مدخل لحل مشكلةالإسكان فى الريف المصرى والمناطق الزراعية المستصلحة حديثا


بشير صقر
2013 / 7 / 20 - 02:23     

يشكل ضيق الرقعة الزراعية وانخفاض معدل استصلاح الأراضى مشكلة من مشاكل الريف الأساسية فشلت كل سياسات الدولة طيلة العقود الستة المنصرمة فى حلها أو حتى منع تحولها إلى حالة بالغة التعقيد.
ونظرا لازدياد السكان فى الريف بمعدل يفوق معدل استصلاح الأراضى.. ويُفشل جملة السياسات العامة والزراعية عن استيعاب تلك الأجيال الجديدة من الريفيين فى مناطق التوسع العمرانى بالمدن الجديدة (للعمل والسكن).
ولأن معدل إفقار الفلاحين يتصاعد بسرعة مخيفة بسبب نفس السياسات (العامة والزراعية) يضاعفه شمول البطالة لأعداد متزايدة من الريفيين (فلاحين وغير فلاحين)؛ فضلا عن ارتفاع معدل التضخم الذى يرفع تكاليف المعيشة يالتالى ومنها تكاليف البناء؛ فقد حال ذلك دون إبقاء مشكلة الإسكان الريفى مجرد مشكلة عادية يمكن حلها برفع ميزانية الإسكان الشعبى بل حولها إلى مرض متوطن يؤرق كل أنظمة الحكم المتتابعة وكل الأجيال الجديدة فى الريف .
ولأن السياسات العامة تهمل الريف فى الوجه البحرى والصعيد بشكل دائم واعتادت على "الحلول" السهلة التى تثمر مشاكل أضخم بمرور الوقت.. فقد حال ذلك دون التعامل مع مشكلة أو قضية الإسكان الريفى بشكل علمى وفاقم من جانب آخر قضية العدوان على الرقعة الزراعية (القديمة)؛ والقضيتان تبدوان متعارضتين : فالعدوان على الرقعة الزراعية يمكن أن " يحل" مؤقتا والى حين مشكلة الإسكان الريفى.. لكنه وعلى المدى المتوسط يخلق مشكلة أشد تتمثل فى تبديد الرقعة الزراعية وعلى المستوى الطويل القضاء عليها.. فتصير القرى مناطق سكنية بلا أرض زراعية وسكانا كثير منهم بلا عمل وهكذا؛ خصوصا وأن ماتم استصلاحه من أراضى جديدة فى الأربعين عاما الأخيرة ثم منحه لكبار المستثمرين والأجانب ولم يستخدم :
1- لا فى حل معضلة العمل لمن تم طردهم من مستأجرى الأراضى الزراعية بقانون الايجارات الجديدة (96/1992) أوجرى السطو على أراضيهم بفعل انحياز السياسة العامة للأغنياء.. والسعى لتركز الملكية لكبار الملاك.
2- ولا فى حل مشكلة الإسكان للأجيال الريفية الجديدة لسبب بسيط هو أن مشكلة إسكان العاطلين لايمكن حلها بعيدا عن حل مشكلة تحولهم إلى عاملين منتجين.
ولقضية الإسكان فى الريف وجوه عدة تتباين استنادا الى نوع الأراضى ( قديمة- مستصلحة حديثة ) وإلى وزن القوى الاجتماعية التى تحوز تلك الأراضى، واستنادا إلى المناطق التى تتواجد بها تلك الأراضى (الدلتا- الوادى) .
هذا ومنذ عهد السادات تحولت السياسة العامة للدولة لصالح أصحاب الثروة والمتنفذين وأوغلت فى تجاهل الفقراء ثم فى العداء لهم حتى أفرزت استقطابا اجتماعيا حادا بمرور الوقت ظهرت آثاره فى ازدياد معدلات الفقر بإصدار تشريعات ترفع تكلفة الزراعة وتدهور عوائد الفلاحين منها إلى حدود غير مسبوقة وتجردهم من وسيلة إنتاجهم الوحيدة وهى الأرض ؛ فضلا عن خلق مناخ قاتم وكئيب متمثل فى انتشار الفساد والاستبداد وانعدام الأمن والأمل فى حياة كريمة.
وقد انعكست تلك السياسات على كل أنشطة المجتمع ومنها الإنتاج الزراعى وفاقمت مشكلة الإسكان الريفى، وأبّدت العراقيل الموضوعية أمام الدولة فى حلها، وشلت يد سكان الريف- خصوصا الفلاحين- عن ابتكار حلول ذاتية لها، وأصبح التحايل على القانون وخرقه هما الأسلوب الذى يلجأ له الفلاحون من ناحية بدفع غرامات البناء على الأرض الزراعية؛ وتستخدمه الدولة من ناحية أخرى عند كل أزمة انتخابية تتعرض لها بفتح كوردون البناء فى القرى ( أى المساحة المسموح فيها بالبناء) لبعض الوقت.
وتجلت تلك السياسات عند التنفيذ فى الآتى :
أ- لجوء الدولة وأجهزتها (هيئة الأوقاف- هيئة الأصلاح الزراعى- وزارة الإدارة المحلية) لخرق القانون وذلك بإعادة بيع أراضى الكتلة السكنية أوتحصيل إيجارلها من سكان الريف مع رفع إيجارها بشكل مبالغ فيه كما جرى فى:
أ- محافظتى الاسماعيلية والشرقية : فى المنطقة الواقعة بين التل الكيبر (إسماعيلية) والعباسة (شرقية) وذلك بالشروع فى تقاضى إيجارات لأراضى الكتلة السكنية التى سبق للفلاحين شراؤها وتسديد ثمنها ضمن ثمن الأرض التى وزعتها عليهم هيئة الأصلاح الزراعى بدءا من الربع الثالث من القرن الماضى.
ب- ومحافظة الدقهلية: فى عديد من قرى مركز المنصورة ومركز طلخا ومركز أجا بقيام هيئة الأوقاف ببيع أراضى الكتلة السكنية لبعض الفلاحين ورفع إيجارتها لبعض آخر وذلك رغم أن تلك الأراضى تعتبر فى نظر القانون ملحقات للأرض الزراعية التى وزعت على الفلاحين فى أوقات سابقة (أى لا يمكن زراعة الأرض بدونها) وسواء كان توزيع الأرض بنظام التمليك المقسّط أو بنظام الإيجار فإن أراضى السكن تعتبر من ( منافع ) جزءا مكملا للأرض الزراعية.
ج- وفى محافظة الاسكندرية : بمنطقة المعمورة والعزب التابعة لها وتبلغ 22 عزبة.. حيث شرعت محافظة الاسكندرية وهيئة الأوقاف وهيئة الإصلاح الزراعى فى إجراءين:
الأول: هو بيع أرض الكتلة السكنية لبعض الفلاحين بموجب قرار جمهورى صادر عام 1999.
والتانى: هو طرد الفلاحين من أراضيهم التى يزرعونها منذ عهد الخديوى اسماعيل ومن ثم الشروع فى هدم المنازل المقامة عليها وذلك خلال الفترة 2009-2010.

