بالضبط، هي فلسفة الفراغ التي لا تقول إن الفراغ يسبق وجود الذرات التي تسقط فيه وحسب، بل أيضاً تخلق فراغاً فلسفياً من أجل أن تمنح نفسها كينونة، فلسفة، التي بدلاً من أن تبدأ بـ “ المشكلات الفلسفية” الشهيرة، تبدأ بدحضها، ومن خلال رفضها في أن تمنح نفسها “ موضوعا” -ليس للفلسفة أي موضوع- من أجل أن تبدأ باللا شيء. إذن لدينا أولية اللاشيء على كل شكل، أولية الغياب ( لا وجود لأي أصل) على الحضور، هل يوجد نقد أكثر راديكالية لكل الفلسفة، مع ذريعتها في أن تتحدث الحقيقة عن الأشياء؟

كيف إذن ستصف موقع المادية التصادفية؟

حول هذا الموضوع، يمكننا أن نقول إن المادية التصادفية تفترض أولية المادي فوق كل الأشياء الأخرى، من ضمنها التصادفي. المادية يمكن أن تكون مادة بسيطة، ولكن ليست بالضرورة مادة محضة، هذه المادة تختلف بطريقة واضحة عن مادة الفيزيائي أو الكيميائي، أو العامل الذي يعمل على الحديد أو في الأرض، يمكنها أن تكون مادية لتجهيز اختباري معملي. دعيني أحمل الأمور بشكل متطرف: يمكنها أن تكون مجرد أثراً، مادية الإيماءة التي تترك أثراً وهي جاهلة عن الأثر التي تتركه في حائط الكهف أو الورقة. الأمور تذهب أبعد من ذلك: لقد بين دريدا أن أولية الأثر ( الكتابة) يمكن إيجادها حتى في الصوت الذي أنتجه الصوت المتحدث. أولية المادي هي كونية، هذا لا يعني أن البناء التحتي ( يفهم خطأ على أنه مجموع القوى المنتجة زائداً المواد الخام) هو المحدد في نهاية المطاف، كونية هذا المفهوم الأخير سيكون سخيفاً إذا لم يتم ربطه مع علاقات الإنتاج. في حديث ماركس في كتابه ( المساهمة في نقد الاقتصاد السياسي) عن إذا كانت الأشكال المنطقية المسبقة أيضاً تأتي أولاً تاريخياً قال: “ كل شيء يعتمد”، كل شيء يعتمد: هي عبارة تصادفية، وليست ديالكتيكية.

لنحاول توضيح المسألة: أي شيء يمكنه أن يكون المحدد “في نهاية المطاف”، مما يعني أي شيء يمكنه أن يكون المسيطر. هذا ما قاله ماركس حول السياسة في أثينا والدين في روما، في نظرية ضمنية حول انزياح اللحظة المسيطرة ( الذي حاولنا تنظيره أنا وباليبار في “ قراءة رأس المال”). ولكن، أيضاً في البناء الفوقي، المحدد هو ماديته؛ لهذا السبب كنت مهتماً للغاية في أن أبين المادية الحقيقي لكل بناء فوقي وكل ايديولوجيا، كما بينت بالنسبة إلى الأجهزة الايديولوجية للدولة. هذا المكان الذي يجب البحث فيه عن مفهوم “ في اللحظة الأخيرة”، انزياح ما هو مادي، الذي هو دائماً المحدد “في اللحظة الأخيرة” في كل حالة ( conjuncture) ملموسة.

– تاريخان –

مع مفهومك حول “ المادية التصادفية” في البال، نسأل ما هي طبيعة الحدث التاريخي، أليس علينا أن نحللها بوصفها تعايش تواريخ تقوم بكثرة تحديد بعضها؟

يمكن القول إن للتاريخ نوعان، تاريخان: نبدأ مع تاريخ المؤرخين التقليديين، الإثنولوجيين، السوسيولوجيين، والأنثروبولوجيين الذين يتحدثون عن “ قوانين” التاريخ لأنهم فقط يضعون في الاعتبار الحقيقة المنجزة للتاريخ السالف. التاريخ في هذه الحالة، يعرض نفسه كشيء ستاتيكي كلي ويمكن دراسة تحديداته بمثل طريقة دراسة الأشياء الفيزيقية: إنه شيء ميت لأنه من الماضي. يمكن لأحدهم أن يتساءل كيف إذن يمكن للمؤرخين أن يتفاعلوا أمام تاريخ منجز، وراسخ، ومتحجر، يتمكنون خلاله من استخراج إحصائيات قطعية معينة؟ هنا نجد مصدر الأيديولوجيا العفوية للمؤرخين والسوسيولوجيين المبتذلين، ناهيك عن الاقتصاديين.

ولكن هل من الممكن ان نتصور نوعاً آخر للتاريخ؟

نعم. هناك كلمة بالإلمانية Geschichte ( تاريخ/ حكاية)، التي تدل على التاريخ في الحاضر، وليس المنجز، الذي بلا شك تم تحديده بجزء عظيم، لكنه لا يزال جزءاً، من خلال السابق المنجز، اما التاريخ كما هو حاضر وموجود، هو كذلك مفتوح لمستقبل غير محدد، لا متوقع، لم ينجز بعد، وبذلك تصادفي. التاريخ الحاضر يخضع لثابت ( constant) ( وليس لقانون): ثابت الصراع الطبقي. لم يستخدم ماركس مصطلح “ثابت”، الذي قمت باستعارته من ليفي-ستروس، ولكنه استخدم تعبيراً عبقرياً: “ قانون ميلي”، الذي يمكنه تغيير ( ولكن لا يناقض) القانون الميلي الأساسي، مما يعني أن الميل لا يملك شكل أو مظهر التاريخ الخطي، ولكن يمكنه أن يتشعب تحت تأثير التصادف مع ميل آخر، وهكذا دواليك إلى ما لا نهاية. في كل مفترق طريق يمكن للميل أن يأخذ طريقاً لا متوقع لأنه تصادفي.

هل يمكننا أن نلخص هذا بقولنا إن التاريخ الحاضر دائماً من حالة ( conjuncture) فردية تصادفية؟

نعم، ومن الضروري أن نضع في البال أن “ الحالة” (conjuncture) تعني “ الدمج” (conjunction)، التي هي، المواجهة التصادفية للعناصر – جزئياً، عناصر موجودة، ولكن أيضاً عناصر غير متوقعة. كل “ حالة” هي قضية فردية، مثل كل الفرديات التاريخية، مثل كل ما هو كائن.

لهذا السبب بوبر، اللورد بوبر، لم يفهم أي شيء من تاريخ الماركسية أو التحليل النفسي، حيث موضوعات كليهما لا تنتمي إلى التاريخ المنجز بل إلى Geschichte، إلى التاريخ الحي، المكون من، والذي استخرج من، الميولات تصادفية واللاشعور. هذا هو التاريخ الذي ليس لأشكاله علاقة مع حتمية القوانين الفيزيقية.

ما يتبع من ذلك هو ما يبلغ ذروته في المادية، التي هي قديمة جداً – وفقاً لأفلاطون: أولية أصدقاء الأرض على أصدقاء الصور- هو المادية التصادفية، التي مطلوب منها أن تفكر انفتاح العالم باتجاه الحدث، الذي لا يزال – لا يمكن تخيله، وكذلك كل الممارسات الحية، ضمنها السياسة.

اتجاه الحدث؟

يقول فيتغنستاين بشكل رائع في رسالته: die Welt ist alles, was der Fall ist، جملة رائعة، ولكن على أية حال، من الصعب ترجمتها. يمكننا محاولة تقديمها على النحو التالي: “ كل شيء يحدث هو العالم”، أو بشكل حرفي أكثر، “ العالم هو كل شيء يقع علينا”. لكن توجد ترجمة أخرى، التي تقدمها مدرسة راسل : “ العالم هو ما هي الحالة”.

هذه الجملة الرائعة تقول كل شيء، حيث في هذا العالم، لا يوجد شيء سوى حالات وقضايا وأشياء تقع علينا دون تحذير. أطروحة أن كل ما هو كائن هو حالات فقط – مما يعني، فرديات واحدة تختلف كلياً عن بعضها البعض – هي الأطروحة الأساسية للاسمانية.

ألم يقل ماركس أن الاسمانية كانت مدخل المادية؟

بالضبط ، وأنا سأذهب أبعد من ذلك، سأقول إنها ليست مجرد مدخل المادية، بل المادية نفسها.

