حديث إلى العمّال(1)


شوكت جميل
2016 / 5 / 2 - 01:41     

حديثٌ بعضه مكرور، و بعضه ليس كذلك...و ما زلت ألح في الحديث ؛ لا بغية لي سوى مسامع و عقول العمّال؛ فلن يغير التأريخ من الواقع الممض للطبقة العاملة شيئاً ما لم تغير من نفسها؛لا .. لن يغير التأريخ شيئاً ما لم تغير الصفوة القائدة من عقلها و وسائل كفاحها.

أولاً: النفعية هي العقيدة الوحيدة و الإله الواحد للرأسمالية.

ثانياً:حقوق الإنسان العولمي في ظلال الرأسمالية و مفهوم الدولة.

ثالثا: المسألة القومية و البروليتاريا الأممية.

رابعا: الحتمية القدرية في النظرية الماركسية.
..................................................................
أولاً:
أتذكر شعراً لي في الليبرالية الجديدة مقابلةً مع الحاكمية الدينية:

ومضهْ
لمن يفقهْ
أو لا يفقهْ

: إن تستبدل بالأحدِ القهارِ الأحدَ الدولارْ
، أو إن تبدل شرعَ الأديانِ قوانينَ السوقْ

سيانْ !
؛سيظل الإنسانْ
عبداً منسحقاً لا يرفعُ هامةَ تحتَ النيرينْ .
.............
فإذا أذبنا الشعر لكلام العادة قلنا:

بداءةً، لا يمكن للمراقب أن يغض بصره أو يتجاهل ، إلا عامداً، أن الرأسمالية كائن كالقطط ذو سبعة أرواح، فمنذ أن تنبأ ماركس بأفولها و سقوطها،بعد كشفه و تحليله للصراع الطبقي،و عوامل الفناء الذاتي التي تحمله الرأسمالية في أحشائها،ما فتئت_أي الرأسمالية_ تغير جلدها مرة تلو المرة،و يمر العقد فالعقد فعقود،و هي حية ترزق يشنف أسماعنا مواؤها حيناً،و زئيرها حيناً و قد استحالت أسداً...حتى أياس الناس من هلاكها وموتها،فذهبوا إلى أنها أبدية،و منهم من كتب نهاية التاريخ،و أنها قدرنا"المحتوم"الذي لا مندوحة لنا عنه.

و الحق،إن يكن شيء قد أفاد الرأسمالية و أطال عمرها أعماراً،فليس من شيء أفادها أكثر من وعيها الكامل بالتشخيص الماركسي لشيخوختها و عللها و ضعفاتها و خطاياها،فأخذت نفسها بالمرونة و العلاج و سرقة أعضاء الآخرين!و تأجيل الصدام و تبريد الصراع الطبقي ما وجدت إلى ذلك سبيلاً،و دفعه خارج مركزها إلى أطرافها،و من ثم تنكرت بعد أن كانت دولاً سماها الماركسيون "القدامى"!الدول الإمبريالية في شكلٍ آخر هو شركات عابرة للقارات تمتلك زمام الاقتصاد العالمي،أما الفائدة الثانية التي حصلتها الرأسمالية من الفكر الماركسي،فهو حاجتها إلى فلسفة تقوم على العمل كما الحال في الماركسية،و صبغ فكرها المثالي "بالصبغة العملية"،و قد تعلمت من التجربة الماركسية كفلسفة تقوم على العمل و التنظيم،و ما حققته من بعض الازدهار في النصف الأول من القرن الماضي...و قد وجدت ضالتها في "عقيدة البرجماتزم".

