إضراب النقل العام: تاريخ الانتصارات والهزائم و-الأفراح-


فاطمة رمضان
2016 / 10 / 2 - 06:52     




لأكثر من شهرين ظل عمال هيئة النقل العام يقدمون مطالبهم للمسؤولين ويدخلون في مفاوضات لا تسفر عن شئ. ,في أول يوم للعام الدراسي، يوم السبت الموافق 24 سبتمبر 2016، ولانتزاع حقوقهم التي يماطل المسئولين في تحقيقها منذ سنوات، قرروا القيام إضراب عن العمل أطلقوا عليه اسم "الفرح".

مطالب العمال كانت عودة تبعية الهيئة لوزارة النقل، إقالة رئيس الإدارة المركزية للشئون الطبية مصطفى عرفان، عقد جمعية عمومية لصندوق التكافل للصرف على آخر مرتب أساسي، صرف علاوة الـ 7% الدورية التي ينص عليها القانون، وكذلك علاوة الـ10% ( وهي بمثابة علاوة غلاء المعيشة)، صرف بدل طبيعة العمل والساعات التكميلية على آخر مرتب أساسي، وكذلك بدل المخاطر، زيادة نسبة عائد الإنتاج للمحصل والسائق من 13% إلى 17%، بالإضافة لزيادة الحافز الإداري من 100% إلى 200%.

ولكن في الليلة السابقة على الإضراب استدعى الأمن الوطني العامل القيادي في جراج إمبابة طارق بحيري، بحجة التناقش معه في مطالب العمال، ومن وقتها لم يظهر البحيري. كما أُلقي القبض في الثانية والنصف من نفس الليلة على أربعة من القياديين في جراجات أخرى وهم: محمد هاشم، جراج فتح بمدينة نصر، ومحمد عبد الخالق، جراج المظلات، وطارق يوسف، جراج أثر النبي، وأيمن عبد التواب. كما ألقي القبض في اليوم التالي على أحمد سوكس من جراج شارع أحمد حلمي.

لم يستطع لا المحامون ولا أهالي العمال معرفة شئ عن جميع هؤلاء، حتى نشرت جرائد ومواقع إلكترونية عديدة خبرًا بنفس العنوان، وهو "إحباط مخطط إخواني لحث العاملين بهيئة النقل العام في القاهرة على الإضراب"، وفيه نفس المحتوى: "أكد مصدر أمني بوزارة الداخلية أن الأجهزة الأمنية أحبطت مخططًا لعناصر إخوانية عاملة بهيئة النقل العام بالقاهرة، لاستقطاب مجموعة من العاملين بالهيئة وتكليفهم بالتحرك بين زملائهم للضغط على رئيس الهيئة من أجل الاستجابة لمطالبهم الفئوية". وقررت النيابة التي عُرض عليها العمال، بدون محامين معهم، حبسهم لـ15 يومًا.

وفي فجر يوم 26 سبتمبر ألقي القبض على السائق السابق بالهيئة صلاح متولي من منزله، وأُطلق سراحه بعدها بيوم.

انتشر الأمن في كل جراجات الهيئة صبيحة يوم الإضراب الذي أُجهض تبعًا لذلك. وبجانب هذا صُرف أجر عشرة أيام لكل عامل بمناسبة انضمام تسعين أوتوبيسًا جديدًا لأسطول الهيئة، وجرت الموافقة على صرف مكافأة شهرية قدرها 20% من الراتب الأساسي، أسوة بعمال النقل العام بالإسكندرية، بحد أدنى 75 جنيه شهريًا. وهو ما أعلن رئيس النقابة المستقلة مجدي حسن على صفحة النقابة أنه جاء نتيجة التفاوض مع الإدارة.

هذا ومن المعلوم أن النقابة المستقلة قد عارضت الإضراب، ودعت العمال لعدم الاستجابة له.

لم يكن هذا أول إضراب لعمال النقل العام، ولا أول مرة تعارض فيها النقابة الإضراب، كما أنها لم تكن المرة الأولى التي يتعرض فيها قيادات العمال سواء للاعتداء أو القبض عليهم أو توجيه تهم التحريض على الإضراب لهم، ولهذا كله رأينا أن نعرض لتاريخ نضال عمال هيئة النقل العام، سواء قبل الثورة أو بعدها، بالإضافة لما تحقق للعمال من مكاسب نتيجة هذه النضالات.