قام عدد من الأثنولوجيين بملاحظة مدهشة، إن في أكثر المجتمعات البدائية يمكن مشاهدتها، التي تنتمي إلى السكان الأصليين الأستراليين أو الأفارقة الأقزام ( البيغمي)، يبدو أن الفلسفة الاسمانية فيها مسيطرة شخصياً – ليس من الناحية الفكرية، التي هي اللغة، ولكن أيضاً في الممارسة، في الواقع. الدراسات الحاسمة الأخيرة بينت أن بالنسبة إلى هذه المجتمعات، ما هو الموجود هو كينونات مفردة، ويتم تمييز كل مفردة وكل محددة بكلمة مفردة بدورها. هكذا العالم متكون حصراً من اشياء مفردة ونادرة، كل منها اسم معين ومميزات مفردة. “ هنا والآن”، الذي لا يمكن إطلاقاً تسميته بأي شيء، بل فقط الإشارة إليه، لأن الكلمات نفسها هي تجريدات – سيكون علينا أن نتحدث دون كلمات، أيّ نشير هذا يدل على أولية الإيماءة على الكلمة، أولية الأثر المادي على الرمز.

هذا “ التأشير”، الذي يظهر بقدم السوفسطائيين، عن كراتيليوس وبروتاغوراس.

بكل تأكيد، يمكن القول بإن الاسمانية الفلسفية موجودة سلفاً عند هومر، وهسيود، والسوفسطائين، والذريين مثل ديموقريطوس وأبيقور، رغم أنها لم تظهر حقاً بشكل معروض ونسقي إلا في العصور الوسطى، من قِبل الثيولوجيين، في مقدمتهم دانس سكوتوس وويليام الأوكامي.

ملاحظة أخيرة حول مسألة الحدث التاريخي، يمكن القول بأن لا ماركس ولا إنجلز اقتربا أبداً من طرح نظرية حول التاريخ، بمعنى الحدث التاريخي غير المتوقع، والنادر، والتصادفي: وكذلك لم يطرحا نظرية حول الممارسة السياسية. أنا أقصد الممارسة السياسية-الأيديولوجية-الاجتماعية للناشطين السياسيين، والحركات الشعبية، ومنظماتها في حال وجودها، ممارسة ليست حوزتها مفاهيم، ناهيك عن نظرية متماسكة التي ستجعل من التفكير أمرا ممكناً. في حين لينين وغرامشي ماو فكروا حول هذا الأمر جزئياً فقط، كان ماكيافيلي الوحيد الذي قام باستنباط نظرية حول التاريخ السياسي، حول الممارسة السياسية في الحاضر. هناك هوة كبيرة تنتظر أن يتم سدها، إنها في غاية الأهمية، ومرة أخرى تشير لنا نحو الفلسفة.

-الفلسفة، الأيديولوجيا، السياسة-



هل يمكنك شرح لماذا قمت بالتشديد الى حد كبير على ثلاثية الفلسفة – الأيديولوجيا – السياسة في عملك؟

أعتقد من الأنسب أن ابدأ ردي من خلال مناقشة مفهومي حول “ الفلسفة”، ونشأتها ووظيفتها. نشأت الفلسفة، تاريخياً إلى حد ما من الدين، الذي توارثت منه الأسئلة الاستثنائية التي تم لاحقاً تحويلها إلى مواضيع فلسفية عظيمة، رغم اختلاف المقاربات والإجابات، مسائل مثل الأصل، الغاية، أو مصير الإنسان، والتاريخ، والعالم.

مع ذلك صرحتُ أن الفلسفة كما هي، الفلسفة بالمعنى الصارم، تأسست مع تأسيس أول علم، الرياضيات. لم يكن هذا حادث، حيث تأسيس الرياضيات حدد بالتحديد الانتقال من الحالة التجريبية إلى النظرية. من هذه اللحظة وصاعداً، بدأ الناس يفكرون بطريقة مختلفة حول مختلف الموضوعات: موضوعات تجريدية.

هل تزعم أن الفلسفة لم يكن بمقدورها أن توجد دون وجود العلم أولاً؟

لا أعتقد أن يمكن لها أن توجد دون وجوده، حيث الفلسفة أخذت شيئاً لا يقدر بثمن من العلم: نموذج التجريد المنطقي الأساسي له.

في الواقع، الفلسفة وجدت عندما تم التخلي عن طرق التفكير الميثولوجي والديني، والوعظ الأخلاقي والفصاحة السياسية والشعرية، لصالح أشكال التفكير النظري التي هي تأسيسية للعلم. باختصار، لا يمكن للفلسفة أن توجد من دون وجود خطاب منطقي محض سلفاً، النموذج الموجود في العلوم.

ما الخصائص الأخرى التي دمغت خصوصيتها على الفلسفة في طور تطورها؟

عينت الفلسفة التقليدية لنفسها مهمات تاريخية ثابتة بالحديث عن الحقيقة حول كل شيء، الأسباب الأولى والمبادئ الأولى في كل شيء كائن، وبذلك عن كل شيء معروف حول الغاية المطلقة أو قدر الإنسان والعالم. هكذا تحدد نفسها كـ “ علم” الكل، فهي ليست قادرة على توفير معرفة أعلى ويقينية وحسب، بل وكذلك تمتلك الحقيقة نفسها. هذه الحقيقة هي المنطق ( logos)، والأصل، والمعنى، حالما يتم افتراض التماثل الأساسي ما بين الكلمة (logos) والخطاب، وما بين الحقيقة والقول، ستكون هناك في هذا العالم، وسيلة وحيدة لجعل الحقيقة معروفة: الشكل- القولي. لهذا السبب لا تستطيع الفلسفة إطلاقاً أن تترك خطابها الخاص، الذي هو هو عرض الحقيقة كـ قول ( logos).

بالنسبة إلى تركيب/تأسيس النسق الفلسفي، توجد هناك ارتباطات صارمة ما بين كل عناصرها النظرية، على سبيل المثال أطروحاتها (أو فرضيات فلسفية) ومقولاتها. هل يمكنك أن تفسرها وما وظيفتها؟

الكلمة اليونانية Thezis تعني “ موقع”؛ لهذا السبب كل أطروحة تستدعي أطروحتها النقيضة. أما بالنسبة الى المقولات، التي هي أكثر المفاهيم عمومية، التصويرات التي تأتي في البال هي “ الجوهر” و” الذات”. لمقولة “ الذات” اهتمام خاص، ما بين القرني الرابع عشر والثامن عشر، يجد المرء فوق كل شيء، أن مقولة “ الذات” كانت تستخدم لعدد من الايديولوجيات والممارسات المقابلة لها. هذه المقولة نشأت على أساس الايديولوجية القانونية والعلاقات السلعية، التي فيها كل فرد هو ذات قانونية لقدراته القانونية بوصفه مالك ملكية، وهكذا. مثل المقولة التي اقتحمت مجال الفلسفة مع ديكارت ( الذات “ أنا أفكر”)، ولاحقاً الايديولوجية الأخلاقية مع كانط (الذات “ الوعي الأخلاقي”). منذ فترة طويلة اقتحمت المجال السياسي مع “ الذات السياسية” للعقد الاجتماعي، هذا يبرهن إحدى أطروحاتنا التي ندافع عنها: الفلسفة “ تعمل على” مقولات قادرة على توحيد لقاء الأيديولوجيات والممارسات المقابلة لها.

-الفلسفة: ساحة معركة-

وما وظيفة الفلسفة؟

دون أن أدعي أن أكون شاملاً مانعاً، أزعم أن كل فلسفة تنتج ضمن ذاتها، بطريقة أو أخرى، الصراع الذي تجد نفسها فيه في العالم الخارجي. كل فلسفة تحمل في ذاتها ظل نقيضها: المثالية تحمل ظل المادية، والعكس بالعكس.

أنت غالباً ما تشير إلى أن كانط يقول إن الفلسفة هي “ ساحة معركة “ Kampfplatz.

صحيح. إحدى أهداف الفلسفة هي شن معركة نظرية؛ لهذا يمكننا القول بأن كل أطروحة هي دائماً بطبعها أطروحة نقيضة. الأطروحة دائماً تطرح كنقيضة أطروحة أخرى، أو دفاعاً عن أطروحة جديدة.

بما أننا في موضوع المعركة النظرية هذه، هل تظن أن الحقل الفلسفي منقسم على نحو كتلتين عظيمتين أو موقعين متنافسين، المادية والمثالية؟

لا، أعتقد أن في أي فلسفة، سيجد المرء فيها عناصر مادية ومثالية، حيث واحدة من النزعتين تسيطر على الأخرى في فلسفة معينة. بكلمات أخرى، لا يوجد تقسيم راديكالي مانع مطلق لأن في الفلسفات المثالية، نستطيع أن نمر على عناصر مادية، والعكس بالعكس. ما هو مؤكد هو أن لا توجد فلسفة محضة. ما يوجد هو نزعات.