و لعل أقوى ظهور للفلسفة البرجماتية كان بالولايات المتحدة الأمريكية إبان حقبة الغزو الاستعماري،و امتدت ألسنتها امتداد النار في الهشيم في أوروبا و لا سيما مع الحرب العالمية الثانية،و من اليسير تصنيف الفلسفة البرجماتية كلون فج من ألوان الفلسفات اللا أدرية،فهي ترى أن المصلحة المباشرة_أو قل الفائدة_هي أساس الحقيقة،و ليست الحقيقة هي مطابقة الواقع،و لا هي انعكاس الواقع كما ترى الماركسية،إنما هي الفائدة..الفائدة و حسب؛و لك أن تتساءل: فائدة من؟زيد أم عبيد؟فائدة البورجوازية أم البروليتاريا؟ فائدة الرأسمالي أم الأجير؟.. لا ترهق نفسك كثيراً،فالبرجماتزم لا تحفل البتة بالحقيقة،ولا بحقيقة الصراع الطبقي؛فهي تعتقد أن الحقيقة ذاتية و ليست موضوعية،تقول فلسفة البرجماتزم"(أن الاستغلال"أو الدين..أو..."موجود،فهو مفيد لبعض الناس،إذن هو حقيقي!"فهي تعلق الحقيقة بمنافع الطبقة المسيطرة و المتنفذة،و هي على كل حال تتغنى بأمجاد المكيافيلية.

و هكذا بررت مصلحة الدولة(كما يرى مكارثي)اغتيال آل روزنبرج،كما يصبح في إمكان البرجماتي الجمع بين كل المتناقضات في سلةٍ واحدة طالما كان ذلك في مصلحة رأس المال،و هذا يفضي بنا إلى عبادة"الفائدة القصوى"...أي معادل موضوعي لعبادة "الله"في الفلسفة المثالية الدينية!.

تقول الفلسفة االبرجماتية إنها فلسفة العمل،أقصد العمل"الناجح"و لا تحفل بالمبادئ،و شعارها الغاية تبرر الوسيلة،لا تحفل "بحقيقة"أن التوحش الرأسمالي سبب كل البلايا،و لا ترى بأساً في دمار نصف الكرة الأرضية و بؤس سكانها،في سبيل أن يزدهر النصف الآخر،و رفاهية شعبه الحقيق بها و لو على حساب دماء الآخرين.

أما فيما يتعلق بالعلم فإن البرجماتية لا تعنى كثيراً بالنظرية أو الفكر أو التنبؤ؛و إنما تدعو إلى القيام "بالتجارب"مهما كانت طبيعتها و جسامة مآلها،حتى و لو كان موضوعها شعوب الأمم الأخرى كفئران تجارب!،فإن نجحت كان به و إلا فلا..و ما الفوضى الخلاقة سوى تجلي قح لها ؛و بطبيعة الحال،هي لا تمانع ،مثلاً،في استخدام المشاريع الدينية الرجعية و تمكينها من حكم منطقة كمنطقتنا و إن أودت بشعوبها إلى الهلاك،و إن ألقت بها إلى ما قبل القرون الوسطى،و لا تمانع من استخدام الإرهاب الديني و تشجيعه لتحقيق مصالح آنية،كما فعلت مع تنظيم القاعدة لضرب المد السوفيتي،ثم إلقاء بلد كأفغانستان بشراً و شجراً و حجراً لقمة سائغة لتمضغها الوحوش على مهلٍ!،لا تمانع البرجماتية في تمزيق بلد كالعراق في سبيل الحصول على النفط بثمن أرخص،ثم هي لا ترى بأساً ،بعدها، في حمل راية حقوق الإنسان و الديمقراطية إلى بعض الدول إذا كان ذلك في مصلحتها،و هذا لا يمنعها من دعم أنظمة حكم عسكرية في ناحية أخرى ،إنها قد تشن حرباً في يوغوسلافيا من أجل حقوق الإنسان لمواطني البوسنة و الهرسك،و لكنها قد تغض نظرها عن حالات أكثر وحشية كما يحدث مع أقليات الشرق الأوسط...و لا تسأل بعدها عن ضمير أو حقيقة؛فالبرجماتية لا تعرف غير الفائدة،هذه هي الحقيقة المطلقة لديها.