***

هناك نحو الثلاثين عامًا تفصل بين إضراب عمال هيئة النقل العام عام 1976- والذي اضطر رئيس الجمهورية الأسبق أنور السادات للتدخل لفضه- و إضرابهم في عام 2007. وفي الثلاثين عامًا ظل العمال يعانون سياسات الانفتاح وما نتج عنها من تضاعف للأسعار، مع ثبات أجورهم، أو تحركها ببطء السلحفاة، حتى أن أحد عمال الهيئة في إضرابهم عام 2009 حكى أن أجره الشامل بعد أكثر من عشر سنوات من الخدمة لا يتعدى الـ400 جنيهًا شهريًا، وتساءل: "كيف نعيش بها؟"

كان عام 2007 بداية لمرحلة جديدة في حياة عمال هيئة النقل العام، حيث بدأ العمال يعيدون اكتشاف سلاح الإضراب الذي يمكنهم من انتزاع حقوقهم، حتى أنه لم يمر عام إلا وقد أضرب العمال واعتصموا أكثر من مرة لانتزاع حقوقهم المنقوصة. كان من المفروض أن يكون إضراب 2009 بداية مرحلة جديدة أيضًا في اكتشاف حقهم في التنظيم وفي وجود نقابة تدافع عنهم وعن حقوقهم، خاصة مع بزوغ عهد جديد للنقابات، مع تأسيس النقابات المستقلة، وأولها نقابة العاملين بالضرائب العقارية، ولكن الواقع بعد خمس سنوات من تأسيس النقابة المستقلة كان مختلفًا.

كانت لإضرابات عمال هيئة النقل العام نتائج عديدة، سواء على مستوى حقوقهم أو على مستوى توجهات الحكومة تجاه الهيئة. فقد استطاع العمال إيقاف سياسة الخصخصة في الهيئة، وإجبار الحكومة على شراء أوتوبيسات جديدة وإجراء بعض الإصلاحات. أما ما أخفق عمال هيئة النقل العام في تحقيقه، مثلهم في ذلك مثل العمال في الكثير من المواقع، فكان طلبهم الخاص بمحاربة الفساد ومحاسبة الفاسدين، وتحديد الجهة التي تتبعها الهيئة.

بدأ إضراب 2007، الذي لم يجرِ إلا في جراجي نصر وفتح، يوم 2 مايو واستمر ليومين فحسب. وصحيح أن بعض المطالب مثل زيادة بدل الوجبة، وزيادة الإيراد للسائق والمحصل، قد تحققت، إلا أنه جرى الاعتداء على العمال في جراج نصر فجر يوم 3 مايو 2007 أثناء الإضراب، وضُربوا وهُددوا بالحبس.

أما إضراب 18 و19 أغسطس 2009 فكان إضرابًا شاملًا توقفت فيه كل أوتوبيسات الهيئة عن النزول للشوارع. بدأ الإضراب بعد إصدار قانون المرور في عام 2008، والذي بدأ معه التحميل العشوائي للمخالفات، فقد ذكر العمال وقتها أن عدد المخالفات المحررة ضد سائق واحد وصل لـ 17 قضية، حكم عليه فيها بغرامات وصلت لـ 11 ألف جنيه، رغم أن السيارة لم تعمل وقتها في خطوط السير المذكورة في المحاضر، وأن كل المخالفات حُررت بمعرفة مندوب شرطة واحد. وقال أحد المحصِّلين إن أمين الشرطة إذا طولب بدفع تذكرة الأوتوبيس فإنه ينزل ويحرر مخالفة للسائق، رغم عدم ارتكابه لها. رفع العمال في هذا الإضراب أكثر من 16 مطلبًا، وكانت في مقدمتها إزالة المخالفات المرورية عن السائقين.

مقابل فض هذا الإضراب تحققت بعض المطالب للعمال، مثل شراء عربات جديدة وزيادة نسبة التحصيل، وزيادة بدل الوجبة و بدل طبيعة العمل، وجرت الموافقة على دفع بدل مخالفات للسائق.

وكانت محاولة لتنظيم إضراب لم يستمر إلا لساعتين قد سبقت هذا الإضراب، في يوم 25 مايو 200. أجهض الإضراب بواسطة مباحث الهيئة وأمن الدولة، والذي كان ضباطه ينتظرون العمال في الجراجات منذ الخامسة صباحًا، وقُبض على العشرات من السائقين والمحصلين، بتهمة التحريض على الإضراب.