هل يمكنك أن تستشهد بفيلسوف ما لتوضح هذا الكلام؟

باسكال هو نموذج مثير للاهتمام، لأنه متناقض من خلال طرحه للمسائل الدينية، تظهر كذلك قضايا إبستمولوجية وقضايا نظرية تاريخ العلوم ونظرية العلاقات الاجتماعية، بذلك يمكننا التأكيد إنه يعرض ملامح مادية بعمق. اندهشت عندما رأيت بعدما قمت بإعادة قراءة باسكال في السنوات الأخيرة، أنني من دون الإدراك بذلك، استعرت منه عدداً قليلاً من الأفكار الفلسفية: النظريتان حول الايديولوجيا وحول الإدراك وعدم الإدراك، موجودتان عند باسكال. عندما سألت نفسي أين حدث هذا اللقاء معه، فوراً أدركت أن الكتاب الوحيد الذي قرأته في السنوات الخمس التي أرغمت أن أكون في معسكر ألماني للأسرى هو كتاب باسكال : “ الأفكار “ ( Pensées). نسيت كل هذا في المرحلة الانتقالية.

كتب باسكال أشياء مدهشة حول تاريخ العلوم، كان رياضياً وفيزيائياً عظيماً، ابتكر الآلة الحاسبة، وفي النهاية طور نظرية كلية حول تاريخ العلم.

هنا نرى ما قلته للتو: كل فلسفة تحمل نقيضتها في ذاتها.

طبعاً، أكثر من ذلك، التناقض في الفلسفة هو ليس تناقضاً ما بين (أ) والـ لا (أ)، او بين (نعم) و(لا). إنه نزعاتي، ويتم تجاوزه من خلال النزعات. في الواقع، كل فلسفة هي إدراك – بطريقة مكتملة أكثر أو أقل- لإحدى النزعتين النقيضتين، النزعة المثالية والنزعة المادية. خارج كل فلسفة، ما يتم إدراكه هو ليس النزعة، بل “ التناقض الضدي” ما بين النزعتين.

كيف تفسر هذا؟

هذا له علاقة بالطبيعة نفسها للحرب الفلسفية، عندما تقرر فلسفة ما أن تحتل مواقع خصمها، من الحاسم أن “ تأسر” على الأقل عدداً من “ جنود” العدو، مما يعني، أنها تحاصر الحجج الفلسفية لخصمها. إذا أراد أحدهم أن يهزم العدو، عليه أن يعرفه أولاً، ليس من أجل أن يستحوذ على أسلحته وجنوده وأرضه، ولكن فوق كل هذا، حججه – حيث بمساعدتها سيتم الظفر بانتصارات عظيمة.

هنا أتذكر مقولة لغوته: “ الذي يريد معرفة العدو عليه أن يذهب إلى أرضه.”

هذا صحيح، هكذا كل فلسفة عليها أن تحمل عدوها المنهزم ضمنها لكي تؤسس ذاتها كفلسفة جديدة، ومن ثم يمكنها تجنب كل الاحتجاجات والهجومات مقدماً، لأنها سلفاً حملت نفسها داخل نسق العدو وتعمل عليه، وبذلك تعدله من أجل أن تحمل مهمة هضم خصمها والسيطرة عليه. بذلك كل فلسفة ذات نزعة المثالية بالضرورة تتضمن حججاً مادية، والعكس بالعكس. أكرر: ليس هناك نقاءً محضاً، حتى الفلسفة المادية “ الماركسية” لا يمكنها أن تدعي أن تكون حصراً “ مادية”، لأنه إذا كانت كذلك، سيكون عليها أن تتخلى عن الصراع، وتترك مسبقاً فكرة اجتياح المواقع المحتلة من قبل المثالية.

ما تقوله يستدعي الـ ليفياثان لهوبز، حالة الحرب الدائمة.

رغم ذلك إلا أن هذه “ الحرب الفلسفية” هي ليست “ حرب الكل ضد الكل” التي ناقشها هوبز في إنكلترا القرن السابع العشر. إنها ليست حرباً بين أفراد، ولكنها بين المفاهيم الفلسفية، وبذلك بين استراتيجيات فلسفية التي في اللحظات ( conjunctures) الفلسفية والثقافية العظمى، تحارب من أجل هيمنة فلسفية في تلك الدولة أو تلك القارة أو في العالم كله – بما أن العالم أصبح عملياً كلاً اقتصادياً واحداً.

هل لهذا علاقة بتعريفك الأخير للفلسفة بوصفها “ صراعاً طبقياً في النظرية”؟

نعم، شكل نظري يحملها الصراع الطبقي، ولكنك نسيتِ عنصراً حاسماً للتعريف وهو: “ في اللحظة الأخيرة”.

يجب أن لا ننسى “ في اللحظة الأخيرة”، حيث لم أقل أبداً أن الفلسفة هي ببساطة صراع طبقي في النظرية، هذا التحفظ “ في اللحظة الأخيرة” هو هناك ليشير الى أن هناك أشياءً في الفلسفة غير الصراع الطبقي في النظرية، ولكنه كذلك يشير الى إن الفلسفة بالفعل تمثل مواقع طبقية في النظرية، مما يعني في العلاقات التي هي تحافظ عليها مع أكثر الأشكال النظرية للممارسات البشرية، وخلالها أكثر الأشكال ملموسة للممارسات البشرية، ضمنها الصراع الطبقي، ولقد بينت أن في الفلسفة، يأخذ الصراع الطبقي شكل التناقضات ما بين الأطروحة والأطروحة النقيضة، ما بين مواقع النزعة المثالية وأخرى للنزعة المادية.

هناك مثال في تاريح الفلسفة يثبت أن الفلسفة هي في اللحظة الأخيرة، صراع طبقي في النظرية. لنأخذ مصطلحات كانط التي استشهدت بها سلفاً: الفلسفة هي ساحة معركة. نحن نرى كانط انطلق ليؤسس فلسفة غير سجالية ليست في حالة صراعية، عندما يرسم كانط مشروعاً لاستبدال المعركة الدائمة ما بين الفلسفات بـ “ السلام الدائم”، هو لا يستدعي الصراع الطبقي، ولكنه يدرك الطبيعة السجالية، الطبيعة التناحرية، لأي فلسفة. من خلال تحديد هدف الحصول على فلسفة خالية من الصراع، في السلام الدائم، هو يدرك – في شكل إنكار – وجود صراع في الفلسفة.

ملاحظة أخيرة: فيما يتعلق بالصراعات التي حفزتها الفلسفة في طور تاريخا، توجد هوامش أو مناطق تستطيع أن تهرب من التحديد القاطع من قبل الصراع الطبقي، أمثلة: أجزاء معينة في تأمل اللغويات، الإبستمولوجيا، الفن، العاطفة الدينية، العادات، الفلكلور، الخ. هذا يعني، ضمن الفلسفة توجد جزر أو فجوات.

-“فلسفة الفلاسفة” والفلسفة المادية-

لنختم هذا الموضوع، هل يمكنك أن تلخص المميزات المحددة التي تميز هذين الموقعين أو النزعتين الفلسفيتين؟

بكل تأكيد، ولكن عندما يقول الناس “ الفلسفة”، دائماً يقصدون بذلك الفلسفة التقليدية ذات النزعة المثالية، “ فلسفة الفلاسفة”، ولكن هذه المرة سآخذ الموقع المادي في الفلسفة كنقطة مرجعية.

الحديث عن “ المادية” هو أن تفتح أكثر المواضيع الحساسة في الفلسفة، مصطلح “ المادية” ينتمي إلى تاريخ فلسفتنا التي ولدت في اليونان، تحت رعاية أفلاطون وضمن إشكاليته العامة. أنه عند أفلاطون نجد التفرقة الأساسية ما بين “ أصدقاء الصور” و”أصدقاء الأرض”، كلتا العبارتين في هذا الثنائي تم وضعهما كأساسين لتأسيسهما، حيث كلا منهما تسيطر على الأخرى.

بذلك يوجد أصدقاء الأرض فقط لأن أصدقاء الصور موجودين، وهذه التفرقة وهذه المعارضة هي من عمل الفيلسوف الذي دشن تاريخ فلسفتنا والذي يعتبر نفسه “ صديق الصور” بمعارضة “ أصدقاء الارض”، الذي يصنف التجريبيين، والحسيين، والمشككين، والتاريخانيين ضمنهم. يجب الإشارة إلى أن في زوجي المتعارضين المثالية/المادية، أصبحت المثالية – بقدر ما هي النزعة المسيطرة في كل الفلسفة الغربية – هي الأساس الذي وجد وتأسس عليه هذا الزوج.

عندما ننطلق من كل ما قاله هايدغر حول سيطرة التمركز حول العقل ( logocentrism) على كل الفلسفة الغربية، سيكون ليس من الصعب أن نشرح: أن حالما المرء يرى بسهولة في كل مرة هي مسألة متعلقة بالمادية المعلنة في تاريخ فلسفتنا، إن مصطلح “ المادية” يعاد إنتاجه، إذا جاز التعبير، بنقضه ومرآته المعاكسة، مصطلح “ المثالية”. هايدغر كان سيقول إن المثالية، مثل المادية، تخضع لـ “مبادئ العقل”، الذي هو المبدأ الذي وفقاً له كل ما هو كائن، سواء أكان المثالي أو المادي، يخضع لمسألة سبب كينونته.