و على أية حالٍ،و رغم ما يقوله البعض أن الرأسمالية شبعت موتاً حتى أنتنتْ،يبدو أن ثم شيئاً تحقق مما تنبأ به ماركس،و هو أن الرأسمالية و صلت إلى مرحلة التوحش و البربرية،و إلا فما تكون البربرية إذن؟

و عوداً على بدء،نسأل هل سيمضى الحال كما هو عليه قدراً محتوماً،و قد كتبت علينا الرأسمالية...و الحق أثق في إجابة "ديكارت"على هذا السؤال،الذي يرى أن: ( التطبيق العملي يقضي على الفكرة الخاطئة و المنهج الخاطئ)...أما من يجعل الكذب"المفيد"مساويا للحقيقة فإنما هذا سيرة الانتهازي..و ستسقط البرجماتية،و الرأسمالية،و تفشلان....و حينها لن تكون الفكرة خاطئة لأنها فشلت،بل هي فشلت،لأنها خاطئة موضوعياً..و هذا نقيض المباشر للبرجماتية التي أجملها أحد أئمتها"المفكر الأمريكي تشارلس بيرس": (لمعرفة مصداقية أية فكرة،حريٌ بنا أن نفحص أولاً نتائجها العملية)،و الذي أفضى به في النهاية إلى تعريف الحقيقة بأنها: (الفائدة الآنية لتلك الفكرة)!. و لعله يجدر بنا الإشارة في هذا المقام إلى أن البرجماتزم هي الإسهام الأمريكي اليتيم في حقل الفلسفة!

و أما النظرية الماركسية فهي شيء آخر،فليست الفكرة صحيحة و حقيقية لأنها نافعة و مفيدة،بل هي على العكس نافعة و مفيدة لأنها صحيحة و حقيقية،و لأنها كشفت عن حقيقة الصراع الطبقي و من ثم أمكن معرفة العلاج الناجع للمعضلة...و العلاج لا يكون سوى بزوال الرأسمالية،لا ترقيع وجهها بدماء الأبرياء،أو إدعاء أنها ماتت و انتفخت،"كحكاية الثعلب المنتفخ"ليخطف السمكة من الصياد الكادح!
..........................................................................................

ثانيا: حقوق الإنسان العولمي في ظلال الرأسمالية و مفهوم الدولة.
دعاوى حقوق الإنسان في ظلال الرأسمالية هي ليست أكثر من إغراء السمكة بالطعم ،أتذكر شعراً لي بعنوان"ظهر التمساح":

هذا الصباحْ
عصفورٌ مرْهقْ
في الجوّ يحلّقْ
عاندتهُ الريحْ
فأوهتِ الجناحْ
قالَ: ما أجمل الجزيرهْ
حميمةٌ صغيرهْ
و هبطَ ليستريحْ
للمرةِ الأخيرهْ
....
فإن ترجمناه لكلام العادة، قلنا:
كن التقدم كثيراً في طريق حقوق الإنسان،و محاولة فهمه فهماً أكثر عمقاً،إلا إذا اصطدمنا بمفهوم الدولة في كل ثنيةٍ من ثنياته،فإذا أمعنا النظر،وجدنا أن كليهما قد ارتبط بالآخر ارتباطاً جذرياً و في علاقة جدلية لا فكاكاً منها،و حينها يبات من العسير علينا،الحديث عن أحدهما منفرداً و في معزلٍ عن الآخر.