وعن موقف النقابة التابعة آنذاك للاتحاد العام، فقد أدان جبالي محمد جبالي، رئيس النقابة العامة للنقل البري وقتها، ورئيس لجنة القوى العاملة بمجلس النواب الآن، إضراب العمال في الجرائد، وتحدث عن "وجود أيد خفية تقوم بتحريض السائقين على الإضراب، واتهم العمال برفع مطالب مغالى فيها مثل طلبهم استحداث الحصول على بدل عدوى نتيجة تعاملهم مع الجمهور". والغريب في الأمر أن رئيس مجلس الوزراء وافق بالتحديد على هذا المطلب الذي وصفه جبالي بـ"المغالى فيه”.

وبالإضافة لعدم تقديم أي خدمات للعمال، فقد كان موقف النقابة العامة، التابعة لاتحاد عمال مصر، طوال الوقت معاديًا للعمال ولإضراباتهم، سواء في إضراب 2007 أو 2009، فقد قال أحد العمال إن "النقابة ما بتعملناش حاجة، وهي واخدة موقف الإدارة، دا حتى المصايف والرحلات بيدُّوها لقرايبهم. أنا بقالي 21 سنة عمري ما عرفت أطلع مصيف مع النقابة"، وكان هذا الموقف هو ما مهَّد لتأسيس النقابة المستقلة.

***

في مؤتمر بنقابة الصحفيين انعقد يوم 24-3-2011، وبحضور الكثير من الرموز النقابية وممثلين لمنظمة العمل الدولية، أُعلن عن تأسيس النقابة المستقلة لعمال هيئة النقل العام. أودعت أوراق النقابة بوزارة القوى العاملة والهجرة وبدأت النقابة بـ77 عاملًا مؤسسًا لها، وفي عام 2014 بلغ عدد أعضائها، وفقًا لما قاله طارق البحيري وقتها، عشرة آلاف عضوًا (بينما كان عدد أعضاء النقابة التابعة للاتحاد العام لنقابات عمال مصر، هو 17 ألف عضوًا).

كان إضراب سبتمبر 2011 هو أول إضراب يُنظّم بعد تأسيس النقابة المستقلة، وكان المحرك هذه المرة هو الإحساس بالظلم بسبب التفريق بين العمال وموظفي الحكومة فيما يخص تخصيص حافز الإثابة 200% لكل من يتبع قانون 47 لسنة 1976، الذي يتبعه العمال بالفعل. وقتها قالت إدارة الهيئة للعمال إنهم لا يتبعون القانون، ومن وقتها يطالبون بنقل تبعية الهيئة لوزارة النقل- كما يطالبون بمكافأة نهاية الخدمة.

رفضت أغلبية مجلس إدارة النقابة المستقلة هذا الإضراب في الموعد المحدد له بحجة إعطاء فرصة للمفاوضات، ولكن الأقلية من النقابيين لم تستسلم لقرار إدارة النقابة. بل نزلت لقواعد العمال في جراج أو جراجين واستشاروهم وتواصلوا معهم لبدء الإضراب، بغض النظر عن قرار مجلس الإدارة. وكان وزير القوى العاملة أحمد البرعي قد أعلن أنه لا تفاوض مع العمال وهم مضربون، وأن عليهم فض الإضراب ثم المجيء للتفاوض. ثم أعلن، بالاتفاق مع رئيس الاتحاد العام ورئيس الاتحاد المستقل، عن التوصل لاتفاق وانتهاء الإضراب (وقد نزل رئيسا الاتحادين للجراجات وحاولا إقناع العمال بفض الإضراب، على وعد بتنفيذ المطالب).

رفض العمال الاتفاق، خصوصًا وأن رئيسة الهيئة سبق وأن وعدتهم بصرف حافز الإثابة، بل وأعطت لممثلي النقابة المستقلة ما يفيد بموافقتها على صرفه، ولكنها خرجت على قناة تلفزيونية تنفي ذلك. بعد إعلان البرعي، وفي يوم 28 سبتمبر، توجه 800 عاملًا للاعتصام أمام مجلس الوزراء، ما حدا بأمانة مجلس الوزراء لطلب وفد من المعتصمين أسفل المكتب للتفاوض، وكان أحد أعضاء الوفد طارق بحيري، المختفي منذ أيام بعد استدعاء الأمن الوطني له. طولب العمال بفض التظاهر عند مجلس الوزراء، مقابل الوعد بلقاء عصام شرف، رئيس الوزراء آنذاك، في أول أكتوبر. ففض العمال الاعتصام، ولكن الإضراب استمر في الجراجات.