بذلك سأقول، إن في التقليد الفلسفي، استحضار المادية هو مؤشر لضرورة ما، إشارة أن يجب رفض المثالية – في مثل الوقت من دون التحرر، من دون القدرة على التحرر، من زوجي المثالية/المادية، فهو مؤشر، ولكن في مثل الوقت، فخ؛ لأن لا أحد يتحرر من المثالية من خلال نقضها ببساطة، أو تصريح ما هو عكس المثالية، أو “جعلها تقف على رأسها”. فعلينا إذن أن نعامل مصطلح “ المادية” بشكل: هذه الكلمة لا تعطينا شيئاً، وفي نظرة مقربة، أغلب الماديات ستظهر مثاليات مقلوبة. أمثلة: ماديات التنوير، وعدد قليل من الفقرات لدى إنجلز كذلك.

ما الملامح الأخرى التي يمكن قولها لوصف المثالية التي تعتبر كالقطب العكسي للمادية؟

يمكننا أن نميز المثالية على ما أعتقد، من خلال حقيقة أنها مطاردة من قبل سؤال أساسي ينقسم إلى اثنين، حيث مبدأ العقل يحمل ليس الأصل وحسب، بل أيضاً النهاية: بالفعل الأصل دائماً، طبيعياً، يشير إلى النهاية. يمكننا أن نذهب إلى أبعد من ذلك: مسألة الأصل هي مسألة نشأت على أساس مسألة النهاية. تتوقع ذاتها النهاية ( معنى العالم، معنى التاريخ، الغاية المطلقة للعالم والتاريخ) تعرض نفسها مرة أخرى على/ونحو/وفي مسألة الأصل، مسألة أصل أي شيء هو دائماً معروض كوظيفة لما يتخيل أن يكون نهايته، مسألة “ الأصل الراديكالي لكل شيء” ( لايبنتز) دائماً معروضة كما يتخيل المرء لما سيكون نهايتها، غايتها، سواء أكانت مسألة غاية الإله أو اليوتوبيا.

هل تمكنت أي فلسفة من الهروب من زوج المثالية – المادية؟

إذا هربت فلسفات معينة من هذا زوج المادية-المثالية، سيتم التعرف عليها بحقيقة أنها هربت من أو حاولت الهروب، مسائل الأصل والنهاية، التي هي في نهاية التحليل غاية أو غايات العالم والتاريخ الإنساني. هذه الفلسفات مثيرة للاهتمام، حيث من أجل أن تتجنب الفخ، عبرت عن ضرورة التخلي عن المثالية والمضي قدماً نحو ما يمكن أن يسمى ( إن شئت) المادية، بذلك تمييز ذاتها، أكرر من كل فلسفة الأصل – سواء أكانت مسألة الوجود، أو الذات، أو المعنى، أو الغاية – حيث لديها أن كل هذه الموضوعات تنتمي إلى الدين والأخلاق، وليست إلى الفلسفة.

هناك الكثير من تلك الفلسفات اللامهادنة والتي حقاً غير دينية في تاريخ الفلسفة: ضمن الفلاسفة الكبار أرى فقط أبيقور، وسبينوزا، وماركس – عندما يتم فهمه جيداً، ونيتشة، وهايدغر.

رفض الأصل الراديكالي بوصفه بنك الإصدار الفلسفي يعني أن المرء عليه كذلك أن يرفض العملة المصدرة من قبل هذا البنك من أجل وضع مقولات أخرى، مثل الديالكتيك.

أعلم أن سبينوزا هو أحد الفلاسفة الذين أنت معجب بهم بشدة – بسبب، ضمن أشياء أخرى، إسهاماته للموقع المادي. أود أن استفسر إذا كان هو قد هرب من إغواء “ الحقيقة”؟

نعم بكل تأكيد. يتحدث سبينوزا، إكلينيكياً، عما هو “ حقيقي”، وليس عن الحقيقة. اعتبر أن “ الحقيقي هو مؤشر ذاته ويبين الزائف”، هو مؤشر ذاته ليس كوجود بل كمنتج، بمعنيين: (1) كنتيجة لعملية العمل الذي يكتشفه، و(2) يثبت ذاته في ضمن إنتاجه نفسه.

إذن مع هذا المفهوم المحايث للحقيقة، يترك سبينوزا مسألة معيار الحقيقة في جانب واحد.

ما أكثر من ذلك هو أنه يرفض مسائل الأصل والذات مما يعزز نظريات المعرفة.

ما الملامح المميزة التي يمكن القول إن الفلسفة المادية تعرضها؟

بادئ ذي بدء، أنها لا تدعي أن تكون مستقلة أو لتؤسس قوتها وأصلها الخاص، أنها أيضاً لا تعتبر ذاتها علماً، ناهيك عن علم العلوم. بهذا المعنى هي تعارض الوضعية كلها، بالتحديد يجب الإشارة إلى أنها تنبذ فكرة أنها تمتلك الحقيقة.

الفلسفة ذات النزعة المادية تدرك وجود واقع موضوعي خارجي، كما أنه مستقل عن الذات أو عن من يفهم أو يعلم هذا الواقع. إنها تدرك أن الكائن أو الواقعي موجود وهو سابق على اكتشافه، على حقيقة معرفته أو إدراكه. في هذا الصدد، أحياناً نُسئل كيف يمكننا أن نتأكد أن الفلسفة هي ليست هذياناً نظرياً تابعاً لطبقة اجتماعية في البحث عن ضمان أو بلاغيات منمقة. الكثير من المنظرين الهواة قاموا في كل ما أنتجوه عبر القرون، بتصميم فلسفة وفقاً لأهوائهم الشخصية، أو أوهامهم، أو تفضيلاتهم الذاتية، أو ببساطة بدافع رغبتهم في التنظير.

ألا يمكننا القول تحديداً، بأن الموقع المادي يسجل انعطافاً راديكالياً من فلسفات التمثيل التي تستمر في التقليد المثالي القائل إننا نعلم أفكار الأشياء وليست الأشياء ذاتها؟

إحدى تداعيات مما قيل هي: الفلسفات المادية تؤكد أولية الممارسة على النظرية. الممارسة التي هي غريبة كلياً عن العقل ( logos)، هي ليست الحقيقة ولا يمكن اختزالها – أو حتى تتجلى بذاتها في – إلى القول والنظر. الممارسة هي عملية تحويل تخضع دائماً لشروطها الخاصة في الوجود ولا تنتج حقيقة، بل “ حقائق”، أو نوعاً من الحقيقة: الحقيقة، دعينا نقول لنتائج أو لمعرفة، كلها ضمن حقول ظروف وجودها. رغم أن هناك إدراك للـ” أشخاص” في الممارسة، إلا في مثل الوقت ليست لها أية ذات كالأصل الترنسندنتالي أو الانطولوجي لهدفها أو تصورها: ولا تملك هدفاً كحقيقة سيرورتها. إنها سيرورة من دون ذات أو هدف ( آخذين كلمة “ ذات” للدلالة على عنصر لا تاريخي).

هكذا تهز الممارسة أسس التقليد الفلسفي وتمكننا من توضيح ما هي الفلسفة، حيث الممارسة راسخة في إمكانية تغيير العالم.

إن ظهور الممارسة هو استنكار للفلسفة المنتجة كـ “ فلسفة”، إنها تؤكد بشكل قاطع في وجه ادعاء الفلسفة، إنها تضم كل الأفكار والممارسات الاجتماعية، وإنها كما قال أفلاطون “ تنظر إلى الكل”، من أجل أن تفرض هيمنتها على هذه الممارسات ذاتها، إنها تؤكد بشكل قاطع في وجه ادعاء الفلسفة القائل بإن ليس لها ما هو خارج عنها، بإن لها بكل تأكيد ما هو خارج عنها، وتحديداً أنها موجودة من خلال ومن أجل هذا الخارج. هذا الخارج، الذي تحب الفلسفة أن تتخيله بأنه أتى بحكم الحقيقة، هو الممارسة، الممارسات الاجتماعية.

علينا أن نفهم الطبيعة الراديكالية لهذا النقد من أن نفهم تداعياته، إنه يقارع العقل ( logos)، الذي هو الممثل الأعلى لشيء يدعى “ الحقيقة”.

إذا أخذنا مصطلح “الحقيقة” بمعناه الفلسفي، من أفلاطون إلى هيغل، وواجهنا الممارسة – سيرورة من دون ذات أو هدف وفقاً لماركس – سيكون علينا بعدها تأكيد أن ليس للممارسة أية حقيقة.

الممارسة ليست بديلاً عن الحقيقة من أجل فلسفة ثابتة، بل على العكس، إنها ما يهز أسس الفلسفة، إنها هذا الشيء الآخر – سواءً في شكل “السبب المتغير” للمادة أو في الصراع الطبقي – التي لم تتمكن الفلسفة أبداً من السيطرة عليه. إنها هذا الشيء الآخر الذي وحده يجعل من الممكن ليس هز أسس الفلسفة وحسب، بل أيضاً البدء في النظر بوضوح ما هي الفلسفة.