و حقيقة الأمر،أن الدولة لم تظهر في تاريخنا الإنساني إلا مع شروع الإنسان في استغلال أخيه الإنسان،و نمى و تطور و تعقد مفهوم الدولة،بقدر إيغال الإنسان في سلب الإنسان حقوقه ،و ليس من قبيل الصدفة إذن،أن لا تكون ثمة حاجة للدولة في المجتمع البدائي الأول أو حياة الشركة الأولى،فحينها لم يكن مفهوم الملكية الخاصة قد عرف سبيله إلى الإنسان أو عرف الإنسان سبيله إليه،إنما كانت علاقات الإنتاج قائمة على الملكية المشتركة،و لئن كانت هناك التقاليد و العادات التي تحترم سلطة الرئيس و التي انتقلت من الأم في هذه المجتمعات البدائية إلى الأب فيما بعد،غير أنه لم يوجد قط طائفة من الناس تفرغوا لحكم الآخرين لردهم قسراً إلى الحدود التي يرونها،بالاستعانة بالقوة المسلحة التي نعهدها في الدولة....بيد أنه لمّا بزغت علاقات جديدة للإنتاج قائمة على الملكية الخاصة،و سلب الآخرين حقوقهم،بات لزاماً أن تظهر الدولة إلى الوجود كقوة مسيطرة تخضع إرادة المستغَلين للمستغِلين.

فإذا عدنا للوراء بعض الشيء و إلى دولة الرق مثلاً، يظهر جلياً أن العبيد في مثل هذا المجتمع لم يكن ليرضوا أن يساقوا طوعاً إلى أسواق النخاسة،فلا مفر إذن،من استخدام القوة المسلحة للطبقة الأسياد المسيطرة من ناحية،و حرمان العبيد من حوزة السلاح من ناحية أخرى،فتعدم الطبقات المستغَلة من وسائل النضال، و في هذا يكمن مفهوم الدولة،و لبابه كما هو إلى يومنا هذا،و هو إن بدا بصورة و آلياتٍ أكثر نعومة الآن، فليس بأقل و حشية عمّا كان!.

و إيجازاً نقول،أولاً:الدولة لم توجد دائماً،ثانياً:لا تظهر الدولة سوى في المجتمع الطبقي،من مستغَلين و مستغِلين،فحسب رأي ماركس،لم تكن الدولة _و لن تكون:_(سوى منظمة للسيطرة الطبقية،و لاضطهاد طبقة على يد طبقة أخرى)

و أحسب أنه بات واضحاً الآن، أن مفهوم الدولة على أهميةٍ،هذا قدرها في مقاربتنا و محاولتنا لفهم قضية حقوق الإنسان،لذا وجب علينا إلقاء المزيد من الضوء عليها،كمفهومٍ فلسفي و كنهها من وجهة نظر "الجدل الهيغلي "إزاء وجهة نظر "الجدل الماركسي"،و تجليات مفهوم الدولة في مستقبل حقوق الإنسان _من الحرية و الأمن و المساواة..ألخ_في الناحيتين.

و يمكننا الآن أن نستكمل حديثنا عن العلاقة التفاعلية بين حقوق الإنسان و مؤسسة الدولة من منظاري المنهج الجدلي لهيغل و المنهج الجدلي لماركس،و نظرة كلٍ منهما إلى مفهوم الدولة،ومن ثم انعكاس هذه النظرة على رؤيتهما و تقييمها لحقوق الإنسان.
أما جدل "هيغل" فيرى أن التاريخ والواقع المادي و الدولة لهي تجليات للوعي و الحقيقة المطلقة،و ليس واقعنا الموضوعي المتغير أكثر من صورة من صور تحقق العقل"أو روح العالم" في سيرورته"ليعي ذاته،أو أن التاريخ الإنساني هو تجلٍ لما يسميه بـ "الفكرة الأزلية"،فيما يقلب جدل ماركس هذا الهرم الهيغلي رأساً على عقب،أو عقباً على رأس،فيجعل (جدلية هيغل ترفع رأسها فتقف على رجليها،بعد أن كانت تقف على رأسها)كما يقول انجلز..أو بعبارة ماركس نفسه:(...إذْ يعتقد هيغل أن حركة الفكر التي يجسده باسم الفكرة هي مبدعة "demiurge"الواقع،الذي ليس سوى الصورة الظاهرية للفكرة.أما أنا فاعتقد،على العكس،أن حركة الفكر ليست سوى انعكاس حركة الواقع،و قد انتقلت إلى ذهن الإنسان)(1)..لذا ترى الماركسية أن الحياة الروحية و الأفكار و المؤسسات ما هي إلا أبنيةً فوقية"Super structure"و انعكاسٍ للواقع المادي و الاجتماعي الذي يلتحم معه الإنسان.