أراضى الأئتمان ومشكلة الإسكان الريفى

تتركز هذه الأراضى فى دلتا النيل والوادى وتشكل الجزء الأكبر من الأراضى الزراعية القديمة (65-70%) فى الريف المصرى وأطلق عليها هذا الاسم باعتبارها نوعا آخر من الأراضى الزراعية غير أراضى الاصلاح الزراعى بنوعيها وأراضى الأوقاف وأراضى وضع اليد وغيرها، وهى موضوعيا الأراضى العادية التى يملكها أصحابها قبل 23/7/1952 ويتوارثها الأبناء والأحفاد؛ وتتعرض هذه الأراضى لمشكلة العدوان عليها بالبناء والتجريف لكن ذلك العدوان يختلف من حيث الهدف استناد إلى الفئة التى تقوم به:
1- الفلاحون الفقراء والصغار والعمال الزراعيين :
وهؤلاء يتكاثرون بمعدلات عالية وتتزايد أعدادهم مقارنة ببقية السكان فى مصر ويعانون من مسألتين :
الأولى : ضيق الرقعة الزراعية عن استيعاب الزيادة فى أعدادهم، وعدم وجود مساحات من الأرض الفضاء (ظهير صحرواى- أو أرض بور) للبناء عليها.. وهنا يشكل العدوان على الأرض الزراعية فى غياب بدائل مناسبة شيئا مبررا ومفهوما .
والثانية : أن البطالة التى تشمل أعدادا هائلة منهم خصوصا خريجى المدارس المتوسطة والجامعات رغم أنها تحد من ذلك العدوان إلا أنها تضعف قدرتهم على البناء؛ ويدعمها فى نفس الاتجاه عملية الإفقار التى يتعرض لها ذووهم من السكان.
ويفاقم المشكلة من ناحية ثالثة سياسات الدولة وانحيازها ضدهم بشأن قصر توزيع الأرض المستصلحة الجديدة على الكبار والأجانب وحكام الأقاليم ومتنفذيها.
2- أغنياء الريف ( كبار الملاك والزراع والمستثمرين ) :
وهؤلاء يشكلون حصالة تستقبل الجزء الأكبرمن الأرض الزراعية التى يغادرها مستأجروها أو يبيعها ملاكها سأما من تدنى جدواها الاقتصادية ؛علاوة على قيامهم ببناء المشاريع الاستثمارية الزراعية والصناعية والتجارية وربما العقارية على هذا النوع من الأرض الزراعية القديمة.. وهو هدف غير مبرر للعدوان عليها إذا ما قورن ببناء الفلاحين الفقراء لمساكنهم ؛ وقد شهدت فترة الثورة المصرية (يناير 2011) تجاوزات عدة من جانب هذه الفئة مقارنة بتجاوزات الفقراء.