أنت قلت للتو إن الممارسة تمكن الفلسفة من معرفة أن لها خارج.

نعم، ملحوظة هيغل هي معروفة جداً: للوعي الذاتي شيء وراءه، ولكنه لا يدرك ذلك. هذه الملحوظة تجد صداها عند اعتراف فرنسوا مورياك أنه وفي طفولته اعتقد أن الكبار لا مؤخرات لديهم. ظهور الممارسة يهاجم الفلسفة من الخلف، سنرى كيف.

سيان أن يكون لها خارج، سيتم معارضته، كأنما تملك خلفاً، أن تملك “ خلفاً” يعني أن تملك خارجاً لا يتوقعه المرء، والفلسفة لا تتوقع ذلك.

ألم تجلب الفلسفة كلية ما هو كائن ضمن بوصلة فكرها؟ حتى الطين، تحدث عنه سقراط، وأرسطو عن العبد، وهيغل عن تراكم الثروة في قطب واحد والفقر الرهيب في القطب الاخر.

من وجهة النظر هذه، كل شيء بالفعل متضمن داخل الفلسفة.

يمكننا أن نسأل أين الفضاء الخارجي؟ أليس للعالم الحقيقي، العالم المادي، وجود في كل الفلسفات حتى الفلسفات المثالية؟ لماذا إذن نقوم بتسوية هذه الاتهامات التي لا أساس لها ضد الفلسفة؟ من أجل أن تجلب كل الممارسات ضمن نطاق فكرها، ومن أجل أن تفرض نفسها عليها من خلال الإعلان الموضوعي بأنها حقيقتها، تقوم الفلسفة بالخداع: عندما تستوعبها وتعيد صياغتها وفقاً لشكلها الفلسفي، إنها لا تكاد تلتزم بواقع – الطبيعة المعينة – للأفكار والممارسات الاجتماعية كتلك، وإلا كيف يمكنها إذن أن تضبط وتفكر الممارسات كلها وفقاً لحقيقة موحدة؟ ” فلاسفة الفلسفة” الذين انطلقوا للسيادة على العالم بوسيلة الفكر الذي دائماً مورس بعنف المفهوم، الفكرة (Begriff)، القبضة ( de la mainmise). إنهم يؤكدون قوتهم من خلال جلب كل الممارسات الاجتماعية للبشر الذين يستمرون في الكدح والوجود في الظلام تحت سيطرة قانون الحقيقة.

هذه النظرة ليست غريبة عن بعض معاصرينا.

ليست غريبة بأي حال عن الذين يبحثون، وبطبيعة الحال يجدون النموذج الأصلي للقوة في الفلسفة، نموذجاً لكل سلطة، يكتبون صيغة: المعرفة = القوة، يعلنون -بكونهم مثقفين فوضويين حداثيين- أن العنف والطغيان واستبداد الدولة، هو ذنب أفلاطون. بمثل الطريقة التي قيل فيها سابقاً، ليس طويلاً، أن الثورة هي ذنب روسو.

دائماً أفضل طريقة للرد عليهم هي الذهاب إلى أبعد مما هم عليه نحو طبيعة الفلسفة، من خلال الخرق الفاضح الذي أحدثته الممارسة. هنا على الأرجح اكثر مكان يُشعر بتأثير ماركس بعمق.

إضافةً إلى أنه يجب، اعتبار أن القوة هي ليست “ القوة من أجل القوة”، ولا حتى في السياسة، إنها لا شيء سوى ما يجعل المرء منها، الذي هو ما ينتج كنتيجة لها. ولئن كان الفيلسوف هو بالفعل “ الشخص الذي يرى الكل”، فإنه يراه من أجل أن يقوم بترتيبه، أيّ فرض ترتيب معين على عناصر الكل.

اختلاف أخير عن المثالية هو مفهوم ماركس حول “ الوحدة”، لا يجب افتراض أن هناك نموذجاً واحداً للوحدة وحسب: وحدة الجوهر، أو الماهية، أو العقد، المفاهيم المتشوشة الحاضرة عند المادية الميكانيكية ومثالية الوعي، وحدة ماركس هي ليست وحدة الشمول البسيطة. الوحدة التي تتحدث عنها الماركسية هي ليست التطور البسيط لجوهر فريد من نوعه أو لجوهر بسيط أولي، إنها وحدة التعقيد نفسه، حيث نمط تنظيم أو تشكيل هذا التعقيد يتحول إلى وحدة للكل المعقد وحدة بنية تشكلت في السيطرة.

لنختم هذه النقطة، أود أن أذكرك بعرضك الرائع للنزعتين الذي قدمته من خلال تقديم مقارنة ظريفة بالركاب في قطار ما.

صحيح، أنا قلت إن الفيلسوف المثالي هو الشخص الذي عندما يركب قطاراً ما، يعرف بداية المحطة التي ينطلق منها والمحطة التي سيصل إليها، إنه يعلم بداية ونهاية طريقه، بمثل طريقة معرفته لأصل وقدر الإنسان، والتاريخ، والعالم.

أما الفيلسوف المادي، على العكس هو الشخص الذي على الدوام يركب قطاراً ما، مثل بطل أفلام الغرب الأمريكي. قطار يمر أمامه: بإمكانه أن يسمح له بالمرور ولا شيء يحدث بينه وبين القطار، ولكنه كذلك بإمكانه أن يلحق بهذا القطار المتحرك. هذا الفيلسوف لا يعرف الأصل، أو المبدأ الأولي، أو محطة الوصول، إنه يركب قطاراً متحركاً ويجلس على أي كرسي متوفر أو يتجول بين العربات، متحدثاً مع المسافرين، هو يشاهد، دون أن يتنبأ، كل شيء يحدث بطريقة تصادفية غير متوقعة، يجمع عدداً لا نهائياً من المعلومات ويقوم بمشاهدات لانهائية، بقدر القطار نفسه، والركاب، والريف الذي يراه من خلال النافذة. باختصار، يسجل تسلسلات لحوادث تصادفية، على العكس من الفيلسوف المثالي، الذي يسجل تعاقبات مستخرجة من أصل ما هو أساس كل معنى، أو من مبدأ أولي أو سبب مطلق.

بكل تأكيد، يمكن لفيلسوفنا القيام بتجارب على تتابعات لتسلسلات صدفية التي تمكن من مشاهدتها، ويمكنه أن يستخرج ( مثل “هيوم”) قوانين التتابع، قوانين “ عاداتية” أو “ ثوابت”، التي هي أشكال نظرية مبنينة. هذه التجارب ستؤدي به أن يستخرج قوانين كونية لكل نوع من تجربة، اعتماداً على نوعية الكيانات التي خدمت بوصفها موضوعاته: هكذا سيرورة العلوم الطبيعية، هنا نقابل مرة اخرى مصطلح ووظيفة “ الكونية”.

ولكن ماذا يحدث عندما لا تتعلق المسألة بموضوعات تكرر ذاتها بشكل غير لا محدود حيث يمكن إجراء تجارب عليها بشكل مكرر ومعاد من قبل المجتمع العلمي من طرف واحد إلى آخر من العالم؟ انظري إلى ما قاله بوبر: “ التجربة العلمية تستحق هذه التسمية عندما يمكن تكرارها بشكل غير محدود تحت مثل ظروف التجريبية”، هنا المسافر- الفيلسوف المادي، المهتم بحالات “مفردة”، لا يمكنه أن يحدد “قوانينها”، حيث حالات مثل تلك هي مفردة/ ملموسة/ فعلية وبذلك غير مكررة لأنها فريدة، ما يمكنه فعله هو كما بين ليفي ستروس فيما يتعلق بالأساطير الكونية للمجتمعات البدائية، هو استخراج “ ثوابت عامة” ضمن التصادفات التي تم مشاهدتها، و“ الاختلافات” التي متمكنة من محاسبة مفردية الحالات التي قيد الدراسة، وبذلك إنتاج معرفة من نوع “إكلينيكي” بالإضافة إلى التأثيرات الأيديولوجية، والسياسية، والاجتماعية. هنا أيضاً لا نجد كونية القوانين ( كما هي في الرياضيات، أو الفيزياء، أو المنطق)، ولكن عمومية الثوابت التي من خلال اختلافاتها، تمكنا من فهم ما هو حقيقي في هذه أو تلك الحالة.

هنا أيضاً يظهر السؤال حول وظائف الفلسفة: أي من وظائفها تعتبرها الأكثر أهمية؟

سأذكر عدداً قليلاً فقط، على سبيل المثال منها لعب دور الضمان أو الأساس للدفاع عن أطروحات معينة التي يحتاجها الفيلسوف من أجل أن يفكر في الاكتشافات العلمية أو أي نوع آخر من حدث ( event).

وظيفة أخرى للفلسفة تكمن في رصد “ الخطوط الفاصلة” بين ما هو علمي وما هو أيديولوجي من أجل تحرير الممارسة العلمية من السيطرة الايديولوجية التي تعيق تقدمها.