و لمّا كانت "الدولة" من مفردات واقعنا الموضوعي،كان من الطبيعي أن تختلف وجهتا النظر الهيغلية و الماركسية في فهمها،و في فهم حقوق الإنسان المرتبطة بها.فبينما يرأى هيغل"الدولة"تجسيداً للحق المطلق لروح العالم،أو"صورة حقيقة العقل"،يراها ماركس تجسيداً و ثمرةً للمجتمع في مرحلة معينه من النمو،كانعكاسٍ لظروف اجتماعية و اقتصادية مادية،قائمة بالأصل على علاقات الإنتاج،أو منظمة للسيطرة الطبقية_كما قدمنا_و يقول لينين:(الدولة هي ثمرة التعارضات الطبقية المتناحرة و مظهرها)........فماذا عن حقوق الإنسان في الناحيتين؟

أما هيغل وقد اعتبر أن الدولة هي تعبير عن إرادة المطلق ذاته،فقد نظر إلى علاقة الفرد بالدولة في هذا الإطار كعلاقة بين الإنسان و وكيل المطلق_أي الدولة_،إذْ يقول هيغل:(ليس قوام الدولة على وثيقة أو شرط يربط الفرد بالكل،و الكل بالفرد،و لا بصورة تبادلية،يربط الفرد بالحكومة،كما أن الإرادة الكلية ليست إرادة آحاد الناس(أو الفرد)،إنها الإرادة الشاملة بشكل مطلق،و هي التي تفرض نفسها على الأفراد في ذاتها و من أجل ذاتها)....و بطبيعة الحال فإن النظر إلى الدولة كتجسيدٍ للعقل الكلي،أفضى إلى النظر إلى الدولة كوصيةٍ على الأفراد القاصرين إزائها جميعاً،و ينبغي عليهم و الحال كذلك ،أن ينظروا إلى ما يرونه من حرياتٍ لأنفسهم وما يقدرونه من حقوقٍ كضربٍ من النزق و العشوائية،و ليس لهم أن يتمتعوا بأية حقوق غير تلك التي تسمح لهم بها الدولة.و الحق، لا ترى هذه النظرة الهيغلية الإنسان إلا" باعتباره مواطناً في الدولة"،و ليس ثمة قيود أو استحقاقات مفروضة عليها من أي ناحية كانت ،إزاء مواطنيها،و إيجازاً :لا وجود لمفهوم حقوق الإنسان_ قائماً بذاته _في هذه الرؤية،إنما روح العالم المتجلية في الدولة وحدها التي تتمتع بحق لا نهائي:إنها الحق ذاته ،كما يقول هيغل.
و على الرغم من كل ما سبق،لا يحق لنا بأي حالٍ من الأحوال أن نرمي "هيغل"باتخاذه موقفاً سلبياً تجاه حقوق الإنسان أو وضع نفسه موضع العداوة معها؛كل ما في الأمر أنه لا يراها قائمةً بذاتها في المطلق،إنما هي مشدودة بوثاق،لا مهرب منه إلى السيلان أو المسار التاريخي الواقعي الذي يحقق فيه "الحق" ذاته بإرادته،و ليس لإنسانٍ أن يطلب من الحقوق غير ما تسمح به الدولة في تطورها،و قد اهتدي إلى هذه الفكرة بدراسته المارثونية للتاريخ التي عكف عليها ،فكان الحر الوحيد هو الديكتاتور المستبد في النظم الشرقية القديمة_و ربما الحديثة!_ثم شملت الحرية ما كان يطلق عليه"المواطنين"في النظم اليونانية و الرومانية،و لم يكن لقب مواطن آنذاك يطلق سوى على فئة محدودة من الأفراد،و درس "هيغل"ما كان من ثورة الإصلاح الديني،و من بعدها الثورة الفرنسية و التي كان غايتها جعل جميع الأفراد أحراراً متساويين،فخلص أن مسار التاريخ يسير إلى الديمقراطية و الحرية الكاملة،بيد أنه لم يردها إلى أسبابها الموضوعية،و بدا الأمر ليس أكثر من "رغبةٍ"للحق المطلق لروح العالم"في التجلي و وعي ذاته..أو على الأقل هذا ما فهمته،و لأصدقكم القول،لطالما وجدت العسر كل العسر في فهم "هيغل"!، و السبب ببساطة أننا ليس في مقدورنا أن القبض بإحكام عى الأقل عقلياً على مفاهيم مثل: الروح..الحق..الوعي الكلي..!