في أول أكتوبر كان عدد العمال المعتصمين عند مجلس الوزراء أربعة ألاف. وقتها صعد وفد العمال للتفاوض مع رئيس الوزراء طبقًا للاتفاق، فأخبرهم المتحدث باسم مجلس الوزراء أن البرعي قال إنه وحده من يحق له التفاوض في الملف، وهو ما رفضه العمال، الذين نزلوا وهتفوا برحيل البرعي.

فض عمال الكثير من الجراجات الإضراب يوم 3 أكتوبر بعد الإعلان عن صرف 48 مليون جنيه على هيئة حافز إجادة للعمال، وليس حافز إثابة، فاستمر الإضراب في جراج إمبابة حتى يوم 9 أكتوبر، وانتقل عدد قليل من العمال للاعتصام في هيئة النقل العام بدلًا من مجلس الوزراء، ما أدى لتحسين شروط صرف الحافز، حيث جرت الموافقة على احتساب أيام الإضراب مدة عمل فعلية تقاضى العمال عنها متوسط الحوافز.

***

بينما يمر بالبلاد الكثير من الأحداث العامة، مثل أحداث ماسبيرو 9 أكتوبر 2011، ثم محمد محمود 18 نوفمبر، ثم مجيء حكومة الجنزوري، كانت المفاوضات بين الحكومة وعمال الهيئة تتواصل.

في 13 مارس 2012 أضرب العمال لمدة خمسة أيام لزيادة نسبة الإيراد وحافز المواظبة، وكذلك للمطالبة بنهاية الخدمة ونقل التبعية. لم يوافق رئيس النقابة المستقلة وقتها عادل الشاذلي على الإضراب، قائلًا إن "حال البلد لا يسمح". وفي محاولة لكسر الإضراب دفعت القوات المسلحة بنحو خمسين أوتوبيسًا تابعًا لجهاز النقل في القوات المسلحة، لمواجهة إضراب عمال النقل العام، وتواجدت عناصر من الشرطة العسكرية على متن هذه الأوتوبيسات لحفظ الأمن.

في يوم 26 مارس 2012، انعقدت جلسة استماع داخل مجلس الشعب لمناقشة مشكلة عمال الهيئة، واتُفق على مكافأة نهاية الخدمة وبدل الوجبة للعمال، ما ترتب عليه فض الإضراب.

لم يتحقق مطلب مكافأة نهاية الخدمة، وانحل مجلس الشعب، وتواصلت المفاوضات مع مجلس الشورى الذي وافق عليه في يوم 12 سبتمبر 2012، مع الإشارة لعدم وجود موارد. وبالتالي بدأ العمال الإضراب يوم 15 سبتمبر في 3 جراجات، فحوصر أحدها، وهو جراج إمبابة، بقوات الأمن، وقُبض على طارق بحيري بتهمة التحريض على الإضراب، قبل خروجه في نفس يوم استدعاء ست قيادات عمالية في جراج آخر من المضربين للنيابة، وذلك بسبب بلاغات قدمتها ضدهم إدارة الهيئة على خلفية الإضراب.

انفض الإضراب بعد أن جرت الموافقة على صرف العشرة أيام للجراجات المضربة، أسوة بما صُرف لمن لم يضرب من قبل، واحتُسبت أيام الإضراب أيام عمل فعلي، واتُفق على تحسين شروط صرف بدل الوجبة.

إن مسيرة نضال عمال النقل العام هي من العلامات المضيئة في مسار الثورة المصرية، حيث نجح العمال بالفعل في انتزاع بعض حقوقهم عبر الإضراب والاعتصام ثم التفاوض. وفي مقابلهم، حاولت السلطة الحاكمة، وعلى رأسها الأجهزة الأمنية، الاعتداء عليهم والقبض على عدد من قياداتهم وتوجيه اتهامات لآخرين، ولكنها لم تنجح سابقًا في كسر إرادتهم.

الآن يبدأ النظام الحاكم في نهج جديد لقمع العمال، عبر الاعتقال ثم الإخفاء، ليخرج بعدها ويعلن عن مؤامرة يشترك فيها هؤلاء العمال، وهو النهج المستَخدم منذ فترة مع المعارضين السياسيين.

فهل ينجح هذه المرة في إسكات عمال هيئة النقل العام، وإلى متى؟