مرة أخرى، يمكن مقارنة الفلسفة بالمختبر حيث فيه يتم توحيد مجموع العناصر الأيديولوجية، في السابق لعب الدين هذا الدور التوحيدي، أو حتى أقدم من ذلك، لعبت أساطير المجتمعات البدائية هذا الدور. أقنع الدين ذاته مع الأفكار الكبرى ( الأيديولوجية) مثل وجود الله أو خلق العالم، قام باستخدامها من أجل ضبط كل النشاطات البشرية والايديولوجيات الموازية لها، مع نظرة تأسيس الأيديولوجيا الموحدة التي احتاجتها الطبقات المسيطرة لتأكيد سيطرتها. يوجد هناك، في كل الأحوال، محدودية: الفلسفة المسيطرة تذهب إلى أبعد ما يمكنها الذهاب إليه في دورها كموحدة عناصر الأيديولوجيا والأيديولوجيات المتعددة، ولكن لا يمكنها “ تجاوز وقتها”، كما قال هيغل، أو “ تتجاوز ظروفها الطبقية”، كما قال ماركس.

الفلسفة تقوم بوظيفة أخرى في الحقل السياسي، تقليدياً لعبت دور إما المهادن والرجعي، أو الثوري فيما يخص النظام السياسي المسيطر، سواء قامت بذلك في الخفاء أو في العلن.

هذه العلاقة بالسياسة كانت واضحة منذ أيام أفلاطون على الصعيدين النظري في الجمهورية، والعملي عندما قبل أن يكون مستشار طاغية سيراقوسة.

هذا مثال جيد. تجدر الإشارة إلى أن هذه الفلسفات حتى لو أخذت موقفاً مهادناً بالنسبة إلى السلطات، فإنها نسبت لنفسها موقعاً مسيطراً، كائناً فوق كل شيء آخر، بذريعة أنها كانت وصية الحجج الحقة لدعم السلطة. التواطؤ هذا يمكنه أن يكون مباشراً، ولكن في التقليد الفلسفي، أظهرت الفلسفة ذاتها كوصية الحقيقة قبل أن يظهر ماركس، الذي مكنا من أن نضع الفلسفة في مكانها الصحيح. على هذا النحو، تم الاعتقاد أن القوة الحقيقة، بطريقة ما، انتمت إليها قوة المعرفة.

هل تعمل الفلسفة مباشرة في العالم الواقعي؟

الفلسفة قد تبدو أنها تقيم في عالم منفصل بعيد، ولكنها في مثل الوقت تعمل، بطريقة خاصة جداً: من بعيد. إنها تعمل من خلال الأيديولوجيات، على ممارسات حقيقية ملموسة، على سبيل المثال على الممارسات الثقافية مثل العلوم، والسياسة، والفنون، وحتى التحليل النفسي. وإلى حد أنها تحول الايديولوجيات، التي تعكس الممارسات حتى عندما تقوم بتوجيهها في وجهة معينة، هذه الممارسات يمكن تحويلها بدورها، اعتماداً على الاختلافات أو الثورات في العلاقات الاجتماعية، الأطروحات الفلسفية بالفعل تنتج تأثيرات مختلفة على الممارسات الاجتماعية.

هنا يجب علينا نؤكد حقيقة أن التناحرات، ولا أقول “ تناقضات”، لأنني أشك بهذه المقولة، التي يتم استخدامها بكل طريقة، هي حتمية. إن وجدت فلسفات التي تعارض بعضها البعض بطريقة تناحرية، فهذا يعود إلى أن الممارسات الطبقية التناحرية موجودة لحسن الحظ.

الأسئلة المتبقية الأخيرة ستخدم انتقالنا إلى مسألة علاقة الفلسفة بالأيديولوجيا، هذه العلاقة التي قمت بها تناقض المفهوم التقليدي حول الفلسفة بوصفها عالماً مستقلاً يقف فوق الواقع، هل يمكنك أن تقول لنا شيئاً حول العلاقة ما بين الفلسفة والأيديولوجيا؟

هذا هو موضوع عملت عليه لمدة طويلة، مع هدف تكوين نظرية حول الأيديولوجيا. ولكن علينا أولاً تفسير ما نقصد بـ “ أيديولوجيا”.

يمكننا فعل ذلك من خلال اقتباس بعض من تعريفاتك التي نجدها في نصوصك:

-” الأيديولوجيا هي بالضرورة تشويه مضلل للواقع”، “ إنها التمثيل الخيالي الذي يشيده الناس من ظروف عيشهم الحقيقية.”.

– “الأيديولوجيا هي نسق الأفكار الموحدة التي يعمل عليه وعي ناس. “

– “ الأيديولوجيا تقوم بوظيفة اجتماعية : التي هي ضمان انسجام أعضاء المجتمع.”

أود إضافة توضيحين، التوضيح الأول: الإنسان منظم جداً لدرجة أن لا نشاط إنساني يخلو من الفكر واللغة. بناءً على ذلك، لا ممارسة بشرية من دون نسق من الأفكار (أفضل القول نسق من المفاهيم مدرجة في الكلمات، هذا النسق إذن يؤسس أيديولوجية الممارسة المقابلة). التوضيح الثاني: أصر على أن حقيقة أن الأيديولوجيا هي نسق مفاهيم إلا بقدر ما يرجع إلى نسق من العلاقات الاجتماعية، هي ليست مسألة فرد قام بابتكار فكرة ما من خياله، ولكنها مسألة نسق من المفاهيم يمكن عرضها اجتماعياً، عرض يمكنه أن يؤسس جسماً من المفاهيم المؤسسة اجتماعياً، تبدأ الايديولوجيا فقط من هذه النقطة. ما وراءها يوجد حقل المتخيل أو التجربية الفردية المحضة. على المرء إذن أن يرجع دائماً إلى الواقع الاجتماعي الذي هو مفردي، وفريد، وواقعي.

ولكن هل يمكنك أن تفسر كيف يمكن لوعي الفرد الملموس أن يكون تحت سيطرة مفهوم أيديولوجي أو نسق من المفاهيم الأيديولوجية؟

يمكنني أن أبدأ بالرد أن هذه هي آلية تعمل كلما “ أدرك “ وعي ما هذه المفاهيم الأيديولوجية بأنها “حقيقية”، ولكن كيف يأتي هذا الإدراك؟ نعلم سلفاً أن ليس مجرد ظهور الحقيقي هو الذي يجعله أن يُفهم كحقيقي، هنا تقع المفارقة، عندما أؤمن بمفهوم ( أو نسق من المفاهيم)، فلا أكون أنا من تعرف عليه، وبمواجهته يمكنني القول: “ هذا هو، وجدته، إنه حقيقي”. على العكس، عندما أؤمن بفكرة ما، كانت الفكرة المسيطرة علي وجعلتني أتعرف على وجودها وحقيقتها خلال ظهورها. إنه “ كما لو” – هنا تم استبدال الأدوار- أن الفكرة هي من قامت باستدعائي ( interpellated)، شخصياً، وألزمت علي أن أتعرف على حقيقتها. هكذا تصبح الأفكار أيديولوجيا تفرض نفسها بعنف مباغت، على “ الوعي الحر” للناس: من خلال استدعاء ( interpellating) الأفراد على نحو يجدون أنفسهم مجبرين “ بحرية” على التعرف على هذه الأفكار كحقيقة – مجبرين على أن يؤسسوا أنفسهم كـ “ ذوات حرة” (free subjects) قادرين على التعرف على الحقيقة أينما وجدت، وفي قول ذلك، داخلياً أو خارجياً، في مثل الشكل والمضمون للأفكار المؤسسة للإيديولوجيا المدروسة.

هذه هي الآلية المبدئية للممارسة الأيديولوجية، الآلية المحددة التي تحول الأفراد إلى ذوات، الأفراد هم دائماً ذوات جاهزة، مما يعني، ذوات خاضعة دوماً لأيديولوجية ما.

يتبع مما قلته للتو إن الإنسان هو بالطبع كائن أيديولوجي.

بكل تأكيد حيوان أيديولوجي، أعتقد للإيديولوجيا خصيصة متجاوزة للتاريخ، إنها دائماً وجدت وستوجد دائماً. يمكن لـ “مضمونها” أن يتغير، ولكن وظيفتها لن تتغير. لو رجعنا إلى قديم الزمان، سنجد أن الإنسان عاش دائماً تحت سيطرة علاقات اجتماعية أيديولوجية.

نكتفي بهذا القدر إذن حول الايديولوجيا “ بشكل عام”، في بدايات 1970 على أية حال قمت بتفرقة ما هنا، مؤكداً أن للأيديولوجيات المعينة تاريخاً، حتى لو كانت محددة في اللحظة الأخيرة من قبل الصراع الطبقي.

صحيح: ولكنني أصررت على أن ليس للأيديولوجيا بشكل عام تاريخاً، تهتم نظرية الايديولوجيا بما هو الأصعب في فهمه وشرحه في أي مجتمع: الوعي الذاتي للمجتمع، الفكرة التي تشكلها لنفسها وللعالم، هذه ليست منظومة أفكار حول العالم، ولكن تمثيل واضح لعالم الأفكار بوصفه منتجاً اجتماعياً.