و إن كان لنا أن نقول شيئاً على هذه الرؤية،قلنا أن هذه الرؤية برغم جدليتها الرائعة،و التي أنزلت الميتافيزيقا عن عرشها السامي إلى عملية تاريخية مادية،يتجلي فيها الوعي الكلي باستمرار في التأريخ الإنساني المادي،إلا إنها لم تبرح أن تكون جدليةً روحيةً صرفة،و إن شئت الصدق،فللمعترض على هيغل كل الحق أن يسجل اعتراضه:لست أعلم على وجه الدقة ماذا يقصد بروح العالم!و ماذا يقصد بالفكرة الأزلية!و لماذا تتجلى في الواقع المادي لتعي نفسها؟!..ثم أنه بعد ذلك كله،لا تمدنا بشيء من المعرفة أو القوانين الموضوعية التي تحكم تطور مثل هذه الدولة..فإذا نظرنا للمسألة نظرة العلم،و الذي لا يستجلب فرضيات من خارج واقعه المادي لتفسير أية ظاهرة،أو كما يعرف انجلز النظرة المادية الماركسية:(تعني النظرة المادية للعالم النظرة إلى الطبيعة كما هي،بدون أي إضافة خارجية)،أقول لو نظرنا للمسألة نظرة العلم المادية،لبدت لنا هذه الرؤية الهيغلية رؤية صوفيةً غامضةً كل الغموض،و مجمل القول أن هذه الرؤية لا تعزو الدولةَ و حقوق الإنسان إلى الواقع الموضوعي و تفاعلاته و إنما ترده إلى الغيب.
فإذا رغبنا في إجابة "أكثر علمية "وجدناها في الجدل المادي الماركسي،فالنزعة المادية التاريخية هي الأكثر قدرة على الإجابة على مسألة أصل الدولة و علل ظهورها،و ردها إلى الواقع الموضوعي الذي نعيشه،دونما الحاجة إلى فرضيات خارج عالمنا المادي_كالوعي الكلي أو روح العالم_و هذا هو سبيل وروح العلم....و سنتكلم المرة القادمة عن حقوق الإنسان و الدولة في ضوء الجدل المادي لماركس.
بعد إن عرضنا،رؤية هيغل لمفهوم الدولة،و تقييمه لحقوق الإنسان،و قد ذهب فيها،إلى أن الدولة تجلٍ للحق المطلق لروح العالم،و ليس للفرد أن يطمح في حقوقٍ أكثر مما تمنحه إياها؛لأنها الحق ذاته؛نعرض ،في المقابل،الرؤية الماركسية،و التي ترى أن الدولة تجلٍ و انعكاساً لظروف المجتمع المادية،أو بالأدق أساسه الاقتصادي،و تلخص في عبارةٍ :أنه طالما كان المجتمع طبقياً؛فلا مناصٍ من أن تكون الدولة طبقية،و تباعاً تبات حقوق الإنسان طبقيةً،و ليس للفرد أن يأمل من الحقوق أكثر ما يحدده الأساس الاقتصادي و الحالة الطبقية التي يكابدها..و بَيِن أن الرؤيتين قد قيدتا حقوق الإنسان بقيدٍ،أما الأول فبالغيب،و أما الثاني فبالاقتصاد،و إذا كان لا سبيلاً لنا على فهم الغيب و تغييره!،فلنا سبيلٌ لفهم الأساس الإقتصادي و من ثم تغييره.