مقترحات للحل :
أولا: لا يمكن التعاطف مع أغنياء الريف والمتنفذين وحكام الأقاليم فى العدوان على هذه النوع من الرقعة الزراعية ولا قبول مبرراته التى تستند على كون مشروعاتهم تشكل نوعا من التنمية فى الريف.. خصوصا إذا ما كانت المنطقة التى تقام عليها تتمتع بظهير صحراوى يمكن إقامة مشروعاتهم عليه ولكى يكون الحل عمليا نرى الشروع فيما يلى كحزمة واحدة:
1- أنه لاحل لمشكلة الإسكان فى الريف دون حل قضية البطالة وقضايا العمل الزراعى، حيث يصعب توطين عاطلين بالملايين.
2- وقف العدوان على الأرض الزراعية ( قديمة وجديدة ) من جميع السكان وخصوصا من كبار المستثمرين والزراع والملاك والمتنفذين والحكام المحليين وتغليظ العقوبات بشأنه.
3- بالنسبة لفقراء الفلاحين وصغارهم والعمال الزراعيين يمكن الشروع فى سن تشريعات وإعداد مشروعات هندسية تتضمن الخطوات التالية:
أ- تخطيط لكل قرية يشارك فيه السكان ويتم فيه بشكل متدرج هدم المنازل القديمة خصوصا المبنية بالطين والطوب اللبن، والبناء على ذات المساحات القديمة بشكل تعاونى ومشترك وبتوسع رأسى تساهم فيه الدولة والجمعيات الزراعية التعاونية بجهود لوجستيكية وفنية ومالية للبناء بتكلفة منخفضة على أن يتم تخفيض أسعار مواد البناء التى تنتجها أو توردها الدولة كالحديد والأسمنت والرمل والزلط والحجارة .
ب- الحد من الإقامة فى الريف عن طريق توفير فرص عمل لسكانه من الشباب فى المناطق الزراعية الجديدة والمناطق الصناعية والمتاخمة للصحراء؛ ويمكن الاستفادة من تفعيل حقيقى لقانون الإصلاح الزراعى فى الأراضى الجديدة والموجودة قيد الاستصلاح فى ذلك.
ج- التوسع الأفقى ( استصلاح ) فى الأرض الصحرواية القابلة للزراعة وتوزيعها على شباب الفلاحين وتزويدها بالمرافق التى تيسر البناء عليها والوصول إليها.
د- سن التشريعات التى تدعم وتقنن هذه التصورات.

خاتمة:
مما عرضناه يتضح الآتى :
1- أن مشكلة الاسكان فى الريف نابعة من ضيق الرقعة الزراعية من ناحية ومن إهمال علاجها على مدى نصف قرن فضلا عما يعانيه الريف من انعدام التنمية ومن البطالة وإفقار للفلاحين بوسائل متعددة أهمها طرد أعداد واسعة منهم خارج أراضيهم والتدنى الشديد للمردود الاقتصادى للأرض الزراعية.
2- و من زيادة سكانه بمعدلات أعلى منها فى الحضر وأعلى من التوسع فى استصلاح الأرض الصحراوية القابلة للزراعة..
3- ولأن المشكلة ليست منبتة الصلة بالوضع الاقتصادى العام فى المجتمع فإن الشروع فى التوسع الأفقى باستصلاح الأراضى القابلة للزراعة فى الساحل الشمالى والصحراء الغربية وسيناء يمكن أن يحد من الإقامة فى الأراضى الزراعية القديمة، ويرفع مستوى الفلاحين الاقتصادى ويدعم ذويهم فى الأراضى القديمة ويفك الحصار المضروب على فلاحيها بالتدريج.
كماأن التصنيع (العام والزراعى) يشكل مخرجا رئيسيا لاستيعاب الزيادة السكانية فى الريف وفى حل مشكلة البطالة، وتخفيف وطأة المشكلة .
4- أن مشاركة سكان الريف والدولة إعادة فى تخطيط الريف وبنائه.. واستيعاب سكانه وتخفيض تكلفة البناء واستخدام بدائل مناسبة فى البناء شارطة لحل المسألة.
5- أن تنظيم سكان الريف والفلاحين خصوصا فى نقابت وروابط واتحادات وتبديد مناخ الحصار حولهم وإجتثاث الفساد من جذوره عوامل داعمة فى ذلك الحل.