يحضرني شيء قاله لك روبرت فوسيرت حول هذه المسألة، منذ الانقسام الذي حدث في الحركة الشيوعية العالمية ( 1961-1970)، والثورة الثقافية الصينية وأزمة مايو 1968، أصبح من الواضح للمسألة الايديولوجية خصوصية واستقلالية معينة، هذه الأحداث كشفت بوضوح التناقض -أو نسق التناقضات- في الماركسية أو مختلف الماركسيات.

بالتأكيد، منذ ذاك الوقت أصبح من الصعب التخيل أن هذه الايديولوجيات المعينة الأقليمية ليس لها أي تاريخ، بأي شكل كانت ديني، أو اخلاقي، أو قانوني، أو سياسي.

في النهاية، دعيني أشير إلى أنها ليست مسألة معاينة المجتمع بقدر ما ينتج أو ينظم، ولكن بقدر ما يمثل نفسه وعالمه الواقعي أو المتخيل.

ماذا يمكنك أن تخبرنا عن شكل وجود الأيديولوجيا، الشكل التي توجد فيه بشكل مادي؟

عندما نلاحظ الوجود الاجتماعي للأيديولوجيات، نرى أنها غير قابلة للانفصال عن المؤسسات بالطريقة التي تتجلى فيها، بشفراتها، ولغاتها، وتقاليدها، وشعائرها وطقوسها.

يمكننا أن نؤكد أن في المؤسسات مثل الكنيسة، والنظام المدرسي، والعائلة، والأحزاب السياسية، وجمعيات الأطباء أو المحامين، الخ، تواجه الأيديولوجيات العملية ظروفها، وأشكالها المادية للوجود، ودعمها المادي، أو للدقة أشكالها المادية، حيث جسم الأفكار هذا هو غير منفصل عن هذا النظام للمؤسسات.

هل يمكننا القول بأن الأجهزة الأيديولوجية هي من خلق الطبقة المسيطرة؟

لا، كانت موجودة سلفاً. ما يحدث هو تحت غطاء الوظائف الاجتماعية التي تخدم موضوعياً غاية الوحدة الاجتماعية، تستثمر وتوحد هذه الأجهزة الأيديولوجية من قبل الايديولوجيا المسيطرة.

أود أن أضيف كلمة حول الطبيعة الثنائية للأيديولوجيا، في الواقع لا توجد أيديولوجيا اعتباطية محضة، إنها دائماً تشير إلى مشكلات واقعية، رغم أنها تحت غطاء شكل عدم الإدراك وبالضرورة الشديدة الوهم.

تحدثت عن “ الذات الايديولوجية”، تحديداً ماذا تقصد بذلك؟

أنا أقصد الذات التي تعتبر نتاجاً للبنى التي سبقت ووجدت كينونتها، فرداً تعرض أو تحدد بالعلاقات الاجتماعية الايديولوجية.

حقيقة أن إعادة الإنتاج الاجتماعي لا تتم حصراً على أسس إعادة إنتاج العمل، بل تفترض التدخل الأساسي للأيديولوجيا. لنأخذ مثالاً على ذلك: العامل الذي يذهب إلى مقر عمله قد اجتازاً سلفاً طريقاً طويلاً عبر ظروف اجتماعية -فردية أو جماعية- حفزته أن يقدم بإرادته أو لا، ويوفر خدماته بمقابل شراء قوة عمله: الوقت، والطاقة، والتركيز، الخ. ورغم أن الوسائل المادية لإعادة إنتاج قوة- العمل هي الأجور، إلا أنها كما هو معروف، لا تفي بالغرض. منذ أيام المدرسة وما بعد، هذا العامل تم “ تأسيسه” لكي يوافق على عادات اجتماعية معينة التي تضبط تصرفاته: الانضباط، والجدارة، والطاعة، والمسؤولية، وحب العائلة، والاعتراف بكل أشكال السلطة.

هذا التشكيل يفرض الخضوع للأيديولوجيا المسيطرة، بكلمات أخرى، إنها ذات متعرضة بنيوياً للأيديولوجية المسيطرة -أو غير المسيطرة-، مما يعني التعرض لعادات وقيم المجتمع المهيمنة والثانوية.

بالطبع، بنية التذويت تسبق الذات، عندما يولد المرء، الظروف والمؤسسات والأجهزة التي ستقوم بتذويته موجودة سلفاً.

بالضبط، تظهر علاقة خاصة ما بين الايديولوجيا والفرد، يتم تأسيسها من خلال آلية الاستدعاء ( interpellation)، الأداء الذي فيه يتم إخضاع الفرد للأيديولوجيا، تعين له دوراً اجتماعياً وهو يتعرف عليه كدور له. ما هو أكثر، إنه لا يمكن أن يفشل في القبول بهذا الدور.

فعالية قبوله لهذا الدور يضمنه النمط الذي يعمل في تأسيس الذات ككائن اجتماعي، إذا نجح في التماثل مع نفسه، تحتاج الذات إلى -من أجل أن تتأسس – أن تتميز مع “ آخر” الذي هو نظيرها: إنه -الشخص- الذات- يتعرف على نفسه كموجود من خلال وجود الآخر ومن خلال التماثل معه. سيبدو أن الايديولوجيا هنا تعمل كصورة “ الآخر”، الصورة التي تم إدخالها في مطابقة اجتماعياً وعائلياً، مع ما يتوقعه المجتمع/العائلة من كل فرد يأتي إلى هذا العالم، منذ الصغر. الطفل يفترض هذه الصورة المقررة سلفاً كالطريقة الوحيدة التي يمكن أن يكون فيها ذاتاً اجتماعية، هذا ما يضفي فرديته عليه. الفرد/الذات يتطلب أن يتم التعرف عليه كفردية ووحدة، كـ “ شخص ما”، ولكن “ الواحد” (الذات) يجب أن يتم التعرف عليه من خلال “ الآخر”. يبدو أن للمرء حاجة سايكواجتماعية ليتماثل مع “ الآخر” من اجل أن يتعرف على نفسه بأنه موجود.

هكذا في الممارسة، الأفراد يحققون الأدوار والمهمات التي تم تعيينها لهم من خلال الصورة الاجتماعية للتشابه التي قاموا بالتعرف عليها، وعلى أسس فيها سيرورة تأسيسهم كذوات اجتماعية قد بدأت. يتم ضمان إعادة الإنتاج للعلاقات الاجتماعية للإنتاج بهذه الطريقة.

ما قيل إلى حد الآن يفرش الطريق لتقدم نظري مهم، لسببين لأن هذه المقاربة لمسألة تصرف الفرد يتغلغل في اللاشعور ( الذي تركه فرويد بحيادية من الوضوح الايديولوجي) مع السياسة، ولأن يأخذنا إلى ابعد من التفسيرات النفسانية-الفردانية للتاريخ، ولكن ألا يعني هذا افتراض مسبق لنوع من حتمية تُعامل الفرد كنتيجة لبنى كائنة سلفاً وجدت كينونته؟

لهذا السبب إن واحدة من اهتمامات المركزية لنظريتنا هي بطريقة ما اختزال الفجوة النظرية ما بين التحديد والمحدد.

استعمالاً للتشكيلة الكاملة لأدواتك النظرية، هل يمكننا تفكير التحويل للذوات ليس على مستوى الوعي الذاتي وحسب، بل أيضاً الوعي بالواقع والحاجة لتحويله؟

نعم، وإلا لن يكون هناك أي تغيير، والناس لن يأخذوا المواقع التي تقارع وتعارض ما هو قائم، الذي هو المسيطر. لن يكون هناك “ ذوات ثورية”، ولكن الذات هي دائماً ذات ايديولوجية، يمكن لأيديولوجيتها أن تتغير، تنتقل من الايديولوجيا المسيطرة إلى الايديولوجيا الثورية، ولكن ستظل هناك دائماً ايديولوجيا، لأن الايديولوجيا هي ظرف كينونة الأفراد.

لماذا من الضروري أن الايديولوجيات، مجتمعة، تحصل على وحدتها وتوجهاتها من الفلسفة تحت هيمنة مقولات مثل الحقيقة؟

لفهم هذا، من الضروري من وجهة نظر ماركس، إحضار ما سأطلق عليه الشكل السياسي لوجود الايديولوجيات في مجموع الممارسات الاجتماعية، من الضروري إحضار الصراع الطبقي ومفهوم “الأيديولوجيا المهيمنة”.

كما نعرف منذ ماكيافيلي، كي تصمد قوة الطبقة المهيمنة، على هذه الطبقة تحويل قوتها من قوة مبنية على العنف إلى قوة مبنية على الرضا. من خلال الرضا الحر لتوابعها، عليها أن تكسب الامتثال الذي لا يمكن أن يُكسب أو يُحافظ عليه من خلال العنف وحده.