إذْ تفسر لنا المادية التاريخية مسألة أصل الدولة،و كيف أطلت بأظلافهما من رحم التاريخ عندما بدأت طبقةً باستغلال طبقةٍ أخرى،و إذا لم تعد التقاليد و احترامها كافياً للمحافظة على نظام العمل،فلم يكن من بد،من الاستعاضة عن قوة العادة و التقاليد بقوة تمارس القمع،و بات لزاماً من احتكار طبقةٍ من الناس للأسلحة ،و من ثم استخدامها لصالحها،فكانت الصورة البدائية للدولة،و بادٍ كونها(جهازاً وضِع لإخضاع إرادة الآخرين للقوة)...و تطور هذا الجهاز،بتقدم الزمن،و تشعبت مكوناته و تعقدت أجزاؤه فشمل:الشرطة و الجيش الدائم،و السجون و المحاكم،و لم يكن القمع البدني هذا منتهى الأوجاع!فبرزت أجهزة للقمع المعنوي و الفكري الموجهة:كالتعليم،و الصحافة....إلخ

و لنا أن نسأل دولة من هي إذن؟...و حقوق من تكون؟..فيجيبنا انجلز:(..لما ولدت الدولة وسط نزاع الطبقات،فهي دولة الطبقة الأقوى،تلك التي تسيطر من الناحية الاقتصادية والتي تصبح بفضل هذه السيطرة الاقتصادية الطبقة المسيطرة سياسياً،فتحصل بذلك على وسائل جديدة لكبت الطبقة المضطهدة و استغلالها.
و من البدهي،أن تبحث مثل تلك الدولة عن مصالحها الطبقية،و مصالحها الطبقية وحدها،أو كما أوجزها ماركس:"الدولة هي منظمة للسيطرة الطبقية"،و تصبح الحقوق هي حقوق الطبقة المسيطرة،أقليةٌ كانت أم أغلبية،فإذا نظرنا إلى الأنظمة الرأسمالية،و التي تمتلك فيها صفوة الصفوة ما لا يملكه جل الشعب،فليس بالإمكان إلا أن تعبر هذه الدولة عن مصالح هذه الأقلية،و يغدو الحديث عن حقوق الإنسان فارغاً من كل محتوى،و مزيفاً مهما كانت الدعاوى؛فهبنا نتحدث عن "حرية التملك"كحقٍ من حقوق الإنسان،فإنما نتحدث عن "حرية سلب و نهب" الطبقات المستغَلة،و هبنا نتحدث عن"الحق في ضمان الأمن" كحقٍ من حقوق الإنسان،فماذا يعني هذا بحق الشيطان لعاملٍ لا يجد قوت يومه،و يموت جوعاً؟!و إنما نتحدث ،في الحقيقة ،عن حماية و تأمين "الناهبين و المستغِلين"،و هبنا نتحدث عن "المساواة و الحق في التعليم الجيد"،فماذا تعني المساواة هذه ،لابن العامل السابق الذي يسكن الكوخ،و لابن الرأسمالي الذي يسكن القصر،و كيف لمن لا يجد قوت يومه أن يرسل ابنه إلى مدرسة سيئة ناهيك أن تكون جيدة،و كيف لنا أن ندعي أقل قدر من العدالة الاجتماعية،بينما لا يحظى الأفراد بفرص متساوية لنمو شخصياتهم؟!...و قس على ذلك ما شئت....

و نهايةً نقولُ،إذا كانت الحالة الطبقية هي التي تشكل حقوق الإنسان،فيجب تشكيل هذه الحالة الطبقية بطريقة إنسانية!..و إلا فحديثنا عن حقوق الإنسان محض سفسطة!.
.....................................
يتبع لثالثا و رابعاً...