إنها تحافظ على العنف كاحتياط، كملاذ أخير، هذه هي إحدى المهمات التي تم تحقيقها من قبل النسق -النسق المتناقض- للأيديولوجيات.

هل الطبقة التي تستولي على القوة تشكل مباشرة ايديولوجيتها الخاصة، وهل تنجح في فرضها كالايديولوجيا المهيمنة؟

كلا، التجربة التاريخية تبين أن هذا الأمر يأخذ وقتاً – أحياناً وقتاً طويلاً- لتفعل ذلك، علينا فقط ان نذكر حالة البورجوازية، التي احتاجت خمس مئة سنة، منذ القرن الرابع عشر إلى التاسع عشر، لتحقق ذلك. ولكن علينا أن نضع في البال شيئاً آخر هنا، إنها ليست مسألة ابتكار أيديولوجيا مهيمنة وفقاً لمرسوم ما فقط لأن هناك حاجة لها، أو ببساطة تأسيس واحدة في مسيرة الصراع الطبقي. على الايديولوجيا المهيمنة أن تتأسس على أسس ما هو قائم، بدءاً من العناصر وأقاليم الأيديولوجيا القائمة والإرث لماض متشعب ومتناقض، مروراً بالمفاجآت المتمثلة بالحوادث التي تندفع دوماً في العلم والسياسة. في خضم الصراع الطبقي وتناقضاته، إنها مسألة تأسيس ايديولوجيا لتجاوز كل هذه التناقضات، أيديولوجية موحدة حول كل المصالح الأساسية للطبقة المسيطرة لغاية ضمان ما أطلق عليه غرامشي هيمنتها.

لنعد إلى موضوع العلاقة ما بين الفلسفة، والايديولوجيا، والسياسة.

إذا فهمنا واقع الايديولوجيا المهيمنة بهذه الطريقة، يمكننا فهم الوظيفة المميزة للفلسفة، الفلسفة هي ليست عملية مجانية أو نشاط تأملي. كان لدى الفلاسفة الكبار مفاهيم مختلفة جداً حول مهماتهم، كانوا يعلمون أنهم يردون على الأسئلة السياسية العملية الكبرى: كيف يتجه المرء في الفكر والسياسة؟ ما على المرء أن يفعل؟ أي اتجاه عليه أن يأخذه؟ لقد كانوا على علم أن هذه المسائل السياسية هي تاريخية. من الممكن أنهم آمنوا أن هذه المسائل هي أبدية، ولكنهم كانوا يعلمون أن هذه المسائل وضعت من قبل المصالح الضرورية للمجتمع الذي فكروا بالنيابة عنه.

يبدو لي -وهذا ما مكنا ماركس من فهمه- أن من المستحيل فهم المهمة الصارمة للفلسفة إلا إذا، أولاً وقبل أي شيء، وضعناها في علاقة مع السؤال المركزي للهيمنة، لتأسيس الايديولوجيا المسيطرة.

في النهاية المهمة المعينة والمفوضة من قبل الصراع الطبقي هي مساعدة توحيد الايديولوجيات في ايديولوجيا مسيطرة، الوصية على الحقيقة.

وكيف تساعد الفلسفة القيام بهذه المهمة؟

بالتحديد من خلال عرض لتفكير الظروف النظرية لإمكانية حل التناقضات القائمة، وبذلك لتوحيد الممارسات الاجتماعية وأيديولوجيتها، هذا يتضمن العمل المجرد، عمل الفكر المحض، التنظير المحض.

في حمل مهمة التوحيد تشعب الممارسات وايديولوجياتها – التي تعايشها كضرورة داخلية، رغم أن هذه المهمة عينت لها من قبل الخلافات الطبقية والحوادث التاريخية الكبرى – ماذا تعمل الفلسفة؟ إنها تنتج مجموعة كاملة من المقولات التي تخدم للتفكير ووضع مختلف الممارسات الاجتماعية تحت الايديولوجيات، الفلسفة تنتج إشكالية عامة: التي هي طريقة عرض، وبذلك حل أي مشكلة تظهر. في النهاية، الفلسفة تنتج مخططات وأشكال نظرية تخدم كوسيلة لتجاوز التناقض، وكروابط لربط العناصر المختلفة للايديولوجيا، بالإضافة إنها تضمن حقيقة هذا النظام، بطرحه بشكل يقدم كل الضمانات لقول عقلاني.

يتبع كل ذلك أن الفلسفة لا تقف خارج العالم أو خارج الخلافات أو الحوادث التاريخية.

الفلسفة حتى في اكثر أشكالها تجريدية، الموجودة عند أعمال الفلاسفة الكبار، موجودة في مكان ما بجوار الايديولوجيات، كشكل من مختبر نظري حيث فيه المشكلة السياسية الأساسية للهيمنة الايديولوجية -التي هي تأسيس الايديولوجيا المسيطرة- يتم وضعها اختبارياً للاختبار في المجرد، العمل المنجز من قبل أكثر الفلاسفة تجريداً لا يبقى ميتاً: ما تستقبله الفلسفة من قبل الصراع الطبقي كمطلب، تعيده إليه بشكل أنساق فكرية تعمل لاحقاً على الايديولوجيات من أجل توحيدها وتحويلها.

مثلما يمكننا الملاحظة بشكل تجريبي ظروف الوجود تاريخياً المفروضة على الفلسفة، يمكننا كذلك بشكل تجريبي ملاحظة آثار الفلسفة على الايديولوجيات والممارسات الاجتماعية.

هل يمكنك ذكر مثالاً تاريخياً؟

العقلانية الفرنسية في القرن السابع عشر وفلسفة التنوير، حيث نتائج العمل التابع لتفصيل فلسفي انتقل إلى الايديولوجيا والممارسات الاجتماعية، المرحلتان للفلسفة البورجوازية هي لحظتان تأسيسيتان للأيديولوجيا البورجوازية كأيديولوجية مسيطرة. تم تأسيسها كأيديولوجيا مسيطرة في خضم صراع ما، من حيث لعبت الفلسفة دورها كأسمنت نظري من أجل توحيد هذه الايديولوجيا.

نحن نشهد اليوم مسألة أخرى تحت تأثير الإمبريالية الانجلو-ساكسونية، انزياح للسيطرة على قيد التنفيذ، ما الذي يسيطر هو لم يعد تفاهة أيديولوجيات حقوق الانسان، ولا حتى الايديولوجيا الأخلاقية- الثانوية البورجوازية، ولكن -هذا الانتقال بدأ منذ 1850- أيديولوجيا وضعية جديدة، منطقية، رياضية ذات أصل انجلو-ساكسوني، مربوطة بالإحيائية الاجتماعية، والبرغماتية، والسلوكية. من وجهة النظر هذه، الايديولوجيات المسيطرة حقاً في ممارسة واقعية (لا أعني المادية الديالكتيكية) هي شبيهة في الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الامريكية.

في الحالة ( conjuncture) الايديولوجية الراهنة، مهمتنا الأساسية هي تأسيس لب ايديولوجيا مادية حقة وفلسفة صحيحة * ودقيقة من أجل المساعدة في ظهور ايديولوجيا تقدمية.

* يجب التفرقة ما بين “ صحيحة” و” حقيقية”. أساساً سمة “ الحقيقي” يشير إلى علاقة بالنظرية وتثير اهتمام المعرفة العلمية، أما بالنسبة إلى الحقيقة، إنها أسطورة ايديولوجية ودينية وظيفتها ضمان ما هو قائم. أما ما هو “ صحيح” أو “ دقيق” يتعلق بالعلاقة مع الممارسة، الأطروحات التي تؤسس الجسم الفلسفي لا تعترف بأي دليل او برهنة علمية، ولكن تدعو لتبريرات عقلانية من نوع خاص. يمكن إذن الإطلاق عليها “ دقيقة” أو “ صحيحة” (ليس بمعنى عدالة -التي هي مقولة أخلاقية- ولكن بمعنى “ الضبط بشكل جيد”، مقولة عملية تشير إلى تلاؤم الوسيلة بالغاية). يمكننا بذلك القول إن ما هو “صحيح”، لأنه يرجع إلى العمل، أيضاً يرجع إلى التعريف لأي استراتيجية أو خط “ صحيح” أو “ دقيق” في أي معسكر كان. [هذه الملحوظة أضافها آلتوسير. الجملة الاخيرة هي مشوهة : المعنى الأساسي يبدو أن “ الصحة” هي مقولة يتم تطبيقها على كل ممارسة، مهما كان تلوينها السياسي.]

* حوارات أجرتها فيرناندا نافارو مع الفيلسوف لوي آلتوسير خلال الفترة ما بين 1984-1987، نُشر في كتيب واهدت هذا الكتيب إلى مورسيو مالامود: (( إلى موريسيو مالامود، الذي أدين له لقائي التصادفي “ الإبيقوري” مع لوي آلتوسير – الرجل، وحياته، وعمله”)).